السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[1] من بداية السورة إلى قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الآية:13
تاريخ النشر: ٢٤ / شوّال / ١٤٢٧
التحميل: 4102
مرات الإستماع: 4864

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المفسر-رحمه الله تعالى:

تفسير سورة الرحمن وهي مكية.

روى الإمام أحمد عن زِرٍّ، أن رجلا قال لابن مسعود: كيف تعرف هذا الحرف: "ماء غير آسن أو أسن"؟ فقال: كل القرآن قد قرأت، قال: إني لأقرأ المفصل أجمع في ركعة واحدة، فقال: أهذًّا كهذِّ الشعر لا أبا لك؟ قد علمت قرائن النبي ﷺ التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل، وكان أول مفصل ابن مسعود: الرَّحْمَنُ.

وروى أبو عيسى الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد[1]، ثم قال: هذا حديث غريب.

ورواه الحافظ أبو بكر البزار.

وروى أبو جعفر بن جرير عن ابن عمر -رضي الله عنهما؛ أن رسول الله ﷺ قرأ سورة "الرحمن" -أو: قُرِئَت عنده-فقال: ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم؟، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ما أتيت على قول الله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ إلا قالت الجن: لا بشيء من نعمة ربنا نكذب[2]، ورواه الحافظ البزار.

بسم الله الرحمن الرحيم

الرَّحْمَنُ ۝ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ۝ خَلَقَ الإنْسَانَ ۝ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ۝ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ۝ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ۝ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۝ أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۝ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ۝ وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ ۝ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ ۝ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:1-13]

يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه: أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه، فقال: الرَّحْمَنُ ۝ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ۝ خَلَقَ الإنْسَانَ ۝ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ قال الحسن: يعني: النطق، وذلك لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين، على اختلاف مخارجها وأنواعها.

هذا الظاهر -والله تعالى أعلم- من السياق عَلَّمَهُ الْبَيَانَ وهو ما يُبين به عما يختلج في نفسه، وبذلك صار الفرق بينه وبين العجماوات فهي لا تبين، فهذا نوع مَنٍّ امتن الله به على الإنسان، فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ [سورة النحل:4] شديد الخصومة مبين عما في نفسه، ويحتمل أن المراد كما قال طائفة من السلف: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ أي: بيان الحلال والحرام، والمعنى الأول أشهر، والآيات الأخرى تدل على هذا كقوله: مُّبِينٌ في صفة الإنسان، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.

ومن أهل العلم -كالشيخ الأمين الشنقيطي -رحمه الله- مَن فسره بهذا المعنى يبين عما في نفسه بيان النطق، واحتج له بالآيات التي تصف الإنسان بذلك، ومنهم من فسره بالآخر، والأكثر على الأول، ومن أهل العلم من جمع بين المعنيين ككبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- قال: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ يبين عما في نفسه، يتكلم وأيضاً بيان الحلال والحرام، والله أعلم.

وقوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ أي: يجريان متعاقبيْن بحساب مُقَنَّن لا يختلف ولا يضطرب، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40]، وقال تعالى: فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة الأنعام:96].

الحسبان قال: أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب، ولفظة الحسبان مصدر كالطغيان والرجحان، وأشباه ذلك، فالحسبان بمعنى الحساب، ولكنها بنيت هذا البناء الذي يدل على الكثرة، ويمكن أن يفسر الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، بمثل قوله -تبارك وتعالى: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [سورة يونس:5]، فهو يسير في منازل محددة بحساب دقيق ينتج عن ذلك معرفة الناس حساب الشهور والأيام والأعوام، وبذلك يعرفون مواسم الصوم والحج وعِدد النساء وما شابه ذلك، والله يقول: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [سورة الإسراء:12]، فهذا هو الذي يشهد له القرآن، وهو الظاهر المتبادر في معنى هذه الآية، وإن اختلف المفسرون في تفسيرها ومعناها لكن هذا هو الأقرب -والله أعلم: يجريان متعاقبيْن بحساب مقنن.

وقوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ قال ابن جرير: اختلف المفسرون في معنى قوله: وَالنَّجْمُ بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: النجم ما انبسط على وجه الأرض -يعني من النبات.

