الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

هذا باب النهي عن التجسس، والتسمع لكلام من يكره استماعه.

التجسس بمعنى: التتبع، وقد أورد المصنف -رحمه الله- قول الله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12] فهذا نهي، ونهي يقتضي التحريم، فالتجسس حرام، لا يجوز بحال من الأحوال، سواء ما استثني.

والذي ذكره أهل العلم من الاستثناء في هذا الباب، هو ما إذا كان مظنة قوية، غلبة ظن في وجود منكر، أو فساد، لا يمكن استدراكه إلا بذلك، أو يفوت كمن علم أو غلب على الظن أنه خلا بأحد ليقتله.

وهنا يمكن أن يتتبع، وينظر ويتحقق من ذلك، أو خلا بامرأة ليفجر بها، بغلبة ظن، فإنه في هذه الحال يمكن أن يتتبع؛ ليعرف حاله، مثل ما إذا كان هناك سيارة محملة بأشياء يغلب على الظن أنها مخدرات، ففي هذه الحال يجوز أن يتأكد من ذلك، ويجب أن يحتاط له، وأن ينظر في حال الإنسان كأن يكون مشتبه أنه يروج مخدرات مثلاً، وتوجد أمارات، وليست مجرد ظنون وأوهام، وإنما أمارات قوية تدل على هذا.

كأن يذكر بعض الذين لا يقطع بكلامهم أو بشهاداتهم، ونحو هذا: أن هذا الرجل اشتراه منه، أو يعرفوا أناس أشتروه منه، ونحو هذا، فعند ذلك يمكن أن يتأكد من مثل ذلك، وإلا فالأصل أن التجسس حرام لا يجوز.

فهذا نهي، والنهي يقتضي التحريم، والله ذكره بعد قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ قال بعده: وَلَا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] لأنه إذا أساء الظنون أتبع ذلك بالتجسس، فهذه مخالفة مبنية على مخالفة قبلها.

فإذا أساء الظن وتجسس على الناس وقع في الغيبة أو النميمة، وفي نقل الكلام، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12] فهذا كله يتبع بعضه بعضًا.

وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58] هذه الآية مضى الكلام عليها، والشاهد على ذلك فيما أورده المصنف -رحمه الله- في هذا الباب: أن التجسس عليهم يؤذيهم، وأن نقل كلامهم أو تتبع حالهم، أو تتبع عوراتهم: أن الناس يتأذون به، ولا يرضاه أحد لنفسه، فهذا يكون بهذه المثابة، فيدخل في قوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فالله يقول: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا.

ثم ذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا ويشير إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم[1].

فقوله ﷺ هنا: إياكم والظن هذا تحذير من الظن فإن الظن أكذب الحديث والمقصود بالظن هنا: ليس الظن الذي يكون بغلبة، بمعني: الظن الراجح، فإن ما دون اليقين ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

ظن راجح.

وظن مرجوح (الظن الضعيف).

وما توسط فيه الاحتمالات واعتدلت، يقال له: شك، هذا الذي يستوي فيه الطرفان، يقال: شك.

أما الضعيف المرجوح فهو الظن المرجوح، ويسمونه وهم، ويقولون له في أبواب أصول الفقه: التأويل أو المؤول، والظن الراجح هو الغالب من الطرفين، فمثل هذا -الظن الراجح- يجوز العمل به فيما يتصل بالأحكام الشرعية بالاجتهاد، وما أشبه ذلك، بحيث أنه مبني على غلبة الظن.

وليس هذا هو المقصود هنا في قوله ﷺ : إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث وإنما الظن المقصود به ما لا يقوم عليه دليل، وليس له ما يقويه إلى الرجحان، وإنما هي ظنون، يسئ الظن في الناس.

ثم بعد ذلك يفسر مواقفهم وأحوالهم وكلامهم كما يريد، فإذا تصرفوا تصرفًا معينًا حمله بحسب الظنون على أسوأ الأشياء، فإن وجد عند أحد مالاً مثلاً حمل ذلك على أمور سيئة، يعني: أنه يكتسب مكاسب محرمة، وإن رأى رجلاً معه امرأة في سيارة، ونحو ذلك، حمل ذلك على أنها من غير محارمه.

أو رآه يسافر، حمل ذلك على أنه يسافر للفجور، بناء على الظن، وهكذا، بل لا يسلم من أحد سيء الظن هذا فإذا رأى إنسانًا يصلي لله، ويطيل الصلاة، ونحو ذلك، قال: هذا يرائي، ويسيء الظن في بالعبادات، ويسيء الظن أيضًا في معاملات الناس وأعمالهم، وفي كل شيء، فهذا نسأل الله العافية لا يجوز.

