الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث «نعم الرجل عبد الله..» إلى «يا عبد الله لا تكن مثل فلان..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب فضل قيام الليل"، أورد المصنف -رحمه الله- حديث سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل، قال سالم: "فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً"[1]. متفق عليه.

هذا قاله النبي ﷺ بمناسبة معروفة، وذلك أن عبد الله بن عمر في أيام شبابه ومقتبل عمره كان ينام في المسجد، وكان النبي ﷺ إذا صلى الصبح سأل الناس عما رأوه من الرؤى: من منكم رأى الليلة رؤيا؟، فكانوا يقصون عليه فتمنى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن يرى شيئًا ليقصه على النبي ﷺ، فرأى رؤيا مفادها أنه رأى النار أن ملكين أو رجلين أخذاه فوقفا به على النار كأنها بئر مطوية، وقالا له: لم ترع، يعني لا يلحقك المخاوف، والروع وهو الخوف، فذلك تطمين له وتأمين، فذكر ذلك لأخته حفصة -رضي الله عنها-، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي ﷺ هذه الجملة العظيمة، وهي تزكية كبيرة لعبد الله بن عمر ، قال: نعم الرجل عبد الله، لو كان يقوم من الليل.

نعم الرجل، لما وقفا به على النار أمّناه، وأنه لن يلحقه روع، وهو الخوف فهو في مأمن من النار هذه الكلمة التي قالها النبي ﷺ ماذا فعلت؟ أثرت فيه غاية التأثير، يقول ابنه سالم وهو من خيار التابعين: "فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً"، بسبب هذه الكلمة التي سمعها، فهي قلوب مفتوحة تكفي كلمة واحدة؛ لتغييرها وتحويل مسار الإنسان.

وهذا له نظائر كثيرة جدًّا في العلماء والقراء والعباد والزهاد، وما إلى ذلك يطول وصفها، مطين إمام من الأئمة، من أئمة السنة كان يلعب مع الصبيان، ويطينون ظهره، سمع كلمة: يا مطين، لم لا تحضر مجلس العلم[2]، فطلب الحديث وصار إمامًا من كبار أئمة الحديث والسنة.

انظر إلى شيخ الأزهر الشيخ خالد الأزهري الملقب بالوقاد كان خادمًا في الأزهر، يقوم بإيقاد السرج في الأزهر، خادم عامل فسكب الزيت على كتاب طالب فقال له: يا جاهل[3]، فتحركت نفسه، كيف يوجه إليه مثل هذا الكلام فطلب العلم، حتى صار شيخًا للأزهر، وتفنن بمختلف الفنون، وألف فيها حتى صارت كتبه تدرس في الأزهر إلى اليوم، ومن لا يعرف كتب الشيخ خالد الأزهري -رحمه الله-، كلمة سمعها وهذا تجدونه في تراجم عدد من القراء في "غاية النهاية" لابن الجزري.

وبعضهم قيلت له كلمة فتحول إلى إمام كبير في القراءة، وكذلك أيضًا سيبويه كان يقرأ على بعض أئمة السنة وأئمة الحديث، وكان يلحن لحنًا فجًا، فقال: "لا يحضر مجلسنًا أحد يلحن، فذهب وقال: لأتعلمن نحوًا لا يلحنني أحد فيه"[4]، وصار سيبويه شيخ النحو، إذا ذكر سيبويه يكفي، وإذا ذكر الكتاب فهو كتاب سيبويه.

والإمام ابن حزم لما دخل المسجد وأراد أن يصلي في وقت نهي فقيل له: إنه وقت نهي[5]، ثم دخل ثانية في قصة معروفة، فالشاهد أنه قال كما قال سيبويه: لأتعلمن فقهًا لا يخطئني أحد فيه، فصار ابن حزم -رحمه الله- من فحول الفقهاء.

وكذلك أيضًا في ترجمة الشيرازي[6] صاحب "المهذب" وجماعة من أهل العلم كثير كلمة سمعها فتغيرت حياته.

فهنا ابن عمر -رضي الله عنهما- لما سمع النبي ﷺ بلغه، عن النبي ﷺ مثل هذا عن أخته حفصة -رضي الله عنها- عن رسول الله ﷺ صار لا ينام من الليل إلا قليلاً، كان يصلي ليلاً طويلاً، ويقول لمولاه نافع: أسحرنا؟ هل دخلنا في السحر؟ فيقول: لا، فيصلي، وكان يغفو إغفاءة الطائر، ثم يقوم ويصلي فإذا دخل في السحر جعل يستغفر حتى يطلع الفجر، فكم سمعنا من المواعظ؟! وكم وعظنا؟! وكم سمعنا من الخطب؟! وكم خطبنا؟! ومع ذلك نجد أن التغير عندنا بطيء، وأحيانًا يكاد الإنسان يتوقف إن لم يتراجع، وهذه لا شك أنها مصيبة، وكما قيل: "من استوى يوماه فهو مغبون، ومن لم يكن إلى زيادة فهو حتمًا إلى نقصان"[7].

فالعاقل من يتبصر وينظر في حاله وعمله، ونفسه، ويستدرك التقصير والخلل، وينطلق فيكون في كل يوم في زيادة كما قال بعض من صحب الإمام أحمد: "صحبته خمسًا وعشرين سنة، ما دخلت عليه في يوم إلا وهو في زيادة عن اليوم الذي قبله"[8]، فهذا الحديث عظيم في هذا المعنى.