اختلفوا في السجود واختلفوا في معنى النجم هنا، فـ يَسْجُدَانِ السجود منهم من فسره بالانقياد فهي منقادة لربها، وفاطرها وخالقها خاضعة له، وقد يعبر بالسجود عن هذا المعنى أي الانقياد والخضوع، فيكون قد فسر بأمر معنوي، خاضعة، ومنهم من فسر السجود بسجود الظل كما قال الله -تبارك وتعالى: يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ [سورة النحل:48]، فيتحول مع الشمس ظل هذا الشجر.

ومن أهل العلم من يقول: الشجر هذا يستقبل الشمس إذا طلعت ثم بعد ذلك يتحول ثم بعد ذلك يميل، يتحول معها إذا انكسر الفيء، ففسروه بميلان الشجر، وهذا لا يحصل لكل الشجر، وإنما هو لبعض أنواعه يستقبل الشمس إذا طلعت ثم يميل معها، ومنهم من فسر سجود النجم بطلوعه إذا طلع وأفوله إذا أفل، والآية تحتمل هذا وهذا.

ويحتمل أن يكون سجود الظل كما قال طائفة من السلف: إن الآية الأخرى قد تدل عليه يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، ويمكن أن يكون المراد غير هذا، ولو أن قائلاً قال: نحن نثبت أن هذه الأشياء تسجد لله سجوداً يصلح لمثلها قد لا نعلمه كالتسبيح، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ [سورة الإسراء:44]، يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سورة سبأ:10]، سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة الحديد:1]، كل هذا يسبح لله : وإني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث[3]، وأيضاً: "حنين الجذع، حنّ كحنين العشار لولدها حتى نزل النبي ﷺ وسكنه"[4].

فهذه المخلوقات وهذه الكائنات تسبح لله ، والله يقول: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [سورة البقرة:74]، فهذه الجبال تخشى الله، وأخبر النبي ﷺ أن نقيق الضفدع تسبيح[5]، فأعطاها الله من الإدراكات ما يليق بها، ويصلح لمثلها مما لا نعلمه، فهي تسجد وتسبح وإن كنا لا ندرك مثل هذا، ولا يعني أن الإنسان إذا وقف عند هذا لكفاه، دون الدخول في التفاصيل، فإنه لا يقطع بشيء من هذا، يحتمل أن يكون كما ذكر وهو سجود الظل -والله أعلم.

روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: النجم ما انبسط على وجه الأرض -يعني من النبات، وكذا قال سعيد بن جبير، والسدي، وسفيان الثوري، وقد اختاره ابن جرير -رحمه الله تعالى.

قوله: ما انبسط على الأرض يعني الذي ليس له ساق مثل: شجر القرع والبطيخ، فمنهم من قال: النجم هو هذا؛ لأنه قابله بالشجر، فالشجر ما له ساق، هذه هي القرينة، وإلا فالمعنى المتبادر أنه النجم المعروف في السماء، لكن الذي جعل هؤلاء يقولون: النجم هو الشجر الذي ليس له ساق قرينة ذكر الشجر، فذكَرَ الشيء وما يقابله.

وقال مجاهد: النجم الذي في السماء، وكذا قال الحسن وقتادة. وهذا القول هو الأظهر والله أعلم؛ لقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الآية [سورة الحج:18].

ففي هذه الآية النجوم لا يمكن أن يكون المراد بها الأشجار التي لا ساق لها، والله ذكر سجود النجوم في السماء، وما ذُكر محتملاً أو مجملاً في موضع من القرآن فإنه يفسر في موضع آخر، ولم يرد في القرآن موضع يذكر فيه سجود النبات ولو موضع واحد، فبناءً على ذلك هنا لما كان النجم محتملاً يمكن أن يفسر بما ورد فيه من سجود النجم الذي في السماء فهذا هو الأقرب، وهو الذي اتفق عليه هؤلاء الأئمة كابن جرير، وابن كثير وهو قول أكثر السلف: النجم الذي في السماء.

وقوله تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ يعني: العدل، كما قال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [سورة الحديد:25]، وهكذا قال هاهنا: أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ أي: خلق السموات والأرض بالحق والعدل، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل.

