بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
المراد بحدود الله هو: ما أوجبه الله من الحقوق بين الزوجين، فإذا كانت المرأة كارهة للرجل نافرة منه مبغضة له تخشى أن تضيع حقوقه أو يصدر منها عقوق تجاهه، مما مؤداه أن يعاملها بنفس المعاملة فيقع التقصير والتضييع من كل واحد من الطرفين فحينئذ لها أن تفتدي منه بما أعطاها، وهذا ما يسمى بالخلع وهو: ما كان بعوض عند عامة أهل العلم.
وأما إذا كان الرجل هو الذي لم يعد له رغبة في المرأة وأبغض عشرتها، فينبغي عليه أن يطلق إذا ترجحت المصلحة في ذلك، ولا يجوز له أن يطالبها بأن تفتدي منه، أو أن يضيق عليها من أجل أن تطلب الطلاق وتفتدي نفسها.
قوله سبحانه: إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ في بعض القراءات: بني الفعل خاف على المجهول يُخافا وهي قراءة متواترة قرأ بها حمزة من السبعة، وعليه فيكون هذا الخوف مبهم الجهة إما صادراً من الزوجين، أو صادراً من أهل الإيمان المحتفين بهم والمطلعين على أمرهم من أهل وقرابة، أو عقلاء الناس، أو يكون ذلك التخوف من قبل الولاة كالقاضي إذا عرض عليه ذلك، ورأى أن الحياة بهذه الطريقة قد تتعذر، فعند ذلك يحصل الخلع.
ولأهل العلم كلام في إيقاع الخلع هل يكون عن طريق القاضي أو الحاكم، أو أنه يقع بين الزوجين ولو لم يوقعه حاكم؟
فمن ذهب إلى أن الخلع ليس بيد الزوجين قالوا: لأن الله قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ولم يقل: فإن خافا، كما في جاء في الجملة قبلها للدلالة على أن المراد الحاكم أو العصبة المؤمنة، والمعنى فإن خفتم أيها الحكام، أو أيها المؤمنون...، وابن جرير -رحمه الله- يجعل الخطاب في الآية متوجهاً لأهل الإيمان، ويدخل فيهم القاضي ومن في معناه، والله أعلم.
ومن أهل العلم من يرى أنها منسوخة بالآية الأخرى وهي قوله -تبارك وتعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [سورة النساء:20]، إلا أن النسخ لا يثبت بالاحتمال كما هي القاعدة المعروفة.
ويمكن الجمع بين الآيتين بالقول بأنه لا يجوز للرجل أن يأخذ مما أعطاها ونحلها من المهر مقابل ما استحل من بضعها شيئاً، إلا أنه يستثنى من ذلك إذا هي فرطت في حقوقه وكرهت مقامها عنده أو طلبت الطلاق ابتداء فعندئذ له أن يأخذ منها ما تفتدي منه نفسها، وكذا إذا أعطته بمحض إرادتها وطيب نفسها دون إكراه وتخوف، والله أعلم.
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد روى ابن جرير عن ثوبان أن رسول الله ﷺ قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة[1].
وهكذا رواه الترمذي وقال حسن.
وقد جاء عند الترمذي من حديث ثوبان مرفوعاً إلى النبي ﷺ: المختلعات هن المنافقات[2]، وفي بعض الروايات: المختلعات والمنتزعات[3]، فالمختلعات: يعني التي تطلب الخلع، وفسرت المنافقات بأنها المطيعة ظاهراً لا باطناً.
ويحمل الحديث على المرأة التي تطلب الطلاق من غير مبرر معتبر، أما إذا لم توافقه ولم يحصل بينهما ملائمة، أو إذا رأته أصابها جذام القلب والقذى في عينها كما يقال فهذه أعذار تجعل للمرأة الحق في أن تطالب بالطلاق؛ لأنها ليست مكلفة ولا مطالبة بأن تمتحن وتعذب مع إنسان تبغضه، والإسلام ما جاء بالحرج على الناس والتضييق عليهم، فمثل هذه لا يلحقها الوعيد إذا طلبت الطلاق، لكن إذا كان له رغبة فيها فإنها تفتدي نفسها منه بالخلع كما أسلفنا.
وقد ذكر ابن جرير -رحمه الله تعالى- أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول -ا.
وروى الإمام مالك في موطئه عن حبيبة بنت سهل الأنصارية -ا: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس.
