بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:14-25].
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقه الجان من مارج من نار، وهو طرف لهبها، قاله الضحاك، عن ابن عباس -رضي الله عنهما، وبه يقول عكرمة، ومجاهد، والحسن، وابن زيد.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ من لهب النار، من أحسنها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ لم يذكر تفسيرها هنا! والصلصال هو الطين، وبعضهم فسره بالطين اليابس الذي له صوت، وأقوال أهل العلم في هذا متقاربة في جملتها، وأكثرهم يقولون: طين يابس له صلصلة، وبعضهم يقول: هو طين خلط برمل مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ.
وبعضهم يقول: طين منتن متغير، وهذا الوصف -أنه منتن متغير- يمكن أن يؤخذ من آية أخرى مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ [سورة الحجر:26] طين متغير من طول المكث، كما في قوله تعالى: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86] يعني متغيرةمنتنة، فأما هنا مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ هذه الجملة لا تدل على التغير، وأنها طين منتن، وإنما ذكْرُ الفخار أخذ منه بعض أهل العلم أن له صوتاً إذا ضُرب.
وهذا لا يعارض قول من قال: إنه خلط مثلاً برمل فهذا قد لا يخرجه عن وصف الطين، وهكذا قول من قال: إنه الطين اليابس الذي لم يطبخ؛ لأنه إن لم يطبخ كان يابساً فله صوت، فإن طبخ فهو فخار، فهنا قال: كَالْفَخَّارِ، والفخار هو الخزف المطبوخ، يعني الطين إذا عرض على النار صار فخاراً، مثل الجِرار ونحو ذلك.
والله ذكر أطوار خلق الإنسان، وهذا في خلق آدم ، وأما الذرية فهي من نطفة، فالله ذكر أطوار خلق الإنسان، وفي وصف خلقه الأول أخبر أنه خلقه من تراب كما في عدد من الآيات، وذكر الله تعالى أنه خلق الإنسان من طين في عدد آخر من الآيات، وفي بعضها مِّن طِينٍ لَّازِبٍ [سورة الصافات:11]، وفي بعضها مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، وفي بعضها مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ.
ووجه الجمع بين هذه الآيات: أن هذا التراب خلط بالماء فصار طيناً ثم ترك فتغير فصار حمأً مسنوناً ثم صار يابساً فصار صلصالاً كالفخار، فهذه الآيات لا منافاة بينها، فهي أطوار مر بها، هذا هو التراب -والله تعالى أعلم.
وأما قوله -تبارك وتعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فقال: هو طرف لهبها، وذكر أيضاً قول من قال: إنه من أحسنها يعني الصافي من النار، وهذا من اختلاف التنوع حينما يقول: من طرفها أو من الصافي منها أو نحو ذلك، أو بعضهم يقول: هو ذو الألوان أزرق وأخضر وأحمر، أخلاط، مِن مَّارِجٍ، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ قد مرجت عهودهم يعني تداخلت واختلطت، فالمارج يوصف بهذه الأشياء، المارج من النار هو أعلاها، هو ذو الألوان، هو الصافي منها مثلاً، وابن جرير -رحمه الله- فسره بما اختلط بعضه ببعض في أعلى النار، يعني هو الذي يكون بمثابة لهب النار أو لسان النار مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فأخذ من لفظة المارج الاختلاط، مختلط.
وروى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم[[1]، ورواه مسلم.
وقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تقدم تفسيره.
يقول: معنى كل جملة من هذه ترتبط بما قبلها، فليس هذا تكراراً محضاً، وقوله: مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ أخذ منه بعض أهل العلم -وهو أصل الخلق، من النار أصلاً- أن هذا أيضاً فيه خفة، وأن خلق الجن فيه هذه الصفة –الخفة- فهي ملازمة لهم بخلاف الطين ففيه رزانة فقالوا: إن الإنس أفضل من الجن من حيث أصل الخلقة، ولذلك ردوا على إبليس في القياس الفاسد: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة ص:76] ردوا عليه من وجوه متعددة منها: أن الطين فيه رزانة ومَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فيه خفة واضطراب، وذلك معروف أن الجن فيهم خفة، والمقصود به خلاف الرزانة، ففيهم خفة وطيش وظلم، وذكروا أشياء أخرى من أن الشيء يوضع في النار فيحترق، والحبة توضع في النار فتحترق، وتوضع في الطين فتخرج نخلة، ومن شأن الطين التماسك، ومن شأن النار الإتلاف.
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ هذا القول الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من أشهر الأقوال، ومن أحسنها، ومن أوضحها وأسهلها، ومعلوم أن الشمس تشرق في الشتاء من غير الموضع الذي تشرق فيه في الصيف، يعني هي في الصيف والشتاء تخرج من جهة المشرق، وتغرب من جهة المغرب، ولكن لها انتقال ولذلك تلاحظ أن الظل يتغير في الشتاء والصيف.
ولو فرضنا أن الشمس في الشتاء تشرق من هنا إلى ناحية اليمين قليلاً مثلاً في المشرق، كل يوم تتغير درجة حتى تصل إلى منتهى الميل في شدة الصيف، تصل إلى منتهاه، ثم بعد ذلك تبدأ ترجع وهكذا ميلانها إذا كانت تأتي، لا تأتي عمودية، وإنما تميل في الشتاء ميلاناً، وتميل في أقصى درجة لها في الصيف، فكله من المشرق إلى المغرب، لكن من هنا من أبعد درجة في وسط الشتاء، ومن هنا في وسط الصيف من أبعد درجة من الناحية الثانية، وفي كل يوم درجة حتى تصل إلى هذا ثم تبدأ ترجع، فأقصى ذلك من اليمين إلى اليسار في الشرق، هذا مشرق وهذا مشرق، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرقي الشمس في الشتاء والصيف، وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ وإذا ذكر المشرق بالإفراد رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [سورة المزمل:9]
فالمقصود أن الشمس تطلع من المشرق وتغرب من الجهة المقابلة، وإذا ذكرت المشارق والمغارب فهو باعتبار هذه الدرجات التي تتحول فيها الشمس الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [سورة المعارج:40] هذا أوضح ما يفسر به.
ومن أهل العلم من يقول: المشارق والمغارب مشارق النجوم والكواكب، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- فسر المشرقين والمغربين بغير هذا فيقول: الشمس تختلف في درجة ارتفاعها شتاءً وصيفاً فهي تصل إلى أعلى درجة في صعودها وارتفاعها شتاءً فتقل الحرارة في الأرض، والدرجة التي أدنى منها تزداد الحرارة، ويقول: يحصل بهذا فصل الشتاء وفصل الخريف، فهو يرى أن حركتها في صعودها وهبوطها من حيث درجة الارتفاع أن هذا هو المراد بالمشرقين والمغربين، فلها مشرق صعود تصل فيه إلى أعلى درجة في الارتفاع، ولها مشرق آخر دونه فيقول: هذا هو المراد بالمشرقين والمغربين، والأول -والله أعلم- أوضح من هذا، وهو الذي عليه عامة أهل العلم.
لأنها تطلع وتغرب كل يوم باعتبارها تنتقل، كل يوم من أيام السنة لها مشرق غير المشرق، ولذلك تجد الفرق يظهر تدريجياً شيئاً يسيراً ثم بعد ذلك يزداد حتى يصل إلى أعلى درجة.
الحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم عن قضية وجه التثنية والإفراد والجمع في كل موضع من المواضع، يعني سبب ذكر المشرقين في سورة الرحمن، وفي الموضع الآخر ذكر الإفراد وفي الموضع الآخر ذكر الجمع، وبيّن المناسبة، فقال:
إن الله ذكر الشمس والقمر، وذكر النجم والشجر باعتبار أن النجم هو الشجر الذي لا ساق له، وذكر السماء ويقابلها الأرض، وذكر الميزان الذي هو العدل ويقابله الظلم، وقال: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [سورة الرحمن:10]، تقابل السماء، وذكر الفاكهة والحب، وذكر خلق الإنسان وخلق الجن، ذكر كل شيء والصنف الآخر الذي يقابله، ثم ذكر المشرقين والمغربين، فيقول: المناسب هنا في هذه السورة أن يذكر على سبيل التثنية، يعني لم يقل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ولم يقل: (رب المشارق ورب المغارب فبأي آلاء ربكما تكذبان)، ولم يقل: (رب المشرق ورب المغرب فبأي آلاء ربكما تكذبان)، وإنما قال: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؛ للمناسبة، فالمناسب جداً في هذا الموطن أن يذكر التثنية؛ لأن ما ذكر قبله كذلك.
