بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة النحل:26، 27].
قال العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال: هو النمرود الذي بنى الصرح، وقال آخرون: بل هو بُخْتُنَصَّر، والصحيح: أن هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره، كما قال نوح : وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً: أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا [سورة سبأ:33] الآية.
وقوله: فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ أي: اجتثه من أصله وأبطل عملهم، كقوله تعالى: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [سورة المائدة:64]، وقوله: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [سورة الحشر:2]، وقال الله ههنا: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ أي: يظهر فضائحهم، وما كانت تكنّه ضمائرهم فيجعله علانية، كقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [سورة الطارق:9] أي: تظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان[1]، وهكذا هؤلاء، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ويقول لهم الرب -تبارك وتعالى- مقرعاً لهم وموبخاً: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا؟ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [سورة الشعراء:93]، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [سورة الطارق:10] فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة، وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم السادة في الدنيا والآخرة، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة، فيقولون حينئذ: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ أي: الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ، ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قولين في الآية:
القول الأول مرجعه إلى أن ثمة من بنى بناءً فاقتلعه الله ، بناءً حسياً سواء قيل: إنه النمرود، أو قيل: إنه بختنصر، أو قيل غير ذلك مما جاء في كتب التفسير، وهؤلاء كأنهم أخذوا من ظاهر اللفظ قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ، ذكر البنيان، وذكر القواعد وذكر السقف، فهذه مجتمعة قد يفهم منها أن البنيان كان له وجود حسي.
والقول الآخر: أن هذا تقريب وتمثيل لمعنىً من المعاني فإن الله يذكر الأمور المعنوية بصورة الحسية من أجل تقريبها للأذهان، فالذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أنه لم يكن هناك بناء حسي، وليس المقصود أن أحداً من الناس بنى بناء ثم سقط عليه هذا البناء، وإنما يقال ذلك فيمن شيد شبهة أو مكر مكراً، أو خطط لأمر، ورتب له وهيأ له أسبابه، فأبطل الله عليه كيده، ورد مكره عليه، وصار ذلك وبالاً ونقمة عليه وعلى أصحابه، هذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير.
وقوله: فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ اقتلع الله مكرهم وكيدهم وصار ذلك عائداً إليهم، هذا معنى، والآية تحتمل هذا، وتفسير ذلك ببناء حسي لا يبعد، لكن تحديد هذا ببختنصر أو بغيره هذا كله لا دليل عليه، ويمكن أن يقال كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله: إن الله اجتث باطلهم من أصله، وفسادهم وإفسادهم وكيدهم، وما أرادوا بأنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- فلم يُبق منه شيئاً، وعاد وبال ذلك عليهم.
فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ، ومثل هذا الاستعمال عادة يكون في الأمور الحسية، وهذا الذي جعل أكثر العلماء يقولون بتفسيره ببناء حسي، لكن اختلفوا من الذي بناه، والقواعد: هي الأسس، وخر عليهم السقف من فوقهم: معلوم أن السقف لا يكون إلا فوق الإنسان، فقال الله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ؛ ليدلل على أنهم كانوا تحته حينما سقط، سواء قلنا: إنه بناء حسي وُجد، أو قلنا: إن ذلك في تصوير المعنى، أي أن ذلك وقع وباله عليهم، وعاد شؤم مكرهم على أنفسهم، والعرب تقول: سقط لنا جدار، وخر لنا سقف، ويقصدون أنه سقط دون أن يكونوا تحته، إذا كانوا يملكون ذلك، يقولون: تعطلت لنا آلة، وسقط لنا جدار، وانهدمت لنا دار، وخر عندنا سقف، أو خر لنا سقف، فإذا أرادوا أن يمثلوا، أو أرادوا أن يقرروا أنهم كانوا تحته حينما سقط يقولون: خر فوقنا السقف، خر علينا من فوقنا، لكن حينما يقولون: خر علينا سقف، أو خر لنا سقف، انهدم علينا جدار، أو انهدم لنا جدار، أو نحو ذلك، فقد يقصدون أنه حصل ذلك في أملاكهم.
وقوله: ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ أي: بالفضيحة، وقوله: أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ، هذه قراءة الجمهور وهي كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”تحاربون وتعادون في سبيلهم“، إلى آخره، من المشاقة، ومثل هذه اللفظة من أهل العلم من يقول: إن أصل ذلك أن هذا يكون في شق، وهذا يكون في شق، كالعداوة يكون هذا في أحد عُدْوتي الوادي والآخر في العُدوة الأخرى، وهكذا المحادة يكون هذا في حد ويكون هذا في حد، هكذا يقولون في أصل هذه اللفظة في الاشتقاق.
وقراءة نافع بكسر النون تُشَاقُّونِ فِيهِمْ أي: تخاصمونني وتجادلونني في هؤلاء، وأنهم شركاء، أين هم؟ والقراءة الأولى -وهي قراءة الجمهور- أعم في المعنى من القراءة الثانية، تُشَاقُّونَ، ولم يذكر معموله، فهم يشاقون الله ، يشاقون الأنبياء وأتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وقراءة نافع تُشَاقُّونِ فِيهِمْ أي يشاقون الله -تبارك وتعالى.
وقوله -تبارك وتعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم، المكر: هو الكيد الخفي، وهو ما يفعله الإنسان ليتوصل به إلى مطالبه السيئة، ومقاصده الذميمة، من إيذاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ومن إشادة الباطل، ومن دفع الحق وقهر أهله، وما شابه ذلك، هذا كله يقال له: مكر، وهذا هو المتبادر من هذه اللفظة في كلام العرب، ومعناها أوسع من هذا، فكل ما يرتب بخفاء من أجل إبطال عمل أو تحقيق أمر أو نحو ذلك يمكن أن يدخل في هذا المعنى، لكن المتبادر منه حينما يذكر هكذا وحده فيقال: مكر، وفلان ماكر، وفلان يمكر: هو هذا المعنى السيئ الذي ذكرته آنفاً، ولهذا ما يضاف إلى الله -تبارك وتعالى- إلا في المواضع التي ذكر فيها حيث يكون كمالاً.
