الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(123) دعاء سجود التلاوة " سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره... " اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا... "
تاريخ النشر: ٠٥ / جمادى الأولى / ١٤٣٥
التحميل: 2274
مرات الإستماع: 3270

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

في هذه الليلة نشرع في الكلام على سجود التِّلاوة، وقد أورد المؤلفُ حديثَ عائشة -رضي الله تعالى عنها-، قالت: كان رسولُ الله ﷺ يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقَه، وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقُوَّته[1].

وفي لفظٍ: كان رسولُ الله ﷺ يقول في سجود القرآن بالليل. يعني: في صلاة الليل: سجد وجهي للذي خلقَه، وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوَّته، فتبارك الله أحسن الخالقين[2].

هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وقال عنه الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. وصححه الحاكم، وقال: على شرط الشَّيخين. ووافقه الذَّهبي، وقد صحَّحه أو حسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-.

فقوله في هذا الحديث: سجد وجهي للذي خلقَه، وشقَّ سمعَه وبصره، قوله: سجد وجهي يُحمل على الوجه، لا على الذات، وذلك أنَّه قال: وشقَّ سمعَه وبصرَه، فهذا كلّه مما يتَّصل بالوجه، يعني: شقَّ سمعَه وبصره فتحهما، وأعطاهما الإدراك بحوله وقوَّته -تبارك وتعالى-، يعني: هو الذي صرفهما هذا التَّصريف، ودبَّرهما هذا التَّدبير، فإنَّه لا تحول من حالٍ إلى حالٍ إلا بعون الله -تبارك وتعالى- وقوّته، وإرادته، وتدبيره: بحوله وقوَّته، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يخلق ذلك، ويصرفه، ويُوجِده، ولا يستطيعه أحدٌ سواه: شقَّ سمعَه وبصرَه بحوله وقُوَّته.

وفي الرِّواية الأخرى بزيادة: فتبارك الله أحسن الخالقين، وقد مضى الكلامُ على مثل هذا، وقلنا: "أحسن الخالقين" فسَّره بعضُ أهل العلم: بالمقدِّرين. قلنا: إنَّ الخلقَ يأتي لمعانٍ منها التَّقدير، وكذلك التَّصوير، فهو أحسن الخالقين، أحسن المقدِّرين، والمصورين، يبقى المعنى الثالث: وهو الإيجاد من العدم، هذا يختصُّ بالله -تبارك وتعالى-، ولا يُضاف إلى المخلوقين؛ لهذا قال: أحسن الخالقين، فالذي يكون من المخلوقين مما يُضاف إليهم مما يكون من قبيل الخلق إنما هو التَّشكيل والتَّصوير، أو التَّقدير: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17].

وكذلك فيما ذكره من خبر عيسى وما أعطاه من الآيات والمعجزات، حيث أخبر أنَّه يخلق من الطِّين كهيئة الطَّير، فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله -تبارك وتعالى-، فهنا يُشكل من الطِّين على هيئة الطَّير، ويُصوّره.

وذكرنا أنَّ شيخَ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أعدَّ ذلك من جملة أسماء الله الحسنى، مثل: أرحم الرَّاحمين، الأسماء المضافة: ربّ العالمين، مالك يوم الدِّين، وما أشبه ذلك[3].

وفي الحديث الآخر مما أورده المؤلفُ في سجود التِّلاوة: ما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني رأيتُ الليلة وأنا نائمٌ كأني أُصلي خلف شجرةٍ، فسجدتُ؛ فسجدتْ الشجرةُ لسجودي، فسمعتُها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذُخرًا، وتقبَّلها مني كما تقبَّلتها من عبدك داود[4].

وفي روايةٍ: قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: فقرأ النبيُّ ﷺ سجدةً، ثم سجد، فقال ابنُ عباسٍ: فسمعتُه وهو يقول مثلما أخبره الرجلُ عن قول الشَّجرة[5].

وفي لفظٍ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: كنتُ عند النبي ﷺ، فأتاه رجلٌ فقال: إني رأيتُ البارحةَ فيما يرى النَّائم كأني أُصلي إلى أصل شجرةٍ، فقرأتُ السَّجدة، فسجدتُ؛ فسجدتْ الشَّجرةُ لسجودي، فسمعتُها تقول: اللهم احطط عني بها وزرًا، واكتب لي بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا. يقول ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: فرأيتُ النبيَّ ﷺ قرأ السَّجدة، فسجد، فسمعتُه يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قول الشَّجرة[6].

