السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
15 - العقل والنقل. (القواعد 202-209)
تاريخ النشر: ٠٧ / صفر / ١٤٣٣
التحميل: 5717
مرات الإستماع: 3257

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فاللهم اغفر لشيخنا ولنا وللحاضرين.

قال المؤلف -رحمه الله-: القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات، هما مجمع الكذب والبهتان.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الكلام ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن بين أن الله قد أمرنا بتدبر القرآن، وأن نتعقله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا إذا كان موجهًا إلى كلامٍ قد بين المتكلم مراده منه، أن يكون الخطاب بشيء نعقله ونفهمه، ليس من قبيل الطِّلِّسمات والأحاجي والألغاز، وما أشبه ذلك، فلا يمكن أن يتدبر إلا ما كان كذلك، وهكذا ما كان محتملًا من غير بيان لم يبينه في موضع آخر، فإن ذلك أيضا لا يمكن أن يعرف المراد منه.

ويقول: ولذلك فإن هؤلاء الذين يدعون هذه الدعاوى، وأن كلام الشارع، أو كلام الله يحتمل المعاني المتناقضة، أو المتعارضة، أو المختلفة من غير بيان من قبل الشارع، ينتهي أمرهم إلى القرمطة في هذه السمعيات، وذكر الطائفتين قبل ذلك، الذين ينتهون إلى التفويض أو التأويل، والطائفة الأخرى الذين ينتهي أمرهم إلى القرمطة في السمعيات، والقرمطة نسبة إلى القرامطة، وهم طائفة من الطوائف الباطنية، وحاصل ما يقولون: بأن القرآن له ظاهر وباطن، هذه النصوص لها ظاهر وباطن، وأن هذا الظاهر غير مراد، وإنما المراد الباطن، وأن ذلك يكون لأهل الحقيقة، وأهل المعرفة، والبصر، وأما العوام والجمهور -كما يسمونهم- فهؤلاء الذين يأخذون بظواهر النصوص، وقد مضى الكلام على ذلك، وأنهم يقولون: إن ظواهر النصوص دلت على معانٍ غير مرادة للشارع، ولكن هي تشير إشارات إلى معانٍ باطنة، وأما الظواهر حتى في ما يتصل باليوم الآخر فإنها غير مرادة، ولكن لما كان هؤلاء العامة لا ينضبطون إلا مع مثل هذا -يعني ذكر الوعد والوعيد- فإنه قد جاء ذلك في نصوص الكتاب والسنة.

فهؤلاء "أهل القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات"، السفسطة خلاصتها وحاصلها: هو أن يغالط الإنسان في البديهيات، والأمور الواضحات، هذه لا يغالط فيها أحد، فهذا الذي يغالط في مثل هذه الأمور كما يذكر شيخ الإسلام -رحمه الله-  في مواضع أخرى بأن مثل هذا إما أن يكون يقصد المغالطة فهذا لا يردُّ عليه، لا يستحق الرد عليه، ولا المكالمة، وإما أن يكون مصابًا في عقله، فيه شيء، فهذا يعالج ويداوى بالأدوية الربانية، يعني كالرقية الشرعية، أو الأدوية الأخرى المادية التي عند الأطباء؛ لأنه لا يمكن أن يصدر ذلك إلا من إنسان غير سوي.

يقول: "القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات هما مجمع الكذب والبهتان"، والكذب والبهتان، يعني: هذا لا نهاية له، إذا قرمط في السمعيات فيمكن أن يحرف كل شيء، ويقول: إن الظاهر غير مراد، كما مثلنا من قبل، حينما يقول: الحج هو قصد الولي، والصلاة هي مناجاة الولي، والغسل من الجنابة هو التوبة من إفشاء سر المذهب، والصفا عليٌّ، والمروة فاطمة، ولا جنة، ولا نار، ولا حساب، ولا عقاب، ولا شيء من هذا القبيل، هذا منتهى الضلال.

هكذا الذي يغالط في الأمور البديهية الأمور الواضحة مما تدركه العقول، ويتفق عليه العقلاء ومع ذلك يغالط فيه، فهذه هي السفسطة، ولذلك مثل هؤلاء تجد أنهم يقعون في أمور من الإلحاد، وإنكار المسلّمات.

قال -رحمه الله-: إذا خاطبْنا الرسولَ ﷺ فعلينا أن نتأدب بأدب الله لنا حيث قال: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63]، فلا نقول: يا محمد، يا أحمد، بل نقول: يا رسول لله، يا نبي الله، وإذا كنا في مقام الإخبار عنه قلنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فالفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل، وبه يظهر الفرق بين ما يُدعى الله به من الأسماء الحسنى، وبين ما يُخبَر عنه بما هو حق ثابت لإثبات ما يستحقه من صفات الكمال ونفي ما ينزه عنه من العيوب والنقائص.

في مقام الدعاء -الطلب أو النداء- ومقام الإخبار عن النبي ﷺ  تجدون نصوص القرآن التي فيها ذكْر النبي ﷺ مجردًا هي في مقام الإخبار: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران: 144]، مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [الأحزاب: 40]، وهكذا في سائر المواضع يأتي باسمه الصريح ﷺ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]، هذا في مقام الإخبار؛ لأنه يخبر عن شخصه ﷺ، ولكن إذا كان المقام مقام مخاطبة، فهنا يُطلب الأدب في المخاطبة، كما قال الله لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63]، وهذا يدخل فيه المعاني التي ذكرها السلف  فمن هذه المعاني لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًايدخل فيه أن هذا الدعاء موجه من قبل النبي ﷺ إلينا، فيجب أن نجيبه ولو كنا في الصلاة، وكذلك أيضًا في دعائه ﷺ على أحد من الناس، فليس كدعاء غيره، فلا تفعلوا ما يسخطه فيدعو على أحدكم، فيستجاب دعاؤه فيكم، هذه معانٍ ذُكرت.

لكن الذي يهمنا منها هنا هو أن يكون هذا الدعاء بمعنى النداء موجهاً إلى النبي ﷺ فيراعى فيه:

 أولًا: أن لا يُدعى باسمه، ويقال: يا محمد، فهذا خلاف الأدب معه، وإنما يقال: يا رسول الله.

والأمر الثاني: في رفع الصوت، وطريقة المخاطبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّه قُلُوبَهمْ لِلتَّقْوَى لَهمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ۝ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 2-4]، فخفض الصوت وأيضًا أن يتأدب معه في طريقة الخطاب، وإن خفض الإنسان صوته فإنه لا يكون أعلى من صوت النبي ﷺ ولا يناديه من بعيد بطريقة هؤلاء الأعراب: مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، يا محمد، أخرج إلينا، فهذا من الجفاء.