ولهذا قال الله: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] قال: فإن الظن أكذب الحديث بمعنى: أنه إذا كان أكذب الحديث فإنه لا يُلتفت إليه، ولا يصح للإنسان أن ينقل أشياء، أو يبني أمورًا على مجرد الظنون والأوهام والتخرصات.

فيجب على الإنسان أن يتثبت ويتحقق، هذا في نقل الأخبار، وفي الحكم على الأشياء والمواقف، وفي حمل كلام الناس، فتحمل على المعاني الحسنة، ولا تحمل على المعاني السيئة، وفي علاقاته بالآخرين، وفي معاشرته لأهله، ولامرأته، وفي تعامله مع أولاده، فإذا كان يتعامل معهم بسوء ظن، فإن هذا سينتج ما ذُكر بعده نفس الحديث:  ولا تحسسوا، ولا تجسسوا.

ونحن نسمع من الناس أشياء، وسمعنا عن بعض الرجال: أنهم وضعوا في كل غرفة بالبيت شيئًا، يتنصتون به على أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم، وسمعتُ هذا بنفسي مرارًا، فكيف تكون حال هذا البيت؟ وكيف تكون حال هؤلاء الأولاد؟

ودائمًا نسمع مشكلات، وهؤلاء يجازيهم الله بما يكرهون، فالمرأة تولول وتذهب وتفتح جهاز زوجها (الكمبيوتر) وتتتبع أين ذهب؟ وما هي المواقع التي دخل عليها؟ وتفتح الجوال، وتفحصه، وأحيانًا تكون ذات خبرات، تعرف حتى الأشياء الممسوحة، وتتتبع، فإذا شكت في بعض الأرقام اتصلت عليها، واستمعت، فمثل هذا بسبب الظنون الكاذبة، والتحسس والتجسس لا يجوز ما لم توجد أمارات وقرائن قوية، توجب بعد ذلك اتخاذ موقف.

لكن هؤلاء يأتون من باب الفضول، أو أن ذلك من باب ليطمئن قلبي، كما يقولون، أو نحو هذا، من غير موجب، فيعاقبهم الله ، فيجدون ما يكرهون، فعند ذلك تقوم القيامة، ويحصل من المشكلات والهموم والتنغيص في الحياة والكدر ما الله به عليم.

بل وصل الأمر ببعض النساء أنها تذهب وتستخرج شريحة وتكلم زوجها بصوت مغاير، أو بجهاز يغير الصوت؛ لتختبر الزوج: هل يستجيب للنساء أو لا؟ حصل هذا، فإذا وجدت منه إصغاء أو استجابة أقامت الدنيا، وقالت: لا يمكن أن أبقي مع زوج كهذا، اختبار وامتحان وابتلاء، فيمكن أن يعاقبها الله بما تكره.

وقد يجعله بعض الرجال مع امرأته، ويصل الأمر إلى حالات مَرَضِية أيضًا، في بعض الأحيان، يصل الأمر -أعوذ بالله- إلى مسح عتبة الباب والمقبض؛ لينظر بعد ذلك هل وجد بصمات وآثار للأقدام والأيدي؟ أحد دخل، أحد مسك الباب، وإلا لا؟ هذا موجود، وليس مبالغة.

وهناك معاناة لا يعلم بها إلى الله في أحوال وأحوال، فنسأل الله العافية، فهذا كله حرام، وهكذا الذي يذهب ويتحسس ويتجسس على أولاده وبناته، ويفتح أجهزة الأولاد، من غير موجب، ما لاحظ شيء، فيأتي ويفتش أوراقهم وحاجاتهم وأجهزتهم، فهذا ما يصلح، لا تفتح أمامهم أبواب الفساد، وتقول: أنا أثق بهم، وإنما حافظ عليهم، وتابع، ووجه، ولا تغفل، واحجزهم عن الفساد قدر ما تستطيع.

لكن هذا لا يعني أيضًا: إنك تبتغي الريبة بهم، فتذهب وتفتش كل يوم في جهاز الزوجة، أو في جهاز الولد، أو في جهاز البنت، لعلك تجد شيئًا، وأنت لم تلاحظ شيئًا، ففرق بين ما إذا قويت الأمارات، وما إذا كان ذلك على الحال المرضية، فيذهب الإنسان ليبحث! لا.

