الأحد 09 / ربيع الآخر / 1446 - 13 / أكتوبر 2024
[3] من قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} الآية 19 إلى قوله تعالى: {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} الآية 25.
تاريخ النشر: ٢٢ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 3107
مرات الإستماع: 2340

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سورة النحل:17] الآية.

ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئًا، بل هم يخلقون؛ ولهذا قال: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم، فقال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل:18] أي: يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير ويجازي على اليسير، وقال ابن جرير: يقول: إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.

وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۝ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ۝ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ [سورة النحل:19-21].

يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون، كما قال الخليل : أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ۝ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات:95-96]، وقوله: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ أي: هي جمادات لا أرواح فيها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي: لا يدرون متى تكون الساعة، فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا، الإحصاء ورد أيضًا في قوله ﷺ: من أحصاها دخل الجنة[1] أي أسماء الله الحسنى التسعة والتسعون، ومن معاني الإحصاء: الجمع، والإطاقة، وقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا أي: لا تستطيعون عدها وحصرها، ولا تطيقون القيام بحقها وشكرها، فهذا كله داخل في قوله -تبارك وتعالى: لا تُحْصُوهَا.

وقوله -تبارك وتعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ عن المعبودات التي يعبدونها من دون الله ، معلوم أن الأموات غير أحياء، ولكن الله ذكر ذلك في حقها غَيْرُ أَحْيَاءٍ أي: أنه لم يكن فيها حياة ففقدتها، فهي غير قابلة للحياة أصلًا، بخلاف الميت كان حيًا ثم مات، ومن الأشياء ما لا يكون فيه القابلية أصلًا للحياة، وهو الذي يعبر عنه أهل الكلام والمنطق، وموجود في كتب ردود شيخ الإسلام -كالتدمرية في الرد على المناطقة- ما يسمى بالعدم والملكة.

فلو قيل: هذه السارية لا تموت، وقيل: زيد لا يموت، فرق بين هذا وهذا، فالسارية حينما تنفى عنها الحياة هي غير قابلة للحياة أصلًا، لكن حينما تُنفى عن زيد الحياة فهذا نفي وصف يقبله، وقوله: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ، هذه أحجار وأخشاب وأشجار وما إلى ذلك، هي غير قابلة للحياة أصلًا، لم تكن فيها الحياة ثم فارقتها، فقال: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ.

فقوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ يحتمل معنيين:

الأول: ما تشعر هذه المعبودات أيان يبعث من عبدها، هذا معنى.

والمعنى الثاني: وما تشعر هذه المعبودات متى تبعث هي باعتبار أن الله قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء:98]، وقال عن النار: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24]، وفسرت الحجارة بأحجار الكبريت، وفسرت بالأصنام، ولا منافاة بين القولين، فهذه كلها تُلقى، النار يلقى فيها العابد والمعبود، إلا أن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء: 101].

فالشاهد أن الآية تحتمل المعنيين، وَمَا يَشْعُرُونَ وما تشعر هذه المعبودات بوقت بعث من يعبدها، والمعنى الثاني: وما تشعر بوقت بعثها هي، والمعنى الأول أقرب، فقوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ يعني متى يبعث هؤلاء الذين يعبدونها ويتقربون إليها فهي لا عقل لها ولا فهم ولا إدراك، فليست بأهل للعبادة، ولو حملت الآية على المعنيين لم يكن ذلك بعيدًا، فالقرآن يعبر بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وإن كان المعنى الأول أقرب؛ لأنه قد يفهم من البعث: الإحياء، وهذه لا حياة فيها أصلًا، وإنما تؤخذ وتلقى في النار فحسب، وربما يشكل على القارئ أو السامع قول الله: وَمَا يَشْعُرُونَ فيظن أن الكلام يرجع إلى المشركين.

وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ أي: ما يشعر هؤلاء الكفار متى يبعثون، باعتبار أن العبارة جاءت هكذا وَمَا يَشْعُرُونَ، ومثل هذه الصيغ في الجموع إنما تأتي للعقلاء، يشعرون، يبعثون، وغير العقلاء يقال: وما تشعر أيان تبعث، كما أنه تستعمل لفظة ”من“ للعاقل، و”ما“ لغير العاقل، ولكن يأتي هذا الاستعمال -فيما كان للعقلاء- لغير العقلاء إذا نزل غير العاقل منزلة العاقل، فهذه المعبودات جمادات غير عاقلة، لكن هؤلاء الكفار لم يجعلوها مجرد عاقلة بل جعلوها آلهة، وعبدوها من دون الله ، فأجري عليها ما يجرى على العقلاء من العبارات، كما قال يوسف ﷺ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4] والأصل أن يقال: ساجدة؛ لأنها غير عاقلة، وإنما يقال: سَاجِدِينَ للعقلاء، لكن لما أضاف إليها شيئًا من أفعال العقلاء وهو السجود أجرى عليها ما يجري عليهم من العبارات، وهذا كثير، والخطاب يكون تارة بحسب اعتقاد المتكلم، وتارة بحسب اعتقاد المخاطب، وتارة لمعنىً آخر، وهنا بحسب ما يعتقد فيها عبادها، فعاملها هذه المعاملة وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ.

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مّنكِرَةٌ وَهُم مّسْتَكْبِرُونَ ۝ لاَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [سورة النحل:22-23].

يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك، كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص:5]، وقال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [سورة الزمر:45]

وقوله: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي: عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60]؛ ولهذا قال ههنا: لا جَرَمَ أي: حقًا، أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ أي: وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.

قوله: لا جَرَمَ، تفسر بمعنى حقًا، وهذا أحسن وأوضح ما فسرت به، والعلم عند الله .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ ۝ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الّذِينَ يُضِلّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ [سورة النحل:24-25].

يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء المكذبين: مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ معرضين عن الجواب: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: لم ينزل شيئًا، إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين، أي مأخوذ من كتب المتقدمين، كما قال تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:5] أي: يفترون على الرسول ويقولون أقوالًا متضادة مختلفة كلها باطلة، كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا [سورة الفرقان:9]، وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ، وكانوا يقولون: ساحر وشاعر وكاهن ومجنون، ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي لما فَكَّرَ وَقَدَّرَ ۝ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ نَظَرَ ۝ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ۝ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر:18-24] أي: ينقل ويحكى، فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله.

في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ، الأساطير: جمع أسطورة أو إسطارة، وأصل ذلك من السطر وهو الكتابة، فـ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ أي: أن ذلك مما سطر وكتب في كتب الأولين، ويوجد في كتب التفسير بعض من فسر ذلك -لا سيما الأقوال المنقولة عن السلف بأنه الترّهات والأباطيل، وهذا لا يخالف قول من قال: إن أساطير الأولين أي ما سطر في كتب الأولين، فالذين قالوا: أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ كما قال الله : وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فهم يقصدون أن ذلك من الأباطيل التي في كتب الأولين التي لا خطام لها ولا زمام، إنما هي حكايات وأقوال ووقائع لا يعرف هل هي حق أو باطل، بل فيها من الأباطيل أشياء كثيرة، لا يعتمد عليها ولا يوثق بها.

فقوله: قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ، بمعنى الأكاذيب والأباطيل، ومن فسره بأنه مما كتب وسطر من كتب الأولين فهو نفس المعنى، يعني هم قصدوا الوصول إلى هذا المعنى، ثم في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مّاذَآ أَنْزَلَ رَبّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ يلاحظ الجواب هنا، وفي جواب أهل الإيمان حين وجه إليهم هذا السؤال مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا [سورة النحل:30]، فـأَسَاطِيرُ الأوّلِينَ جاءت مرفوعة، وخَيْرًا جاءت منصوبة، فهنا هؤلاء الكفار أصلًا لا يقولون: إنها منزلة؛ ولذلك قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فيها: ” أي لم ينزل شيئًا إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين“، فهم لا يؤمنون أنه منزل أصلًا، ولهذا قالوا: أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ، يعني كأنهم يقولون: هذه أساطير الأولين لم تنزّل، بينما أهل الإيمان يعتقدون أنه منزّل، قَالُواْ خَيْرًا أي: أنزل خيرًا، هذا الفرق بين الجوابين.

قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم، أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ أي: ”إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم“، فتكون اللام على هذا التفسير للعاقبة، وهم لا يقولون هذا من أجل أن يحملوا أوزارهم، لكن قدر عليهم ذلك ليحملوا أوزارهم في عاقبة الأمر، كما قال الله : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8]، ومعلوم أنهم ما التقطوه من أجل أن يكون لهم عدوًا وحزنًا، بل التقطوه من أجل أن يسعدوا به، وينتفعوا به، ولكنه في العاقبة كان عدوًا لهم وحزنًا، ويحتمل أن تكون اللام لام الأمر أي ليحملوا أوزارهم، والأول أقرب، والله تعالى أعلم.