اختلف في اسم امرأة ثابت بن قيس هل هي حبيبة بنت عبد الله، أو حبيبة بنت سهل الأنصارية؟ والله أعلم بالصواب.
يعني لا نجتمع بحال من الأحوال.
هذه الرواية دليل لمن رأى جواز أن تفتدي المرأة بالمهر كاملاً؛ لأنها قالت: كل ما أعطاني عندي، ويدعم هذا القول ما جاء في الرواية الأخرى عند البخاري ونصها:
فالمرأة لم تذكر مبرراً لطلبها الطلاق إلا أمراً يتصل بمشاعرها، ومعنى قولها: إنها تكره الكفر في الإسلام محمول على كفران العشير كما قال النبي ﷺ عن النساء: وتكفرن العشير، والمعنى أنها تبغضه، وتخشى أن يؤدي بغضها له إلى ضياع حقوقه، وهذا مبرر لقبول عذرها، والحديث حجة لمن قال بأن الخلع طلاق، وأن المختلعة تعتد عدة المطلقة.
حديث الربيع ثابت صحيح وهو صريح في دلالته على أن المختلعة تعتد بحيضة، وجاء عند الترمذي وغيره أن النبي ﷺ أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة، فهذان دليلان صحيحان مرفوعان على أن من خالعت زوجها تعتد بحيضة، والمسألة فيها خلاف معروف، والله أعلم بالصواب.
فلا يجوز للرجل أن يأخذ مما أعطاها شيئاً إلا بهذا القيد أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وإلا صار معتدياً ومتجاوزاً، وهذه حدوده قد بينها فيما يتعلق بالعشرة بين الزوجين، وما يحل له أخذه وما لا يحل، وكيف يتم الخلاص من هذا النكاح الذي لم يتلاءم فيه الطرفان.
وموضع الدلالة في تحريم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد في الآية هو قوله سبحانه: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ [سورة البقرة:229]، وذلك لأن التعبير جاء بلفظ مرتان ولم يقل: طلقتان، كأنه يعني أن الطلاق يكون مرة بعد مرة، ثم بعدها إما إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ؛ لأن المقصود إما أن يراجع في العدة أو تنقضي العدة، فإذا انقضت العدة حصل الافتراق عندها لاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [سورة البقرة:230].
كأن تكون هذه المرأة مملوكة فتزوجها إنسان ثم طلقها طلاقاً بائناً، فلما بانت منه حل لسيدها وطؤها، فإن هذا الوطء لا يحلها لزوجها إذا أراد أن يراجعها، بل لا بد من اعتبار نكاح صحيح حتى يحل له نكاحها.
والنكاح في كتاب الله يأتي لثلاثة معانٍ:
الأول: الوطء وهو أحد التفسيرات المشهورة لآية النور: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [سورة النــور:3]، ومال إليه جمع من أهل العلم سلفاً وخلفاً.
وأما إذا فسرنا النكاح في آية النور بمعنى العقد فسيستشكل علينا كيف يجوز للزاني المسلم أن يتزوج مشركة، وكيف يجوز للمسلمة الزانية أن تتزوج مشركاً؟ ولذا بعض المفسرين جعل لفظ الشرك في الآية محمول على النكران لهذا الحكم، وهذا القول اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله، ولكن إذا كان مقراً به معترفاً له إنما خالفه من الناحية العملية فتزوج زانية، فإن هذا العقد يكون محرماً ولا يصح زواجه؛ لأنه خالف شرط الكفاءة في العفاف، وهذا عليه جمع من أهل العلم، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره.
وبعض أهل العلم يوجه الآية بتوجيه أبلغ منه، فيقول: إن الزواج أعظم المعاشرة، ولذلك يقال للزوج عشير، وإذا كانت المرأة تعلم أن زوجها يزني أو العكس، ثم بقيا على هذه العشرة دون انفصال التصق بأحدهما ما عرف به الآخر؛ لأن الله يقول: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140]، مع كونه لا يؤمن عليه أو عليها أن تقع في الزنا نكاية به، أو لفرط دياثته؛ لأن الزاني في الغالب تموت عنده الغيرة، وإذا وقعت امرأته في شيء من ذلك فتجده قد لا يحرك ساكناً.
الثاني: يطلق على مجرد العقد، وأوضح دليل على هذا قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ [سورة الأحزاب:49] فسمى العقد نكاحاً مع أنه لم يدخل بها، وهذا لا إشكال فيه.