فسر الميزان هنا بالعدل، ومن أهل العلم من فسره بالأدلة، ووضع الميزان براهين الحق، وهذا فيه بعد، ومنهم من فسر وضع الميزان بالميزان المعروف الذي توزن به الأشياء، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا فسره بالعدل، وهو اختيار ابن جرير، والميزان يطلق على العدل في كلام العرب، ويطلق على آلته، الآلة التي يحصل بها هذا العدل بين الناس وهو الميزان المعروف فيطلق على هذا وعلى هذا، وهما متلازمان وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [سورة الشعراء:182]، فسر بالعدل، وفسر بآلته وهي الميزان المعروف، وإذا كانت الآية تحتمل معنيين بينهما ملازمة فإن هذا من أوضح الصور التي تحمل فيها الآية على المعاني التي احتملتها إن لم يوجد مانع من حملها على بعضها، فيقال: إن الله -تبارك وتعالى- وضع الميزان العدل، ووضع آلته التي يتحقق بها بين الناس العدلُ، أما تفسير هذا بالبراهين فهذا بعيد، وابن القيم -رحمه الله- حمله على معنيين العدل وآلة العدل.

ولهذا قال: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ أي: لا تبخسوا الوزن، بل زِنوا بالحق والقسط، كما قال تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ.

وقوله تعالى: وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِأي: كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها، وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات، لتستقر؛ لمَا على وجهها من الأنام، وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم، في سائر أقطارها وأرجائها.

كما قال الله : وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا [سورة الرعد:3] يمتن الله على خلقه بهذا أن جعل لهم الأرض مهيأة يتقلبون فيها، وجعل فيها أسباب المعيشة وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ۝ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا [سورة النازعات:30، 31]، وكما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ [سورة الملك:15].

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الأنام: الخلق.

فِيهَا فَاكِهَةٌ أي: مختلفة الألوان والطعوم والروائح.

قوله: فَاكِهَةٌ يعني فواكه، ومثل هذا يقصد به الجنس أي فواكه.

وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ أفرده بالذكر لشرفه ونفعه، رطبا ويابسا.

النخل ثماره من جملة الفواكه، يقال له: فاكهة، لكن أفرده لشرفه فهو أطيبها وأحسنها وأنفعها وأجودها، وكثيراً ما يذكر في القرآن: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ [سورة ق:10]، وفي الموضع الآخر: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99]. 

ويمكن أن يقال في الجمع بين الآيتين: إنه في مقام ذكر عظمة الخلق والقدرة وكذا فإن ذلك أبلغ في النخل الطوال، وفي مقام الامتنان بسهولة جنيها، فالنخل القصير الذي يتناوله الإنسان بيده لا يحتاج إلى أن يصعد، ويصير فيه كلفة ومشقة، ومعنى ذَاتُ الْأَكْمَامِ نقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: هي أوعية الطلع، والمقصود به ما يخرج من النخلة، مثل اللسان وهو الْأَكْمَامِ جمع "كم" وهو الذي يكون في داخله الطلع، والنخل يكون في أكمامه، هذا الذي يؤبِّر به النخل، وما يكون فيه الرطب، يكون مثل اللسان يخرج من النخيل، "كم" ويكون فيه الطلع فينشق عنه فيؤبِّر ثم بعد ذلك يتحول إلى عذق، ذَاتُ الْأَكْمَامِ.

ومن أهل العلم من فسره بأعم من هذا، يقول ابن عباس: أوعية الطلع، ومن أهل العلم من قال: النخلة، ولا يبعد هذا التفسير، ليس ببعيد تفسيره بالنخلة، تفسير قريب، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وجهوا ذلك فقالوا: يخرج منها هذا الذي كهيئة اللسان ويكون فيه الطلع، وهي أيضاً مغلفة بالليف، وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ، هي مغطاة بالليف، فمن أهل العلم من قال: إنه الليف الذي يغلفها.

وابن جرير جمع بين المعنيين قال: النخلة موصوفة بهذا وهذا، فيكون ثمرها في أوله مكتنّا بالكم، وهي نفس النخلة يغلفها الليف، وإنها تخرج من ثمرات الأكمام، فإن هذه يكون الحب في سنبلة وهكذا في أوله، في بدايته.