إذن إن رأيت ذلك في القرآن؛ فإنه في مقام الإخبار عنه ﷺ؛ لأنك مُخبِر عن شخصه، لكن إذا كنت مخاطبًا له فهنا يُطلب أمر زائد على هذا القدر، إذا عُرف هذا فكذلك أيضًا فيما يتصل بالله -تبارك وتعالى-.

قال: "وبه يظهر الفرق بين ما يُدعى الله به من الأسماء الحسنى، وبين ما يُخبَر عنه"، فإذا قلت: يا الله، يا رحمن، يا عزيز، يا رحيم، يا كريم وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوه بِهَا [الأعراف: 180]، فإنما يدعى بأسمائه -تبارك وتعالى- التي سمى بها نفسه، وسماه بها رسوله ﷺ وباب الوصف أوسع من باب التسمية، والوصف موقوف أيضاً على النقل، فصفاته -تبارك وتعالى- أكثر من أسمائه، وإنما تُشتق الصفات من الأسماء، ولا تُشتق أسماؤه من صفاته.

وباب الخبر أوسع من باب الوصف، ومن ثَمّ فهو أوسع من باب التسمية، فإذا أُخبر عنه -تبارك وتعالى- للتعريف والبيان، أو التعليم فإنه لا يشترط في ذلك أن يكون مما ورد في الكتاب أو السنة، ما لم يكن ذلك يتضمن ما لا يليق، وإلا فالأمر أوسع.

فيمكن أن تقول: الله -تبارك وتعالى- يريد أن يظهر لنا حقيقة الكافرين، أن الله -تبارك وتعالى- مثلاً يقرر لنا هذا المعنى تقريراً متنوعًا بأن الله -تبارك وتعالى- يحكي ما وقع من أقوال هؤلاء المكذبين، فالأمر في الإخبار أوسع من باب الوصف، وباب الوصف أوسع من باب التسمية.

قال: "بما هو حق ثابت لإثبات ما يستحقه من صفات الكمال ونفي ما ينزه عنه من العيوب والنقائص: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّه [الأنعام: 19]"، هل نقول في دعائنا: يا شيء؟

الجواب: لا.

قال -رحمه الله-: ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات بأن يكون للفاعل فاعل، وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له، وهذا متفق على امتناعه عند العقلاء.

الثاني: التسلسل في الآثار بأن يكون الحادث الثاني موقوفًا على حادث قبله، وذلك الحادث موقوف على حادث قبله، وهلم جرًا، فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء، وأئمة السنة والحديث مع كثير من النظار أهل الكلام، والفلاسفة يجوزون ذلك، وعلى هذا دلالات الكتاب والسنة الكثيرة والعقل الصحيح، وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء، والصواب المنع كالتسلسل في العلل.

هذه مسألة تسلسل الحوادث، تكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هنا طويلاً في هذا الكتاب، أطال جدًّا فيها، وفرق الكلام فيها في مواضع، وكذلك تكلم عليها في الكتاب الذي سيأتي بعده وهو "منهاج السنة" بالإضافة إلى مواضع أخرى من بعض كتبه، ولكنه أطال جدًّا في هذا الكتاب، ما الذي قاد إلى مسألة التسلسل هذه؟

هو لما ذكر في الوجه الثامن عشر من الوجوه التي رد بها على الرازي في القانون الكلي: أن ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات أنه فاسد متناقض، كل هذه العقليات التي يعارضون فيها الأدلة، وعرفنا قانونهم الكلي: أنه إذا تعارض المعقول والمنقول قُدم المعقول، وعرفنا حجتهم في هذا، فشيخ الإسلام يبطل ذلك، ففي الوجه الثامن عشر ذكر أن جميع هذه الأشياء التي يعتبرونها دلائل عقلية وحججًا عقلية يعارضون بها هذه المنقولات هي أباطيل، وهي حجج فاسدة، وشبهات باطلة ومتناقضة، هذه الأشياء التي يسمونها عقليات، ثم بدأ يتكلم على الصفات وما قالوه فيها، وما رتبوه من اللوازم في إثبات الصفات، وما أثبتوه، وما نفوه، وطريقة الإثبات، وطريقة النفي، بكلام طويل.

ثم ذكر الوجه التاسع عشر في بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض، وما أورده عليهم الفلاسفة، فحينما يقررون باطلهم يتسلط عليهم الفلاسفة، ولنقص معرفة هؤلاء بالمنقول يلتزمون لوازم باطلة، ويقعون في انحرافات عظيمة لا تتفق مع ما يدعون من اتباعهم للمعقول، وأنهم أصحاب المعقول، وما شابه ذلك.

فهذا الإيراد الذي أورده عليهم الفلاسفة مثلاً: قالوا: إذا كانت الأفعال جميعها حادثة بعد أن لم تكن، فالمُحدِث لذلك إما أن يكون صدر عنه بسببٍ حادث يقتضي الحدوث، وإما ألّا يكون، فإن لم يكن صدر عنه سبب حادث يقتضي الحدوث لزم ترجيح الممكن بلا مرجح، وهو ممتنع في البديهة، وإن حدث عنه سبب فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في حدوث غيره، ويلزم التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء، بخلاف التسلسل المتنازع فيه، مع أن كلا النوعين باطل عند هؤلاء المتكلمين، يعني: أن المتكلمين يبطلون النوع المتفق عليه في التسلسل، والنوع المتنازع فيه، فيقولون: كل هذا ممتنع.

يقول: "فهم مضطرون في هذا الدليل إلى الترجيح بلا مرجح تام"، يعني هذا الذي يقول الفلاسفة بأنه مُحال، والمتكلمون أيضًا يمنعون منه في أصل كلامهم ومقالهم الترجيح بلا مرجح تام، أو إلى القول بالتسلسل والدور، وكلاهما ممتنع عندهم، هذا ممتنع، وهذا ممتنع، فوصلوا إلى طريق مسدود، هؤلاء أهل الكلام كالرازي وغيره لما ناظرهم الفلاسفة، وردوا عليهم.

