الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[18] من قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ} الآية 100 إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية 104
تاريخ النشر: ١٤ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 4442
مرات الإستماع: 6484

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة:100].

يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدَّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم.

قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية.

وقال أبو موسى الأشعري -، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة: هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله ﷺ.

فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم، ولا سيما سيدُ الصحابة بعد الرسول ﷺ وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديقَ الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويَسُبُّونهم -عياذًا بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبُّون من ؟

وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن ، ويسبون من سبه الله ورسوله ﷺ، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهؤلاء هم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ أقوال المفسرين في بيان المراد من وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ متعددة مختلفة فمنهم من قال: هم أهل بدر، ومنهم من قال: من صلى إلى القبلتين، وهنا أيضاً قال: من شهد بيعة الرضوان إلى غير ذلك من الأقاويل المتعددة.

وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ يدخل فيهم أهل بدر ومن صلى إلى القبلتين، ويدخل فيهم أهل بيعة الرضوان، والله يقول: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ [سورة الحديد:10] وهذا الفتح كثير من أهل العلم يقولون: هو صلح الحديبية، وبعضهم فسره بفتح مكة. 

ولا شك أن الصحابة على مراتب، فأعظمهم الخلفاء الأربعة، ثم بعد ذلك بقية الستة من العشرة، ثم سائر أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، فهؤلاء هم خيار الصحابة وأفضلهم الذين شهد الله لهم بالرضا، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ من أسلم بعدهم من الصحابة ومن جاء بعدهم ممن لم يدرك النبي ﷺ إلى يوم القيامة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ كما قال الله في سورة الحشر حينما ذكر الطوائف الثلاث: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ [سورة الحشر:8]، ثم بعد ذلك قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ [سورة الحشر:9]، ثم بعد ذلك قال: وَالَّذِينَ جَاءُُوا مِن بَعْدِهِمْ [سورة الحشر:10] يدخل فيها من أسلم بعد ذلك إلى يوم القيامة من العرب وغيرهم.

وهكذا قوله -تبارك وتعالى- في سورة الجمعة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [سورة الجمعة:3] فإن الآخرين في سورة الجمعة منهم من فسره بمن أسلم بعد هذا، ومنهم من فسره بالتابعين، ومنهم من فسره بفارس، قال وهكذا: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ يعني في الزمان ما أدركوهم، يأتون من بعدهم، فالشاهد أن هذه الآيات جميعاً تذكر هؤلاء الذين يأتون من بعد المهاجرين والأنصار -رضي الله تعالى عن الجميع.

وهناك في سورة الحشر وصفهم بأنهم يقولون: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحشر:10]، فهذا يدل على كونهم يدعون لهم ولا يحملون غلًّا عليهم، ويدل على أنهم على طريقهم ومنهاجهم، وأنهم يقتفون آثارهم، وكلام أهل العلم في هذا كابن عمر وغير ابن عمر حينما يسمعون رجلاً يتكلم في أصحاب النبي ﷺ يقولون: هل أنت من السابقين الأولين؟ هل أنت من فقراء المهاجرين؟ يقول: لا، هل أنت من: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الأنصار؟ فيقول: لا، فيقال: وأنا أشهد أنك لست من رضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إلى آخر ما تكلم عنها.

رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ على ظاهره إثبات صفة الرضا لله ، ولا يصح أن يفسر بمجرد لازمه كأن يقال: جازاهم وأحسن إليهم، وأثابهم رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ  يعني أثابهم وأجزل لهم المثوبة، وأحسن لهم العاقبة، فرضوا عنه، كما جاء في الحديث في الشهداء الذين قتلوا في بئر معونة "أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا". 

فـرَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير {تجري من تحتها الأنهار}، وبناءً على القول الراجح في الأحرف السبعة وأن عثمان جمع الناس على حرف واحد هو حرف قريش، وأنه أمر الناس حينما كتب في المصاحف أن يقتصروا على القراءة التي بها يقرءون ويحرقوا ما عداها من صحيفة ومصحف، فكانوا يقرءون بتلك المصاحف وهي على طريقة الكتابة آنذاك غير منقطة ولا مشكولة، فدخل في الأحرف السبعة ما يحتمله الرسم العثماني، وهو ما عرف بعد ذلك بالقراءات. 

وهذه التي في هذا المثال في هذه الآية تَجْرِي تَحْتَهَا و{تجري من تحتها} هذه كتبها عثمان في مصحف هكذا، وفي مصحف هكذا، وهذا يدل على أنها من حرف قريش، فما كان من حرف قريش كهذه ومثل: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [سورة النحل:44]، و{بالزبور} فظاهر هذا يكون كله مرجعه إلى حرف قريش فكتبها بالمصحف بهذه اللفظة وباللفظة الأخرى في مصحف آخر.

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ[سورة التوبة:101].

يخبر تعالى رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أيضا منافقون مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ أي: مرنوا واستمروا عليه، ومنه يقال: شيطان مريد ومارد، ويقال: تمرد فلان على الله، أي: عتا وتجبر.

مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ كلمة مرد تدل على التجرد، تقول: أرض مرداء، يعني لا نبت فيها، وفرس أمرد يعني لا شعر عليه، وغصن أمرد يعني لا ورق فيه، فهذا معنى المَرَد مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ كأنهم تجردوا للنفاق يعني أنهم منافقون نفاقاً خالصاً، فمن الناس من يكون فيه شعبة من نفاق، عنده نفاق، كما قال النبي ﷺ: أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها[1]. 

فالمؤمن قد يجمع بين الإيمان وشيء من صفات المنافقين، لكن هؤلاء مردوا على النفاق يعني أنهم خلّص، واللفظة هذه تشعر أيضاً بأنهم قد حذقوا وتمرسوا على التلون؛ لأن لفظة مرد كما تدل على التجرد تدل على ملاسة وليونة، فهذا يعطيك -مثل جلد الحرير- ملمساً ناعماً ويستطيع في كل مقام أن يتحدث باللغة التي تناسب هذا المقام، ويتلون بحسب مقتضى الحال، متمرس، وليس أخرق يمكن أن يأتي بواقع ويخبط ويخلط في المجلس الواحد، وإنما يتكلم بطريقة مناسبة، إذا تكلم أعجبك كلامه كما قال الله : وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [سورة المنافقون:4]، فهذا يحسن التمثيل، يحسن النفاق بحيث لا يستطيع كثير من الناس أن يعرفوا نفاقه، أو أن يثبتوا عليه ذلك.

وقوله: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ لا ينافي قوله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ الآية [سورة محمد:30]؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يُعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء، وتقدم في تفسير قوله: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [سورة التوبة:74] أنه ﷺ أعلَمَ حُذَيفةَ بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقًا، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم، والله أعلم.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في هذه الآية أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس، فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك، قال نبي الله نوح : وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الشعراء:112]، وقال نبي الله شعيب -: بَقِيَّتُُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [سورة هود:86] وقال الله لنبيه ﷺ: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.

بمعنى أن هذا الأثر الذي هو مستنبط من هذه الآية يدل على معنى عظيم وهو الطريقة التي كان عليها السلف ، أنه ما كان شغلهم في الأشخاص فلان فيه وفلان ما فيه، فلان فعل وفلان ترك، ثم يختلفون هل هو كذلك أو ليس كذلك، ثم بعد ذلك يتعادون وكل واحد يتهم الآخر، ما كان السلف بهذه الطريقة، كان السلف يحذرون مما حذر الله منه، وينكرون المنكرات، ولا يكون شغلهم بعد ذلك هل فلان بفعله هذا فسقَ أو لا؟ هل اجتمعت فيه الشروط وانتفت الموانع أو لا؟ فواحد يقول: فسق، والثاني يقول: لم يفسق، ثم ينقسمون إلى فرقتين كل فرقة تلعن الثانية، فالسلف كانوا على غير هذه الطريقة، فهذه طريقة الجهال وأصحاب الهوى، السلف ما كانوا بهذه الطريقة.

يأتي الشاب ما ثني ركبته في مجلس علم يوما واحدا، ولا رأيته في يوم واحد يطلب العلم ومعه دفتر! فلان كافر أو لا؟! أسئلة كلها عن العذر بالجهل وتكفير المعين، تسأله تقول: ماذا درست من العلم؟ وعلى من قرأت؟ ما هي الكتب التي درستها؟ يقول: ما علاقة هذا بهذا؟ مع أنه يسأل عن كبار العلم؟ مسائل تتعلق بالعذر بالجهل، وتكفير المعين.

فالسلف يحذرون مما حذر الله منه، هذا لا يجوز، هذا حرام هذا كفر، ولذلك لما وقعت مسألة القول بخلق القرآن حذروا منها، وأفتى خمسمائة من علمائهم بكفر من قال بخلق القرآن، لكن ما تحولوا بعد ذلك إلى معركة فيما بينهم وانقسموا إلى سبعين فرقة، هل المأمون كافر أو لا؟ هل المعتصم كافر أو لا؟ وهل المتوكل كافر أو لا؟ وكذلك ابن أبي دؤاد كافر أو لا؟ أبداً! هذا لم يحصل بينهم، هذه أمة واحدة مجتمعة. 

فهذه المسائل يعني الحكم على الإنسان المعين أنه فسقَ أو صار مبتدعاً، أو أنه صار كافراً يحتاج إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، ولستَ معنياً أنت بهذا، ويقال لهذا الشاب: لستَ معنياً بهذا، لا حاجة لك بهذا الدفتر، اطلب العلم، ادرس الأصول الثلاثة، والقواعد الأربعة، ومسائل الجاهلية، وكتاب التوحيد، والواسطية، والحموية، ادرس العلم، ادرس الحديث والأصول والتفسير، وهذه العلوم كلها مترابطة، وآخر ما تدرس هي مسائل العذر وما العذر.

