الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[4] من قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} الآية:43 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ١٣ / رجب / ١٤٣٢
التحميل: 4871
مرات الإستماع: 3092

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلاماً على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اغفر لشيخنا والحاضرين والمستمعين.

 قال المصنف -رحمنا الله وإياه- في تفسير قوله تعالى:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ۝ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ۝ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [سورة الروم:43-45].

يقول تعالى آمرًا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته، والمبادرة إلى الخيرات: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي: يوم القيامة إذا أراد كونه فلا رادَّ له، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي: يتفرقون، ففريق في الجنة وفريق في السعير؛ ولهذا قال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ۝ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ أي: يجازيهم مجازاة الفضل: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ فهؤلاء الذين يعملون الصالحات إنما يعملون ذلك لأنفسهم ويرجع جزاء ذلك عليهم، فهم المنتفعون بذلك، والله -تبارك وتعالى- غني عنهم وعن طاعتهم وعبادتهم، فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا [سورة فصلت:46] ثم قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ، هذه اللام يحتمل أن تكون متعلقة بقوله: يَصَّدَّعُونَ يتفرقون، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ يعذبهم، يصدعون ليجزي، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله. 

وبعضهم يقول: إنه متعلق بقوله: يَمْهَدُونَ يعني من عمل صالحاً فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ۝ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ يمهدون ليجزيهم الله -تبارك وتعالى- الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، وبعضهم يقول: إنه متعلق بمقدر محذوف أي ذلك ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله.

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[سورة الروم:46، 47].

يذكر تعالى نعَمه على خلقه في إرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقيبها؛ ولهذا قال: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي: المطر الذي ينزله فيُحيي به العباد والبلاد، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: في التجارات والمعايش، والسير من إقليم إلى إقليم، وقطر إلى قطر، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة، التي لا تعد ولا تحصى.

ذكر هنا خمس قضايا تتصل بإرسال الرياح، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ هنا قال: مبشرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقيبها، وهي الريح التي تكون بين يدي المطر تحمل التراب وهي معروفة وينزل المطر بعدها، فهذه الرياح إذا رآها الناس عرفوا أن المطر قريب، وأنها مبشرة بين يديه، فهذه الأولى. 

والثانية وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: أي المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد، فالمطر رحمة من الله -تبارك وتعالى- والله يسوقه بهذه الرياح التي يرسلها تنزل حيث أمر الله -تبارك وتعالى- وأراد، هذه الثانية. 

والثالثة: وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وإنما جريها بالرياح، قال: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- حينما ينزل الغيث، يرسل هذه الرياح وينزل المطر، فتنبت الأرض ويحصل للناس بذلك نفع، فتنمو دوابهم ويتكاثر ما يحصل منها من الألبان وما إلى ذلك، وكذلك يحصل لهم ألوان الزروع والثمار وهكذا يتنقلون بالسفن في طلب المكاسب والمعايش والتجارات وغير ذلك مما يبتغون فيه فضل الله -تبارك وتعالى، فتكون على هذا الاعتبار: الرابعة، وعلى كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن ذلك يرجع إلى الفلك. 

قال: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تشكرون الله على ما أنعم عليكم وعرفنا من قبل أن لعل في القرآن تأتي بمعنى التعليل في كل موضع إلا في موضع واحد وهو قوله -تبارك وتعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129]، أي كأنكم تخلدون، فهنا هي تعليلية أي من أجل أن تشكروا الله على هذه النعم.

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[سورة الروم:46، 47].

يذكر تعالى نعَمه على خلقه، في إرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته، بمجيء الغيث عقيبها؛ ولهذا قال: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي: المطر الذي ينزله فيُحيي به العباد والبلاد، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: في التجارات والمعايش، والسير من إقليم إلى إقليم، وقطر إلى قطر، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة، التي لا تعد ولا تحصى.

ثم قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا هذه تسلية من الله لعبده ورسوله محمد ﷺ، بأنه وإن كذبه كثير من قومه ومن الناس فقد كُذّبت الرسل المتقدمون مع ما جاءوا أممهم به من الدلائل الواضحات، ولكن الله انتقم ممن كذبهم وخالفهم، وأنجى المؤمنين بهم، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، هو حقّ أوجبه على نفسه الكريمة، تكرما وتفضلا كقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:54].