الثالث: يطلق على مجموع الأمرين العقد والوطء؛ لأن النبي ﷺ قال: حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك[9] والمقصود بالعسيلة لذة الجماع وهو أكمل إطلاقات النكاح.
فلا بد من شرطين لزواج الرجل من مطلقته بعد الثالثة:
أولاً: أن يكون العقد صحيحاً، في وطء صحيح لا تشوبه أدنى شبهة زنا أو شبهه.
ثانياً: أن يكون نكاح رغبة لا تحليل، فقد لعن الله المحلِّل وهو من يسميه الفقهاء: "التيس المستعار"، والمحتال كما هي القاعدة يعامل بخلاف قصده، ولعل حكمة الشارع في بينونته منها بعد الثلاث ليحصل له شيئ من التوبيخ والتقريع جراء تهاونه وتساهله في أمر الطلاق، ذلك أن الذين اعتادت ألسنتهم الطلاق يكثرون من إيقاعه ولا يقفون عند حد.
روى مسلم في صحيحه عن عائشة -ا- أن رسول الله ﷺ: سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها، فتتزوج رجلاً فيطلقها قبل أن يدخل بها، أتحل لزوجها الأول؟ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها[10]، ورواه البخاري أيضاً[11].
وروى الإمام أحمد عن عائشة -ا- قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي ﷺ، فقالت: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإن ما عنده مثل الهدبة وأخذت هدبة من جلبابها، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر، ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله ﷺ، فما زاد رسول الله ﷺ على التبسم، فقال رسول الله ﷺ: كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك [12]، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي، وعند مسلم أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات.
والمراد بالعسيلة: الجماع لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة -ا: أن رسول الله ﷺ قال: ألا إن العسيلة: الجماع [13].
فصل: والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج، فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو المُحلِّل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.
روى الإمام أحمد عن عبد الله قال: لعن رسول الله ﷺ الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله[14].
ورواه الترمذي والنسائي، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة، منهم عمر وعثمان وابن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين، ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس أجمعين.
وروى الحاكم في مستدركه عن نافع أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر -ا- فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ فقال: لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله ﷺ، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهذه الصيغة مشعرة بالرفع.
لأنه قال: كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله ﷺ فأضاف ذلك إلى زمن النبي ﷺ وهذه قرينة على الرفع، وهناك صورة أخرى يفعلها بعض الناس لتحلليها للزوج الأول، وذلك أن تعمد المرأة إلى رجل فتعرض عليه نفسها بمهر ضئيل، ثم بعد البناء بها والدخول عليها والوطء يأتي أحد أقاربها ويعرض على الرجل عرضاً مغرياً مقابل أن يطلق، وهذه صورة من صور التحليل المبطنة لا تجوز في الشرع.
وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم عن قبيصة بن جابر عن عمر أنه قال: لا أُوتى بِِمُحلِّل ولا مُحَلَّل له إلا رجمتهما.
وقوله: فَإِن طَلَّقَهَا أي الزوج الثاني بعد الدخول بها، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا أي: المرأة والزوج الأول، إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ أي: يتعاشرا بالمعروف، قال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة، وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ أي: شرائعه وأحكامه، يُبَيِّنُهَا أي: يوضحها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
فالمعاشرة بالمعروف قيد مهم عند نية إرجاع الرجل المرأة إلى عصمته بعد طلاقها من الزوج الآخر غير المحلل، وبغير هذا القيد لا يحق له أن يرجع إليها أو يتزوجها؛ لأن الراجح أن من تزوجها بعد زوج فكأنه استأنف نكاحها من جديد، فيرجع إليها بثلاث طلقات شرعية، فقد يرجع إلى صنيعه الأول فيطلق، ثم يطلق، ثم يطلق، فيخالف مقصد الشرع من استدامة الحياة بينهما.
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:231].
هذا أمر من الله للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها.
عامة أهل التفسير على أن المراد من قوله -تبارك وتعالى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: قاربن بلوغ الأجل، ولم يبق لهن إلا مدة يسيرة وتنتهي عدتهن.
فإما أن يمسكها أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال الله تعالى: وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ
قال ابن عباس -ا، ومجاهد ومسروق والحسن وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضراراً؛ لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه فقال: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي: بمخالفته أمر الله تعالى.