ويمكن أن ألخص مسألة التسلسل بطريقة تريح الجميع، ويفهمها الجميع لأني لا أحب الإيغال في هذه القضية، والذين ألفوا فيها أعرف اثنين ألفوا في هذه المسألة لا أعرف لهم ثالثًا، وكل هؤلاء كنت نصحتهم أن لا يفردوا هذه بمؤلف؛ لأن الناس الذين يقرءون هذا الكلام قد يقعون في أحد محظورين:

المحظور الأول: أن يفهموا الكلام على غير المراد، فيعتقد التسلسل الممنوع بالاتفاق، ويحصل لهم انحراف في الاعتقاد إحسانًا منهم الظن بشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وظنًّا منهم أنهم إنما قلدوه، ولم يفهموا كلامه في الواقع، فهذه مشكلة.

المحظور الآخر: أن ينسبوا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية عقيدة باطلة هي كفر، وشيخ الإسلام يصرح ببطلانها، وأنه لم يقل بها أحد إلا فئة قليلة، حفنة من الذين ينسبون إلى الدهر وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24]، الدهرية. 

والاعتقاد الذي ينبغي أن يكون سهلًا وواضحًا ولا إشكال فيه، ويتحقق به المراد، ويُترك ما وراء ذلك من التفصيلات لأهل الاختصاص، وقد تأملت كثيرًا في هذه القضية ما الذي يمكن أن يقال في مجلس كهذا؟

فرأيت أن صدري ينشرح إلى الاجتزاء بهذا القدر بحيث لا يبقى عند أحد إشكال: العقيدة الصحيحة عقيدة أهل الإسلام، عقيدة أهل السنة والجماعة التي صرح بها الأئمة، وهي منقولة عن جماعة كثيرة منهم: هي أن الله -تبارك وتعالى- لم يزل متصفاً بصفات الكمال منذ الأزل، فإذا نظرنا إلى صفاته -تبارك وتعالى- المتعلقة بالمشيئة والإرادة -هذه التي تحتها خط الآن، هذا موضع الإشكال عندهم، هذه التي يسمونها الصفات الاختيارية، فصفة الكلام مثلاً كما يقولون: أزلية قديمة النوع، حادثة الآحاد، حادثة الآحاد لا يقصدون أنها مخلوق، لا، كلام الله صفة من صفاته، لكن يقصدون أنه يتكلم متى شاء، آحاد الكلام يعني لما كلم موسى عند الشجرة هذا يسمى آحاد الكلام، يعني مفردات الكلام، وكلمه عند الشجرة هل هذا التكليم كتكليمه -تبارك وتعالى- عيسى ﷺ في القيامة أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة المائدة:116]، هل هذا حصل في وقت واحد أو في أوقات؟

الله حينما يتكلم من وحيه بما شاء فيُصعق أهل السموات إلى آخره هل هذا كلام واحد أو كلام؟، يتكلم متى شاء وكيف شاء على الوجه اللائق بجلاله وعظمته أليس كذلك؟، هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، يتكلم متى شاء كيف شاء، فكلامه متعلق بمشيئته وإرادته، وأصل الصفة أزلية، إذا عرفنا هذا فقل ذلك في الصفات المتعلقة بالمشيئة والإرادة، فالله يخلق واضح؟، متصف بالخلق، يخلق متى شاء ولا يزال يخلق خلقًا بعد خلق أليس كذلك؟

فهناك أناس ما وُجدوا ونحن وجدنا وكنا قبل ذلك عدماً، فلم يزل الله يخلق خلقاً بعد خلق، هذه الصفة هي صفة كمال اللهُ متصف بها منذ الأزل، وهي صفة ثابتة لله -تبارك وتعالى، إذن لم يكن الله معطلاً من شيء من هذه الأوصاف ثم طرأ له، فلم يزل متصفًا بصفات الكمال، فهذا الخلق الذي نراه من أوله إلى آخره آحاده حادثة بعد أن لم تكن، السموات، العرش، زيد، عمرو، آدم ، هذا الشجر والجبال، كل هذه حادثة مخلوقة بعد أن لم تكن، هذه المخلوقات التي ترونها متشخصةً -أعيان المخلوقات التي نشاهدها- لا يوجد منها شيء أزلي، ما نشاهده وما لا نشاهده، الملائكة، الجن، كل هذه المخلوقات كائنة بعد أن لم تكن.     

وهناك فرق بين آحاد وأعيان المخلوقات، يعني المفردات زيد، عمرو، العرش، الكرسي، جبريل ، ميكال فهذه كائنة بعد أن لم تكن، مخلوقة، مسبوقة بعدم، فالله هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، نعيم أهل الجنة هل يزول؟ لا يزول، يتجدد أو لا يتجدد؟

يتجدد كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [سورة البقرة:25]، على أحد القولين أنه يشبه بعضه بعضاً، فإذا جيء به قالوا: هذا الذي جاءنا قبل ذلك، في الجنة يعني، لكن الطعوم تختلف، أو هذا الذي رأيناه في الدنيا، الذي رُزقناه في الدنيا، لكن الصورة متشابهة والحقيقة مختلفة، ففي الجنة لم يزل الله أيضاً يخلق لهم، ويجدد لهم من ألوان النعيم، فهذا لا ينقضي في المستقبل، شيخ الإسلام يقول: قولوا في الماضي في النوع لا في الآحاد بأنه لم يزل الله يخلق، كل مخلوق فهو مسبوق بالعدم، كل مخلوق بلا استثناء، فجميع المخلوقات التي خلقها الله -تبارك وتعالى- هي مسبوقة بالعدم، فلم يزل الله يتصف بأوصاف الكمال منذ الأزل، كما أنه -تبارك وتعالى- يكون كذلك إلى الأبد، هذا القدر هو الذي تدور عليه مسألة تسلسل الحوادث هذه كلها، وشيخ الإسلام يتكلم على النوع وهم يفهمون  كلامه على الآحاد؛ ولهذا قالوا: إنه يقول بقدم العالم، وشيخ الإسلام ما يقول بهذا، ويقول: هذا لا يقول به إلا بعض الفلاسفة الذين هم أتباع أفلاطون، يقول: هؤلاء الذين قالوا بقدم العالم وبعض المنسوبين إلى عقيدة الدهرية، وهؤلاء كفار بالاتفاق، فشيخ الإسلام أبعد ما يكون عن هذا، ففهم بعضهم من كلامه هذا المعنى فرموه بهذه العقيدة الباطلة، وهو أول من ينقضها، وفي كلامه من نقضها وإبطالها في كتبه الشيء الكثير، يكفي فقط أن تفهم هذا السطر "أن الله لم يزل منذ الأزل متصفاً بصفات الكمال، وأنه لم يطرأ عليه كمال بعد أن لم يكن".