فهنا قال: ولا تحسسوا، ولا تجسسوا ما الفرق بينهما؟ ولا تحسسوا من الحس، الحواس خمس ولا تجسسوا من الجس، والجس يكون بحاسة واحدة، التي هي اليد، عادة، جسه بيده.

فبعض أهل العلم يقول على هذا التفسير: لا تحسسوا فتحسس أعم، يكون باليد، ويكون بالعين (بالنظر) ويكون بالاستماع، ويكون بالشم، فهذا كله يقال له: تحسس، والتجسس يكون باليد.

وبعض أهل العلم يقول: هما بمعنى واحد لا تحسسوا، ولا تجسسوا فكل ذلك يرجع إلى الحواس.

وبعضهم يقول: لا تحسسوا، ولا تجسسوا الفرق بينهما أن أحداهما في الأمور المخفية، فيما خفي، يبحث عن الخفايا، والثانية: في الأمور التي يصل إليها بإحدى الحواس الخمس، فينظر من ثقب الباب، أو شيء من هذا القبيل، أو يدخل في أجهزة الناس وينظر ما فيها، وفي خصوصيات الناس، أو نحو هذا من الأمور، فهذا لا يجوز. وبعضهم يقول في الفرق بينهما غير ما ذ كرت.

فعلى كل حال هذا نهي عن التحسس، والثاني نهي عن التجسس، والأصل أن النهي للتحريم.

قال: ولا تنافسوا يعني: الرغبة بالشيء، والانفراد به، كل واحد يريد أن يسبق إلى هذا، والتنافس بالخيرات مطلوب وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

لكن التنافس في الدنيا هذا هو المذموم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم[2]، فالتنافس على الدنيا يورث الشحناء والبغضاء؛ ولهذا جاء النهي عن السوم على سوم أخيه، والبيع على بيع أخيه، وأن يخطب على خطبة أخيه[3]، هذا كله من التنافس على الدنيا.

فيأتي للسلعة وهذا إنسان قد سامها، وأعطى الضوء الأخضر، فيأتي هذا ويقول: لا، كيف تبعيه بهذه القيمة، أنا اشتريها منك بكذا، وهم قد اتفقوا، وأحيانًا قد أعطى عربون، فيأتي ويفسد عليه صفقته.

أو خطب امرأة، فأعطوه الضوء الأخضر، وموافقة مبدئية، فسمع به آخر، قال: لا، كيف أنا أولى بها، وذهب إليهم، وقال لهم: كم أعطاكم؟ خمسين ألف مهر، أنا أعطيكم مائة ألف، فأفسد عليه خطبته، هذا لا يجوز، البيع على بيعة أخيه، والشراء على شراء أخيه، والسوم على سومه، فكل ذلك داخل في: لا تنافسوا، ولا تحاسدوا فهذه الأمور كلها توجب الحسد، وهو: تمني زوال النعمة، سواء وصلت إلى الحاسد، أو لم تصل إليه،  إذا رآه في نعمة وخير، سواء كانت دنيوية، أو أخروية حسده على ذلك، فهذا لا يجوز، حرام.

 وكما قلت لكم في مجلس سابق: بأن هذا الحسد قد يقع في النفس من غير إرادة، ولكن المقصود هنا ترك ما يؤثره هذا الحسد من كلام أو تصرفات أو إبداء العداوة، أو انتقاص لهؤلاء الناس، أو الوشاية بهم، أو نحو ذلك، وهو أيضًا نهي عن الأسباب التي توقع بالحسد، فيجتنبها؛ فيدفع ذلك الحسد عنه.

قال: ولا تباغضوا فإذا حصلت تلك الأمور حصلت البغضاء بين الناس، ومن ثم يحصل التدابر الذي ذكره بعده: ولا تدابروا فيلقاه فيدير له ظهره؛ لما بينهم من العداوة والشحناء والبغضاء، وليس ذلك فقط كما أشرتُ في مجلس سابق: أن الإنسان يترك هذه الأمور، بل عليه أيضًا أن يكون على حال مرضية، ويحمل مشاعر طيبة لإخوانه وكونوا عباد الله إخوانًا، كما أمركم.

المسلم أخو المسلم إذن لا يجوز له بحال من الأحوال أن يتصرف معه بشيء من هذه التصرفات، التي لا يرضاها لنفسه؛ ولذا قال النبي ﷺ: لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[4].

قال هنا بعده: المسلم أخو المسلم لا يظلمه لا يظلمه بأخذ حقه، ولا يظلمه بغمط حقه، فإذا سُئل عنه قال: هذا ليس كذا، وليس بكذا، يظلمه في الحكم عليه، ولا يظلمه أيضًا في عرضه، ولا ماله، ولا غير ذلك.

