الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
حديث «قل امنت بالله ثم استقم..» إلى «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب تحريم الغيبة وما يتصل باللسان" من جهة حفظه أورد المصنف -رحمه الله- حديث سفيان بن عبد الله ، وهو الثقفي قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال: قل: ربي الله ثم استقم، قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: هذا[1]، رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".

قوله : "يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به"، يعني أتمسك به، وهكذا كان أصحاب النبي ﷺ كانوا يسألونه عن ما تكون به النجاة والسلامة وما يحصل به الفوز بمرضاة الله -تبارك وتعالى- وجنته والنجاة من النار، فقال له النبي ﷺ: قل: ربي الله ثم استقم، هذا كقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى-، فإن قوله: قل ربي الله، هذا ما يتصل بالإيمان.

ثم استقم يكون ذلك بدوام الامتثال بلزوم المأمورات وترك المنهيات كما قال الله : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا [هود:112]، فالطغيان يكون بالخروج عما حده الله ورسمه في صراطه المستقيم.

"قلت ما أخوف ما تخاف علي؟"، يعني أو أوتى من قبله، "فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: هذا، يعني اللسان يعني هذا أشد ما يخاف على الإنسان أن يؤتى من جهته فيحصل له الهلاك إن غفل عنه فلم يصنه، وأكد النبي ﷺ ذلك بفعله حينما أخذ بلسان نفسه، فذلك أن اللسان سهل التحرك، وقد يكون في تحركه هذا الهلاك المحقق في الدنيا أو في الآخرة، فلهذا قالوا: بأن اللسان هو زمام الإنسان، فإذا أطلقه فإنه قد يقاد بلسانه هذا إما في الدنيا وإما في الآخرة، فإذا كان اللسان بهذه المثابة أخوف ما يخف النبي ﷺ عليه فإن ذلك يستدعي مزيدًا من الحرص والاحتياط والحذر من هذا اللسان، وإن أكثر ما يغفل عنه الناس للأسف أكثر ما نغفل عنه نحن هو هذا اللسان، فالإنسان قد يطلق هذا اللسان ولا يبالي، وقد مضى الوعيد في ذلك في الأحاديث المتقدمة.

ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي[2]، رواه الترمذي.  

هذا الحديث فيه ضعف، لا يصح من جهة الإسناد، ولكن لا شك أن كثرة الكلام بغير ذكر الله -تبارك وتعالى- أن ذلك من جملة الفضول الذي تحصل به قسوة القلب.

وقد ذكرنا مرارا أن فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول الأكل والشرب، وفضول الخلطة، وفضول النوم، هذه إذا وجدت استحكمت الغفلة، وحصلت القسوة للقلب، والإنسان لربما ينقطع عن الناس يعتكف مثلاً في المسجد في العشر الأخير من رمضان، أو نحو ذلك فإذا كان بحضرته من يخالطهم ويعافسهم، ويتحدث معهم كثيرًا، ويأنس بهم فإن أثر هذا الاعتكاف يذهب لا يجد أثره في القلب، كما هو مشاهد، وإن وجد أثره بمعنى أنه انقطع عن الناس واعتكف حقيقة فإذا خرج وعافس الناس وخالطهم وصار يتحدث معهم وما إلى ذلك فإنه تحصل له الغفلة.

فيحتاج الإنسان إلى حفظ هذا اللسان، فلا يكثر من الخوض والكلام، فإن فضول الكلام من الأمور المجلبة لقسوة القلب.

ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة[3]، رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن".

من وقاه الله، يعني من حماه الله، وقد مضى الكلام على هذا المعنى.

شر ما بين لحييه، اللحيان هما العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان، والذي بينهما يكون هو اللسان بطبيعة الحال، ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه، وهو الفرج.

دخل الجنة سبق الكلام على هذا فلا حاجة لإعادته، وهناك قال: من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة[4].

ثم ذكر حديث عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟

قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك[5]، رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن".

"يا رسول الله ما النجاة؟" كما سبق هو سؤال عما تحصل وتتحقق به الفلاح، تحصيل المطلوب والنجاة من المرهوب، قال: أمسك عليك لسانك، فلا ينطلق بما حرم الله ، ولا ينطلق بما لا يعني ولا يجدي ولا ينفع، ولا يفيد.

أمسك عليك لسانك احفظ لسانك، صن لسانك.

وليسعك بيتك، يسعك بيتك يعني بمعنى كف الأذى عن الناس، والاشتغال بالنفس، وما يعني والبعد عن المخالطة التي لا تنفع، ومعنى ذلك أنه يشتغل بما يعنيه وما ينفعه ويجدي عنه، يشتغل بطاعة الله .

وليسعك بيتك، هذا يمكن ان يقال لمن كانت المخالطة له نقصًا في دينه، أما الذي ينتفع الناس من مخالطته ويحتاجون إليه فمثل هذا الأنفع له أن يخالطهم.

وكذلك في أوقات الفتن حيث يختلط الحق والباطل، فقد يكون خير مال الإنسان أن يكف ويعتزل الناس، فالحاصل أن هذه الأمور لها أحوال بحسب الأوقات والأزمنة والأشخاص فقد يقال لشخص ما لا يقال لغيره: ولكن من لا يسلم الناس منه، أو لا يسلم من أذاهم، ولا يصبر فإن عليه بخاصة نفسه، وأن يشتغل بما ينفعه ويصلحه بعيدًا عن المخالطة التي تضره بهذا الاعتبار.

