الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا» إلى «لا تلاعنوا بلعنة الله..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب تحريم لعن إنسان بعينه أو دابة" أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعانًا[1]، رواه مسلم.

لا ينبغي لصدّيق الصدّيق عرفنا في بعض المناسبات أنها صيغة مبالغة؛ وذلك يقال لمن كثر صدقه، كما يقال أيضًا لمن كثر تصديقه.

فأبو بكر الصديق ما أخبره النبي ﷺ بشيء إلا قال: صدقت، فهو كثير التصديق، وعظيم التصديق، وكذلك من كثر صدقه، يقال له: صديق، فالصديقية مرتبة عالية من مراتب أهل الإيمان، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] فهؤلاء أهل المراتب العالية، فذكرهم بعد النبيين -عليهم الصلاة والسلام-، فهذه المرتبة مرتبة الصديقية لها متطلبات؛ ولأهلها أوصاف وأخلاق، وأعمال، ومزاولات، فمن ذلك أن الواحد منهم بهذه المثابة لا يكون لعانًا، واللعان هو كثير اللعن، لا ينبغي لصديق أن يكون لعانًا فمن أراد أن يصل إلى المراتب العالية في أهل الإيمان من مراتب العبودية، فعليه أن يتخلى عن الأوصاف التي تنافي ذلك المقام، ومن ذلك كثرة اللعن.

وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أن النبي ﷺ لما ذكر النساء، وأمرهن بالصدقة، قال: فإني رأيتكن أكثر أهل النار ثم ذكر علتين لهذا:

الأولى: قال: تكثرن اللعن[2]، فالإكثار من اللعن كان سببًا لدخول النار، فكيف يكون من كان بهذه المثابة من الصديقين، ومن أصحاب المراتب العالية؟! هذا لا يكون، لا ينبغي لصديق أن يكون لعانًا.

وفي حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: لا يكون اللعانون شفعاء، ولا شهداء يوم القيامة[3]، رواه مسلم.

فهناك: لا ينبغي لصديق وفي بعض الأحاديث: لا ينبغي لمؤمن أن يكون لعانًا[4]، فذكر المؤمن، فذلك لا يكون لأهل الإيمان أيضًا.

وهنا ذكر أيضًا حالاً للعانين، وهو أيضًا أنهم لا يكونون شفعاء، يعني: يشفعون للناس يوم القيامة، ونحن نعلم أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يشفعون، وأن الصديقين يشفعون، وأن الصالحين يشفعون، وأن الشهداء يشفعون، فاللعانون من أهل الإيمان لا يشفعون، فالذي يشفع إنما يشفع لأن الله -تبارك وتعالى- قد رضي عنه، وأذن بشفاعته، وهؤلاء لم يكونوا بتلك المرتبة عند الله ، ولا بتلك المنزلة في درجة إيمانهم، وكمال عبوديتهم، فلا يصلح الواحد منهم أن يكون شفيعًا يشفع لأهله ولولده ولقرابته وللناس يوم القيامة، ولا شهداء يشهدون على الخلق، والله قال عن هذه الأمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] فهذه الأمة تشهد على الأمم، وهؤلاء من اللعانين لا يكون الواحد منهم من الشهداء يوم القيامة، وإنما الشهداء هم العدول، وهذا كثير اللعن لا يكون أيضًا بهذه الصفة، وهذا يدل على انحطاط مرتبته، ونقص إيمانه.

ثم ذكر حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ: لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار[5]، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

لا تلاعنوا بلعنة الله يعني: أن يلعنه بلعنة الله، أو نحو ذلك من العبارات، كأن يقول للبعيد مثلاً: لعنة الله عليه، أو شيء من هذا القبيل، فهذا هو المراد، والله تعالى أعلم.

وكذلك ولا بغضبه يعني: أن يدعو عليه بغضب الله، كأن يقول للبعيد: عليك غضب الله تعالى، وهذا مثل اللعن؛ لأننا عرفنا أن اللعن من المخلوق هو دعاء منه بأن يطرده الله -تبارك وتعالى- من رحمة الله ، وأن لعن الله للعبد -نسأل الله العافية- هو أن يطرده من رحمته، فالمخلوق يدعو بهذا.

ولا بغضبه فإذا دعا عليه أن يغضب الله -تبارك وتعالى- عليه، وأن يسخط الله عليه، فهذا أمر لا يصح أن يقال في حق أهل الإيمان.

قال: ولا بالنار يعني: ولا يدعى عليه بالنار؛ وذلك جميعًا من موجبات الغضب، فإن الذي يلعنه الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يكون من أولياء الله، والله لا يحبه، بل إنما يلعن من يبغضهم، وكذلك أيضًا الذين يغضب الله -تبارك وتعالى- عليهم، وهكذا الذين يعذبهم بالنار، فهؤلاء من أهل الغضب، وليسوا من أهل الرحمة والرضا والمحبة، وولاية الله -تبارك وتعالى- الولاية الكاملة، فلا يُدعى على أهل الإيمان بمثل هذا، كأن يقول: ألقاه الله في النار، أو اللهم أدخله النار، أو اللهم عذبه بالنار، وما أشبه ذلك، فيكون هذا من قبيل النهي، والأصل في ذلك أن النهي للتحريم إلا لصارف، وهذا يحتج به من يقول: إن لعن المعين لا يجوز، إلا أن يكون ممن جاء اللعن في حقه بخصوصه، أو عُرف قطعًا أنه مات على الكفر، كأن نقول: لعنة الله على أبي جهل، أو لعنة الله على أبي لهب، وما أشبه ذلك، هكذا قال أكثر أهل العلم، والمسألة فيها خلاف معروف، في لعن المعين، وسبقت الإشارة إليه، لكن ما حاجة المؤمن للعن، والمؤمن لا يكون لعانًا ولا ينبغي لصديق أن يكون لعانًا فينزه الإنسان لسانه عن مثل هذا.

ونسأل الله السداد والتوفيق، والرشاد والهدى، وأن يعيذنا وإياكم من غضبه وسخطه والنار، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها برقم (2597).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب برقم (1462) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق برقم (79).
  3. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها برقم (2598).
  4. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في اللعن والطعن برقم (2019) وصححه الألباني.
  5. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة برقم (1976) وأبو داود في كتاب الأدب، باب في اللعن برقم (4906) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة