الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[11] من قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} الآية 50 إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الآية 60
تاريخ النشر: ٠٦ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 3564
مرات الإستماع: 6991

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ۝ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة التوبة:50، 51].

يعلم -تبارك وتعالى- نبيه بعداوة هؤلاء له؛ لأنه مهما أصابه من حَسَنَةٌ أي: فتح ونصر وظفر على الأعداء، مما يسرّه ويسر أصحابه، ساءهم ذلك، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ أي: قد احترزنا من متابعته من قبل هذا، وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ فأرشد الله تعالى رسوله ﷺ، إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة، فقال: قُلْ أي: لهم لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا أي: نحن تحت مشيئة الله، وقدره، هُوَ مَوْلانَا أي: سيدنا وملجؤنا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: ونحن متوكلون عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ۝ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ۝ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ [سورة التوبة:52-54].

يقول تعالى: قُلْ لهم يا محمد: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا؟ أي: تنتظرون بنا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ شهادَةٌ أو ظَفَرٌ بكم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا أي: ننتظر بكم هذا أو هذا، إما أن يصيبكم الله بقارعة من عنده أو بأيدينا، بسبي أو بقتل، فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ.

وقوله: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا أي: مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ.

ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك، وهو أنهم لا يُتقبل منهم، لـأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أي: والأعمال إنما تصح بالإيمان، وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى أي: ليس لهم قصد صحيح، ولا همة في العمل، وَلا يُنْفِقُونَ نفقة إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ.

وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ أن الله لا يمل حتى تملوا، وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا؛ فلهذا لا يتقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا؛ لأنه إنما يتقبل من المتقين.

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [سورة التوبة:55].

يقول تعالى لرسوله ﷺ: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ كما قال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة طه:131].

وقال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56].

وقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال الحسن البصري: بزكاتها، والنفقة منها في سبيل الله.

وقوله: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ أي: ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم -عياذا بالله من ذلك، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- هنا: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ تفسير الحسن -رحمه الله- أن تعذيبهم بما يطالبون به من الحقوق يعني كالزكاة، وأن ذلك يشق عليهم، ويؤلم نفوسهم كما قال الله -تبارك وتعالى- عن المنافقين: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [سورة التوبة:98]، فهو يرى أن هذا الذي أُخذ منه أنه مال لا عوض له، فهو لا يرجو العاقبة في الآخرة والجزاء عند الله ، وإنما يدفع هذا المال ليدفع التهمة عن نفسه وهو كاره، ولا يرجو عليه ثواباً فهكذا قال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ.

لكن الأقرب من هذا -والله تعالى أعلم- هو أن تعذيبهم بها هو ما يحصل لهم من العناء والشقاء والنصَب بجمعها كما هو الحال بالنسبة لطلاب الدنيا التي صارت الدنيا هي شغلهم وغايتهم، فيشْقوْن في جمعها، ويقضون الزمان الطويل في تحصيلها من طرق كثيرة فيحصل لهم من التعب الشيء الكثير، أضف إلى ذلك ما يحصل لهم من العناء والتعذيب بسببها من جهة حياطتها وحفظها والإبقاء عليها فهو مشغول بها، يشقى بجمعها، ويشقى بحفظها، ويتفرق قلبه معها. 

قال حذيفة : "اللهم إني أعوذ بك من تفرق القلب"، وفسر هذا بأن يكون له في كل وادٍ مال، فصاحب المال يشقى بماله في جمعه وفي حفظه، وهو دائماً يفكر في هذا المال أين يضعه، وأين يثمره، وإذا خسر تألم بسبب هذا، وحصل له من النكد والتنغيص ولربما مات من الغم كما هو مشاهد، فطلاب الدنيا إذا نزلت الأسهم نزل عنده الضغط، وإذا ارتفعت الأسهم ارتفع الضغط فهو في عناء وعذاب، ومنهم من يطلق امرأته! ومنهم من يصاب بجلطة! ومنهم من يصاب بطاعون!! كل هذا من أجل هذا المال. 