إذا فهمت هذا فكل كلام شيخ الإسلام يريد أن يصل به إلى هذه القضية التي يقولون هم: لا، كان معطلاً، فالفلاسفة يحتجون عليهم ويقولون هذا الكلام الذي سمعتم آنفاً، يقولون: تقولون: كان معطلاً، فهل وُجد العالم هكذا من غير سبب؟ فيكون ذلك من قبيل ترجيح أحد الممكنات من غير مرجح، ما الذي أوجد العالم؟ أو تقولون: إن الله أراد ذلك وخلقه وأوجده، فيكون هذا العالم والخلق صادراً عن إرادته وخلقه ؟، فالفلاسفة يقولون لهم: إذا قلتم هذا فهذا يقتضي التسلسل خلْق قبل خلْق قبل خلْق، شيخ الإسلام يقول: الآحاد كلها حادثة، مفردات هذا الخلق، أما النوع فهو الذي يتكلم عنه من جهة أنه صفة كمال لله -تبارك وتعالى- أنه لم يزل يخلق، وأنه لم يكتسب وصفاً جديداً من أوصاف الكمال بعد أن لم يكن فيقول: إن الفلاسفة ألزموهم، وهؤلاء من أهل الكلام يمنعون هذا وهذا، فوقفوا متحيرين فجاءوا بأجوبة لا يحصل بها مطلوبهم.

فشيخ الإسلام يفرق في هذه المسألة يقول: لفظ التسلسل -يعني أنه لفظ محتمل- يراد به التسلسل في العلل والفاعلين، والمؤثرات بأن يكون للفاعل فاعل، وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له، وهذا متفق على امتناعه عند العقلاء.

خلاصة معنى هذا الكلام: التسلسل في العلل، والفاعلين، والمؤثرات الذي جاء فيه الحديث، وشيخ الإسلام ناقشه في مواضع من هذا الكتاب وهو أن الشيطان يأتي مَن خلَقَ كذا؟، من خلق كذا؟، من خلق كذا؟، حتى يصل إلى أن يتساءل ويقول: من خلق الله؟، -تعالى الله وتقدس وتنزه، فهذا من الشيطان، وهذا التسلسل في الفاعلين فهذا ممتنع. 

فالله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، ولذلك أرشد النبي ﷺ إلى أن يقف الإنسان عند هذا ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وجاء هذا أيضاً في الحديث القدسي، أعني: أنه لا يزال الناس يتساءلون فيقول: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟، إلى آخره.   

والنبي ﷺ أخبر بذلك -يعني عن وقوعه، فهذا أمر من الشيطان، فأرشد النبي ﷺ إلى الاستعاذة لقطع مصدر هذه الخواطر، والوساوس الفاسدة، ثم أمره أن ينتهي، لا يسترسل مع هذا التفكير، وأرشده إلى أمر ثالث وهو أن يقول: آمنت بالله[1]، هذه ثلاثة أمور، ولعله يأتي من كلام شيخ الإسلام الذي رد به على الرازي في مثل هذه القضية، شيخ الإسلام وأنت تقرأ له جبل -رحمه الله، أنا جالس أتخيل علم شيخ الإسلام، وما يمكن أن أقدمه من مثل هذه الجمل كأني آتي بحفنة وأقول: هذا نموذج من الدهناء، وحفنة وأقول: هذا نموذج من الصّمَّان، وهذه حفنة وأقول لكم: هذا نموذج من الربع الخالي، وهذه حفنة وأقول لكم: هذا نموذج من النفوذ -هذه صحارَى، وهذه حفنة وأقول لكم: هذا نموذج من الصحراء الكبرى، وهذه حفنة من ماء، وأقول لكم: هذه من المحيط الهندي، وهذه من المحيط الأطلسي، ماذا يمكن أن تقدم؟، أنا هكذا أصور حالي فيما أحاول أن أقدمه وأقربه من علم شيخ الإسلام ابن تيمية، أنا مع نفسي أفكر بهذه الطريقة أن ما أذكره لكم بهذه المثابة، وأنا بالسيارة العصر اليوم أو أمس أفكر بهذه الطريقة أن ما أقدمه ما أحاول أن أقربه هو مثل الذي يأتي بحفنة من هذا، وحفنة من هذا، قد يتصور البعض أن هذه الحفنة هي التي تمثل الصحراء الكبرى كلها، لكن هي شيء يسير، فحينما يتكلم على هؤلاء تجد أنه يرد على الرازي، ثم يستلم الشَّهرستاني -بالفتح، ثم بعد ذلك يتوجه إلى الأرْمَوي، ثم بعد ذلك يتكلم على الآمدي، ويستطرد فيما ذكره الآمدي، ويرد عليه.

ثم يتولى ابن سينا ويبدأ في الرد عليه، ثم بعد ذلك يرجع إلى الشهرستاني وما فهمه من كلام الفلاسفة المتقدمين، وأنه لم يفهم كلامهم، وأنه لم يطلع على كتبهم، وأنه لا يعرف الفلسفة عند المتقدمين، وإنما غاية ما هنالك أنه قرأ كتب ابن سينا، وأن كتب ابن سينا لا تمثل كلام الفلاسفة، هو جبل يضرب هذا، ويضرب هذا، ويضرب هذا، وتجد ردودًا تُشعرك أن هؤلاء الناس مساكين.

وسأذكر لكم نموذجًا كيف يخبط هذا ويتدحرج، ويخبط الآخر ويتدحرج بلا مبالغة، سأذكر لكم نموذجًا واحدًا مما فعله مع الشهرستاني الذي يعتبر عندهم من كبار أئمة علماء الكلام، وهذا الكتاب في الرازي -كما ترون، والظاهر أنه ألفه و "منهاج السنة" إما في سنة واحدة، أو في مدة متقاربة، سنة: (710هــ).

