الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
حديث «اللهم أنت السلام ومنك السلام..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب فضل الذكر" شرع المصنف -رحمه الله- بعد أن أورد جملة من الأحاديث في الذكر المطلق شرع في ذكر بعض الأحاديث في الأذكار بعد الصلاة، فأول ذلك ما جاء عن ثوبان قال: كان رسول الله ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، قيل للأوزاعي -وهو أحد رواة الحديث-: كيف الاستغفار؟ قال تقول: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله"[1]، رواه مسلم.

كان رسول الله ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، كان إذا انصرف من صلاته استغفر: هذا يدل على المداومة والتكرار، وأنه كان يلازم ذلك، وكان ذلك من عادته وديدنه ﷺ إذا انصرف من صلاته، والمقصود بالانصراف هنا الانصراف المعنوي، يعني ليس المقصود أنه إذا خرج من المسجد، وإنما المقصود إذا خرج من الصلاة، وقد جاء ما يدل على أنه ﷺ يقول ذلك قبل أن يلتفت وينصرف إلى الناس، يبقى قليلاً إذا سلم -عليه الصلاة والسلام- ويقول ذلك ثم بعد ذلك يلتفت، وكثير من الأئمة لربما يبادر مباشرة من بعد السلام لربما بسرعة كبيرة فيستقبل الناس مباشرة، وهذا غير صحيح، وإنما يبقى في مكانه حتى يقول ما سمعتم، ثم بعد ذلك يستقبل الناس، فماذا كان يقول -عليه الصلاة والسلام-؟ يقول: استغفر ثلاثًا هذه الأحرف الثلاثة الألف والسين والتاء تدل على الطلب، أصل الفعل غفر، استغفر فهي تدل على الطلب، طلب المغفرة، يطلب المغفرة من الله -تبارك وتعالى-، والمغفرة تضمن أمرين:

الأول: الستر، فلا يفتضح الإنسان لا في الدنيا ولا في الآخرة.

والأمر الثاني: أن يوقى العقوبة، وتبعة الذنب والمعصية كالمغفر يستر رأس لابسه، ويقيه أيضًا ضرب السلاح، وكون النبي ﷺ يستغفر ثلاثًا إذا انصرف من صلاته هذا بعد الفراغ من عبادة من أجل العبادات يستغفر، فما الشأن إذا كان الإنسان قد عصى الله -تبارك وتعالى-؟

إذا كان المسلم مأمورًا أن يستغفر بعد هذه العبادات، بعد هذه الصلوات، فإذا عمل معصية فإن ذلك من باب أولى، وهذا الاستغفار بعد الصلاة نفهم منه حاجة العبد إلى مغفرة الله ، وأن النجاة لا تحصل بالعمل، ونفهم منه استشعار التقصير في حق الله -جل جلاله-، ونفهم منه أيضًا أن هذه العبادة قد يعتورها ويدخلها من النقص ما تحتاج معه إلى الاستغفار، ومن ثم فإن الإنسان لا يغتر ويقول: أنا صليت، أنا أصلي، أنا أحسن من غيري، لا، يصلي ويقول: أستغفر الله.

وهكذا علمنا الله أن نذكره بعد الفراغ من الحج: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200].

فالإنسان يلهج بذكر الله ويستغفر ربه بعد الطاعات؛ خشية التقصير، وما يقع له من النقص؛ ولئلا ليلتفت إلى نفسه وعمله ويغتر بعبادته.

"استغفر ثلاثًا"، والثلاث هنا لا شك أن ذلك يدل على الكمال، يعني في الكثرة، فأدنى الكمال ثلاث، ونحن متعبدون بهذه الأذكار من جهة الصيغة، ومن جهة العدد، ومن جهة المحل، هذه الأمور الثلاثة من جهة العدد فلا يزيد الإنسان يقول: أنا سأستغفر سبع مرات بعد الصلاة، نقول له: هذه بدعة، وهذا النوع من البدع يقال له: البدع الإضافية، أن يزيد في العدد المشروع يعني هذا ما هو ذكر مطلق حتى يقول: أنا والله سأستغفر في اليوم ما شئت، نقول: جيد، هذا من الذكر المطلق، لكن بعد الصلاة ثلاث مرات، لا يزيد الإنسان على ذلك.