ولو أن إنساناً قيل له: أنت عندك الآن مائة مليون، ربما لا يستطيع أن ينام الليلة يفكر هذه المائة مليون يا ترى ماذا سيصنع بها؟ هل سيضعها في استثمار؟ وأين هذا الاستثمار؟ وإذا رأى بعض الأمور التي يتخوفها من بوادر حرب أو نحو ذلك بدأ يفكر أين يضع هذه الأموال؟ في دولارات، أو يورو، أو ذهب، أو يوزعها ويفرقها يضع شيئاً في هذا، وشيئاً في هذا، وشيئاً في هذا احتياطا؟ وإذا بدأ يفتح بها أعمالاً ومشروعات يفتح عشرين مشروعاً؛ من أجل إذا خسر هذا يعوضه الآخر، ويفتح له منجرة، ومخبزاً، وحدادة وكل شيء، ويشقى هنا وهناك، وكان من الممكن أن يكتفي ببعض هذا، لكن أهل الدنيا يشقون في جمعها فهذا هو المعنى -والله تعالى أعلم. 

وهو أحسن ما ذكر في تفسيرها، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير، ورجحه ابن القيم بقوة، وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ أيضاً يكون هذا المال سبباً لمزيد من غفلتهم ولهوهم واشتغال قلوبهم فتنقضي أيامهم من غير توبة، ولا إيمان فيكون مصيرهم إلى النار.

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ۝ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [سورة التوبة:56، 57].

يخبر الله تعالى نبيه ﷺ، عن جزعهم وفزعهم وفَرَقهم وهلعهم أنهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ يمينًا مؤكدة، وَمَا هُمْ مِنْكُمْ أي: في نفس الأمر، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أي: فهو الذي حملهم على الحلف، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي: حصنا يتحصنون به، وحرزا يحترزون به، أَوْ مَغَارَاتٍ وهي التي في الجبال، أَوْ مُدَّخَلا وهو السَّرَب في الأرض والنفَق، قال ذلك في الثلاثة ابنُ عباس، ومجاهد، وقتادة، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يسرعون في ذهابهم عنكم، لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام؛ ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغَمٍّ؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ ونصر ورفعة؛ فلهذا كلما سُرّ المؤمنون ساءهم ذلك، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين؛ ولهذا قال: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ.

الفَرَق هو شدة الخوف، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ فحلفهم هذا كما أخبر الله في مواضع من كتابه إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ [سورة المنافقون:1]، فهذه الشهادة بمنزلة الحلف، واتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المنافقون:2]، حتى في يوم القيامة يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18]، استمرءوا هذا فرأوا أن هذا الحلف يخلصهم من كثير من الحرج والمواقف في الدنيا والإدانة، فظنوا أن ذلك ينفعهم في الآخرة، فيحلفون إذا بعثهم الله من قبورهم. 

وهكذا أيضاً فَرَقُهم وصفه الله في مواضع كقوله -تبارك وتعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ [سورة الحشر:14]، هذه في المنافقين، والكلام كله عن المنافقين لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ۝ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ [سورة الحشر:13] يعني أشد مرهوبية، كذلك وصفهم بحال الخوف والشدة، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4] إذا نزلت آيات إذا نادى المنادي للجهاد ظنوا أن هذه الدعوة والصيحة أنهم هم مستهدفون بها؛ لشدة خوفهم وفَرَقهم كحال المنهزم الذي صوره الشاعر بقوله:

ما زلتَ تحسب كلَّ شيء بعدهم خيلاً تكرّ عليهم ورجالاً

فهو يخاف ويتوقع الشر ويتوجس لما فيه من الريب، فالإنسان إنما يتوحش إذا كان صاحب ريبة، فهنا وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، ثم صور شدة الحال التي هم فيها لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ يقول: لو وجدوا مكاناً يستعصمون به وينحازون إليه لذهبوا وما بقوا عندكم وقتاً يذكر لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ، قال: يسرعون، هذا من جمح الفرس إذا لم يردّه اللجام ينطلق لا يلوي على شيء يقول: لو يجدون مجالا ما بقوا طرفة عين عندكم هم يعيشون في توجس وخوف رهيب، ولكنهم مضطرون إلى هذا البقاء. 

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ۝ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [سورة التوبة:58، 59].

يقول تعالى: وَمِنْهمْ أي ومن المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ أي: يعيب عليك فِي قَسْم الصَّدَقَاتِ إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتهمون المأبونون، وهم مع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم؛ ولهذا إن أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ أي: يغضبون لأنفسهم.

