الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
27 – من رسالة الإكليل وفتواه في تعذر أكل الحلال والاحتجاج بالقدر وسنة الجمعة. القواعد 340-347‏
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الآخرة / ١٤٣٣
التحميل: 2814
مرات الإستماع: 2808

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"ومن رسالة الإكليل، وفتواه في تعذر أكل الحلال، والاحتجاج بالقدر، وسنة الجمعة".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه رسائل أربع:

الأولى: الإكليل: وهي في المتشابه، وهي موجودة مطبوعة مستقلة، وهي ضمن الفتاوى أيضًا في المجلد الثالث عشر، تكلم فيها على موضوع الإحكام العام: أُحْكِمَتْ آيَاتُه [هود:1]، والتشابه العام: كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23]، والإحكام والتشابه الخاص: مِنْه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]؛ فبيّن المراد بالإحكام والتشابه، وهي رسالة جديرة بالعناية.

والثانية: فتواه في تعذر أكل الحلال، وهذه جواب على سؤال وُجّه لشيخ الإسلام -رحمه الله- عمن قال: بأن أكل الحلال في تلك الأوقات متعذر، ويتعللون بعلل من الورع ضعيفة، مما يسميه بعض أهل العلم بالورع البارد، فتكلم على هذه المسألة، وعلى أن هذا القول غير صحيح، وأن هذا التدقيق والتنقير من التكلف والتنطع، وهي موجودة في مجموع الفتاوى في المجلد التاسع والعشرين صفحة (311).

وأما الاحتجاج بالقدر: فهي أيضًا موجودة في مجموع الفتاوى في المجلد الثامن صفحة (303)، قال: فصلٌ في قوله ﷺ: فحج آدم موسى[1]، الاحتجاج بالقدر، هل يحتج بالقدر على المعايب؟ يعني: على الذنوب والمعاصي، فيفعل المعصية ويقول: هذه مقدر، أو قدرها الله عليّ، أو أنه يحتج بالقدر على المصائب، فما يقع للإنسان من المخالفات والمعاصي له نظران:

النظر الأول: بكون الله قد قدره، فتلك المصيبة.

والنظر الثاني: أنه صدر من العبد، فتلك معيبة ومعصية توجب عليه الاستغفار والتوبة والاستدراك، والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، والعبد يلحقه بسبب فعلها الذم والعيب، فيكون فاسقًا، عاصيًا، ظالمًا لنفسه، وما شابه ذلك.

أما سنة الجمعة: فهذه رسالة أيضًا رابعة، وهي جواب عن سؤال وُجّه لشيخ الإسلام -رحمه الله- عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة؛ لأن النبي ﷺ قال: بين كل أذانين صلاة قالها ثلاثًا، وقال في الثالثة: لمن شاء[2]، فهل الأذان الأول والثاني داخل في هذا؟ لأن قوله ﷺ: بين كل أذانين صلاة المقصود الأذان والإقامة، فالإقامة يقال لها: أذان، لكن هذا أذان لم يُوجد في عهد النبي ﷺ، وهو الأذان الأول يوم الجمعة، وإنما وُجد في عهد عثمان ، فإذا أذن الأول فهل يشرع لمن كان في المسجد أن يصلي بينهما؟ باعتبار أن بين كل أذانين صلاة لا سيما إذا كان بينهما وقت يسير، كما هو الحال في المسجد الحرام مثلاً، أو المسجد النبوي، فيؤذن المؤذن الأول، ثم يبقى قليلاً، وبعد ذلك يأتي الأذان الثاني، فيقوم الناس يصلون، فهل هذه الصلاة مشروعة، وهي داخلة في هذا الحديث أو لا؟ هذه الرسالة هي جواب على سؤال بهذا الموضوع.

339- "قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] إلى قوله تعالى: صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:54]".

هذه من الرسالة الأولى، وهي رسالة الإكليل، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] فبعضهم يقول: في قراءته، والقراءة يقال: لها أمنية، وبعض السلف فمن بعدهم -وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام-[3] فسّروا قوله -تبارك وتعالى-: وَمِنْهمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ همْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] قالوا: المراد إلا قراءة، يعني: لا يعرفون المعنى، فهم جهلة، يقرؤون فقط، ولا يفقهون، فذمهم على ذلك، يعني: بني إسرائيل، فهذا أحد القولين المشهورين في الآية.