قال: ولا يخذله يعني: حيث ينتظر نصرته، فإنه لا يجوز له أن يخذله، يعني: يتأخر عن إعانته ونصرته.

ولا يحقره يعني: يرى أنه ليس بشي، وأنه ليس بذلك المستوى، والمقام، والمرتبة؛ فيحتقره، ومعلوم أن: رب أشعث، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره[5]، فالعبرة ليست بالأشكال والصور، كما سيأتي.

قال: التقوى ها هنا التقوى ها هنا، يعني: في القلب "ويشير إلى صدره" بمعنى: أن المقياس ليس بالأشكال الظاهرة، وإنما بما يقوم في القلب، وما يقوم في القلب لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-؛ إذ الإنسان قد يحقر غيره وذاك أقرب إلى الله، وأرفع منزلة عند الله منه.

قال: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم يعني: يكفيه من الشر ما وقع فيه من حقران المسلم، يعني: يدل على أن هذا ذنب عظيم جدًا، وهذا يدل على الكبر والتعالي والترفع، الذي ينظر إلى الآخرين على أنهم صغار، وأنهم أناس دونه، وما إلى ذلك.

كل المسلم على المسلم حرام كل المسلم على المسلم، ثم ذكر أشياء داخلة في هذا العموم، فقال: دمه لا يقتل المسلم، ولا يجرحه، ولا يجني عليه جناية.

قال: وعرضه فلا يحصل من جهته فجور بالزنا، ونحوه، وكذلك أيضًا الوقيعة بالأعرض، بالقذف، فما دونه من غيبة، وما إلى ذلك، فهذا كله داخل في العرض.

قال: وماله فلا يظلم هذا الإنسان: إما بالسرقة، وإما بالاختلاس، وإما بالغش والتدليس والاحتيال على الناس، تصوروا لو مثل هذه الأمور الآن التي ذكرها النبي ﷺ: الدم، والمال، والعرض، وتعاملنا بمقتضاها، فيسلم الناس بهذه الضرورات جميعًا، يسلمون في أبدانهم، ويسلمون في أعرضهم: فيعلم أن عرضه لا يمس، ويسلمون أيضًا في أموالهم: فلا يغشه أحد في التعامل، ولا يدلس عليه أحد، ولا يحتال عليه أحد، ولا يحتاج أنه يتحقق إذا جاء يشتري، هل هي مغشوشة وإلا يقلبها؟ ويذهب إلى سبعة محلات من أجل يقارن في السعر، وما إلى ذلك.

النصيحة هي الأصل، فيحب له ما يحب لنفسه، فيقول له: انظر هذه يوجد أفضل منها، وهذه تقليد، وليست أصلية، وهذه يمكن أن تجد مثلها، أو بنفس المواصفات لكن من شركات أخرى بسعر أقل من ذلك، نحن اشتريناها بغلاء فنبيعها بغلاء، وتُوجد دفعات أخرى بسعر دون ذلك، فتجدها بأقل من هذا، هذا له مزية، وهذا له مزية، وهذا له مزية، هذا له سعر، وهذا له سعر، وهذا له سعر، اطمئن، تشتري شيئًا لا بد أن تعرف ما مزايا هذا الشيء، وما هي عيوبه؟ ما عندنا غش، وكل شيء له قيمة.

هذا مواصفاته عالية، وقيمته مرتفعة، وهذا مواصفاته أدنى، وقيمته أدنى، ولا يحتاج الإنسان أنه يُكوِّن خبرات لكثرة ما يقع في الغش والاحتيال من قبل الناس، إذا جاء يشتري مواد صحية تعب، وإذا جاء يشترى أصباغ تعب، إذا جاء يشتري مواد بناء تعب، وإذا جاء يشتري عطر تعب، وإذا جاء يشتري تمر تعب، وإذا جاء يشتري فاكهة تعب، يقلبها وينظر ويفحص، فيصل للبيت، ويجد أسفلها في حال لا تصلح لأكلها الحيوانات، هذا لا يجوز.

فهنا لما يكون الناس بهذه المثابة: المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله ذكرها مع الدم كيلا يجترئ أحد على أخيه.