وهكذا في الصيغة لا يغير الإنسان الصيغ الواردة عن النبي ﷺ.

وكذلك أيضًا المحل فذلك بعد الصلاة فلا يلتزم مثلاً الإنسان أن يستغفر ثلاثًا بعد الفراغ من العمرة مثلاً، أو حينما ينتهي الإنسان من السنة الراتبة، يستغفر ثلاثًا، أو حينما ينتهي من الوتر يستغفر ثلاثًا، يقول: أستغفر الله، فهذا لم يرد عن النبي ﷺ.

ثم يقول: اللهم أنت السلام، السلام اسم من أسماء الله وهو يدل على السلامة، أن الله سالم من كل عيب ونقص في ذاته وأفعاله وصفاته، وكذلك أيضًا قد سلم وسلّم عباده من أن يظلمهم، فالله -تبارك وتعالى- ليس بظلام للعبيد، لا يظلم الناس شيئًا، فهذا كله داخل في معنى السلام.

اللهم أنت السلام، ومنك السلام، أن كل سلامة تطلب أو تحصل أو تقع للناس في أمورهم الدينية أو الدنيوية فإنما يكون ذلك من الله وحده، فمن رام السلامة فعليه أن يطلبها من مصدرها، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يسلم عباده من المخاوف والآفات، والأمور التي يطلبون السلامة منها، ومنك السلام.

تباركت يا ذا الجلال والإكرام، تباركت: التبارك من البركة، وهو يدل على الكثرة والثبات في ذلك، فالله -تبارك وتعالى- كثير البركات عظيم البركات وقد مضى في بعض المناسبات أن البركة من الله، وأنه لا يقال لأحد من الناس: تباركت، وإنما ذلك يختص بالله ، فلا يقال: لمخلوق تباركت علينا يا فلان، أو أن يظن أن البركة تأتي من المخلوقين كأن يقال: فلان جاءنا بالبركة، حصلت لنا البركة بمجيئه، وإن كان بعض هذا الكلام قد يحمل على وجه صحيح بتأويل، كأن يقصد بالبركة مثلاً أنه لما جاءهم تعلموا من الدين، وعرفوا من الحق، وتفقهوا، وما أشبه ذلك فكان مجيئه لهم سببًا لتعلمهم، ومعرفة حدود الله ومعرفة أحكامه وشرائعه من هذا الباب ممكن، فهذا خير حصل لهم، لكن هل الناس يقصدون هذا؟!

أما البركة التي هي معنى البركة حقيقة فإنما تطلب من الله، وقد وضع الله في بعض الأعيان والأمكنة والذوات قد جعل فيها بركة، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم:31] هذا قول عيسى ، فهو مبارك جعلني مباركًا كثير البركات.

وبعض أهل العلم فسر ذلك بأنه معلم للخير كلما ذهب علم الناس، وتعرفوا على مراد الله عن طريقه فهذه بركة، والمعنى أعم من ذلك، -والله تعالى أعلم-، لكن ذلك لا يعني أن يحكم الناس من عند أنفسهم فلان مبارك ومن ثم يتمسحون بزيد أو عمرو لكن النبي ﷺ لا شك أنه مبارك، ولهذا فإن أصحاب النبي ﷺ كانوا يتبركون بآثاره المنفصلة عنه، مثل: تبركوا ولم يكن ذلك من عادتهم ببصاقه[2] -عليه الصلاة والسلام-، كما تبركوا أيضًا بشعره[3] أعطاهم حينما حلق، وتبركوا أيضًا بعرقه -عليه الصلاة والسلام[4]-، وتبركوا أيضًا بسؤره[5]، يعني ما يبقى من شرابه -عليه الصلاة والسلام- إلى غير هذا، فهذا لا إشكال فيه.