وأنا أقول: إن أولئك الذين يحبون المباحث العقلية، ويرون أنهم يجدون ما يشبع حاجتهم في كتب مترجمة، أو في كتب لبعض المنحرفين، إذا قرءوا في مثل هذا الكتاب، و"نقض التأسيس" مع أنهم لن يفهموه لكن على الأقل هم سيقرءون في أبحاث يضيعون فيها، متاهات، وشيء هائل، يعني تقرأ أحياناً وتريد أن تستدرك، تريد شيئاً تقول فيه: مثل هذا الكلام تجاوز فيه، بخلاف ما إذا نَقل الكلام المظلم، كلام هؤلاء، ينقل عنهم أشياء كثيرة ثم يبدأ يرد عليهم، والظاهر أنه كان عنده مكتبة حينما ألف هذا الكتاب، فهو ينقل بحروفه، ينقل كلامهم من هنا وهناك، ثم يقول: قال بعد ذلك، ثم يقول: قال قبله، فينقل نصًّا، فحينما تنظر في كلامه، وفي نقله إذا جاء كلامهم رأيت الكلام المظلم المتهافت، وإذا بدأ يتكلم رأيت كلاماً عليه نور، فتقول: سبحان الله!، الله أعطى هذا الرجل كثيراً، فهو آية من آيات الله ، مدارك، وعلم، وسعة نظر، ومعرفة بمذاهب هؤلاء، وكان يذكر عن نفسه -رحمه الله- أنه كان يشرح للواحد منهم مذهبه في مقام المجادلة والرد والمناظرة حتى ينبهر ذلك الرجل، فيرى أن مذهبه عظيماً؛ لأنه عرّفه بما لم يكن يعرف عن مذهبه، فهم ما يعرفون مذهبهم، وإذا وُجد كتاب جاءوا به إليه، مثل: كتاب "منهاج السنة" هذا -لعلنا نتكلم على بعضه إن شاء الله في هذه الليلة، وكان ابن المطهر قد كتب "منهاج الكرامة"، وهو معاصر لشيخ الإسلام، فجاءوا له بالكتاب، فبدأ يكتب الرد عليه، ووصلت طلائعه إلى ابن المطهر، وهكذا في رده على أمثال الحلاج، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء، ولما ذهب إلى الإسكندرية وجاءوا بكتب هؤلاء وأرادوا أن يقرءوها عليه -يعني من أتباعهم، فقرءوها وشرحها لهم جملةً جملة حتى رجع بعض كبارهم.  

فهو يقول هنا بأن هذا النوع الأول تسلسل الفاعلين هذا أمر ممتنع عند العقلاء.

الثاني: التسلسل في الآثار بأن يكون الحادث الثاني موقوفاً على حادثٍ قبله، وذلك الحادث موقوف على حادث قبله، وهلم جرا، فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء وأئمة السنة والحديث مع كثير من النظار، وأهل الكلام، والفلاسفة يجوزون ذلك، وينقل هذا في أكثر من موضع من هذا الكتاب، يقول: وعلى هذا دلالات الكتاب والسنة الكثيرة، والعقل الصحيح، هذا تسلسل في الآثار، وهو يتكلم على النوع ولا يتكلم عن الآحاد، كل مخلوق مما نراه أو مما لا نراه فهو مسبوق بالعدم، هذه عقيدة شيخ الإسلام وعقيدة المسلمين، لكن هو يقصد أن الله لم يزال متصفًا بصفات الكمال ومنها: الخلق، فالله منذ الأزل وهو متصف ولم يطرأ عليه هذا الوصف بعد أن لم يكن، يقول: "وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء،والصواب المنع كالتسلسل في العلل"، كالنوع الأول يعني، ما هو التسلسل في الشروط؟

يقولون: لا يحدث حادث إلا بحدوث حادث يربط هذا بهذا، لا يقع هذا إلا بوقوع هذا، فيقول: فهذا غير صحيح وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، وهذا تسلسل في الشروط، فهذا ينكره شيخ الإسلام بل ينقل في بعض المواضع أنه ممتنع عند العقلاء.

فهذا تسلسل الحوادث الذي يقرره شيخ الإسلام، اتضح؟

أما التسلسل في الشروط كقولهم: لا يحدث حادث حتى يحدث حادث، فيقول: هذا ممتنع، ويكفي في مسألة التسلسل هذا القدر: أن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال، إذا فهمت هذا فأنت موافق لما قاله شيخ الإسلام، وما أطال في تقريره يريد أن يصل إلى هذه القضية التي لا يقرون بها، وما فهموا كلامه فهماً صحيحاً، فجعلوا يشغبون عليه، وحملوه على المعنى الذي ينكره ويقول: إنه باطل باتفاق العقلاء.

وقال -رحمه الله: وينبني على القول بجواز التسلسل في الآثار الذي هو الصواب المقطوع به أن الله لم يزل متكلماً فعالاً لما يريد ولا يزال كذلك.

هذا الكلام الذي قررناه آنفاً، فهم يقولون في مسألة الكلام بأن الكلام قديم، هؤلاء الأشاعرة -كما هو معلوم- يقولون: اللفظ حادث، والمقصود المعنى بناء على مناظرة وقعت في ذلك، فهذا كلام الأشاعرة في مسألة الكلام وأنه لا تعاقب فيه ولا انقضاء، يقولون: هو معنى واحد، معنى وليس بلفظ عندهم، والمعتزلة يقولون: لا يُتصور لفظ بلا معنى، الكلام لفظ ومعنى، وهذا صحيح، لكن المعتزلة بناء على مسألة تعدد القدماء التي ناظروا فيها الفلاسفة يقولون -بناءً على عقيدة أيضاً أخرى فاسدة: أن الصفات منفكة عن الذات: إذن هو مخلوق، وصفاته مخلوقة، وأنه خلق الكلام في الشجرة، إلى آخره، بينما أهل السنة يقولون: الله متصف بالكلام، وكلامه صفة غير مخلوقة، صفة من صفاته، والصفات ملازمة للذات غير منفكة عنها، ولا تُتصور ذات بلا صفات، وأولئك المعطلة لو قيل لهم: صفوا العدم ما استطاعوا أن يصفوه بأبلغ مما يصفون الله به، لا فوق ولا تحت، ولا يُرى، ولا يتكلم.   

وقال -رحمه الله: قد ثبت بالسمع اتصاف الباري بالأفعال الاختيارية القائمة به كالاستواء على العرش، والقبض، والبسط، والنزول، والخلق، والرَّزق، المتعلقة بنفسه، والمتعدية إلى الخلق، والفعل المتعدي واللازم لابد أن يقوم بالفاعل، ويمتنع عقلاً وشرعاً أن يقوم بغيره في الحالين، وهذه الأفعال الاختيارية تبع لقدرته ومشيئته، فما شاء قاله وتكلم به، وما شاء فعله في الحال والماضي والمستقبل،هذا أصل متفق عليه بين السلف، وعليه دل الكتاب والسنة.  

يقول: هذه الأفعال لابد أن تقوم بالفاعل، يعني الصفة لابد أن تقوم بالموصوف، ويمتنع أن تقوم بغيره، وهذه الأفعال الاختيارية تبع لقدرته ومشيئته، فما شاء قاله وتكلم به، وما شاء فعله في الحال والماضي والمستقبل، هذا أصل متفق عليه بين السلف، وعليه دل الكتاب والسنة، هذا القدر الذي يحتاج الإنسان أن يعتقده، أن الله -تبارك وتعالى- فعّال لما يريد، لم يزل متصفًا بصفة الكمال في الأزل، وفي الحاضر، وفي المستقبل، وهم يمنعون من هذا، فيناقشهم فينجر النقاش إلى الدخول في مثل هذه القضايا التي هي مسألة تسلسل الحوادث.