ثم ذكر أيضًا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل[9].

لا تكن مثل فلان: فلان هذا رجل ترك اسمه سترًا عليه كان يقوم الليل فترك قيام الليل، فالانقطاع من العبادة والعمل أمر مذموم شرعًا، وإن لم يقع صاحبه في المحرم في كل حال، ولكن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل[10]، و"كان النبي ﷺ إذا عمل عملاً أثبته"[11]، يستمر عليه، ولهذا سبق الإشارة إلى ما ذكره الشاطبي[12] -رحمه الله- في مقاصد الشريعة حينما تعبد الشارع المكلفين بها فكان من مقاصده الدوام والاستمرار على العمل هذا من جهة، ومن جهة أخرى تلاحظ وهو أن يقبل عليها بصدر ونفس منشرحة فلا يدخل في عمل يشق عليه، ابن عمرو -رضي الله عنهما- ما الذي حصل له لما سمع مثل هذا الكلام؟ كان يختم القرآن كل ليلة، ويصوم كل يوم، وزوَّجه أبوه امرأة من أشراف قريش، فلما جاءها بعد أسبوع سألها عنه فقالت: نعم الرجل، لم يطأ لنا فراشًا، ولم يكشف لنا سترًا"[13]، شاب مشغول بالعبادة يتوقد حيوية ونشاطًا وطاقة أسبوع كامل أبوه زوَّجه لم يقرب امرأته، فذهب يشتكيه إلى النبي ﷺ فدعاه، وسأله فقال: "إنه يختم كل ليلة في صلاة الليل في القيام، ويصوم كل يوم، هذا وهو شاب، فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا، وأرشده إلى أمر أيسر منه، أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يختم القرآن في أربعين[14]، كما في بعض الروايات، ثم لا زال يصر أنه يطيق أفضل من  هذا، حتى كان النبي ﷺ يتدرج معه إلى أن وصل إلى سبع ليال في الختم، ثم أخبره أنه لا يفقه في أقل من ثلاث[15].

فابن عمرو كان يريد أن يستمتع بهذه العبادة، والنبي ﷺ كان يرشده إلى أمر آخر، وذكر له أنه قد يطول به العمر، ثم بعد ذلك لا يطيق مثل هذا، وهذا الذي حصل، عُمِّر فكان يقرأ ورده بالنهار، ثم يصلي به في الليل؛ لأنه لا يترك شيئًا فارق عليه رسول الله ﷺ، ما كانوا يرضون بالتبديل حتى في هذه النوافل أن يتخلى الإنسان عن بعض العمل الذي فارق عليه رسول الله ﷺ فكيف بتبديل المبادئ؟ تحت مسمى التيسير!، وما أشبه ذلك من الفلسفات التي ابتلينا بها اليوم، يتقلب الناس في الفتن ظهرًا لبطن، ولا تدري إلى أي حد أو حال ينتهون.

فالشاهد أنه استمر حتى الممات على ما ترك عليه رسول الله ﷺ الشاهد هو يعني هذه الكلمة أثرت فيه يا عبد الله لا تكن مثل فلان، فلا يحسن بالإنسان أن يدخل في عمل حتى ينظر في حاله وإمكاناته وقدرته هل يطيق هذا والاستمرار عليه، أو لا؟ سواء كان هذا في العبادة، أو كان ذلك في أمور أخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل يطيق أو ينكسر؟!

وكذلك أيضًا فيما يتعلق بالعلم وطلب العلم، فقد يندفع ثم بعد ذلك يتراجع، إنما يكون له بذلك طريقة حسنة تصلح لمثله يستمر عليها، والإنسان بالاستمرار يحصل كثيرًا، لكنه قد يأتي ويبدأ بداية فيها شيء من التوسع، ثم بعد ذلك ما يلبث أن ينقطع، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل، برقم (1122)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب من فضائل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، برقم (2479).
  2. انظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (14/42).
  3. انظر: بحث بعنون: "الشيخ خالد الأزهري ومكانة مقدمته بين متون النحو" منشور في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود، "العلوم العربية" (ص:188)، مجلة علمية فصلية محكمة، العدد (9) شوال: 1429هــ.
  4. انظر: فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث (ص:36).
  5. انظر: تاريخ الإسلام ت بشار (10/79).
  6. انظر ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي
  7. المجالسة وجواهر العلم (5/57)، برقم (1861)، من كلام أبي حازم.
  8. لم أقف على لفظ خمس وعشرين وإنما: "ولقد صحبته عشرين سنة" كما في مناقب الإمام أحمد (ص: 186).
  9. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، برقم (1152)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان، برقم (1159).
  10. أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2818).
  11. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، برقم (746).
  12. الموافقات (2/404).
  13. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب في كم يقرأ القرآن، برقم (5052).
  14. أخرجه الترمذي، أبواب القراءات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (2947)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1154).
  15. أخرجه أبو داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب في كم يقرأ القرآن، برقم (1390)، وفي باب تحزيب القرآن، برقم (1394)، والترمذي، أبواب القراءات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (2949)، وقال الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1260): "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

مواد ذات صلة