وهذه المسألة اليوم البحث فيها والكلام فيها لا يترتب عليه عمل؛ لأنه لا يثبت شيء إطلاقًا اليوم أنه من آثار النبي ﷺ حتى نقول: إنه يتبرك به أو لا يتبرك به، يعني ما يزعم من وجود شعره أو شعرات في بلد هنا أو هناك، أو في تركيا، أو أن ذلك من أجزائه ﷺ، هذا لا يثبت إطلاقًا، وأما الأشياء الأخرى من الأدوات، والأشياء التي كان يستعملها فهذه لا يتبرك بها عند كثير من أهل العلم، وورد عن ابن عمر أنه كان يمسح على رمانة المنبر[6]، هذا نقل عن ابن عمر لكن الذي عليه عامة الصحابة فمن بعدهم أنه لا يتبرك بهذه الأشياء المنفصلة عن النبي ﷺ من الآلات، آلات الحرب، أو المنبر، أو نحو ذلك فلا يتمسح بشيء من هذا إطلاقًا واليوم لا يوجد شيء من ذلك، لا من منبره -عليه الصلاة والسلام- ولا من سلاحه، ولا من ثيابه، ولا نعله -عليه الصلاة والسلام- إطلاقًا، لا يوجد شيء من هذا.

إذن فالبحث في ذلك أيضًا لا طائل تحته وما يوجد في بعض المتاحف أن هذا سيف النبي ﷺ وهذه درعه، وهذا إناؤه، وهذا كذا كله لا يثبت، كل هذا لا يثبت، ومعروف أن ما جمع من ذلك كل ذلك كان لا يستطيع أحد أن يثبته إطلاقًا، أنس بن مالك كان عندهم جلجل فضة، وكان فيه من شعرات النبي ﷺ فكان إذا مرض أحد غمسوه في الماء فشربه[7]، هذا لا إشكال؛ ففيه من شعر النبي ﷺ لكن أين هذا الشعر الآن؟

لا وجود له، أما غير النبي ﷺ فلا يتبرك بهم، لا يقال: فلان صالح، أو فلان إمام الحرم كما يفعل بعض العامة، أو يتبرك لربما بجدران الكعبة، أو بستورها ويأخذون الخيوط، فهذا كله لا يجوز، وأستار الكعبة لا يتبرك بها، إنما يقبل الحجر الأسود، ويمسح على الركن اليماني فقط، وما عدا ذلك فلا يتمسح بجدران الكعبة، ولا بعتبة الباب، ولا بالباب، ولا بالستور، ولا غير ذلك.

والناس أسرع ما يكونون إلى البدع إلا من رحم الله ، فهنا الله -تبارك وتعالى- هو مصدر البركة، والبركة تطلب منه لا تطلب من غيره، فلا نقول: بأن فلان تبارك علينا، ولكن قد تحصل البركة للناس من بعض المقاربات ونحو ذلك يعني قد يتزوج رجل امرأة فيكثر ولده ويكثر ماله وتصلح أحواله وما إلى ذلك فيرجى أن تكون هذه المرأة بركة، أي سببًا للبركة التي حصلت لهذا الإنسان، أي أن الله جعلها سببًا لذلك، لكن لا نجزم بهذا ونقطع به؛ لأننا لا نستطيع أن نزكي أحدًا على الله ، والله يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32]، لا يزكي الإنسان نفسه أيضًا، ولا يزكي بعضكم بعضًا، فالله أعلم بعباده وخلقه، هو الأعلم بالأتقياء والأزكياء.

فهنا قال: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، الجلال إنما يكون لاجتماع أوصاف من العظمة، أوصاف العظمة، فيكون جليلاً يعني صاحب الجلال، والإكرام: يعني صاحب الكرم، فالله -تبارك وتعالى- من أسمائه الكريم، ومن كرمه -تبارك وتعالى- أنه يفيض الأرزاق على عباده، كل ما نراه فهو من الله ، من الخير والرزق والنماء والعافية، وكذلك أيضًا أنه يجازي المحسن على إحسانه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف[8]، ويده سبحانه سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة[9].

قال: قيل للأوزاعي -وهو أحد رواة الحديث-: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: "أستغفر الله، أستغفر الله". رواه مسلم.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (591).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، برقم (2731).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب من زار قوما فقال عندهم، برقم (6281)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب قرب النبي -عليه السلام- من الناس وتبركهم به، برقم (2325).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب من زار قوما فقال عندهم، برقم (6281)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي -صلى الله عليه وسلم- والتبرك به، برقم (2331)، و(2332).
  5. أخرجه أحمد في المسند، برقم (1904)، وقال محققوه: "إسناده حسن".
  6. انظر: الإخنائية أو الرد على الإخنائي ت زهوي (ص: 181).
  7. لم أقف عليه.
  8. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151).
  9. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} [هود:7]، برقم (4684)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993).

مواد ذات صلة