والأكمام -قال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: هي أوعية الطلع، وهكذا قال غير واحد من المفسرين، وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود، فيكون بسراً ثم رطباً، ثم ينضج ويتناهى يَنْعُه واستواؤه.

وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ يعني: التبن.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: الْعَصْف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رءوسه، فهو يسمى العصف إذا يبس، وكذا قال قتادة، والضحاك، وأبو مالك: عصفه: تبنه.

هذه اللفظة وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ السلف -رحمهم الله- اختلفوا فيها كثيراً، وكذلك في الريحان ما المراد به؟ والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن اختلافهم هذا يرجع إلى أن ذلك عند العرب كله يقال له: عصف، فهؤلاء فصحاء وأهل لغة، ومثل هذا لا يخفى على جميعهم، فيختلفوا فيه هذا الاختلاف الكثير.

ونقل عن ابن عباس أنه التبن، وهذا الذي اختاره ابن جرير، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ قال: يعني التبن، وكذلك نقل عن قتادة والضحاك وأبي مالك هذا المعنى، ونقل أيضاً عن ابن عباس لكن من طريق لا تصح قال: الْعَصْف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رءوسه، فهو يسمى العصف إذا يبس.

فبعضهم فسره بهذا اليابس سواء كان التبن، أو هذا الورق الذي قطع رءوسه، ومنهم من فسره بمعنى آخر لا تعلق له باليبوسة بل بعكسها، يقول: هذا الحب أول ما يظهر يكون ضعيفاً، نبتة ضعيفة لها ورقة، ذُو الْعَصْف، فهذا هو العصف النبتة أول ما تخرج نبتة خضراء صغيرة، ويكون لها ورقتان أو نحو هذا، فيقولون هذا هو الْعَصْف، أول ما ينبت، ومنهم من يقول: ما يقطع من الزرع قبل أن يدرك، قبل أن يتم وينضج فهذا هو العصف، وبعضهم يقول: هو عموماً ورق الشجر والزرع يقال له: العصف وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ يعني الورق.

وقال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: وَالرَّيْحَانُ يعني: الورق.

وقال الحسن: هو ريحانكم هذا.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وَالرَّيْحَانُ خضر الزرع.

قول الحسن -رحمه الله: إن وَالرَّيْحَانُ: هو ريحانكم هذا يعني المشموم، وهو النبت المعروف الذي له رائحة طيبة.

ومن أهل العلم من فسره بما هو أوسع من هذا، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ: أنه كل نبت له رائحة طيبة، ومنه المشموم المعروف وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ المتمتع بشم رائحته.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: والريحان خضر الزرع، وهذه اللفظة وَالرَّيْحَانُ قُرأت بالرفع وبالجر، فإذا قُرأت بالرفع وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُتكون معطوفة على الحب، وإذا قُرأت بالخفض تكون عائدة على العصف وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ،.

وعلى قراءة الرفع يمكن أن يكون الريحان شيئاً مستقلاً لا علاقة له بالحب، يحتمل هذا، وبهذا فسره من فسره مثلاً بأنه كل نبت له رائحة طيبة، أو الريحان المعروف فهذا لا علاقة له بالحب؛ لأن الحب معروف أن ما يخرج منه وما ينبت لا رائحة له، فيكون ذكر الحب والعصف، وذكر الريحان، يحتمل هذا وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ،.

وأما قراءة الجر فإن أحسن ما تفسر به -والله تعالى أعلم- ما ذكره ابن جرير -رحمه الله- من أنه الرزق، وهذا تحتمله قراءة الرفع، ولكن قراءة الجر أحسن ما تفسر به هو الرزق، فهو قوت الناس يقتاتون عليه، والعصف إذا فسر بالتبن أو الورق اليابس أو نحو هذا فهذا تأكله دوابهم، تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ [سورة السجدة:27]، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ [سورة طه:54]، فعلى قراءة الجر يمكن أن يفسر بالرزق، وهذا قال به طائفة من السلف، والقراءة الأخرى تحتمل المعنيين، وفي قراءة ابن عامر وَالْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ، وهي قراءة متواترة، والمعنى وخلق الحبَّ ذا العصف وخلق الريحانَ، والريحان هنا يحتمل معنيين، فالحاصل أن قراءة الجر لا تحتمل المشموم.