هنا الحافظ ابن كثير في عدد من المواضع يذكر وجه المناسبة في ذكر هذه الآية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فيقرر ضمناً أنها ليست تكراراً محضاً و يبينها في بعض المواضع، وهكذا جماعة من المحققين كابن جرير -رحمه الله- على هذا، يعني هنا يقول مثلاً بعد ذكر المشرقين والمغربين ما مناسبة ذكر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؟ يقول: لمّا كانت في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح الخلق من الجن والإنس باعتبار الشتاء والصيف قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.
أرسلهما باعتبار أن أصل هذه اللفظة تدل على التخلية مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسلهما خلّاهما يلتقيان.
وقوله: يَلْتَقِيَانِ قال ابن زيد: أي: منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
والمراد بقوله: الْبَحْرَيْنِ الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة الفرقان عند قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [سورة الفرقان:53].
هذا لاشك أنه تفسير للقرآن بالقرآن مبيناً للمراد، و العلماء -رحمهم الله- في معنى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ منهم من قال: العذب والملح، والآية هذه تبينه وهذا لاشك فيه.
ومنهم من قال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ الملح والملح يعني تقول مثلاً: المحيط وماء الخليج، فهو بحر وهذا بحر، تلتقي البحار مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ تحتمل هذا أيضاً.
وفي الكشوف الحديثة في علوم البحار ذكروا ما يؤيد هذا المعنى، وذكروا أشياء حسنة في هذا الباب، وإن كان كلامهم فيها متنوعاً، يعني ففي معنى بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ خمسة أقوال في الحاجز، وكلها فيما أظن لا تختلف ترجع إلى شيء واحد، كل هذا يمكن أن يكون متحققاً، فمن ذلك أن البحر مع البحر بينهما حاجز من الماء له خصائص أخرى، وله كائنات تعيش فيه غير التي تعيش في هذا أو هذا، برزخ من الماء حاجز.
والبحار تختلف، فمن أشد البحار ملوحة هذا الخليج مثلاً، فإذا أصاب الماء عين إنسان فإنه يتأذى به، بينما لو سبح إنسان في المحيط الهادي أو نحو هذا من المحيطات الكبار لا تجد هذا إطلاقاً، ولذلك تلك البلاد على هذه المحيطات يوجد على شواطئها مالا يحصيه إلا الله من أنواع الأشجار المثمرة، تخرج طبيعة هكذا، الله يخرجها بدون زرع الإنسان، جوز الهند والمانجو وأشياء كثيرة على شاطئ البحر شواطئ خضراء، وجزر خضراء.
فالبحار لا تختلط، ولم تكن شيئاً واحداً عبر السنين؛ لأن الله جعل لهذا خصائص ولهذا خصائص، وهذا له كائنات تعيش فيه، وهذا له كائنات تعيش فيه، هذا له طبيعة، وهذا له طبيعة، ونسبة ملوحة كذلك، يوجد منطقة تحجز وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا فهذا إذا قيل: في البحر الملح مع الملح فهو معنى صحيح، وإذا ذكر هذا في البحر العذب –الأنهار- مع البحر الملح حينما تختلط به مصبات الأنهار فهذا كذلك، والعلم الآن يقرر هذا؛ لأن هذا الماء الذي يصب في الملح يبقى، كذلك العيون الجارية في وسط البحر في أسفله توجد عيون للماء، والناس يعرفونها حتى قبل هذه العلوم الحديثة؛ لأنهم كانوا يشتغلون بطرق بدائية في الغوص، يعرفون مواضع العيون في البحار، وينزلون ويستقون منها ويملئون القِرب وهم في وسط البحر.