معلوم أن الله -تبارك وتعالى- جعل ذلك حقاً عليه فيما أوجبه على نفسه -تبارك وتعالى- كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الآية، لكن ليس للخلق أن يوجبوا على الله شيئاً قياساً على خلقه، وإنما يكون ذلك من قبيل الحكم بعقولهم كما تفعل طوائف من أهل البدع كالمعتزلة أوجبوا عليه أشياء ومنعوا عنه أشياء، كل ذلك تحكم بعقولهم قاسوه على خلقه، فقالوا: يجب عليه كذا ويمتنع عليه كذا، وهذا غير صحيح، فعندما أوجب -تبارك وتعالى- على نفسه أمراً، إذا أوجب على نفسه أمراً فإن ذلك يوقف عنده، فالله -تبارك وتعالى- يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ۝ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ[سورة الروم:48-51].

يبين تعالى كيف يخلق السحاب التي ينزل منها الماء فقال: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة الأعراف:57]، وكذلك قال هاهنا: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا، قال مجاهد، وأبو عمرو بن العلاء، ومطر الوَرّاق، وقتادة: يعني قطعا.

وقال غيره: متراكما، قاله الضحاك.

وقال غيره: أسود من كثرة الماء، تراه مدلهما ثقيلا قريبا من الأرض.

قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا هذه فائدة أخرى للرياح غير ما ذكر، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: فَتُثِيرُ سَحَابًا إما من البحر على ما ذكره غير واحد، أو مما يشاء الله ، هنا أجمَلََ في مصدر الرياح غير البحر إما من البحر فهو للتبخر كما هو معلوم، والمُنكَر في ذلك أن يقال: إنها طبيعة بمعنى أن ذلك ليس من تدبير الله -تبارك وتعالى- فهذا هو الذي شدد فيه أهل العلم وقالوا: إن هذا من الكفران، وإنه من جحود نعمة الله -تبارك وتعالى- وإلا فكان الجاهليون يعرفون أن السحاب يتكون من الأبخرة التي تتبخر من البحار ونحوها؛ ولهذا يقول الهذلي:

شَربنَ بماءِ البحرِ ثُم ترفّعتْ متى لُجَجٍ خُضرٍ لهنّ نئيجُ

يقصد السحاب، والعلماء تكلموا على هذا كثيراً، ومنهم من يقول: إن السحاب لا يكون من تبخر المياه من البحار وإنما يخلقه الله -تبارك وتعالى- وينشئه، وبعضهم يقول: إنه من مصادر أخرى كما يقول بعضهم من الجنة أو نحو ذلك، ومن أهل العلم من يقول: لا مانع أن يكون ذلك بالتبخر، وقد يكون له مصدر آخر، المقصود هنا الإشارة إلى ما أراده ابن كثير -رحمه الله- بقوله: أو مما يشاء الله فأبهمَ في ذلك وأجملَ وهو يشير إلى هذه الأقوال التي يذكرها أهل العلم في مصدر السحاب، لكن ما تجدونه في بعض الكتب وتشديد بعض أهل العلم فيمن يقول: إنه تبخر البحر إنما يقصدون به من قال: إنه طبيعة، من يقول: إنه طبيعة يعني أنه قضية طبيعية لا تتعلق بإرادة الله -تبارك وتعالى- مع أن الله ذكره من آياته.

وقوله فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي: فترى المطر -وهو القطر- يخرج من بين ذلك السحاب، فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم.

وقوله: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ، معنى الكلام: أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا قَانطين أزِلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك، فلما جاءهم، جاءهم على فاقة، فوقع منهم موقعا عظيما.

ويكون معنى الكلام: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبله -أيضا- قد فات عندهم نزوله وقتا بعد وقت، فترقبوه في إبّانه فتأخر، فمضت مدة فترقبوه فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فبعدما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ ولهذا قال: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ يعني: المطر كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.

ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال: إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى.

قوله -تبارك وتعالى: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ من قبله هذه الثانية وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ ومن قبله قد فات عندهم نزوله وقتاً بعد وقتاً، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ يعني كانوا محتاجين إليه قبل النزول وهم قبله قد فات وقته ومظنته فأورثهم ذلك حزناً وكآبة وسكوناً، هذا معنى مبلسين، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ.

