السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[21] من قوله تعالى: {إِنّمَا جُعِلَ السّبْتُ عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} الآية 124 إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} الآية 128.
تاريخ النشر: ٠٥ / محرّم / ١٤٢٩
التحميل: 3038
مرات الإستماع: 3652

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

ثم قال تعالى منكرًا على اليهود: إِنّمَا جُعِلَ السّبْتُ عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنّ رَبّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة النحل:124].

لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يومًا من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده، ويقال: إن الله تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى فعدلوا عنه، واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئًا من المخلوقات الذي كمّل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة، ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد ﷺ إذا بعثه، وأَخْذِه مواثيقهم وعهودهم على ذلك؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ.

قال مجاهد: اتبعوه وتركوا الجمعة، ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به حتى بعث الله عيسى ابن مريم، فيقال: إنه حولهم إلى يوم الأحد، ويقال: إنه لم يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها، وإنه لم يزل محافظًا على السبت حتى رفع، وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد مخالفة لليهود، وتحولوا إلى الصلاة شرقًا عن الصخرة، والله أعلم.

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه سمع رسول لله ﷺ قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدًا والنصارى بعد غد[1] لفظ البخاري.

وعن أبي هريرة وحذيفة -ا- قالا: قال رسول الله ﷺ: أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، والمقضى بينهم قبل الخلائق[2] رواه مسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من أن الله شرّع لهم على لسان موسى ﷺ يوم الجمعة أن يكون عيدًا لهم، فتركوه وأعرضوا عنه، واختاروا يوم السبت، فعلى هذا يكون هو الاختلاف المراد بقوله تعالى: عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ، واختلفوا على موسى ﷺ، وخالفوه، ولم يعملوا بمقتضى ما شرّعه لهم.

وبعض أهل العلم يقول: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ بمعنى أي فرض تعظيمه، وهذا لا يخالف القول الذي ذكره ابن كثير، إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فرض عليهم تعظيمه حينما تركوا يوم الجمعة، فأُلزموا بمقتضى اختيارهم وهو يوم السبت، فصار ذلك اليوم لا يعملون فيه ولا يشتغلون بشيء من أشغالهم في الكسب وأعمالهم الدنيوية، فأُلزموا بمقتضى هذا، وصار يحْرم عليهم العمل في يوم السبت، والنصارى لشدة بغضهم لليهود -وهم من بني إسرائيل، وللعداوة التي بين اليهود وبين النصارى ترك النصارى العمل بالتوراة، وبقوا بلا شريعة، فوضعوا لهم كتابًا سموه "الأمانة الكبرى"، فيه القانون، وصاروا يتحاكمون إليه بعد أن تركوا العمل بالتوراة.

وقوله: عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، من أهل العلم من يقول: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ: أي وبال السبت، وبال هذا اليوم، وما وقع من المسخ بسببه لبعض بني إسرائيل، مثل القرية التي كان أهلها يعدون في السبت، فمسخوا بسبب هذه العدوان لما ابتلاهم الله ، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا هو الأقرب في المعنى إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وبعد ذلك أُقروا عليه، وفُرض عليهم تعظيمه.

وفي قول ابن كثير -رحمه الله: "لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة، يعني يوم الجمعة"، يوم الجمعة هو اليوم السادس بأي اعتبار؟ باعتبار أول يوم صار فيه الخلق هو يوم الأحد، فالجمعة هو السادس، فاليهود اختاروا يوم السبت باعتبار أنه لم يحصل فيه خلق، ويوم الجمعة هو المناسب لأن يكون عيدًا؛ لأنه اليوم الذي فيه اكتمال الخلق، وأما النصارى فاختيارهم ليس له معنى أصلًا، فيوم الأحد أول يوم في الخلق، والله المستعان.

السبت يأتي بعدة معانٍ: منها القطع، يعني ينقطعون من أعمالهم وأشغالهم، فيكون هذا اليوم بالنسبة لهم يوم إجازة، وهذا في دينهم، ولكن المسلمين -في التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم- لا يجوز لهم أن يتخذوا يوم الجمعة يومًا يتفرغون فيه من كل أشغالهم، بمعنى لا يعملون في شيء من عمل الدنيا، وليس معنى هذا أنه لا يكون إجازة رسمية، لأن الناس يحتاجون إلى هذا، ليصلوا الجمعة، ولكن الذي عند اليهود هو أنه لا يذهب إلى متجره ولا يبيع ولا يشتري ولا يصطاد ولا يزاول شيئًا من أعمال الدنيا، فينقطعون تمامًا، فهذا هو الذي لا يجوز، وفعل ذلك يعتبر مضاهاة لليهود.

ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [سورة النحل:125].

يقول تعالى آمرًا رسوله محمدًا ﷺ أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة، قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، ذكِّرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى، وقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كقوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة العنكبوت:46] الآية، فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون -عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون في قوله: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44].

وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآية، أي قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [سورة القصص:56]، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:272].

قوله: ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ قال: "يعني بالكتاب والسنة"، وفسر الموعظة الحسنة "بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس"، والمعنى -والله أعلم- أعم من هذا، وابن القيم -رحمه الله- له كلام جيد خلاصته أنه يرى أن الدعوة تكون على مراتب بحسب أحوال الناس، فالقابل المستجيب يدعى بالحكمة، والذي عنده شيء من التباطؤ والغفلة يدعى بالموعظة الحسنة، ويحتاج إلى حفز وحث، فيذكر له ما يرغبه أو ما يرهبه، يحتاج إلى ترغيب وترهيب من أجل أن يُقبل على العمل الصالح، ومن كان عنده شبهة، أو أمور عارضة تحتاج إلى كشف وإزالة فمثل هذا يجادل بالتي هي أحسن.

ولو قيل بأن الآية أيضًا أعم من هذا فإن ذلك لا يبعد، باعتبار أن الحكمة مطلوبة أصلًا مع الجميع، ولهذا جاءت الباء معها ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ أي: مستصحبًا للحكمة، فالحكمة لا تفارق الدعوة إلى الله أيًا كان حال المدعو، سواء كان مستجيبًا أو غير مستجيب، والحكمة تقال للإصابة بالقول والعمل، وتكون بوضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، وهذا يُحتاج إليه في كل أحوال الدعوة إلى الله ، فإن الدعوة يحتاج الناس معها إلى الوعظ، الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، ووصف الموعظة هنا بالحسنة؛ لأن الموعظة قد تكون شديدة، تنفر منها القلوب، فلابد من مراعاة هذا فيها، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.

وقال: وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وكذلك إذا احتيج إلى المجادلة فتكون بالتي هي أحسن، يعني بالطريقة التي هي أحسن، ولم يقل: بالطريقة الحسنة، وإنما جاء بأفعل التفضيل بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وذلك أن المقصود من الدعوة إلى الله بيان الحق، وأن يقبله الناس، ويقبلوا عليه، وينقادوا له، فهذا يجب أن يقدم بطريقة وأسلوب تتقبلها قلوب هؤلاء الناس، لا تقدم لهم الدعوة بطريقة تنفرهم، فيزهدون في الحق ويرغبون عنه، ولهذا جاء عن بعض السلف: ما رفقتَ بأحد إلا قبل منك.

ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ "أي: قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب"، باعتبار أنه لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ فالله أعلم، يعني لا تذهب نفسك عليهم حسرات.

وهناك معنى آخر وهو أنه ليس من شغلك الاشتغال بما في قلوبهم ونيّاتهم، وهل هؤلاء فعلًا قد أقبلوا على الحق رغبة فيه، أو لمعنىً في نفوسهم، أو لطمع من الدنيا، كما يقوله الكفار لأتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام؟ ولهذا كان الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يجيبونهم بأن ذلك ليس من شأننا، وإنما الذي يطلع على القلوب ويحاسب الناس على أعمالهم هو الله ، وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة هود:29]، فالداعية إلى الله يقدم الدعوة للناس وليس من شغله وليس من عمله أن يشتغل بما في نفوس هؤلاء الناس، وأن هذا ما قبل وما استجاب إلا لشيء من الدنيا أو لمقصود سيئ أو نحو هذا، فهذا ليس من عمله، وإنما هو كالمطر، ينشر الخير، ويعلم الناس، ويدعوهم إلى الله ، ولا يشتغل بما وراء ذلك، وما تنطوي عليه القلوب لله -تبارك وتعالى.

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ ۝ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ ۝ إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَواْ وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ [سورة النحل:126-128].

يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق، كما قال عبد الرزاق عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى: فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ إن أخذ منكم رجل شيئًا فخذوا مثله، وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم، واختاره ابن جرير.

وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا: يا رسول الله لو أذن الله لنا لا نتصرنا من هؤلاء الكلاب، فنزلت هذه الآية، ثم نسخ ذلك بالجهاد.

في قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، نقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن جماعة من السلف: "إن أخذ منكم رجل شيئًا فخذوا مثله"، هذه مسألة معروفة في الفقه، تسمى مسألة الظفر، ولها صورتين:

الصورة الأولى: لو أن الإنسان وجد ماله عند من غصبه أو ظلمه، أو جحده، استعار منه متاعًا ثم جحده، ووجد عين المال، فهل له أن يأخذه خلسة؟ هذه صورة.

والصورة الثانية: لم يجد عين المال، لكن هذا إنسان يعمل أجيرًا عند أحد مثلًا، وظلمه ولم يعطه أجرته، ووجد مالًا لهذا الإنسان الذي جحده، فهل له أن يقتص ويأخذ بقدر ما أخذ منه أو لا؟ هذا الإنسان اشترى شيئًا ولم يعطه الثمن، ثم بعد ذلك استطاع أن يضع يده على شيء من ماله هل له أن يأخذ منه أو لا؟

هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، منهم من يقول: أما إذا وجد عين المال فيأخذ المال، لكن لو لم يجد عين المال، فهل له أن يأخذ من ماله أو لا؟ من أهل العلم من يقول: لا يأخذ؛ لأن هذا ليس بعين ماله، والنبي ﷺ يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك[3] فقالوا: هذه خيانة، قابل خيانته بخيانة.

وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ يدل على هذا، وذلك مشروط بأن لا يلحق هذا الإنسانَ تهمةٌ، أو فضيحةٌ، فيوقف على ذلك، ثم يخرج بعد هذا بصورة سارق، فإن كان يترتب عليه هذا فلا يفعل، لكن إن أمن هذه المفسدة قالوا: يأخذ، هذا قال به جماعة من السلف، والمسألة خلافية مشهورة، والمعنى أوسع من هذا.

وقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ حتى في الجنايات مثلًا، المماثلة في القصاص، لو أنه قتله دهسًا بالسيارة عمدًا، يقتل بهذه الطريقة، وليس المقصود أنه يدهسه هو من عند نفسه، وإنما يكون ذلك عن طريق السلطان؛ لئلا تكون أمور الناس فوضى، فيُسلَّم له فيقتل بنفس الطريقة، هذا قال به جماعة من أهل العلم، واستدلوا على هذا بما ورد عن النبي ﷺ حيث فعل بالعرنيين الذين فعلوا براعي إبل الصدقة، سملوا عينيه، ففعل بهم كما فعلوا، ورض رأس يهودي بين حجرين؛ لأنه رض رأس يهودية، فقالوا: القصاص يكون بالمثل، إلا إن كان بشيء محرم، مثل لو أنه فعل الفاحشة بصبية فماتت، فلا يكون القصاص بمثل هذا، أو سقاه المسكر حتى مات، فلا يفعل به مثل هذا، لكن إن قتله بحجر قتل بحجر، وإن قتله بالسيف قتل بالسيف، قتله بسلاح آخر يقتل بمثله، وهذه الرواية التي ذكرها عن ابن زيد كما ترون هي من قبيل المرسل، كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين، فأسلم رجال...، وهذه الرواية لا تصح.

وقوله تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا يُنال إلا بمشيئة الله وإعانته، وحوله وقوته، ثم قال تعالى: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ: أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ: أي، غمٍّ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي: مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم.

وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي: معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة الأنفال:12]، وقوله لموسى وهارون: لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [سورة طه:46] وقول النبي ﷺ للصديق -رضي الله تعالى عنه- وهما في الغار: لا تحزن إن الله معنا[4].

وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة الحديد:4] وكقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [سورة المجادلة:7]، وكما قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [سورة يونس:61] الآية، ومعنى الَّذِينَ اتَّقَوْا أي: تركوا المحرمات، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي: فعلوا الطاعات، فهؤلاء الله يحفظهم، ويكلؤهم وينصرهم، ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم.

آخر تفسير سورة النحل ولله الحمد والمنة، وصلى الله على محمد وعلى آهل وصحبه وسلم تسليمًا.

  1. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم (836)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (855). 
  2. رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (856). 
  3. رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، برقم (3534)، وبرقم (3535)، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر يبيعها له، برقم (1264)، وأحمد في المسند (24/150)، برقم (15424)، وقال محققوه: مرفوعه حسن لغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (423)، وفي صحيح الجامع برقم (240).
  4. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3419)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل، برقم (2009).

مواد ذات صلة