بمعنى لا ينكرون للدين يعني إنكارهم ليس غيرة لله وطلباً للحق والعدل، يعني حينما يقوم رجل ويقول: اعدل فإنك لم تعدل، فيقول: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله مثل هذه المقامات التي يقولها بعض الناس، وهو لا يريد بها وجه الله ، فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن من الناس من يقوم في الظاهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينكر على أهل الظلم ظلمهم، وأهل البغي والفساد فسادهم، فإذا أعطى شيئاً من الدنيا من ولاية أو أعطي من مال أو غير ذلك صار شريكاً لهم. 

وإذا تأملت الكثير من النفوس وجدت ذلك ظاهراً فيها لأنك تجد عند هذا الإنسان أصلاً من منابت هذا الشر ومن التخلق به بالنسبة لما تحت يده ما يدل على أنه لو كانت له قدرة، وتمكن لفعل ما هو أعظم مما ينتقده ويعيبه على غيره، انظر إلى حاله وسلوكه إذا كان معلماً مع طلابه، انظر إلى حاله وسلوكه إذا كان مديراً مع من تحت يده، انظر إلى حاله في الأموال، وكيف تورعه فيها، وإذا تمكن أن يأخذ أرضاً أو مكسباً من المكاسب بأي طريقة من الطرق فقد لا يتوانى ولا يتورع. 

وهكذا تجد أحياناً الإنسان يعيب أشياء وإذا نظرت إلى حاله من الظلم، ومن بحسب ما عنده بحسب ما يمكنه لكن لو اتسعت قدرته لفعل أعظم مما ينتقد، وهذا كثير للأسف فقد يقوم في الظاهر على أنها غيرة لله ، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وقد يخطب خطبة قوية، ويتكلم، وإذا نظرت إلى حاله تقول: هذا لو كان له من الأمر شيء للقي الناسُ منه أضعافَ ما ينتقد، تأمل في أحوال الخلق تجد هذا، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: من الناس من يكون بهذه المثابة لا يكون أمره لله فإذا أعطى أو قُرِّب، أو ولي فإنه يتحول إلى شريك لهذا الذي كان يعيبه وينتقده، وينكر عليه ويحتسب، والله المستعان.

ولهذا إن أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ أي: يغضبون لأنفسهم.

وقال قتادة في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات، وذُكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديثَ عهد بأعرابية، أتى النبي ﷺ وهو يقسم ذهبا وفضة، فقال: يا محمد، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل، ما عدلت، فقال نبي الله ﷺ: ويلك، فمن ذا يعدل عليك بعدي، ثم قال نبي الله: احذروا هذا وأشباهه، فإن في أمتي أشباه هذا، يقرءون القرآن لا يجاوز تَرَاقيَهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم [1]، وذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول: والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه، إنما أنا خازن [2].

وهذا الذي ذكره قتادة شبيه بما رواه الشيخان عن أبي سعيد في قصة ذي الخُوَيصرة  -واسمه حُرْقوص- لما اعترض على النبي ﷺ حين قسم غنائم حنين، فقال له: اعدل، فإنك لم تعدل، فقال: لقد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل، ثم قال رسول الله ﷺ وقد رآه مقفياً إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يحقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين مُرُوق السهم من الرَّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء [3] وذكر بقية الحديث.

أسماء المنافقين موحشة مثل هذا الاسم "حرقوص"، وهذه الرواية التي ذكرها عن قتادة: وذُكر لنا أن رجلاً من أهل البادية...... إلى آخره مثل هذا الإسناد لا يصح، ثم ذكر قصة ذي الخويصرة، وهما واقعتان.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله: " ذَكَرَ كثيرٌ من أهلِ العلمِ أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في حرقوصَ بنِ زهيرٍ ذِي الخويصرةِ التميميِّ رأسِ المنافقينَ. قالوا: وَجَدَ النبيَّ ﷺ يُقَسِّمُ مالاً فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ اعْدِلْ؛ فإنك لَمْ تَعْدِلْ -قَبَّحَهُ اللَّهُ- وَقِصَّةُ ذِي الخويصرةِ معروفةٌ ثابتةٌ في الصحيحِ، ولكن الذي يظهرُ أن هذه الآيةَ ليست نازلةً فيه، وإن زَعَمَ كثيرٌ من كبراءِ المفسرينَ أنها نازلةٌ في ذِي الخويصرةِ، وإنما قُلْنَا إن الأظهرَ أنها نازلةٌ في غيرِه أن المعروفَ أن القسمةَ التي قال فيها حرقوصُ بنُ زهيرٍ التميميُّ المعروفُ بذي الخويصرةِ أصلُ الخوارجِ -قَبَّحَهُ وَقَبَّحَهُمُ اللَّهُ- أن ذلك في قَسْمِ النبيِّ لغنائمِ حنينٍ، قال ذلك فيه، وهذه الآيةُ يُصَرِّحُ اللَّهُ فيها بأنهم لَمَزُوهُ في قسْمِ الصدقاتِ وهي الزكواتُ والصدقاتُ غير الغنائم، فالأظهرُ أن الأصوبَ فيها هو ما قاله ابنُ جريجٍ -رحمه الله- وغيرُه أنها نَزَلَتْ في رجلٍ من الأنصارِ من المنافقينَ حَضَرَ النبيَّ   ﷺ يُقَسِّمُ مالاً من الصدقاتِ فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ، اعْدِلْ فإنك لم تَعْدِلْ -قَبَّحَهُ اللَّهُ- فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ فيه" [4].