العلم الحديث يقرر أن هذه العيون حينما تصب: أن هذا الماء لا ينتهي -ويتحلل الماء العذب- وإنما يبقى في ممرات يجري كما يجري على اليابسة، فهذا معنى -إذا ثبت- داخل في العموم مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ، وهذا لا يخالف قول من قال بأن الله أجرى هذه الأنهار السارحة على وجه الأرض، وجعلها في خندق، في خنادق مثل الوديان، وماء البحر الذي جعله الله في مواضع لا يتغير منها عادة، فالبحر في مكانه منذ مائة سنة، منذ مائتي سنة، منذ ألف سنة هذا هو البحر، فما خرج هذا على هذا، وهذا على هذا واختلطت المياه، لا، الأنهار باقية والبحار باقية منذ عهود متطاولة.
وفرعون يقول: لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [سورة الزخرف:51]، يعني نهر النيل، فهو موجود منذ ذلك الحين، وقبل ذلك الحين، وإلى الآن لازال ماشياً في مجراه، فالبحر بحر، والنهر نهر بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ من اليابسة، لَّا يَبْغِيَانِ فهذه المعاني كلها داخلة -والله أعلم- في هذا المعنى.
وهذه الأشياء التي تذكر مما يثبت علمياً مما يذكرون من تفسير بعض ألوان هذا البرزخ هي من باب زيادة الفهم، ولا تعارض أقوال السلف إطلاقاً، ولا تعارض ظاهر القرآن، ويمكن أن تذكر في التفسير.
وفيه قول آخر بعيد عن هذا والعجيب أنه اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- قال: بحر السماء وبحر الأرض، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ، ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ من مجموعهما قال: كما أن الولد يخرج من ماء الرجل وماء المرأة، فهذا من ماء السماء وماء الأرض اللؤلؤ، باعتبار أن العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن المطر إذا نزل بحر السماء يعني السحاب فإذا نزل المطر على البحر في وقت معين يعني الآن مثل الحين فترة الموسم إذا نزل المطر هذه الأيام خرج "الكَمْأ" وخرجت ألوان من النباتات لا تخرج في المطر الذي ينزل في غير وقت الموسم، يعني هناك مطر الصيف، وهناك مطر آخر في الشتاء ينزل وتخرج منه بعض أنواع النباتات، لكن كثير من النباتات لا تخرج إلا في مطر الموسم.
المطر إذا نزل على البحر في وقت الموسم انعقد منه اللؤلؤ، هذا الذي ذكره كثير من أهل العلم، يقول: ينعقد بنزول قطرات المطر على البحر فيحصل تلقيح اللؤلؤ، ويخرج كما يخرج "الكَمْأ" في الصحراء، وهذا يذكر لبعض الناس الذي قد يتساءل يقول: هذه أمطار هائلة تنزل على البحار، فماذا تستفيد البحار منها؟ والناس يعيشون في قحط؟
فيقال: كل شيء بحكمة كل شيء بمقدار، فالماء الذي ينزل على البحر ينعقد منه اللؤلؤ فيستخرج منه الناس حلية هذا الذي ندركه، وكذلك أمر آخر هو أن الماء ينزل على البحر، والبحار تتبخر منها كميات هائلة كل سنة، ويصير المطر فلو بقي هذا التبخر عبر السنين لصارت البحار في غاية الملوحة حيث لا تعيش فيها الكائنات الحية، وتغير نظامها، فينزل عليها من الماء العذب ما يعوض ذلك، ويبقى هذا التوازن مستمراً حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ [سورة القمر:5] هذا الذي يظهر ويدرك أما الأشياء التي لا تدرك فالله أعلم بها، والبحار مليئة بأنواع النباتات المعروفة والأعشاب، والكائنات، فهل هذه الكائنات والنباتات لا تستفيد من ماء المطر الذي ينزل على البحر؟!
أي: وجعل بينهما برزخا، وهو: الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا، وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه.
وقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُواللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ، قاله مجاهد، وقتادة، وأبو رزين، والضحاك، وروي عن علي.
وقيل: كباره وجيّده، حكاه ابن جرير عن بعض السلف.