وقوله: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ مثل قوله: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [سورة النمل:50]، ففعل الله فيهم هو من مكرهم، ومن مكره بهم وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة الأنفال:30]، لكنه هنا لم يصرح بمكره بهم وإنما ذكر فعلاً يرجع إلى ذلك، فهنا ذكر مكرهم وفي بعض المواضع يذكر مكر الله، يصرح بمكر الله وبمكرهم، وفي بعض المواضع يذكر مكر الله أو كيد الله بالكافرين فقط، ولهذا من أهل العلم من يقول: إن كيد الله لا يذكر، أو إن مكره لا يذكر إلا في مقابل مكر الكافرين دائماً، يقال: إن ذلك لا يحسن إلا حيث يكون واقعاً بمن يستحقه، هذا هو الكمال، لكن لا يلزم أن يذكر معه مكر هؤلاء، ولهذا حتى بعض المنتسبين للسنة يسميه مشاكلة، يقول: لا حقيقة له وإنما هو مشاكلة، قابَلَ مكرهم بمكره، فهو من باب الاستعمال اللفظي مثل:
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه | قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً |
الجبة لا تطبخ، وكذلك القميص، لكن شاكل لفظهم فقط، استعمل اللفظة التي استعملوها، وهذا غير صحيح؛ لأن المشاكلة نوع من المجاز، فهذا تأويل للصفة، وإنما يقال: من يستحق المكر فإن الله يمكر به ويكون ذلك محموداً، ويدل على هذا أن الله -تبارك وتعالى- يفرده أحياناً وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف: 183]، إِنَّ كَيْدِي فذكر كيده ولم يذكر كيدهم، وما قابله بكيدهم.
وهكذا إذا تأملت تجد أن ما يذكره بعض أهل العلم من أن ذلك لابد أن يذكر معه مكر هؤلاء أو كيد هؤلاء ليس على إطلاقه، قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ، فسره بالسادة في الدنيا والآخرة يقصد العلماء، وهذا هو الظاهر المتبادر، ومن أهل العلم من فسره بالملائكة، وقيل: الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وظاهر اللفظ: قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسّوَءَ عَلَى الْكَافِرِينَ، فالذين أوتوا العلم هم العلماء، وأئمتهم وكبراؤهم وسادتهم هم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
لكن لا يقال الله ماكر، الله كائد، هكذا بإطلاق، لكن الله يكيد ويمكر بمن استحق ذلك، فالله يكيد الكافرين؛ لأنهم مستحقون، ولو أن أحداً من الناس سيئ وشديد الإفساد والعبث والأذية للناس، وقد بلغ أذاه الغاية، فجاء واحد من الناس وتلطف حتى أوقعه بمغبّة فعله، فمثل هذا يحمده الناس، حينما يوقع به فيقع في شراك إفساده وفساده، الناس يحمدون هذا ويرون أنه من قبيل الكمال.
الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ [سورة النحل:28-29].
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة، فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ أي: أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين: مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ كما يقولون يوم المعاد: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18] قال الله مكذباً لهم في قيلهم ذلك: بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي: بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر:36]، كما قال الله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46].
قوله -تبارك وتعالى: فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ أحسن ما يفسر به -والله تعالى أعلم- ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: ”أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين“، أي: الاستسلام، وهو أحد المعنيين اللذين فسر بهما قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94]، فقيل: الاستسلام، ألقى السلام أي الاستسلام، وهنا قال: فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ يعني استسلموا وأذعنوا، ثم قالوا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ، وهذا لا يعارض قول الله -تبارك وتعالى: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42]، فإن القيامة، وأحوال القيامة، والآخرة -منذ أن تقبض روح الإنسان ويبقى في البرزخ ويأتيه الملكان، ثم يبعث، ثم بعد ذلك يكون في ذلك الموقف الطويل- أحوال متعددة، فهم في البداية يكابرون كما ذكر الله .
ونقل الحافظ ابن كثير بعض الشواهد كقوله: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18]، فهم في البداية ينفون هذا، ثم بعد ذلك يختم الله على الأفواه، قال: وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [سورة يــس:65]، فتتكلم الجوارح وتشهد الجلود، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [سورة فصلت:21]، فحينما يكون الإنسان بهذه الحال، وبهذه المثابة، وتشهد عليه جوارحه فإنه بعد ذلك لا يستطيع المكابرة والإنكار، فيقول لجوارحه: بعدًا لكنّ وسحقًا فعنكنّ كنت أناضل[2] كما جاء في الحديث، ففي البداية ينكر ثم يقر ويعترف بعد أن تشهد جوارحه، مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ [سورة النحل:28] ثم قال الله : فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ المثوى: هو مكان الثواء، كما يقال: المجثم مكان الجثوم، والمبرك مكان البروك، معاطن الإبل: مبارك الإبل، وهكذا في مثل هذا الاستعمال.
- رواه البخاري عن ابن عمر -ا- بلفظ: قال النبي ﷺ: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان، كتاب الأدب، باب ما يدعى الناس بآبائهم، برقم (5824)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، برقم (4629)، ورواه أيضاً مسلم عن أبي سعيد بلفظ: لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، كتاب الأدب، باب تحريم الغدر، برقم (1738).
- رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969)، من حديث أنس بن مالك .