لكن أكثر أهل العلم يقولون: إن ذلك للتوكيد، وهو اختيار ابن جرير، وكأن هذا -والله تعالى أعلم- أقرب وأبعد عن التكلف في المعنى في تفسير الآية، فيكون المعنى -والله تعالى أعلم- مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ يعني المطر –الغيث- من قبله يعني من قبل أن ينزل عليهم هذا الغيث، هذه عبارة ابن جرير، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ هذا الغيث فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ، فَانْظُرْ إِلَى أثرِ رَحْمَتِ اللَّهِ هذا على قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي، في الجمع: إلى آثار رحمة الله، وقرأ الباقون بالإفراد: فَانْظُرْ إِلَى أثرِ رَحْمَتِ اللَّهِ وذلك يرجع إلى معنى واحد، أثر رحمة الله، فإن المفرد هنا بمعنى الجمع، وأثر رحمة الله هو المشار إليه بعده بقوله: كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ورحمته هي المطر.

ثم قال تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ، يقول: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا يابسة على الزرع الذي زرعوه ونبت وشب واستوى على سوقه، فرأوه مصفرا، أي: قد اصفر وشرع في الفساد، لظلوا من بعده أي: بعد هذا الحال يكفرون، أي: يجحدون ما تقدم إليهم من النعم، كما قال: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ.... إلى قوله: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة:63-67].

قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا بعضهم يقول: رأوا السحاب مصفراً، وأن السحاب إذا كان مصفراً فمعنى ذلك أنه ليس فيه المطر، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى الريح، والذي عليه عامة أهل العلم -وهو الأقرب- أن ذلك يرجع إلى الزرع، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا يعني تأتيه الريح باردة فيصفر، ويذبل وتتغير حاله، فبعدما ظهر وخرج تأتي هذه الريح ثم بعد ذلك يتحول إلى شيء من الذبول والضعف، ويكون بعد ذلك يابساً هشيماً -والله المستعان، فهو يرجع إلى الزرع والنبات، فهنا يقول: فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي قد اصفر وشرع في الفساد ابن كثير هنا يفسر ذلك أنه يرجع إلى الزرع، وهذا اختيار ابن جرير أيضاً.

فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ۝ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ[سورة الروم:52، 53].

يقول تعالى: كما أنك ليس في قدرتك أن تُسمع الأموات في أجداثها، ولا تُبلغ كلامَك الصمَّ الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مُدبرُون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يُسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي مَنْ يشاء، ويضل مَنْ يشاء، وليس ذلك لأحد سواه.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ضربه الله لمن طبع على قلوبهم فأصمهم الله وأعمى أبصارهم، كما قال الله -تبارك وتعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7]، فهؤلاء لا يسمعون الحق ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وهنا قال: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [سورة الروم:52]، هو كما سبق: الموتى هو مثل ضربه للكفار، فكما أنك لا تسمع الأموات فهؤلاء بمنزلة الأموات، ولهذا أخذ بعض أهل العلم من ظاهره أن الأموات لا يسمعون، مع أنه مثل مضروب للكفار، قال الله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ [سورة فاطر:22].

وعائشة -رضي الله تعالى عنها- استدلت بهذه الآية على أن القتلى -قتلى المشركين- الذين ألقوا في القليب يوم بدر أنهم لم يسمعوا النبي ﷺ احتجت بهذه الآية، هذه الآية عامة، والحديث خاص لما سأله عمر عن تكليمه لهم بعد ثلاث وقد جيفوا، فقال النبي ﷺ: وما أنتم بأسمع لما أقول منهم[1]، يعني بأنتم: أصحابه ﷺ، فهؤلاء فتح الله أسماعهم للنبي ﷺ من أجل أن يسمعوا خطابه وتبكيته لهم. 

وبعضهم يقول: إن النبي ﷺ خاطبهم بذلك ولكن لا يعني أنهم سمعوه، وهذا خلاف ظاهر الحديث، فهذه حالة مستثناة فتح الله أسماع هؤلاء للنبي  ﷺ وإلا فإن الأصل أن الموتى لا يسمعون ولا يشعرون بمن جاء إليهم وزارهم ونحو ذلك أو كلمهم، وإنما يوقف في ذلك عند ما ورد به النص كسماعه بعد الدفن، يسمع صوت نعالهم لما يولون عنه مدبرين، وهو يسمع في هذه الحال فقط، أما ما عدا ذلك فإنهم لا يسمعون، مع أن هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، لكن هذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم. 