وقال: إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم هذا طويل، وهذا قصير، وهذا جميل، وهذا أبيض، وهذا أسمر، وهذا متعافي، وهذا هزيل، فهذه أمور ليست هي المقياس إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة[6]، الوزن هناك ليس بضخامة الجسم، أو نحافة الجسم، فابن مسعود لما ضحك الصحابة؛ لما رأوا ساقيه -وقد ركب شجرة- من دقتها، قال النبي ﷺ: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد[7]، فهذا هو المقياس، وكذلك من يكون لهم قدم صدق في الأمة، الآن لو سألنا عن كثير من أئمة المسلمين ما صفاتهم؟ هل كان أبيض؟ وإلا جميل وإلا طويل، وإلا قصير، وإلا نحيل، وإلا كذا؟ ما نعرف عن هؤلاء كثيرًا.

قل لي: ابن جرير الطبري كيف كانت هيئته؟ وكم كان وزنه؟ وكم سنتيمتر طوله؟ وكم طول شيخ الإسلام ابن تيمه؟ وكم طول الإمام أحمد؟ وما لونه؟ وما بشرته؟ كل هذا ما نعرفه، لكن نعرف ما قدموا، فصاروا في الميزان عند الأمة بمرتبة عالية، لهم وزنهم وثقلهم.

وكم أناس كانوا في حال من الجمال، وجسم طرير، ما شاء الله، ولا له قيمة، ولا يعرفون، وطويت صفحة التاريخ،

وكم فيها من ملايين من البشر؟ ما يعرفون، الآن من يستطيع يعدد ثلاثة في القرن الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع من غير الأئمة المعروفين الذين كان لهم قدم صدق في الأمة، الناس العاديين، تعرفون أحد منهم؟ إنما غاية أحدهم من ذلك: أنه يأكل أكلات حلوة، ويلبس ثياب حلوة، ويركب مركب حلو، ويتزوج زوجة جميلة، يستمتع بها، هؤلاء هل تعرفون أحد منهم عبر القرون؟ ما يعرفون، ذهبوا، وأكلتهم الأرض، وأكلت أجسامهم الجميلة، والله أخبر عن المنافقين، فقال: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] كلام جميل منمق، لكن الله أخبر عن حقيقتهم، فقال: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] يعني: بمعنى: أنهم صور أشباح، بلا أرواح، جسوم بلا فهوم، فما الفائدة؟ فلما كانت كل عناية المنافقين بهذه الأجسام، صارت لهم صور جميلة، وما شاء الله، الواحد طويل، وجميل، ولونه مشرب بالحمرة، وإذا رأيته تقول: ما شاء الله، ما هذا الجسم الذي انفرد به من بين أصحابه كلهم؟ وما في واحد قريب منه؟! هو لأن هذه كل اهتمامه؛ ولذلك بذل دينه ونافق، كل هذا على من أجل أن يحقن دمه، ويحرز ماله؟ فصار بهذه المثابة، ولا عبادة، ولا شيء، عفيف الجبهة، إذا قام إلى الصلاة أحيانًا إثبات حضور وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

فهذه القلوب الخاوية التي ما تحمل هم تتعافى الأجسام معها، بينما الذي يحمل هم تجد وجهه في شحوب، وفيه تعب، وآثار الهم بادي على وجهه، أما هذا الذي ما عنده هم أبدًا، تجد آثار النعيم والترف، وما إلى ذلك ظاهر أيضًا على وجهه.

فالله لا ينظر إلى هذه الأشياء: إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم، فهذا هو المقياس، وفي رواية لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا ولا تناجشوا والنجش، يعني: إذا بيعت السلعة بطريق من يزيد، فإنه يأتي أناس، ويقولون: أنا آخذها بكذا، حتى يقع فيها إنسان آخر، يريد الشراء، فيرفعون السعر عليه، بهذه الطريقة.

وكونوا عباد الله إخوانًا.

وفي رواية: لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا.

وفي رواية: لا تهاجروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض قال: "رواه مسلم، وكل هذه الروايات، وروى البخاري أكثرها"، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع برقم (5143) ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس، برقم (2563) وهو بهذا السياق في رياض الصالحين ط الرسالة (ص: 446).
  2. أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب فتنة المال برقم (3997) والترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم (462) وصححه الألباني.
  3. أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الطلاق برقم (2727) ومسلم في كتاب النكاح باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح برقم (1408).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم (13) ومسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه...ب رقم (45).
  5. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الضعفاء والخاملين برقم (2622).
  6. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف:105] الآيَةَ برقم (4729) ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم كتاب صفة القيامة والجنة والنار برقم (2785).
  7. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (3991) وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".

مواد ذات صلة