وبعضهم يقول: إن قوله: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: لكن أماني يتمنونها، ولا علم لهم بالكتاب، ولكنهم يتمنون على الله الأماني، كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهمْ [البقرة:111] فبعضهم يقول: هي من الأمنية، والأولون يقولون: إنها من القراءة (أمنيّة)، فقوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52] يعني: على القول الأول: قرأ، وعلى القول الثاني: تمنى، يعني: تمنى هداية قومه، والله لم يقدر هدايتهم، فصارت أمنيته أبعد مما قدره الله لهم.

أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] أي: تمنى هدايتهم، والأولون يقولون: ألقى في قراءته، أما قصة الغرانيق التي تُذكر في بعض التفاسير، وأنه جرى على لسانه لما قرأ سورة النجم: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتها لترتجى"[4] وأنهم سجدوا، فهذا كلام لا أصل له، وهي قصة باطلة مكذوبة، ولا يمكن أن يكون ذلك جرى على لسان النبي ﷺ.

وبعض أهل العلم يقول: ألقى في قراءته، أي: ألقى في أسماعهم، ولم يكن ذلك على لسان النبي، فيكون فتنة لهؤلاء الكفار، إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّه مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّه آيَاتِهِ وَاللَّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ ۝ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ۝ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّه الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَه قُلُوبُهمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:52-54] فهنا يقول: جعل الله القلوب ثلاثة، فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الحج:53] هذا النوع الأول، وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهمْ [الحج:53] هذا النوع الثاني، ثم ذكر الثالث: فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَه قُلُوبُهمْ فهذه ثلاثة أنواع من القلوب.

"جعل الله القلوب ثلاثة أقسام: قاسية، وذات مرض، ومؤمنة مخبتة؛ وذلك أنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافًا وإذعانًا، أو لا تكون يابسة جامدة، فالأول: هو القاسي، وهو الجامد اليابس، بمنزلة الحجر، لا ينطبع، ولا يكتب فيه الإيمان، ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعي محلاً لينًا قابلاً".

يعني: كون القلب يرتسم فيه، ويؤثر فيه الإيمان والعلم، هذا لا بد فيه من المحل القابل، فالقرآن مؤثر، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَه خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21] لكن إذا وُجد المحل القابل، وإلا فالله يقول: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ.. [البقرة:74] الآية، فالمحل الذي لا يكون قابلاً لا يُؤثر فيه القرآن.

"والثاني: لا يخلو إما أن يكن ثابتًا فيه، لا يزول عنه لقوته مع لينه، أو يكون لينه مع ضعف وانحلال، فالثاني هو الذي فيه مرض، والأول هو القوي اللين".

غير القاسي، المريض الذي لم يصل إلى حد الصلابة والقسوة والتحجر، أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّه عَلَى قُلُوبِهِمْ [النحل:108] فَأَصَمَّهمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهمْ [محمد:23] فهؤلاء لا يتأثرون ولا ينتفعون.

النوع الآخر: وهم خلاف هؤلاء، وهم نوعان: نوع قلبه مريض، إما بسبب شبهة، أو بسبب شهوة، والله ذكر النوعين، فقال: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69] الاستمتاع بالخلاق: الشهوات، والخوض بالباطل هو الشبهات.

وقال الله -تبارك وتعالى-: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] والمقصود بالمرض في الآية: هو الميل المحرم إلى النساء.

وذكر الله -تبارك وتعالى- المنافقين، فقال: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال:49] فبعضهم قال: هذا من عطف الأوصاف، فيرجع ذلك إلى موصوف واحد، فهم نوع واحد، منافقون، وفي قلوبهم مرض، فهذه أوصاف لهم: النفاق والمرض.

وبعضهم يقول: هما نوعان:

الأول: أهل النفاق.

والثاني: الذين في قلوبهم مرض، وهم ضعفاء الإيمان، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:12]، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10] هنا ذكرها في المنافقين، فَزَادَهمُ اللَّه مَرَضًا [البقرة:10] فالمنافق قلبه مريض، والذي فيه شهوات قلبه أيضًا مريض.

340- "ليس كل ما اعتقد فقيهٌ معين إنه حرام كان حرامًا، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك، وما تنازع فيه الناس لم يكن لأحدهم أن يحمل الناس على أحد هذه الأقوال".