قال: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ إذا ناديتهم فالأصم لا يسمع أصلاً ومع ذلك ذكر معنى آخر إذا ولوا مدبرين، فإن الأصم قد يشار إليه فيفهم الإشارة لكن إذا كان مولياً مدبراً فكيف يرى الإشارة؟! فهو لا يسمع وقد ولى مدبراً فلا يرى إشارة يفهم عن مخاطبه ومراده، ولهذا قال: إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، والله تعالى أعلم.

ولهذا قال: إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي: خاضعون مستجيبون مطيعون، فأولائك هم الذين يستمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمنين، والأول مَثَلُ الكافرين، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة الأنعام:36].

وقد استدلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بهذه الآية: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون، وتأولته عائشة على أنه قال: إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق.

وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [سورة الروم:54].

ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاما ثم تُكسَى لحما، ويُنفَخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفًا واهن القوى، ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيرًا، ثم حَدَثا، ثم مراهقًا، ثم شابا، وهو القوة بعد الضعف، ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم، وهو الضعف بعد القوة. فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللّمَّة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ.

قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ هكذا بفتح الضاد قراءة عاصم وحمزة وهي لغة لتميم، وقراءة الجمهور بضم الضاد، وهي لغة قريش، هما لغتان، والمعنى واحد على المشهور عند أهل العلم وإن كان بعضهم يفرق بينهما الضَّعف والضُّعف، فيجعل ذلك من قبيل ضعف العقل والأخرى من قبيل ضعف البدن، لكن هذا وإن قاله بعضهم إلا أن المشهور الذي عليه عامة أهل العلم أنهما بمعنى واحد، وهذا الضعف بعضهم يقول: وهو نطفة، والله -تبارك وتعالى- يقول: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ [سورة المرسلات:20]. 

وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك في نشأته وحينما يكون صغيراً ضعيفاً حينما يولد، والأحسن -والله تعالى أعلم- أن يفسر ذلك بما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فقد جمع ذلك كله، فعبارة الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر فيها حالة الضعف هذه أن الإنسان أصله من تراب ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصير عظاماً ثم تكسى العظام لحماً ثم ينفخ فيه الروح ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يصير صغيراً حدثاً ثم مراهقاً ثم شاباً، وهو القوة فما قبل ذلك كله ضعف قبل الولادة وبعدها ثم بعد ذلك تكون القوة، أما من جعل بعد الضعف قوة وهو الشباب واكتمال الخلق ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [سورة الروم:54]، هذه المرحلة التي يصير إليها الإنسان بعد ذلك من الوهن وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [سورة مريم:4]، وإذا طال به العمر يصير إلى أرذل العمر "ثم لتكونوا شيوخاً"، وهذه سنة الله في هذا الخلق.

ولذلك تجد كثيراً من الناس حينما يتقدم به العمر يشكو من ضعف عظامه، والأطباء يقولون لهؤلاء الكبار: إنهم يعانون من هشاشة في العظام ونحو ذلك، وهذا أمر طبيعي، يعني هذا هو الأصل وخلافه قليل أو نادر، كما قال الله عن قيل زكريا : وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، هذا الوهن هو ضعف العظام الذي يسميه المعاصرون الآن من الأطباء بهشاشة العظام فهو ماذا ينتظر إلا الضعف والهشاشة وآلام الركب وآلام المفاصل وما إلى ذلك؟ ويكون ذلك تكفيراً لذنوبه ورفعة لدرجاته على الأرجح، لذلك إذا وطن الإنسان نفسه على مثل هذا استراح كثيراً من التشكي والمعاناة هذا هو الطبيعي، هذا هو الأصل وخلافه قليل أو نادر، والله المستعان.

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ۝ فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ[سورة الروم:55-57].

يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة واحدة، ومقصودهم هم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم يُنْظَروا حتى يُعذَر إليهم.

قوله -تبارك وتعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يعني الساعة التي تقوم بها القيامة، قيل لها: الساعة هي الساعة الأخيرة من الدنيا، آخر ساعة من الدنيا، الساعة التي يكون فيها النفخ في الصور وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ هذا القسم الذي أقسموه أولاً هل هم صادقون فيه؟ يعني قالوا ما يعتقدون وإن أخطئوا إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [سورة طه:104]. 