كما جاء في الحديث: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا[2]، وقال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة العنكبوت:13] وهكذا روى العوفي عن ابن عباس -ا- في الآية: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أنها كقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ، وقال مجاهد: يحملون أثقالهم: ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئًا.

هذا لا ينافي قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة فاطر:18]، فلا أحد يحمل وزر غيره وإنما كل أحد يحمل أوزاره، ولكن هؤلاء يحملون أوزارهم وأوزارًا مع أوزارهم باعتبار أن تلك الأوزار التي عملوها هي أيضًا من عملهم؛ لأنهم هم الذين دعوا إليها وأوقعوا هؤلاء فيها، فأولئك يعذبون عليها، وهؤلاء أيضًا يعذبون عليها، ومَن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، وكما قال الله : لِكُلٍّ ضِعْفٌ [سورة الأعراف:38] باعتبار أنه لا يخلو من إضلال، يضل ولده ومَن تحت يده.

فالشاهد أن قوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، ”مِن“ هذه تحتمل أن تكون تبعيضية، فهم لا يحملون كل أوزار الذين يضلونهم بغير علم؛ لأن بعض أعمال أولئك ليست من إضلال هؤلاء، أعمال أولئك كثيرة متنوعة، وإنما يحملون من تلك الأوزار ما كانوا متسببين بوقوعهم فيها، يحملون هذا النوع من الأوزار، ويحتمل أن تكون هذه بيانية، وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ حال، يمكن أن تكون من الفاعل يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: أنهم يقومون بالإضلال بغير علم، فهم يحملون الأوزار، وأوزارًا مع الأوزار؛ لأنهم يقومون بإضلال الناس بغير علم منهم، أي من هؤلاء المضلِّين، المعنى الثاني: أن تكون حالًا من المفعول، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فهم يضللون أقوامًا جهلة لا يعرفون التوحيد والإيمان والوحي فيضللونهم بهذه الأباطيل والشرك بالله ، فيكون بِغَيْرِ عِلْمٍ عائدًا إلى من يقع عليهم الضلال.

والآية تحتمل المعنيين، ويؤخذ منها أن كون الكافر أو الضال -سواء كان الذي يُضِل أو الذي يقع عليه الإضلال- يفعل ذلك بغير علم أن ذلك لا يكون بمجرده عذرًا يعذر فيه، يكفي أنه تبلغه الدعوة ويفهم منها ما يفهم أو ما يصلح لمثله في الفهم، يكفي هذا القدر، أما كونه يقتنع فهذا ليس شرطًا في قيام الحجة عليه، ولهذا تجد الله يقول: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [سورة فاطر:8] فهو يرى هذا العمل السيئ من الكفر وعبادة غير الله يراه حسنًا، يرى أنه على الحق، وأن غيره على الباطل، ويدعو إلى هذا، ويموت دونه، ويبذل الأموال في سبيله، فهذا ليس له عذر إذا بلغته الدعوة، وفَهم من الخطاب ما يصلح لمثله.

ولذلك تجد من الناس من يقول: هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى تربوا على هذا ونشئوا عليه وهم يعتقدون أنهم على حق، وأنهم على دين صحيح، وأن ما عداهم، على باطل، لكن النبي ﷺ يقول: ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[3]، ويقول الله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وهم يجادلون الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، ويستنكفون عن الحق، ويقولون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [سورة ص:5] فليس من شرط قيام الحجة الاقتناع، إطلاقًا، وإنما يكفي بلوغ الحجة، وأن يفهم منها ما يصلح لمثله في الفهم فقط، فتقوم عليه الحجة، وكونه يملأ رأسه من الأباطيل وينشأ على هذا ويربى عليه صباح مساء، هذا مما يزيد في ضلاله ووزره وهلكته، وهذه القضية ينبغي أن يُتفطن لها، فلا يصح أن يُعتذر عن الكفار أو عن بعض الكفار بأنهم هكذا كانوا، فيقال لهم هذه الآيات والنصوص القرآنية: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

  1. رواه البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثُّنْيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم وإذا قال مائة إلا واحدة أو ثنتين، برقم (2585)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم (2677).
  2. رواه مسلم، كتاب العلم، باب مَن سنّ سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674).
  3. رواه الحاكم في المستدرك (2/372)، برقم (3309)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والنسائي في السنن الكبرى (6/363)، برقم (11241)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة بمجموع طرقه برقم (3093).

مواد ذات صلة