ما سبق من كتاب الإكليل، والآن هذا من الرسالة الثانية: فتواه في تعذر أكل الحلال، يرد على من قال: بأنه في هذه الأزمان يتعذر أكل الحلال؛ لأنه لا يخلو من ملابسة شبهة أو محرم، فيرد عليهم، فهذه الآن التي ذكرها هنا، والتي بعدها، يعني: من (340) إلى (344) كل هذه في الرد على هذا القائل، فهي أصول ذكرها شيخ الإسلام في الرد عليه، يعني: رد عليه من خمسة أوجه، كل واحدة من هذه القضايا التي ذكرها الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله-، ووضع لها رقمًا مستقلا،ً شيخ الإسلام ما وضع لها رقمًا مستقلاً، وإنما قال: الأصل الأول في الرد، الأصل الثاني، الأصل الثالث، الأصل الرابع، الأصل الخامس، وكان الأفضل أنها لا تُجعل بهذه المثابة، كوحدات مفردة مستقلة عن غيرها؛ لأنها مترابطة، هي أصول في الرد على من قال: يتعذر أكل الحلال.

فهذا الأصل الأول في الرد عليه: ليس كل ما اعتقد فقيهٌ معين أنه حرام كان حرامًا، يعني: أنه يُوجد بعض أهل العلم، وبعض السلف قال عبارات في زمانه كمثل: أنه يتعذر أكل الحلال، أو قال عبارة: بأنه في البلد الفلاني يتعذر أكل الحلال، وما أشبه ذلك، فشيخ الإسلام يقول: ليس كل ما اعتقد فقيهٌ معين أنه حرام كان حرامًا، وإنما الحرام ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك، وما تنازع فيه الناس لم يكن لأحدهم أن يحمل الناس على أحد هذه الأقوال، يعني: كأنه يقول في الرد:

أولاً: وإن قال قائل: بأنه يتعذر، وأنه لا يوجد حلال خالص، فهذا قول يحتاج إلى إثبات، فليس كل من قال قولاً -وإن كان فقيهًا- أنه صواب، وإنما ذلك يفتقر إلى الدليل المثبت الصحيح، وإلا فإن قوله هذا يكون محل اختبار ونظر ومناقشة، فيكون محلاً للقبول، أو الرد، ويرد عليه، فبعض الناس يتمسك بعبارة قالها بعض الفقهاء، أو بعض السلف، ثم بعد ذلك يحكم على الأشياء بمقتضاها، وهي ليست بقول المعصوم ﷺ، فينبغي أن تحاكم إلى النصوص، فهذا الأصل الأول في الرد.

ومن ثم يقال هنا أيضًا: بأن أولئك الذين يعتقدون أنه إذا أفتى عالم بالحل، كما هو فعل كثير ممن عنده هوى، يقول: ما دام أن هذا العالم أفتى، أو هذا الفقيه أفتى، إذًا أنا أفعل هذا الشيء، وأكثر من هذا أنه يحتج بالخلاف، فيقول: ما دام فيها خلاف أفعل ولا حرج، ويوجد من يفتي بهذا أيضًا، ما دام المسألة فيها خلاف أفعل ولا حرج، ويقول: دعونا نقف عند المحكمات -بزعمه-، لكن إذا وقفت عند المحكمات فقط، فمعنى ذلك أضعت أكثر الأحكام التفصيلية الجزئية، فإن أفتى وإن خالف من خالف، فالحق ما شهد له الدليل من الكتاب أو السنة، والحكم عند الله واحد، فإن خالفه من خالفه فإن ذلك لا يغير من حقيقة الحكم عند الله؛ ولهذا فإن ما يظنه كثير من العامة، أو من عنده هوى أنه طالما أنه يوجد من أفتى، إذًا يحق لي أن أفعل، فهذه المرأة ربما تفعل بحواجبها أشياء بحجة أنه يُوجد من أفتى، وهذا يحلق لحيته بحجة أنه يوجد من أفتى، وهذا يسبل ثوبه بحجة أنه يوجد من أفتى، وهذه تلبس القصير بحجة أنه يوجد من أفتى، وهذا يأكل أنواع من الربا بحجة أنه يوجد من أفتى، وهكذا بلا حد، فمثل هذا خطأ، ولا تبرئ به الذمة.

341- "إذا عامل المسلم معاملة يعتقد هو جوازها، وقبض المال جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال، وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة".

هذا الأصل الثاني في الرد: فالذين يقولون: الحلال لا يوجد صرفًا، ولا يوجد خالصًا، ولا يوجد إلا أشياء مشتبهة، ويتعذر أكل الحلال، يقول: إذا عامل المسلم معاملة يعتقد هو جوازها وقبض المال، جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال.