قال: وابك على خطيئتك، يعني المقصود بذلك أن الإنسان يتذكر تقصيره وذنوبه وما إلى ذلك ويندم والندم هذا من التوبة وهو ركن من أركانها، يبكي الإنسان على خطيئته وإذا كان الإنسان يبكي على خطيئته فمعنى ذلك أن شغله صار بنفسه، فلم يكن شغله بغيره فكثير من الناس يغفل عن النفس ويشتغل بالآخرين فيلمز هذا، ويغمز هذا، ويتكلم على هذا، ويعيب هذا، ويذم هذا، ولا يكاد يسلم منه أحد، لكن لو أن الإنسان بكى على خطيئته، وتذكر ذنوبه فإنه لن يشتغل بالآخرين، ولهذا كان السلف يوصي بعضهم بعضًا كزيد بن أسلم يوصي ابنه عبد الرحمن من التابعين يقول له: يا بني، يعني ينهاه من أن تعجبه نفسه، يقول: "فإنك مهما نظرت في الناس وجدت من هو خير منك"، يعني بمعنى أنك ستجد في الآخرين ولا بد من هو خير منك، إذا تعجب بنفسك لماذا؟!

 انظر إلى حال هؤلاء، ثم تتصاغر بعد ذلك النفس، فهذا نظر صحيح، وهو النظر الإيجابي الذي ينبغي أن يُعنى به الإنسان وأن يصوب إليه فكره، أما أن يشتغل بالناس، أو ينظر إلى من هم دونه، أو يتوهم أنهم دونه، أو ينظر إلى من هم فوقه، ثم بعد ذلك يتلمس العيوب والنقائص، وما إلى ذلك، يعني كان يمكن أن يقال غير كلمة زيد بن أسلم -رحمه الله- لولده لو قال قائل مثلاً: إنك مهما نظرت في الناس وجدت من هو دونك، مهما نظرت في الناس وجدت عيبًا وتقصيرًا؛ لأنهم جبلوا على هذا، إذا ما الحل؟! أن يشتغل الإنسان بهم، وأن يقول: فلان مقصر، فلان أخطأ، فلان فيه كذا؟!

 هذا لا يصح، وحسب الإنسان أن ينظر ويتلفت إلى نفسه وعيوبه وتقصيره بدلا من أن يشتغل بالناس.

فمن الناس من لا يسلم منه أحد، لا صغير ولا كبير حتى إنه يقيم العلماء، ويحكم على أقوالهم وآرائهم وفتاويهم ودروسهم، هو الذي يقيم وهو عامي أو شاب صغير في بداية الطلب، هو الذي يتكلم أن هذا العالم يحسن كذا، ولا يحسن كذا، وفتواه هذه صحيحة، وهذه غلط، ولربما بكلام لا يليق، فلا يسلم أحد لا عالم، ولا طالب علم، ولا عامي، وإذا حضر في درس أو حضر في محاضرة، أو نحو ذلك يستخرج الأخطاء والعيوب والتقصير، أو ما يتوهمه كذلك، بدلاً من أن يشتغل بما ينفعه، ويكون مثل النحلة التي تقع على الشيء المفيد النافع، فهذا -نسأل الله العافية- قد يكون ذلك سببًا لخذلانه.

حديث أخير: حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي ﷺ قال: إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا[6]، رواه الترمذي.

فقوله ﷺ: إذا أصبح بن آدم، يعني: دخل في الصباح.

فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، ما معنى تكفر اللسان؟

بعضهم يقول: معناها أنها تخضع للسان، وتذل للسان، يعني كأنها تقول: نحن تحت رحمتك، لا تودي بنا إلى الهلكة، والتكفير فُسر بأنه خضوع دون الركوع، يعني أن يميل وينحني انحناء دون الركوع، يقال له: التكفير يعني كأنها تخضع للسان.

وبعضهم يفسر ذلك بغير هذا، تكفر اللسان، يعني: أنها كأنها تنسبه إلى أنه بمنزلة من كفر بالنعمة، تكفر اللسان يعني تنسبه تضيفه إلى الكفر بالنعمة، وقد يكون الأول أقرب منه، والله تعالى أعلم.

فهي تقول له: اتق الله فينا، يعني: لا تكن سببًا في تجرئتنا على الفواحش والآثام، أو لا تكن سببًا على تعذيبنا، فإن الإنسان قد يصاب في الدنيا بكلمة يقولها، وقد يصاب في الآخرة بالعذاب بسبب كلمة يقولها كما سبق في الأحاديث: إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب[7]، فهي تقول له: اتق الله فينا، وقد يصيبه عذاب في الدنيا والبلاء كما قيل: "موكل بالمنطق"، والإنسان حينما يتكلم بالكلمة يراها في نفسه أو يراها في أقرب الناس إليه من شماتة، ونحو ذلك.

فهي تقول له: فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا، هذا يؤيد ما ذكر في تفسيره أنه إنما نحن بك إذا استقمت استقمنا يعني لا تغرنا في الآثام والفواحش، فاللسان هو لسان ناطق عن القلب، يعبر عنه، فإذا تكلم الإنسان بالكلام الذي لا يجمل ولا يليق ولا يحسن فإن ذلك يكون مدعاة للتابع تتابع الذنوب والمعاصي والجرأة بذنوب أخرى، هذه الذنوب الأخرى قد تصدر من العين، قد تصدر من اليد، قد تصدر من غير ذلك من جوارحه.

فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وألا يجعله ملتبسًا علينا فنضل، والله أعلم.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم (2410)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3972)، وقال الألباني: "حسن صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (2862)، وصححه في صحيح ابن ماجه، برقم (3972).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم (2411)، وضعفه الألباني في تحقيق رياض الصالحين، برقم (1526)، وفي ضعيف الجامع، برقم (6265).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم (2409)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6593).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6474).
  5. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم (2406)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1392)، ولفظه: ((املك عليك لسانك،...)).
  6. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم (2407)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (351).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6477)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، برقم (2988).

مواد ذات صلة