من أهل العلم من يقول: هم يعتقدون هذا، هم يعتقدون ذلك فتكلموا عن اعتقادهم لكنهم أخطئوا في هذا الاعتقاد، بعضهم يقول: كأنهم تقالّوا مدة بقائهم ومكثهم في الدنيا، واعتقدوا ذلك بغاية القلة فأقسموا بناء على هذا الذي استقر في أذهانهم وظنوا أن ذلك يطابق الواقع، هذا باعتبار ما لبثوا يعني في الدنيا.

وبعض أهل العلم كابن قتيبة يقول: إنهم كذبوا في ذلك، يعني من أجل ألا يحاسبوا ويعذبوا يقولون: ما بقينا في الدنيا إلا ساعة واحدة، ولهذا قال الله : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا يعني في البرزخ في القبر وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، أن المقصود المكث في القبور، وبعضهم فهم من ذلك أنهم ينامون نومة في القبور فيفيقون منها عندئذٍ يحلفون أنهم ما لبثوا غير ساعة، لكن الله حينما يسألهم كم لبثوا في الأرض عدد سنين فإنهم يقولون: كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ أي كانوا يكذبون ويحلفون على الكذب في الدنيا، لكن يمكن أن يقال غير هذا، فإن أصل هذه المادة تأتي بمعنى القلب، أي كذلك كانوا يؤفكون أي يصرفون عن الحق في الدنيا، والله تعالى أعلم.

قال الله تعالى: كَذَلِكَ كَانٌوا يُؤْفَكُون ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ أي: فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة، كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أي: في كتاب الأعمال.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وليس المقصود بكتاب الله القرآن، وإنما اللوح المحفوظ، فمن قال: إنه في علم الله فإن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، ومن قال: إن ذلك في حكمه وقضائه فذلك في اللوح المحفوظ أيضاً، كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء»[2]، وإن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة»[3]، الحديث.

إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ أي: من يوم خلقتم إلى أن بعثتم، وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.

قال الله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة، لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا ينفعهم اعتذارهم عما فعلوا، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: ولا هم يرجعون إلى الدنيا، كما قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [سورة فصلت:24].

وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يستعتبون يقول: أعتبتُ يعني أرضيتُ، أعتبته يعني أرضيته، استعتبتَه كأنك طلبت منه هو أن يعتذر لك عذراً تقبله منه فيعذر بذلك، قال: استعتبتُه فأعتبني يعني استرضيته فأرضاني، فهم لا يُدعون إلى إزالة عتبهم من الطاعة والتوبة، الإنسان أحياناً يبكت ويسأل سؤال تبكيت لا سؤال استعتاب مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [سورة المدثر:42] فهدا ليس بسؤال استعتاب، وهذا زيادة في عذابهم، أما سؤال الاستعتاب مثل حساب الله كما جاء في بعض الأحاديث أن المؤمن حينما يسأله الله -تبارك وتعالى- مثلاً حينما يقع منه بعض التقصير في إنكار المنكر فإذا ألهم الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك وخفت الناس»[4]، كما جاء في الحديث، الشاهد أن السؤال هو ما يكون سؤال استعتاب من أجل أن يعتذر فيقبل منه هذا العذر، وأحياناً لا يكون كذلك.

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ ۝ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۝ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ[سورة الروم:58-60].

يقول تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: قد بينا لهم الحق، ووضحناه لهم، وضربنا لهم فيه الأمثال ليتبينوا الحق ويتبعوه.

وهذا يكون من قصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وقصص الأمم، وكل ما يحصل فيه عبرة، ويدخل في ذلك على المشهور في الأمثال بأنها ما يكون فيه تقريب المعنى بصورة محسوسة، هذا كله داخل في الأمثال، فضرب الله ونوَّع وجعل هذا القرآن مثاني تثنى فيه العبر والعظات والقصص والأمثال والأخبار، كل ذلك من أجل أن يحصل الاتعاظ والاعتبار، فكل ما يحصل به العظة والعبرة على هذا الاعتبار يكون من قبيل المثل، والله تعالى أعلم.

وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ أي: لو رأوا أي آية كانت، سواء كانت باقتراحهم أو غيره، لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل، كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [سورة يونس:96، 97]؛ ولهذا قال هاهنا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۝ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: اصبر على مخالفتهم وعنادهم، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك، وجعلْه العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي: بل اثبت على ما بعثك الله به، فإنه الحق الذي لا مرية فيه، ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هُدى يتبع، بل الحق كله منحصر فيه.

هذا أصل كبير وهو أن من طبع الله على قلبه فإن اتباعه للحق وإذعانه له لا يتوقف على وجود آية، والقرآن قد كثر فيه ورود هذا المعنى وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ، والله يقول: فَظَلَمُواْ بِهَا ولم تنفعهم هذه الآيات، ومن أراد الله شقاوته فإنه لا يملك له أحد من الله -تبارك وتعالى- شيئا، ولا يستطيع هدايته، ومن ثَمّ فإن المؤمن عندها لا تذهب نفسه على هؤلاء حسرات، وكذلك فإنّ كفر هؤلاء ودعواهم الباطلة ورميهم أهل الإيمان والحق بالأوصاف القبيحة المذمومة فإن ذلك لا ينبغي أن يزحزح أهل الإيمان عن حقهم، أو أن يتنازلوا عن شيء منه، أو يميلوا إلى هؤلاء الذين طبع الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم، وأصمهم، فلا يكون منهم أدنى التفات إليهم ولا يحفلوا بهم، ولا يكون ذلك سبباً لمداهنتهم وطلب رضاهم والسعي إلى التقارب معهم أو نحو ذلك.

فالله -تبارك وتعالى- يقول: فَاصْبِرْ يعني على الحق الذي أنزله الله إليك، اثبت عليه، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وعد الله حق بجزاء أهل الإيمان، وأخذ هؤلاء المجرمين في الدنيا والآخرة، فالغاية بالنسبة لأهل الإيمان هي الجنة مع حسن العاقبة في الدنيا، وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ، لا تغير موقفك ولا تدهن مع هؤلاء، فهؤلاء لا يقين لهم، أما أهل الإيمان فهم أهل اليقين، ومن كان من أهل اليقين فإنه يكون واثقاً بمبدئه، وما هو عليه من الدين، فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحصل له اضطراب في سيره إلى الله -تبارك وتعالى- ودعوته. 

ومثل هذا لو أن الناس اعتبروا به في مثل هذه الأيام -وهم أحوج ما يكونون إليه- لسلموا من شر كثير، ولما حصل مثل ما نشاهد من تراجع أهل الصلاح والدعاة إلى الله والتلون والتقلب كل ذلك لربما من أجل جذب الذين لا يوقنون إلى دعوتهم، وكل ذلك من أجل تقريبهم أو مقاربتهم والتوصل معهم إلى حال يلتقون فيها معهم في وسط الطريق فيبقى الإنسان على دين وحال لربما يكون بين الإيمان والنفاق، فمثل هذا ينبغي للإنسان أن يحذره، والقرآن مليء بمثل هذه الأصول الكبار، ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- ضرب فيه للناس من كل مثل، حينما يقرأ المرء أو يسمع كلام الله لا يجد شيئا أبلغ مما قال الله في وصف هذا الكتاب بأنه تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل:89]، وأنه يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [سورة الإسراء:9]، وأنه مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [سورة الزمر:23]، وأنه هدْى كامل في كل ما يحتاج الناس إليه، والله المستعان.

روى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي ﷺ، أن رسول الله ﷺ صلى بهم الصبح، فقرأ فيها الرّوم فأوهم، فقال: إنه يَلبِس علينا القرآن، فإن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء»[5].

وهذا إسناد حسن، ومتن حسن، وفيه سر عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه تأثر بنقصان وضوء من ائتم به، فدل ذلك أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام

هذا صحيح ظاهر ومشاهد، إمام يتأثر بحال المأمومين خلفه، والله المستعان.

  1. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، برقم (3976)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2873).
  2. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء [سورة هود:7]، وهو رب العرش العظيم [سورة التوبة:129]، برقم (7419)، ومسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام، برقم (2653).
  3. رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم (4700)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ن، برقم (3319)، وأحمد في المسند، برقم (22707)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2017).
  4. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (11214)، وقال محققوه: "حسن"، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، برقم (4017)، بلفظ: "وفرقت من الناس"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1818).
  5. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (15874)، وقال محققوه: "حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لإرساله".

مواد ذات صلة