وفي حاشية العذب النمير تعليقاً على كلام الشيخ الشنقيطي -رحمه الله: " الذي يظهر أنهما واقعتان متشابهتان:

الأولى: في قَسْم غنائم حنين، وذلك في الجعرانة حيث قال له رجل: ((يا محمد اعدل)) كما في حديث جابر -، عند البخاري (3138) ومسلم (1063).

الثانية: في قَسْمِ ذُهيبة بعث بها علي من اليمن والنبيُّ ﷺ في المدينة، وقد قسمها رسول الله ﷺ بين أربعة نفر، فقال رجل: يا رسول الله: اتق الله... الحديث، كما في حديث أبي سعيد الذي تقدم تخريجه قريبًا، وقد جاء في بعض الروايات عند البخاري ومسلم التصريح باسمه وهو ذو الخويصرة التميمي، وكذا في رواية ابن جرير (14/303) والواحدي في أسباب النزول ص249، وفيهما أيضًا التصريح بأن هذه الحادثة كانت سبب نزول الآية.

قال الحافظ في الفتح (8/ 68): "تنبيه: هذه القصة غير القصة المتقدمة في غزوة حنين ووَهمَ من خلطها بها" اهـ.

وقال في (12/ 293): "وقد ظهر أن المعترض في الموضعين واحد" اهـ.".

ثم قال تعالى مُنَبِّها لهم على ما هو خير من ذلك لهم، فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ فتضمنت هذه الآية الكريمة أدباً عظيماً وسرا شريفا، حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده، وهو قوله: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وكذلك الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسول وامتثال أوامره، وترك زواجره، وتصديق أخباره، والاقتفاء بآثاره.

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[سورة التوبة:60].

لما ذكر الله تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي ﷺ ولمْزهم إياه في قَسْم الصدقات بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يَكِلْ قَسْمها إلى أحد غيره، فجزّأها لهؤلاء المذكورين.

وإنما قدم الفقراء هاهنا لأنهم أحوج من البقية -على المشهور، لشدة فاقتهم وحاجتهم.

ورُوي عن ابن عباس -ا، ومجاهد، والحسن البصري، وابن زيد، واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير: هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا، والمسكين: هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس.

وقال قتادة: الفقير: من به زمانة، والمسكين: الصحيح الجسم.

قول ابن كثير -رحمه الله- هنا: لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي ﷺ ولمْزهم إياه في قَسْم الصدقات بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، هذا يسمى عند المفسرين علم المناسبة بين الآية والآية التي قبلها، ثم قال: ورُوي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابن زيد....... إلى آخره، وقال: واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو... هذا في الفرق بين الفقير والمسكين إذا ذكر المسكين منفرداً دخل في معناه الفقير، وإذا ذكر الفقير منفرداً دخل في معناه المسكين، بلا إشكال، لكن إذا ذكر الفقير والمسكين معا فهل هما بمعنى واحد أو أن المعنى يختلف؟ كثير من أهل العلم يقولون: هذا مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، يعني إذا اجتمعا في اللفظ الفقراء والمساكين افترقا في المعنى، صار الفقير له معنى والمسكين له معنى، و إذا افترقا يعني ذكر أحدهما اجتمعا يعني في المعنى. 