ومثل هذا النبيُّ ﷺ أقرَّه، وقاله، فهو من السُّنة، وإلا فالأصل أنَّ الرُّؤى لا يُبنى عليها حكمٌ.

هذا الحديث -حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما- أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ غريبٌ من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، وحسَّن إسنادَه الإمامُ النَّووي، قبله صحَّحه ابنُ حبان، وحسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحم الله الجميع-.

هذا الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ، ورأى هذه الرُّؤيا، ذكر جمعٌ من أهل العلم أنَّه أبو سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-، وأنَّ ذلك جاء مُصرَّحًا به في بعض الأحاديث أو الرِّوايات، يقول: "يا رسول الله، رأيتُني الليلة". يعني: التي مضت، فإنَّ الليلةَ التي تسبق يومك يُقال لها ذلك، تقول: رأيتُ الليلة، يعني: الفائتة.

"وأنا نائمٌ كأني أُصلي خلف شجرةٍ، فسجدتُ؛ فسجدتْ الشَّجرةُ لسجودي، فسمعتُها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا"، اكتب لي بهذه السَّجدة عندك أجرًا، وضع عني بها وزرًا يعني: الذَّنب، واجعلها لي عندك ذخرًا، الذُّخر: ما يذخره الإنسانُ من مالٍ، أو كنزٍ، أو غير ذلك. وبعضهم قال: ذخرًا يعني: أجرًا؛ فيكون تكرارًا، قالوا: لأنَّ مقام الدعاء يُناسب الإطناب. وبعضهم قال: الأول لما سأل أن يكتب له بها الأجر. قالوا: هذا طلب كتابة الأجر، وهنا الذّخر طلب بقاء ذلك سالـمًا يجده في آخرته، دون أن يعرض له ما يُحبطه ويُبطله، فيكون ذُخْرًا عند الله -تبارك وتعالى-، والذُّخر يدل على إحراز الشَّيء وحفظه.

وتقبَّلها مني كما تقبَّلتَها من عبدك داود هذا قد يُفهم منه أنَّ هذه السَّجدة كانت السجدة التي في سورة (ص)؛ لأنَّ داود سجد شُكرًا لله، فسجد النبيُّ ﷺ اقتداءً به، وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} إلى أن قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:84- 90]، لكنَّها ليست من عزائم السُّجود.

يقول ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: فقرأ النبيُّ ﷺ سجدةً، ثم سجد.

يقول الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-: يحتمل أنَّه قصدها ليُبين مشروعية ما سمعه ممن أخبره عن هذه الرُّؤيا، فيُبين ذلك بفعله ﷺ، أو أنَّ ذلك وقع اتِّفاقًا[7].

يقول: سجد فسمعتُه وهو يقول مثلما أخبره الرجلُ عن قول الشَّجرة.

فهذا كلّه مما يُقال في سجود التِّلاوة، فلو أنَّ ذلك قيل في الصَّلاة، أو في خارج الصَّلاة؛ فإنَّ هذا كلّه من السُّنة، ولا إشكالَ في ذلك، سواء قال ما جاء في الحديث الأول: حديث عائشة -رضي الله عنها-: سجد وجهي للذي خلقه، وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقُوَّته[8]، فهذا مُختصرٌ، وهكذا لو جاء بالزِّيادة في الرِّواية الأخرى: فتبارك الله أحسن الخالقين، أو جاء بما في حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، كلّ ذلك صحيحٌ، إن شاء الله.

هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  2. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  3. انظر: "الفتاوى الكبرى" (2/383).
  4. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب السَّفر، باب ما يقول في سجود القرآن، برقم (579)، وصححه النَّووي في "خلاصة الأحكام" برقم (2147).
  5. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب السَّفر، باب ما يقول في سجود القرآن، برقم (579)، وضعَّفه الألباني في "مشكاة المصابيح" برقم (1036).
  6. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب السَّفر، باب ما يقول في سجود القرآن، برقم (579)، وضعَّفه الألباني في "مشكاة المصابيح" برقم (1036).
  7. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للهروي (2/818).
  8. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).

مواد ذات صلة