الآن مثلاً بعض البيوع في المرابحة، أو نحو ذلك، مما يسمونه اليوم معاملات إسلامية، قد أتحرج منه، وأعتقد أنه لا يجوز، فهذا الرجل اشترى سيارة بهذه الطريقة مثلاً، أو اقترض مالاً بهذه الطريقة، وبنى فيه دارًا، ثم عرض هذه الدار للبيع، هل أحتاج أني أدرس نَسَبَ هذه الدار، من بناها؟ وكانت عند من؟ ومن يد إلى يد، وكيف حصلوا على الأموال؟ وأين كانوا يشتغلون؟ ومن أين اقترض؟ وكيف اقترض؟ وما هي المعاملة التي اقترضها؟ نحتاج إلى هذا؟ هو تعامل بمعاملة يعتقد أباحتها، وأنا جئتُ واشتريتُ منه بعقد صحيح أعتقد صحته، هذا المهم بالنسبة لي، أن المعاملة التي أتعامل معه بها أنها سليمة، أما هو كيف كانت تعاملاته؟ وكيف حصل عليها؟ وهل هي بقرض أو كانت ببيع بطريقة من الطرق؟ قد يوجد من أفتى بها، وسأل، واستفتى، وحصل على هذه الأرض بطريقة من الطرق، الآن توجد شقق للتمليك مثلاً، أو فلل للتمليك، قبل أن توجد هذه الأرض، يقول: نبيع الشقة قيمتها كذا، وعندنا نموذج للعرض موجود في المكان الفلاني، اذهب وانظر إليها، هل يجوز بيع هذا الذي لم يوجد إلى الآن؟ أبيع الشقق وهي لم توجد؟ وهل هذا يدخل في بيع المعدوم أو لا؟ بعضهم أهل العلم يقول: هذا بيع معدوم لا يجوز أن يبيع حتى تكون تامة، فيبيع شيء موجود أمامه، أما أنه يقول: هذه للعرض، وانظر إليها، وسنعمل على نفس النظام، ونجعل لك الخيار: إذا ما أعجبتك لك أن ترد، فإن اشتريتَ في وقت مبكر نضع لك من السعر، هذا موجود، أليس كذلك؟ لكن هل هذا الطريقة جائزة أم لا؟ بعض أهل العلم يقول: لا تجوز.

فهذا الإنسان الذي اشترى شقة بهذه الطريقة، وجلس فيها أربع سنوات، ثم عرضها للبيع؛ هل لما أريد أن أشتري منه لا بد أن أسأله: من أين اشتريتها؟ وكيف اشتريتها؟ وهل اشتريتها قبل الإنشاء وإلا بعد الإنشاء؟ هل أنا مسؤول عن هذا؟! لا، فأنا أشتريها بعقد صحيح منه، أما هو كيف اشترها؟ أو كيف تعامل؟ ومن أفتاه؟ أنا لا شأن لي بهذا، فهذا الأصل الثاني.

342- "الحرام نوعان:

الأول: حرام لوصفه كالميتة، والدم، ولحم، الخنزير، فهذا إذا اختلط بالماء، والمائع، وغيره من الأطعمة، فغيّر طعمه، أو ريحه، أو لونه حرمه، وإن لم يغيّره، ففيه نزاع.

والثاني: الحرام لكسبه، كالمأخوذ غصبًا، أو بعقد فاسد، فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرمه، بل إن أمكن قسمه قُسم، ويأخذ كل قدر حقه".

هذه قاعدة شريفة مهمة جدًا في موضوع المعاملات والمكاسب: من الميراث، والهبة، والهدية، والعطية، والبيع، والشراء، وغير ذلك، ومن النفقات أيضًا الواجبة، والقِرى، والضيافة، والصدقة، ما الذي يحق لي أن آخذه، وما الذي لا يحق لي؟ فبعض الناس يقول: أبي يفرط في العمل، يذهب متأخرًا، ويخرج قبل وقت الدوام، وهو ينفق علينا، نأكل أو لا نأكل؟

وبعض الناس يقول: أبي يشتغل في عمل محرم، وأمواله مختلطة بالربا، هل يجوز لي أن آكل مما ينفق علينا أو لا ما يجوز؟ وبعض الناس يقول: لي قريب أمواله مختلطة، أو يعمل في مكان محرم، وإذا أتيناه جاء لنا بالطعام، هل نأكل أو لا نأكل؟ وآخر يقول: أهداني شخص هدية، وعنده محلات يبيع فيها أشياء محرمة، لكن هو أعطاني هدية مباحة، هل يجوز لي أن آخذها أو لا يجوز؟

فهذه قاعدة فقهية مهمة جدًا: المال إما أن يكون محرمًا لوصفه، أو لكسبه.

فالأول: الذي يكون لوصفه: كالميتة، والخنزير، والخمر، فهذه لا يحل الانتفاع بها، بأي طريق وصلت إليك، يعني: هل يجوز للإنسان أن يأكل الميتة إذا جاءته عن طريق الهبة، أو ميراث؟ لا، أو يشرب الخمر لو جاءته هدية أو هبة أو ميراث أو قِرى أو ضيافة؟ لا يجوز، فهذه تتلف، ولا يجوز الانتفاع بها.

والثاني: ما كان محرمًا لكسبه، وهي الطريق التي اكتُسب بها، فإذا انتقل إلى غيره بطريق مباح، فإنه ليس على ذاك -الذي وصله بالطريق المباح- حرج، مثل الإنسان الذي في مكاسبه إشكال، فينفق على أولاده منه، هذه نفقة واجبة، فوصل إليهم بطريق مباح، وليس عليهم حرج، أو نزل به ضيف، فوضع له طعامًا، أو أعطاه هدية، أو أعطاه هبة، أو مات وورثه أولاده، والميراث من أحل المكاسب؛ ولهذا بعض السلف من أهل الورع، كان إذا تحرج أعطى أخاه طعامًا، أو هبةً، أو هديةً، أو دراهمَ، أو نحو ذلك، فتحرج منها، قال له: خذ، فإنه ميراث، يعني: وصل إليه بالميراث؛ لأن الميراث أصلاً التبعة فيه على من اكتسب أولاً، وأما الذي وصل إليه بطريق الميراث فإنه لا حرج عليه؛ ولهذا في قوله تعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9] ذكر الحسن البصري -رحمه الله-: أن الغبن في ثلاث، والواقع أنها مما يدخل في صور الغبن، وذكر من هذه الثلاث: رجل عنده مال اكتسبه من مكاسب يحاسب عليها، ومنع حق الله فيه، ثم مات، فأخذه وارث لا تبعة عليه فيه، فأنفقه في مرضاة الله ، فدخل به الجنة، وذاك دخل به النار[5]، فهذا من الغبن، هذا الذي تعب في جمعه دخل النار، وهذا الذي ما تعب فيه ولا شيء دخل به الجنة؛ ولهذا فإن الميراث يعتبر مُلك جبري، يعني: ينتقل بدون توقف على رضا وقبول الوارث، بخلاف الهبة والهدية، فإنها تتوقف على قبول الموهوب، تقول له: أنا أعطيك هذا هدية، ولا يدخل في ملكه إلى إذا قبل، أما الميراث فبمجرد ما يموت المورث فإن ماله ينتقل تلقائيًا، فيكون ملكًا للورثة، وتتعلق به أحكام تتصل بالورثة، كالزكاة، فهم الذين يخرجونها، وما إلى ذلك.

فالشاهد هنا: أن المال إما محرم لوصفه، فهذا مهما انتقل بأي طريق لا يحل، وإما يكون محرمًا لكسبه، وهذا إذا انتقل بطريق مباح فلا إشكال ولا تبعه على من انتفع به، وإنما التبعة على من اكتسبه بالطريقة المحرمة.

بقي هل للورع في هذا مدخل؟ وهل له أن يتورع؟ الجواب: نعم، له أن يقول: أنا مستغنٍ عن مكاسب هذا المختلطة، ولا أحب أن آكل من نفقاته، مع أنه وصلت إليه بطريق مباح، كالنفقة الواجبة، وما إلى ذلك، فهل لي أن أتورع؟ نقول: نعم، فباب الورع واسع، فلك أن تتورع، لكن لا تحرمه.

الأمر الثاني -وهو في هذا الباب- إذا علم أن هذا بعينه من الحرام، من المغصوب أو المسروق، جاء له بالطعام وهذا الطعام مسروق، وهو يعلم أنه مسروق، أو وهبه سيارة، وهو يعلم أن هذه السيارة مسروقة، فهل له أن يأخذها؟ الجواب: لا، وهو يعلم أنها بعينها عين المسروق، فهذا لا يجوز له أن يأخذها، والله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] فهذا الأصل الثالث.

343- "المال إذا تعذر معرفة مالكه صُرف في مصالح المسلمين عند جماهير العلماء".

هذا الأصل الرابع: إذا تعذر معرفة مالكه، صُرف في مصالح المسلمين كشخص عنده أموال مغصوبة وتاب، ولا يعرف أصحابها، فبعض الناس يسأل فيقول: أنا منذُ كنتُ صغير، وأنا أسرق من المحلات والدكاكين، وقد أقفلت هذه المحلات، وانتقل أصحابها، ولا أعرف أين هم الآن؟ ولا أستطيع أن أصل إليهم، نقول: إن كنتَ تستطيع فيجب أن توصله، وليس من الضروري أن يبن عن نفسه، ويقول: أنا سرقتها، فممكن يعطيها لشخص ويقول: هذه لفلان، أعطيه، ولا يُشترط أن يقول: إنه سرقها منه، لكن يجعلها في طريقة، أو يعرف حسابه، فينزلها في حسابه دون أن يخبره عن سبب ذلك.