وخلاف العلماء في هذا كثير، ولا أعلم شيئا يمكن أن يحتج به يرفع هذا الخلاف، وكل طائفة تحتج لما ذهبت إليه ببعض الأمور التي تلتمسها، يقول هنا: اختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا، والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس، فهم مشتركون في الحاجة لكن على هذا القول قول ابن جرير، وقال به آخرون غير ابن جرير أيضاً، وهو منسوب لابن عباس، وبه قال الإمام الأزهري اللغوي المعروف باعتبار أنهما مشتركان في الحاجة، واختار ابن جرير والأزهري أن حال الفقير أشد؛ لأنهما نظرا إلى معنى المسكنة قال: المسكنة هي الذل، مذلة، وهذا الذل أتاه من مد يده، فيذهب إلى هذا، ويقوم يتكلم بالمسجد، ويتبع هذا، ويطرق باب هذا، فيحصل له ذل بسبب ذلك، وهذا الذل هو المسكنة، فصار الذي يسأل ذليلاً والذي لا يسأل يكون متعففا وهو الفقير. 

يقول: وقال قتادة: الفقير من به زمانة والمسكين صحيح الجسم يعني يشتركان في الحاجة لكن جعل الفقير هنا أشد من المسكين، ليس بعكس القول الأول، فالقول الأول لا يقول: إن المسكين أشد، المسكين يذهب ويطوف ويسأل ويحصل، وهنا جعل الفقير أشد، باعتبار أن فيه إعاقة، والمسكين صحيح الجسم لكنه ما عنده شيء، الفقير والمسكين، وهذا لا دليل عليه، وبعض أهل العلم كابن قتيبة يقول: المسكين أشد حالاً من الفقير، فالفقير قد يجد بعض الشيء، ولكنه لا يكفيه، والمسكين لا يجد شيئاً فكأنه تمسكن من شدة الحاجة، ظهر ذلك عليه، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقد يحتج هؤلاء ببيت من الشعر يقول:

أما الفقير الذي كانت حلوبته  ...........

إلى آخر البيت، يقول هذا عنده حلوبة فيسمى فقيراً، ومن يعكسون القضية ويقولون: الفقير أشد حاجة من المسكين يحتجون بقول الله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [سورة الكهف:79]، قالوا: عندهم سفينة ويؤجرون أو يشتغلون في البحر بالصيد، ولكنهم لا يحصلون كفايتهم، وإذا تأملت تجد أن هذه الاحتجاجات فيها نظر؛ لأنا قررنا في الأول أنه إذا ذكر أحد الاسمين دخل فيه الآخر، فقوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ يعني معناه: فقراء، وهكذا بيت الشعر هذا وإن كان لا يحتج به في هذا المعنى أصلاً، ولا يعرف هذا الشاعر، وما قيمة كلامه أصلاً حتى يرجح به بين الأقوال، لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وكثير من السلف يفسرون ذلك بقوله ﷺ: ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده التمرة والتمرتان [5]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام. 

فمثل هذا من الناحية العملية نحن نحتاج إلى أن نعرف أن الفقراء من مصارف الزكاة سواء كان يسأل أو لا يسأل، وهذا الذي يترتب عليه العمل، سواء كان يسأل الناس ويتعرض لهم أو يتعفف، والمتعفف أولى حينما نوازن، المتعفف أولى من غيره، يعني المصرف الواحد فيه أولويات حينما يقال مثلاً: وَالْغَارِمِينَ فأصحاب الديون يتفاوتون، فالذي لحقه دين وهو محبوس بدينه أولى من الطليق، ثم الذي لحقه دين بسبب التكثر يريد أن يكون تاجراً، ويستدين من أجل أن ينشىء مصانع، وينشئ ورشاً، ونحو هذا تكثراً، هو موظف وراتبه عشرة آلاف لكنه يستدين من هذا خمسمائة ألف، ومن هذا مليوناً، ومن البنك الفلاني خمسمائة؛ ليشتري مزرعة، ويشتري خمسين من الإبل، ويشتري مخبزاً، ويشتري محل منجرة، ومصنع ألمنيوم، ويركب سيارة قيمتها أربعمائة ألف، ثم بعد ذلك يتورط، فالعشرة الآلف لا تسدد، ويأتي ويطوف بورقة ويقول: يا جماعة أنا ركبتني الديون وأنا تعبت وأنا ما عاد أستطيع عجزت فمثل هذا لا يعطى من الزكاة، بخلاف من أصابته الديون في جائحة، أصابته الديون في أمور ضرورية من العلاج، أو من تحصيل قوت عياله، أو نحو هذا فمثل هذا أولى الناس بالزكاة.

ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية.