وقال -رحمه الله: من القضايا الكلية الضرورية أن كل مُحدَث لابد له من مُحدِث، وكل مفعول ومصنوع لابد له من فاعل وصانع، وكل ممكن لابد له من واجب، والآية والدلالة يجب أن يكون ثبوتها مستلزماً لثبوت المدلول الذي هو آية له، وعلامة عليه إلى أن تندرج تحت قضية كلية، وإذا كان كذلك فجميع المخلوقات مستلزمة للخالق بعينه، وكل منها يدل بنفسه على أن له محدثاً بنفسه،والعلم بأفراد ذلك لا يحتاج إلى العلم بالقضية الكلية، وهي أن كل محدَث فلابد له من محدِث.

الآن شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر هذا الكلام ضمن الوجه التاسع عشر في الرد على الرازي، الوجه التاسع عشر هذا طويل، فذكره ضمن الرد على الرازي ضمن مناقشات للمتكلمين، ولأدلة المتكلمين في حدوث العالم والأجسام، فرد على الرازي والأرْمَوي والآمدي ثم ناقش الرازي في طرق إثبات الصانع، وكذلك الآمدي والجويني والشَّهرستاني، وفي ضمن هذا تطرق إلى مسألة تسلسل الحوادث، وهذه من متعلقات هذه المسألة وطرق الاحتجاج عند المتكلمين يقول: "هذه الأفعال الاختيارية تبع لقدرته ومشيئته"، هكذا، وأن "كل محدَث لابد له من محدِث"، هذه قضية كلية، بمعنى نحن عرفنا أن عند هؤلاء من أنواع الأدلة ما يكون من قبيل الكليات، يعني الأدلة المنطقية التي يقال لها: الكلية المبدوءة بكل، كل محدَث فلابد له من محدِث، كل ممكن -يعني ممكن الوجود- لابد له من واجب الوجود.

فهنا هذه قضية كلية، نحن عرفنا أن الأقيسة العقلية عندهم والأدلة العقلية منها ما يكون من قبيل دليل الشمول -كل كذا فهو كذا- يبدأ بهذه المقدمة الكلية، وهناك شيء اسمه قياس التمثيل الذي يكون عند الفقهاء إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، وهناك دليل من الأدلة العقلية الذي يسمونه البرهان، وقد مضى الكلام عليه، فهو يقول: من القضايا الكلية الضرورية، الضرورية يعني لا ينازع فيها أحد، لا تحتاج إلى إثبات، وإذا أردنا أن نثبتها فهذه هي السفسطة، لو جاء واحد وقال: ما الدليل على أن كل محدَث لابد له من محدِث؟

نقول: هذه سفسطة، هذه قضية لا ينازع فيها أحد، كل محدَث لابد له من محدِث، أنا عندما أرى هذا الكلام مكتوبًا بخط اليد، فأقول: هذه الكتابة لابد لها من كاتب، وعندما أرى أثراً في الأرض أقول: هذا الأثر لابد له من مؤثر، لابد أن إنسانًا مر من هنا، كما قال الإعرابي:

البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير[2].

وقل مثل ذلك عندما أسمع صوتاً فأقول: هذا الصوت لابد له من مصدر إما إنسان أو حيوان أو سيارة أو رعد أو طائرة أو غير ذلك، فهذه الأشياء لها ما ترجع إليه، مصدر يعني، فهنا يقول: "من القضايا الكلية الضرورية أن كل محدَث لابد له من محدِث"، فهذه معلومة، قضية كلية، قاعدة ويدخل تحتها كل الجزئيات التي تصلح لهذا، "وكل مفعول ومصنوع لابد له من فاعل وصانع، وكل ممكن لابد له من واجب"، يعني هذه ثلاث كليات، "والآية والدلالة يجب أن يكون ثبوتها مستلزماً لثبوت مدلولها الذي هو آية له، وعلامة عليه إلى أن تندرج تحت قضية كلية".

 فهو يذكر هذا الكلام بعدما قرر أن الآية والعلامة والدلالة على الشيء يجب أن يكون ثبوتها مستلزماً لثبوت المدلول الذي هي آية له وعلامة عليه، ولا تفتقر في كونها آية وعلامة ودلالة إلى أن تندرج تحت قضية كلية، فهو يريد أن يقرر هذا يقول: إن المتكملين إذا أرادوا إثبات مثلاً أن الله -تبارك وتعالى- هو الخالق، أو أنه موجود، يثبتون وجود الله ، ويتعبون أنفسهم كما حصل لما مر الرازي من عند امرأة عجوز ومعه كوكبة من تلامذته قالت: من هذا؟

قالوا: هذا الذي يعرف على وجود الله ألف دليل، قالت بفطرتها: لو لم يكن في قلبه ألف شك لما عرف ألف دليل على وجود الله، يعني هل وجود الله يحتاج هذا الجهد حتى نثبته بألف دليل؟

وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دليل[3]

ولذلك الأعرابي قال: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، أرض ذات فجاج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على العليم الخبير؟"، فشيخ الإسلام في هذا الكلام حينما يقول هنا: "والآية والدلالة يجب أن يكون ثبوتها" الدلالة المعينة يقصد، الآن يقول: الدليل الكلي هذا صحيح ما فيه إشكال أن كل محدَث لابد له من محدِث، عرفنا هذا، لكن يقول: الناس يرون ويشاهدون في كل يوم، في كل صباح ومساء ما يدل على قدرة الله ، ويقول: ولكنه ما تجدد من ذلك من غير المألوفات كان أدعى إلى إيقاظ هذا في النفوس، فيقولون: سبحان الله!، يقول: لكن الإلف، هم يرون ما هو أعظم مما شاهدوا فلا يسبحون الله، يعني السماء والأرض عظيمة جدًّا لكن حينما يرون أحياناً دليلاً جزئياً يدل على قدرة الله أو عظمته أو شيء لأول مرة يشاهدونه، يقولون: سبحان الله!، يعني مثلاً يحدثني رجل من العامة -وهو منبهر- عنده بقرات فجاء من العمل وقيل له: إن إحدى البقرات ستضع الآن، فيقول: فذهبت وجلست أرقبها يقول: بمجرد ما سقط المولود على الأرض بدأ يبحث عن ثديها، وبدأ يرضع، يقول: أنا عندها اعتمدت على الجدار ووقفت مندهشاً مَن الذي علمها، وهي خرجت الآن وأنا أشاهد؟، لم تعلمها أمها هذا الأمر، فجعل يسبح الله ويقدسه، ووقع في قلبه من تعظيم الله الشيء الكثير على قضية كهذه، فخلق السموات والأرض أعظم من هذه، فشيخ الإسلام يقول: مثل هذه الأدلة التي يسميها هنا يقول: "والآية والدلالة يجب أن يكون ثبوتها مستلزمًا لثبوت المدلول"، يقول: ما يحتاج أن تكون إلا قضية كلية، يقول: "وكثير من العوام لا يقوم بقلوبهم هذا" -يعني القضية الكلية- "بل قد لا يعرفونها، ولكنهم يدركون ذلك بفطرهم"، ولهذا فهم يستدلون بهذه الأشياء التي يشاهدونها على علم الله وقدرته، أو على خلقه، وأنه هو الواحد الأحد .