وقوله تعالى: وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا روى ابن جرير عند هذه الآية عن أبي موسى -: أن رسول الله ﷺ غضب على الأشعريين، فأتاه أبو موسى قال: يا رسول الله ﷺ أغضبت على الأشعريين؟ فقال: يقول أحدكم: قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قُبُل عدتها [15].
هذا الحديث صححه بعض أهل العلم مثل الشيخ: أحمد شاكر -رحمه الله، ويحتج به من يفسر القَرْء بمعنى الطهر، وذلك لقوله ﷺ طلقوا المرأة في قُبُل عدتها أي: طلقوها في طهر لم تجامع فيه، كما قال الله : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [سورة الطلاق:1].
وأما غضب النبي ﷺ على الأشعريين؛ فلأنهم كانوا يطلقون طلاقاً غير منضبط بالضوابط الشرعية، وهو ما يفهم من قوله: قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا طلاق المسلمين.
ومثله أن يطلق في طهر جامعها فيه، أو يطلقها وهي حائض أو نفساء فهذا يسمى طلاقاً بدعياً لا يجوز في الشرع، وقد يتساهل البعض في إطلاق لفظ الطلاق إما مازحاً أو لكونه لم يتزوج أو... فهؤلاء يشملهم عتاب الله لهم في قوله: وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا؛ لأن الطلاق من الأحكام الشرعية، ولذا عده النبي ﷺ من الثلاث اللاتي جدهن جد، وهزلهن جد، فلا يحل لأحد التلاعب به، أو الإتيان به على سبيل العبث، ويدخل في هذا ما شأنه التلاعب بالألفاظ الشرعية، أو ما يكون فيه الامتهان لكتاب الله أيا كانت صورته وشكله، فكلها قد حذر الله فاعلها منها بقوله: وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا.
كنه الأمر حقيقته، وقد يطلق على مقداره أو غايته، والمراد أنه يضار المرأة بطلاق أو ارتجاع في غير غايته، مثل أن يطلق في طهر جامع فيه.
كل هذا داخل في اتخاذ آيات الله هزواً، وعدم التزام حدود الله -تبارك وتعالى.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.
- رواه الترمذي بدون قوله: زوجها برقم (1187) (3/493)، وأبو داود برقم (2228) (2/235)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1187).
- رواه الترمذي برقم (1186) (3/492)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (11627).
- رواه أحمد في مسنده برقم (9347) (2/414)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لانقطاعه.
- رواه أبو داود برقم (2229) (2/236)، والنسائي برقم (3462) (6/169)، وأحمد برقم (27484) (6/433)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3462)، وسنن أبي داود برقم (2227).
- رواه البخاري في كتاب الطلاق –باب الخلع وكيفية الطلاق فيه برقم (4971) (5/2021)، والنسائي برقم (3463) (6/169)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3436).
- رواه الترمذي برقم (1185) (3/491)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1185).
- رواه الحاكم في المستدرك برقم (7114) (4/129)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (3520).
- رواه النسائي برقم (3401) (6/124)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3401).
- رواه البخاري في كتاب الأدب –باب التبسم والضحك برقم (5734) (5/2258)، ومسلم في كتاب النكاح –باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقها وتنقضي عدتها برقم (1433) (2/1055).
- رواه مسلم في كتاب النكاح –باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقها وتنقضي عدتها برقم (1433) (2/1055).
- رواه البخاري في كتاب الطلاق –باب من أجاز طلاق الثلاث برقم (4961) (5/2014).
- رواه البخاري في كتاب الأدب –باب التبسم والضحك برقم (5734) (5/2258)، ومسلم في كتاب النكاح –باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقها وتنقضي عدتها برقم (1433) (2/1055)، والترمذي برقم (1118) (3/426)، والنسائي برقم (3409) (6/146)، وأحمد برقم (24104) (6/34).
- رواه أحمد في مسنده برقم (24376) (6/62)، قال شعيب الأرنؤوط معلقاً على هذا الحديث: إسناده ضعيف.
- رواه النسائي برقم (3416) (6/149)، وأحمد برقم (4283) (1/448)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (5104).
- مصنف ابن أبي شيبة (4/3) بلفظ أن النبي ﷺ وجد عليهم، فأتاه فذكر ذلك له فقال رسول الله ﷺ: يقول أحدكم: قد زوجت قد طلقت، وليس كذا عدة المسلمين، طلقوا المرأة في قُبل عدتها.