فيكون الحب مثل القمح صاحب عصف، كأن يفسر العصف بالورق مثلاً، صاحب عصف، أو التبن، لكنه ليس بصاحب مشموم، وعلى تفسيره بما قال ابن جرير -رحمه الله- يكون الجمع بين ما تأكله الأنعام وما يأكله الناس، فالحب ما يأكله الناس فهو رزق، والعصف ما تأكله الأنعام، والله تعالى أعلم.

ومعنى هذا -والله أعلم- أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف، وهو: ما على السنبلة، وريحان، وهو: الورق الملتف على ساقها.

وقيل: العصف: الورق أول ما ينبت الزرع بقلاً، والريحان: الورق، يعني: إذا أدجن وانعقد فيه الحب.

وبعضهم يقول: العصف ما يؤكل من الزروع، والريحان على خلافه ما لا يؤكل منه، وبعضهم يقول: بالعكس يعني أن العصف هو ما تأكله البهائم، والريحان للآدميين.

العصف ما يؤكل من الزروع، والريحان على خلافه ما لا يؤكل منه، وبعضهم يقول: بالعكس يعني أن العصف هو ما تأكله البهائم، والريحان للآدميين.

وقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ أي: فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان؟ قاله مجاهد، وغير واحد، ويدل عليه السياق بعده، أي: النِّعَمُ ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون: "اللهم، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذِّب، فلك الحمد"، وكان ابن عباس يقول: "لا بأيِّها يا رب"، أي: لا نكذب بشيء منها.

هذه الآية تكررت في مواضع كثيرة من هذه السورة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، ولا يقال -والله تعالى أعلم: إن ذلك التكرار لمجرد التأكيد، بل هو مرتبط بمعنى أو مرتبط بما ذكر قبله، وهذا يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- في جميع القرآن، وليس فيه تكرار محض -مجرد تكرار- أبداً، وما قد يظن من أنه تكرار ليس صحيحاً.

فهذه الآيات فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كل واحدة عائدة لما ذكر قبلها مما ذكر، وسيأتي إيضاح ذلك يعني حتى ما جاء من ذكر جهنم هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ۝ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:43-45]، حتى هذا فإنه بتعذيب هؤلاء ظهرت معاني أسمائه وصفاته، وظهر اقتداره وكماله وعظمته وقوته وجبروته، وبهذا يظهر كمال نعيم أهل الجنة، فبضدها تتبين الأشياء، فهذا في هذا الموطن فكيف بالأشياء التي ذكرت فيها النعم الواضحة مثل هذا المقام؟!

فكل واحدة من هذه مرتبطة بما قبلها: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ۝ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ۝ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [سورة الكافرون:1-5]، وهذا ليس بتكرار لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، يعني في الحال، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني في الحال، فأنتم على دين وأنا على دين آخر وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ في المستقبل، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ في المستقبل لن تتحولوا إلى ديني، ولن أتحول إلى دينكم، لكم دينكم ولي دين، وبعض الناس قد يستصعب حفظ هذه السورة!، ويلتبس عليه، نقول: إذا فهمت المعنى سهل عليك الحفظ، فهذه ليس فيها تكرار، فليس في القرآن تكرار محض، وأوضح من ذلك ما في سورة الرحمن فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كل واحدة مرتبطة بالمعنى الذي قبلها، يعني مما ذُكر -والله أعلم.

  1. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الرحمن، برقم (3291)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2150).
  2. جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (22/ 23)، والبزار في مسنده، برقم (5853)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (2264)، والحاكم في المستدرك، برقم (3766)، وقال: صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه.
  3. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
  4. رواه الترمذي، أبواب الجمعة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الخطبة على المنبر، برقم (505)، وأحمد في المسند، برقم (3430)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2174).
  5. رواه الطبراني في الأوسط، برقم (3716)، والكبير، برقم (1469)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (4788).

مواد ذات صلة