يقول: هذا الدليل الكلي الذي أتعب المتكلمون أنفسهم في تقريره مثل هذا صحيح ولكنه لا يُحتاج إليه، فما يوجد في الفطر، وما يشاهده الناس أمر يتكرر، وهو يدل على المدلول، هذه المشاهدات تدل على أن الله هو الذي خلق وأوجد ورزق وأعطى إلى آخره، بمعنى كما يذكر بعض أهل العلم حينما يأتي قطٌّ وهم يأكلون فيذهب ويعطونه شيئاً ثم يذهب، ويرجع بسرعة وينتظر فيعطونه أخرى، وثالثة ورابعة، ويذهب ويرجع فتتبعه أحدهم، فنظر فإذا هذا القط يذهب إلى قط آخر أعمى في مكان خرب قريب منهم فيضع بين يديه هذه اللحمة ثم يأتي يرقبهم، فيعطونه فيذهب بها إليه، وكانوا يتعجبون انظر كيف أن الله هو الرازق!، كيف سخر هذا لهذا!، هذا مشهد يذكرك بأن الله -تبارك وتعالى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى [سورة طه:50]، هدى هذه المخلوقات، هداها الهدايتين في أمور معايشها، الهداية التي يقال لها: الهداية الفطرية، وهدى الإنسان إلى معرفته، فهذا مثال.  

وحينما يذكر بعض أهل العلم شيئاً مما نذكره في الأسماء الحسنى مثلاً، أو بعض ما لا أذكره، يذكرون أشياء من هذا القبيل، طائر ينتقل بين شجرتين يأخذ من ثمر هذه ثم يلقيه في مكان في الأخرى، فلما صعد أحدهم ونظر وإذا ثعبان أعمى، وهذا الطائر يلقي في فمه ما يحمله له، فمثل هذه يقف عندها بعض الناس، فهذه كانت سبباً لتوبة أحد المشاهير في الزهد والعبادة.  

فشيخ الإسلام يقول: إن هذه القضية الكلية أن كل محدَث لابد له من محدِث صحيحة لكنها ليست ذات أهمية، فما يشاهده الناس من مفردات ووقائع يستدلون بها على الخالق ، يقول: حتى أدلتكم هذه الصحيحة وتتعبون أنفسكم كلها لإثبات وجود الله، وهذه قضية بدهية، بكلام طويل يذكره في هذه ويمثل لها، ولا حاجة إلى التطويل في ذلك.

وقال -رحمه الله: فالفعل يستلزم القدرة، والإحكام يستلزم العلم، والتخصيص يستلزم الإرادة، وحسن العاقبة يستلزم الحكمة، فلهذا كانت المخلوقات آيات عليه، وسماها الله آيات.

هو هذا، شيخ الإسلام -رحمه الله- قرر قبل هذا الكلام أن ما يشهده الناس من الحوادث آيات دالة على الفاعل المُحدِث بنفسها من غير أن يجب أن تقترن بها قضية كلية، يعني العوام ما يرجعون يتفلسفون ويقولون: حصل كذا وهذا بناءً على أن كل محدَث لابد له من محدِث، أنتم الآن تضحكون من هذا الكلام، للأسف هذا غاية ما عند المتكلمين، فيقول: لا يحتاجون إلى مثل هذا، ويقول: هذه الأشياء دالة عليه ، ومعلوم أنه لا يوجدها إلا هو -تبارك وتعالى، فكما أنه يُستدل على أن المحدثات لابد لها من محدِث قادر عليم حكيم إلى آخره فالفعل يستلزم أيضاً القدرة، يعني هل يمكن أن يخلق وهو غير قادر؟، هل يمكن أن يخلق وهو غير مريد؟، لا، هذا الخلق المحكم والسموات والأرض والإنسان بهذه الدقة يدل على أن الله -تبارك وتعالى- متصف بالعلم، وأنه خبير.   

وحينما خلق زيداً وعمراً إلى آخره جاء الخلق مقصوداً، هذا التخصيص يستلزم الإرادة، هذه العواقب التي تحصل من الجزاء في الآخرة، ومما يقع في الدنيا من ظهور أهل الإيمان ونصرهم وما إلى ذلك هذه العواقب الحميدة تستلزم الحكمة، فمثل هذه الأشياء أمور مدركة لا تحتاج إلى كثير مما يقرره أهل الكلام.

وسأذكر لكم نموذجًا من كلامه على الشَّهرستاني ولعل هذا يكون مفيداً -إن شاء الله تعالى، انظر مثلاً ما يقول الشهرستاني وهو يقرر الخلق: "قال النبي ﷺ: خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين"[4]، والشهرستاني عندهم يعتبر من كبار النظار ومع هذا لا يعرف حديثًا يعرفه صغار التلاميذ عند أهل السنة، يقول شيخ الإسلام: "قلت: لفظ الحديث في الصحيح يقول الله: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا[5]، قال: فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج، وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويله الاستغناء، ونفي الحاجة، والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها -لاحظ الكلام المظلم- عن تسويلات الشياطين، فإنهم الباقون على أصل الفطرة، -يعني الرسل، وما كان له عليهم من سلطان فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ۝ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [سورة الأعلى:9، 10]، فَقُولَا لَه قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44]"[6].

شيخ الإسلام يقول: "الذي في الحديث أن الشياطين أمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا، -يعني ما سولت لهم الاستغناء عن الصانع، وهذا المرض العام في أكثر بني آدم، وهو الشرك، وهو كما قال الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف:106]، وأما التعطيل فهو مرض خاص، لا يكاد يقع إلا عن عناد كما وقع لفرعون.