فأما "الفقراء"، فعن ابن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: لا تحل الصدقة لغَنِيٍّ ولا لذي مِرَّة سَويّ [6] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.

قوله: لا تحل الصدقة لغني وهذا معروف، ولا لذي مِرة سويٍّ يأتيك شاب عمره ثلاثين سنة ذي مرة أي قوي، وسَويّ يعني ليس به إعاقة، سليم الأعضاء، ويأتي ويقول: أعطوني من الزكاة، لماذا لا تعمل؟ قال: ما وجدت عملاً!! فمثل هذا ليس به بأس شاب نشيط، لا يُعطَى، وهو أيضاً لا يعذر بأخذها، لا تحل له صدقة التطوع إذا كان هو الذي يسأل، وذكر النبي ﷺ أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة، وهذا ليس منهم.

وأما المساكين: فعن أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ قال: ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس، فتردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجدُ غنًى يغنيه، ولا يُفْطَن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا [7]، رواه الشيخان.

وأما العاملون عليها: فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله ﷺ الذين تحرم عليهم الصدقة، لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث: أنه انطلق هو والفضل بن عباس -ا- يسألان رسول الله ﷺ ليستعملهما على الصدقة، فقال: إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس [8].

والعاملون عليها كم يعطون؟ ومن أين يعطون؟ من أهل العلم من قال: إنهم يعطون الثمن وهو قول الشافعي -رحمه الله، باعتبارهم صنفاً من الأصناف الثمانية، فتقسم بالسوية فيعطون الثمن، وهذا فيه نظر، ويقابله قول من قال كالإمام مالك -رحم الله الجميع: إنهم يعطون من بيت المال، وهذا فيه إشكال؛ لأن الآية صريحة في أنهم يعطون من الزكاة إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ...، هم يعطون من الزكاة. 

والأقرب -والله تعالى أعلم- أنهم يعطون من الزكاة بحسب عملهم، حسب ما يؤدون من العمل بما يصلح مما يليق، كما يقال: أجرة المثل، فيقدر لهم شيء من هذا يعطونه، والزكوات لا تقسم بالسوية إلى ثمانية أقسام، ولا يجب أن يستوعب بها الأقسام الثمانية، يعني عندك زكاة لا يجب أن تقسمها ثمانية أقسام وتعطي كل هذه الأصناف الثمانية، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، بل نقل بعض أهل العلم الإجماع كالإمام مالك -رحمه الله- على أنه لا يجب استيعاب هذه الأصناف الثمانية. 

ولكن هذا الإجماع فيه إشكال؛ لأن من أهل العلم من خالف في هذا كالشافعي -رحمه الله- فإنه يرى أنها تستوعب، لكن ابن عبد البر -رحم الله الجميع- حمل قول الإمام مالك على أن ذلك من إجماع الصحابة: أنه لا يجب الاستيعاب، وهذا الذي دل عليه القرآن والسنة، فمن تأمل قول النبي ﷺ مثلاً في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن: وأعْتادَه في سبيل الله [9]، فمن أهل العلم من فسر هذا بأنه احتسب الزكاة في هذا الذي احتبسه في سبيل الله على هذا التفسير، وهو أحد الأقوال في معناها ويحتج به على أن الزكاة تصرف في مصرف واحد، يمكن هذا، فجعلها في سبيل الله وهو الجهاد، فلا إشكال في أن تصرف الزكاة في باب من هذه الأبواب، والله تعالى أعلم.

  1. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (5562)، وقال محققوه: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف.
  2. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (8155)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [سورة المعارج:4]، وقوله -جل ذكره: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [سورة فاطر:10]، برقم (6995)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1063).
  4. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (5/581-582).
  5. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31]، برقم (4265)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يُفطن له فيتصدق عليه، برقم (1039).
  6. رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، برقم (1637)، والنسائي، كتاب الزكاة، باب إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها، برقم (2597)، والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة، برقم (652)، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب من سأل عن ظهر غنى، برقم (1839)، وأحمد في المسند، برقم (6530)، وقال محققوه: "إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير ريحان بن يزيد العامري، وثقه ابن معين وابن حبان، وقال حجاج، عن شعبة، عن   سعد بن إبراهيم وهو الراوي عنه سفيان: هو الثوري"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7251).
  7. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31]، برقم (4265)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه، برقم (1039).
  8. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة، برقم (1072).
  9. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، برقم (983).

مواد ذات صلة