وكذلك العارية، فمن استعار من إنسان وسافر، ولم يجد له أثر، أو الغصوب أو الودائع كأن تكون وديعة عنده، ثم ذهب، ولم يرجع، ماذا يفعل بمثل هذه الأموال؟ أو ضع عنده رهنًا، ثم بعد ذلك ذهب ولم يرجع، فما العمل؟ لا يعرف المالك، هنا يصرف في مصالح المسلمين عند جماهير العلماء، وممكن أن هذا يُتصدق به عنه، فإن رجع فهو بالخيار، إن شاء أمضى الصدقة، فهي له، وإن شاء طالبه، وكانت الصدقة لمن كان عنده الرهن أو الوديعة أو الشيء المغصوب، أو نحو ذلك.

فهنا يؤصل ويرد على من يقولون: يتعذر أكل الحلال؛ لأن بعض هذه الأشياء كانت أصولها كذا، وبعض هذه الأشياء أو الأراضي لا يعرف كانت لمن؟ والمزارع هذه كانت لمن؟ إلى آخره، يقول: هذه أصول يُبنى عليها أحكام، ولا يلحق الحرج الناس في مكاسبهم، ويقال: يتعذر أكل الحلال بسبب ذلك.

344- "المجهول في الشريعة كالمعدوم، والمعجوز عنه، فإن الله قال: لَا يُكَلِّفُ اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]".

هذا الأصل الخامس في الرد على من قال: يتعذر أكل الحلال.

"إذا ثبتت هذه الأصول فيقال: ما في الوجود من الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض إن عرفه المسلم اجتنبه".

لاحظ إذا عرفه بعينه.

"فمن علمت أنه سرق مالاً، أو خانه في أمانته، أو غصبه فأخذه من المغصوب، فهذا بغير حق لم يجز لي أن آخذه منه، لا بطريق الهبة، ولا بطريق المعاوضة، ولا وفاء عن أجرة، وثمن مبيع، ولا وفاء عن قرض، فإن هذا عين مال ذلك المظلوم".

الآن المحلات التي تبيع الجولات مثلاً، يأتيهم أناس بجولات مسروقة، فإذا كان يعلم أن هذا مسروق، فلا يجوز أن يشتريه منه، وبعض الناس يدور بساعة غالية الثمن أكثر من مائة ألف ريال، ويبيعها بثلاث مائة، هذا دليل على أنها مسروقة، فلا يجوز لأحد أن يشتريها، ويقول: فرصة، وقل مثل ذلك في صور وأمثلة كثيرة.

"وأما إن كان المال قبضه بتأويل سائغ في مذهب بعض الأئمة جاز لي أن أستوفيه من ثمن المبيع، والأجرة، والقرض، وغير ذلك من الديون، فالمجهول كالمعدوم، والأصل فيما بيد المسلم أن يكون له ملكًا إن ادعى أنه ملكه، أو يكون وليًا عليه، كناظر الوقف، وولي اليتيم، وولي بيت المال، أو يكون وكيلاً فيه، وما تصرف فيه المسلم أو الذمي، بطريق الملك، أو الولاية، جاز تصرفه، فإذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده بنيت الأمر على الأصل، والتبعة إن كان فيه تبعة عليه".

الأصل إن ما تحت يده أنه إما هو ملك له، أو ما هو ولي عليه، أو ما كان مأذونًا له بالتصرف فيه، هذا الأصل، ولا حاجة للتنقير والتنطع في مثل هذه القضايا، فهذه الأصول الخمسة رد بها على من زعم على أن أكل الحلال متعذر.

انتهينا الآن من الرسالة الثانية في فتواه في تعذر أكل الحلال، والذي بعده هو من رسالة الاحتجاج بالقدر.

345- "والقاعدة الكلية في شرعنا: أن الدعاء إن كان واجبًا، أو مستحبًا، فهو حسن، يثاب عليه الداعي، وإن كان محرمًا، كالعدوان في الدعاء، فإنه محرم ومعصية، وإن كان مكروهًا، فهو ينقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحًا مستوي الطرفين، فلا له، ولا عليه، فهذا هذا".