وليس في الحديث أن الشياطين سولت لهم الاستغناء عن الصانع، فإن هذا لا يقع إلا خاصًّا لبعض الناس، أو لكثير منهم في بعض الأحوال وهو جنس السفسطة، -يعني هل ينكر الصانع إلا واحد يسفسط؟، بل هو شر السفسطة، والسفسطة لا تكون عامة لعدد كثير دائماً، بل تعرض لبعض الناس، أو لكثير منهم في بعض الأشياء"[7].

وفي مواضع أخرى فصّل أن من الناس من يحتاج إلى علاج يقول: "قال -يعني الشهرستاني: ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع، فعرف احتياجه إليه في تكوينه -فهذا غاية ما يقررونه- وبقائه وتقلبه في أحواله، وأنحائه، ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه"[8].

يعني أنه يحتج بالخالق على الخلق "كلا، لا يخزيك الله"[9]، يعني يقصد من هذا الباب، بما عُرف يعني عنه من صفات الكمال، يقول ابن تيمية: "هو وطائفة معه يظنون أن الضمير في قوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّه الْحَقُّ [سورة فصلت:53]، -يعني: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّه الْحَقُّ، يقول: يظنون أن الضمير يعود إلى الله تعالى ويقولون: هذه جمعت طريق من استدل بالخلق على الخالق، ومن استدل بالخالق على المخلوق، والصواب الذي عليه المفسرون وعليه تدل الآية أن الضمير عائد الى  القرآن، وأن الله يُري عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن القرآن حق، وذلك يتضمن ثبوت الرسالة"[10]، إلى آخر ما ذكر.

لاحظ الآن شيخ الإسلام كيف ناقش الشهرستاني، وأن هذه الأدلة التي تُشاهَد تدل على الله ولا يُحتاج إلى الكلية في ذلك.

وقال -رحمه الله: الإقرار بالصانع ضروري فطري، فإنه لا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق للخالق، فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته،إذا كان هو الذي خلقهم، وهو الذي يأتيهم بالمنافع، ويدفع عنهم المضار.

يعني: أن هذه قضية فطرية ضرورية، الإقرار بالصانع، والمتكلمون أتعبوا أنفسهم، وذكروا أنواع الأدلة لتقريرها وإثباتها، يثبتون أمرًا بديهيًّا، وشيخ الإسلام يقول: هذا أمر فطري ضروري لا يحتاج إلى استدلال.

وقال -رحمه الله: وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره، وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم،كما يخاطبهم بذلك في كتابه، وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته.

"وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته" شيخ الإسلام يرد على هؤلاء، وكذلك ابن القيم في مسألة افتقار الخلق إلى الخالق وأن ما يذكره الفلاسفة والمتكلمون من أن ذلك يرجع مثلاً إلى الإمكان، أن الممكن لابد له من واجب الوجود، أو الى الحدوث باعتبار أن المحدَث لابد له من محدِث، يقول: هذه مظاهر تدل على الافتقار، وإلا فالافتقار إلى المعبود افتقار ذاتي، يقول: المخلوق فقره ذاتي[11]، ومظاهر هذا الفقر أنه في وجوده يحتاج إلى موجد، في رزقه يحتاج إلى رازق، في قيامه لابد من إقامة الله له، وما إلى ذلك، فيقول: الفقر ذاتي كما أن غنى الله هو غنى ذاتي، غناه ذاتي، وفقر المخلوق ذاتي، فهذا الذي يشير إليه هنا.  

فهم محتاجون إليه من جهة إلهيته لا باعتبار أنه يتوقف وجودهم على إيجاده مثلاً، أو أنه من قبيل الممكن، وهو واجب الوجود، فالممكن لابد له من واجب الوجود، هذه مظاهر للافتقار، مظاهر لفقرهم. 

وقال -رحمه الله: فإنه لا صلاح لهم إلا أن يكون هو معبودهم الذي يحبونه، ويعظمونه، ولا يجعلون له أنداداً يحبونهم كحب الله، بل يكون ما يحبون كأنبيائه وصالحي عباده إنما يحبونهم لأجله، ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجوّ المخوف المعظم، الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه، والافتقار إلى الذي تواضع كلُّ شيء لعظمته، واستسلم كل شيء لقدرته، وذل كل شيء لعزته، فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولابد لها منها، بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها -وهو الاعتراف بالصانع والإقرار به- أولى أن يكون ضرورياً في النفوس، وأصل الإيمان قول القلب، وعمله،أي: علمه بالخالق، وعبوديته للخالق، والقلب مفطور على هذا وهذا.

العلم بالخالق، والعبودية للخالق، ولذلك تجد كلما عظمت حاجة الناس إلى شيء عظمت معرفتهم به، فيقول: لذلك الله -تبارك وتعالى- فقرهم إليه لا حد له، فقر ذاتي، ومن ثَمّ فإن معرفتهم بربهم -تبارك وتعالى- أعظم من معرفتهم بغيره، يقول: هذا تجده حتى في الأمم الأخرى، ويقول: أسماؤه -تبارك وتعالى- عند الأعاجم، وكثرة الأسماء لله -تبارك وتعالى- الواردة في الكتاب والسنة، وأنها لا تحصى في تسعة وتسعين اسماً، فالخلق مفتقرون إلى ربهم كل الافتقار، فيوجد عندهم من معرفته والتعلق به، والركون إليه، وما يجدون من الحاجة التي لا يمكن أن تُسد إلا بإقامة الله لهم واغنائهم، فليست القضية هي قضية أن نثبت وجود الله -تبارك وتعالى، فذلك أمر مركوز في الفطر، والأدلة عليه لا تحصى، والمتكلمون يطيلون في تقرير الأدلة على إثبات وجود الله -تبارك وتعالى.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7296)، ومسلم واللفظ له، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم (134).
  2. انظر: تفسير الرازي (2/ 334)، وترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان، لابن الوزير (ص:83).
  3. البيت للمتنبي، ديوان المتنبي (2/ 95)، بواسطة شرح لامية العجم، للدميري (ص:18)، وانظر: الصبح المنبي عن حيثية المتنبي (2/ 350).
  4. درء تعارض العقل والنقل (3/ 132).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
  6. درء تعارض العقل والنقل (3/ 132).
  7. المصدر السابق (3/ 132-133).
  8. المصدر السابق (3/ 133).
  9. أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، برقم (6982)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -ﷺ، برقم (160).
  10. درء تعارض العقل والنقل (3/ 134).
  11. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 411).

مواد ذات صلة