قرأ نافع وأبو عمرو بضم الياء يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ يقول: واللؤلؤ معروف، يعني هو الدر الذي يكون حلية تلبسها النساء، ومنهم من يقيده بالكبير منه، يقولون: اللؤلؤ هو الدر الكبار، والقول الذي لا يختلف فيه أن اللؤلؤ هو الدر، وهو المشهور عند أهل العلم أن اللؤلؤ هو الدر، تقول: علاه عمر بالدِّرة، بكسر الدال وليس بضمها، ومعناها بكسر الدال العصا الصغيرة، وأما الدُّرة فهي لؤلؤة.
قال: وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ، وكثير من أهل العلم يقولون: هو الخرز الأحمر المعروف، وهذا الذي اختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، يقول: هو صغار اللؤلؤ، يعني يكون ذكر الكبار والصغار على هذا القول، وهذا الذي عليه عامة أهل اللغة بل نسبه بعضهم إلى جميع أهل اللغة: أن المرجان هو اللؤلؤ الصغار، فهو يقابل، ذكر الأمرين، ذكرنا في هذه السورة أنه ذكر أموراً متقابلة فذكر صغار اللؤلؤ وكبار اللؤلؤ، ولكلٍّ مزية؛ الصغار يكون في غاية الجمال في مواضعه، والكبار يكون في غاية الجمال في مواضعه، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله: أن المرجان هو الصغار من اللؤلؤ، واللؤلؤ هو الكبار، قال: كباره وجيّده، وعن بعض أهل السلف ذكر هذا ثم ذكر قول ابن عباس.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها، فما وقع فيها –يعني من قطر- فهو اللؤلؤ.
إسناده صحيح.
مُوهَب القطر هو اللؤلؤ، يقصد أنه ينعقد منه اللؤلؤ في الأصداف، والبحارون الذين يبحثون عن اللؤلؤ يستخرجونه من الأصداف، فهم يستخرجون أصدافاً كثيرة، في الأكثر لا يجدون اللؤلؤ، وإنما يجدونه في القليل النادر على تفاوت بينه، أحياناً يجدونه في غاية الصغر، وأحياناً يكون كبيراً، كما هو مشاهد الآن في الكَمْأ مثلاً الذي جميعكم يراه ويشاهده في محاله فتجد بعضه صغيراً جداً لا يصلح للأكل، وبعضه أكبر وبعضه كبير، فكذلك اللؤلؤ، وليس المقصود أن اللؤلؤة تكون قدر الكَمْأة الكبيرة! ولكن أقصد تقريب المعنى.
ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.
وقوله: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ يعني: السفن التي تجري في البحر، قال مجاهد: ما رُفع قُلُعه من السفن فهي منشأة، وما لم يرفع قُلُعه فليس بمنشأة، وقال قتادة: المنشآت يعني المخلوقات، وقال غيره: المنشِآت -بكسر الشين- يعني: البادئات.
قُلُعُه جمع قلاع، والقلاع شراع السفينة، يقال: رفعت السفينة قلاعها يعني أشرعتها، قُلُعُه يعني الأشرعة من السفن وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ، وبعضهم فسر هذا بما رُفعت أشرعته فالكلمة تدل على الارتفاع.
ولهذا فسره بعضهم بغير هذا مما يدل على الارتفاع، يقول: إن السفن بني بعضها على بعض حتى ارتفعت وصارت كالجبل، وتجد هذه السفن منذ عهد طويل على طبقات وأدوار وهي التي تنقل المسافرين، ليست السفن البسيطة للصيد، فالتي يسافر بها الناس وصفت كالأعلام، كالجبال، والعلَم هو الجبل الطويل ليس كل جبل يقال له: علم، وإنما الجبل الطويل، واليوم هذا أوضح في هذه الآية التي ينبغي الاعتبار بها؛ لأن من السفن ما تدخل فيها الشاحنة الكبيرة الضخمة وكأنها نملة داخلة فيها، هذا شيء مشاهد كأنها نملة، تدخل وتخرج في وسط هذه السفن، فهذه السفن تحمل السيارات والناس والبضائع وأشياء هائلة، وبعضها فيها ملاعب ومطاعم ومسابح مدينة، بعض هذه السفن كل راكب يستأجر غرفة خاصة.
وقراءة المنشِآت بكسر الشين متواترة وهي قراءة حمزة.
- رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة، برقم (2996)، وأحمد في المسند، برقم (25194)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.