يعني: الآن الدعاء إن كان واجبًا أو مستحبًا، فالواجب مثل ماذا؟ بعض ما يقال في الصلاة مثلاً إذا كان على سبيل الوجوب، يعني: ما الحكم فما يقوله مثلاً بين السجدتين: ربي اغفر لي، ربي اغفر لي، مستحب وإلا واجب؟ واجب.

فهنا يقول: الدعاء إن كان واجبًا أو مستحبًا، المستحب مثل ماذا؟ مثل قوله مثلاً في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثم يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[6]، فهذا مستحب، كان يقوله النبي ﷺ، فهو حسن يُثاب عليه الداعي، وإن كان محرمًا كالعدوان في الدعاء فإنه محرم ومعصية، وهذا المحرم يقع على صور: فقد يكون ذلك بسؤال تيسير المحرم، كأن ييسر له امرأة يفجر بها، أو أن ييسر له سفرًا للحرام، وهذا من العدوان، وهو محرم، ويكون هذا العدوان أيضًا كأن يدعو بشيء يمتنع شرعًا، كأن يدعو على مسلم أن يُخلد في النار، أو يدعو لكافر أن يدخل الجنة، فهذا عدوان، فهو من الاعتداء في الدعاء، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].

وقد يكون ذلك بأن يدعو بشيء يمتنع عادة، كأن يطلب الولد من غير زواج، أو امرأة تطلب ولد من غير زواج، فهذا ممتنع عادة، فإذا وجد ولد -كما حصل لمريم رحمها الله-، فإن ذلك يكون من قبيل خرق العادة، وهكذا كأن يطلب مثلاً أن يستغني عن الطعام والشراب، ويقول: حتى أرتاح، فهذا ممتنع عادة، فهذا من الاعتداء، وقد يكون هذا الاعتداء بأن يدعو بظلم أو قطيعة رحم، أو يدعو على إنسان ما جنى، وكالمرأة التي تهدد فلانًا إذا خطب لزوجها ثانية أنها تدعو عليه إلى يوم القيامة، فهذا من العدوان في الدعاء، ولا يقبل، ولا يستجاب، هو ما فعل شيئًا محرمًا، فلا يضره ذلك.

وقد يكون قد حصل له عدوان وظلم، لكنه يدعو بأكثر من مما وقع عليه من المظلمة، كأن يدعو على من ظلمه مظلمة يسيرة أو اغتابه، أو حصل له نوع أذى يسير، فيدعو عليه بالهلاك، والبوار، ويُتم الأولاد، وترميل الزوجات إلى آخره، من أجل أنه أخذ منه بضعة دراهم، هذا من الاعتداء في الدعاء، فالإنسان قد يُظلم ويعتدي على من ظلمه بالدعاء، فيكون ظالمًا بدعائة الزائد عليه؛ ولهذا فالإنسان إن كان ولا بد فيدعو ويقول: اللهم جازه بما يستحق، أو بما هو أهله، اللهم انتصر لي مثلاً، أو نحو ذلك.

يقول: فإن كان مكروهًا فهو ينقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحًا مستوي الطرفين، فلا له ولا عليه.

فهذا من رسالة الاحتجاج بالقدر، والتي بعدها من رسالة سنة الجمعة، وعرفنا سنة الجمعة هذه أنه سؤال عن الركعتين بين الأذانين قبل صلاة الجمعة.

346- "وباب تفضيل بعض الأعمال على بعض إن لم يُعرف فيه التفضيل، وإن ذلك يتنوع بتنوع الأحوال في كثير من الأعمال، وإلا وقع فيه اضطراب كثير، والواجب أن يعطي كل ذي حق حقه، ويُوَسَّع ما وسعه الله ورسوله، ويُؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعي في ذلك ما يحبه الله ويرضاه من المصالح الشرعية، والمقاصد الشرعية، ويعلم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد ﷺ، وأن الله بعثه رحمة للعالمين بسعادة الدنيا والآخرة في كل أمر من الأمور، وأن يكون مع الإنسان ما يحفظ به هذا الإجمال، وإلا فكثير من الناس يعتقد هذا مجملاً، ويدعه عند التفصيل: إما جهلاً، وإما ظلمًا، وإما ظنًا، وإما اتباعًا للهوى، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم".

هذه مسألة التفضيل بين الأعمال، مثل هل الأفضل نصلي ما بين الأذانين، أو نترك هذه الصلاة؟ فبعض العلماء يرى أن ذلك يدخل في عموم قوله: بين كل أذانين صلاة[7]، وهكذا في أمور وأعمال أخرى، كهل الأفضل قراءة القرآن أو الذكر؟ وهل الأفضل الصلاة على النبي ﷺ يوم الجمعة أو قراءة القرآن؟ قراءة سورة الكهف أو قراءة سورة أخرى؟ القراءة في صلاة، أو القراءة خارج الصلاة؟ القراءة من المصحف أو من غير المصحف؟ سكنى مكة والمدينة أو سكنى غير ذلك من البلاد؟ ما هو الأفضل والأكمل؟

فهناك أشياء دلّ الشارع على أنها أكمل وأفضل من غيرها، لكنه في المفاضلة يُراعى في ذلك الأحوال، والنبي ﷺ سُئل مثلاً أي: الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء[8]، لكن قد يكون الإنسان في مكان الماء متوفر لكل أحد، والناس ينقصهم شيء آخر كالطعام مثلاً، أو الناس ينقصهم مثلاً دواء معين، فيكون في حقهم الأفضل توفير هذا الدواء، أو الناس ما عندهم ثياب، فالأفضل أن يعطوا الثياب، وقل مثل ذلك في أشياء وصور.

وكذلك النبي ﷺ قال: والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون[9]، والنبي ﷺ دعا للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة، إلى آخره، لكن شيخ الإسلام يقول: بأن من الناس من قد يكون سُكنى غير مكة والمدنية أفضل في حقه؛ لأنه يجد قلبه في ذلك البلد[10]، والمقصود: هو أن يعبد الإنسان ربه -تبارك وتعالى- وقلبه مقبل على العبادة في انشراح، وما إلى ذلك، فقد يسكن في مكة أو المدينة ولكنه لا يجد قلبه، فمثل هذا يكون الأفضل في حقه أن يسكن في المكان الذي يجد فيه قلبه.

وكذلك: هل الأفضل قراءة القرآن من المصحف أو من غير المصحف؟ النظر إلى المصحف لا شك أن فيه إشغال للعين، وهو عبادة، لكن إذا كان يجد قلبه في القراءة عن ظهر قلب، فهذا أفضل في حقه، وإن كنا نقول: بأنه لا يدع أيضًا النظر في المصحف في بعض الأحيان، لكن يكون الغالب عليه أن يقرأ عن ظهر قلب.

وكذلك هل الأفضل أن يقرأ برفع صوت أو بخفضه؟ وهل الأفضل أن يقرأ في صلاة أو خارجها؟ القراءة في صلاة أفضل، لكن من الناس من يجد قلبه أكثر إذا كان يقرأ خارج الصلاة، فيكون هذا أفضل في حقه.

والصلاة على النبي ﷺ يوم الجمعة وليلتها مثلاً، هل هو أفضل من قراءة القرآن مثلاً؟ والذكر والدعاء في الطواف أو السعي أفضل أو قراءة القرآن؟ ولم يرد على النبي ﷺ أنه كان يقرأ القرآن في الطواف ولا في السعي، مع أنه من جنس الذكر، فالذكر والدعاء في الطواف والسعي أفضل من قراءة القرآن، بل لو قيل: إنه لا يشرع له قصد المداومة، بحيث يداوم في كل طواف وسعي على قراءة القرآن، لم يفعله النبي ﷺ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة، ولو كان ذلك هو المشروع لسبقونا إليه؛ ولدلنا الشارع عليه، مع أنه داخل في جنس الذكر.

فمسألة تفضيل الأعمال، والمفاضلة بينها هذا يختلف باختلاف الأحوال، قد يكون في حال الناس أحوج إلى كذا، واختلاف الأمكنة، واختلاف الأوقات، فتتفاوت هذه الأمور.

لعل هذا يكفي، نتوقف عند هذا.

  1. أخرجه البخاري في كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى عند الله برقم (6614) ومسلم في القدر باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام- برقم (2652).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة، ومن ينتظر الإقامة برقم (624) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب بين كل أذانين صلاة برقم (838).
  3. درء تعارض العقل والنقل (1/77).
  4. مسند البزار = البحر الزخار برقم (5096).
  5. اللباب في علوم الكتاب (19/131).
  6. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم (2140) وصححه الألباني.
  7. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة، ومن ينتظر الإقامة برقم (624) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب بين كل أذانين صلاة برقم (838).
  8. أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل صدقة الماء برقم (3684) وحسنه الألباني.
  9. أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب من رغب عن المدينة برقم (1875) ومسلم في الحج، باب الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار برقم (1388).
  10. حيث قال في مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى (ص: 30): "وحينئذٍ فمن كانت مجاورته فيما يكثر حسناته، ويقل سيئاته فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك".

مواد ذات صلة