والذين يكتبون في هذا غالباً الذي يقرأ وهو خالي الذهن يقرأ لهذا، هذا كلام شيخ الإسلام، وكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكلام من الدرر السنية، هذا كلام ممتاز، لكن في كلام آخر لهم ونفس العالم له كلام آخر في موضع آخر، هو في مقام الرد يقول كلاماً، وفي مقام التقعيد والتنظير يقول كلاماً آخر، هذه الرسالة كتبت في مناسبة معينة للتحذير من كذا، فما تجعل هي القاعدة فيأتي الذي هو خالي الذهن يقول فقط هذا الكلام!! هذا كلام العلماء صريح!!، ويأتي الشخص الذي في الضفة الأخرى، ويأتي بكلام آخر لهم ينقله من كتبهم، يقول: هذا كلامهم، ويأتي من يقرأ وهو خالي الذهن صادف قلباً خاوياً فتمكنا، هذه مشكلة! 

فلو اشتغلنا بهذا نبين للناس الحق ودين الله الذي بعث به رسول الله ﷺ ونحذرهم ما حذرهم الله منه، وبعد ذلك لا نبدأ نمسك هذا وهل تنطبق عليه الشروط؟ هو فعل هذا أو ما فعله؟ ويأتي الإنسان ما عنده مبادئ من العلم، ويريد أن يكون حاكماً، وقاضياً ومنفذاً أحياناً!! فهذا خطأ! خطأ! وافتراق الناس على أن فلاناً جيد أو غير جيد كله من عمل الشيطان، لا يفعله إلا من كان جاهلاً لا يعلم ما يجب به الافتراق ونحو هذا، أو عنده هوى!! وأحياناً يجمع بين الجهل والهوى، مستعد أن يرمي من خالفه في هذا بكل قبيحة، فهذا الكلام عن قتادة -رحمه الله- كلام جيد مفيد. والله المستعان.

وقال مجاهد في قوله: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ يعني: القتل والسباء وقال -في رواية: بالجوع، وعذاب القبر.

 يعني هنا سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ الله لم يبين لنا هاتين المرتين؛ لأنه لا حاجة لنا بهذا، هو سيتولى تعذيبهم وليس لنا ذلك فحسابهم على الله ، وبعض العلماء يقول: ما يحصل لهم من التعذيب في الدنيا بالأموال والأولاد، والمرة الثانية في عذاب النار، وبعضهم يقول: المرة الثانية هي عذاب القبر؛ لأن الله قال: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ يعني عذاب النار. 

والذين قالوا: إن المرة الثانية هي عذاب النار، قالوا: إنهم يعذبون عذاباً خاصاً، المرة الثانية في النار ثم بعد ذلك يردون إلى عذاب عظيم، إلى العذاب الشامل عذاب أهل النار، وبعضهم يقول: يعذبون في النار ثم يردون إلى الدرك الأسفل منها، وبعضهم يقول: العذاب في الدنيا أخذ الزكاة منهم، وفضيحتهم، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة، ولا حاجة إلى تعين هذا، ولا دليل على تعين هذه الأمور، والله أخبرنا إنه سيعذبهم مرتين، يحتمل أن يكون هذا ما يحصل لهم في الدنيا من الفضيحة، وكراهية المؤمنين لهم، وأنهم يشعرون دائماً بهاجس وقلق وخوف وانزعاج فلا تقر أعينهم، ويعذبون بهذه الأموال والأولاد، والتي من أجلها وقعوا في النفاق، والمرة الثانية عذاب القبر، يحتمل هذا، لكن لا توجد حاجة إلى تحديد هذه الأمور، والله لم يحددها.

ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ، وقال عبد الرحمن بن زيد: أما العذاب في الدنيا فالأموال والأولاد، وقرأ قول الله فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا [سورة التوبة:85].

ولهذا ابن جرير -رحمه الله- قرر أن التحديد لا دليل عليه، وأن الاحتمال قائم، لكنه ما يقول لا يبعد أن يكون المراد عذابهم في الدنيا بأموالهم وأولادهم، وفضيحتهم وعذابهم الثاني في القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ وهو عذاب النار.

فهذه المصائب لهم عذاب -وهي للمؤمنين أجر- وعذاب في الآخرة في النار ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ قال: النار.

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[سورة التوبة:102].

لما بَيَّن تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغَزَاة رغبة عنها وتكذيبًا وشكا، شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، فقال: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أي: أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين رَبِّهم، ولهم أعمال أُخرَ صالحة، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه.

وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلِّطين المتلوثين.

وقال ابن عباس: وَآخَرُونَ نزلت في أبي لُبابة وجماعة من أصحابه، تخلفوا عن غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه، وقيل: وسبعة معه، وقيل: وتسعة معه، فلما رجع النبي ﷺ من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله ﷺ، فلما أنزل الله هذه الآية: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أطلقهم النبي ﷺ، وعفا عنهم.

وروى البخاري عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال: قال رسول الله ﷺ لنا: أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلَبِن ذهب ولَبِن فضة، فتلقانا رجال شَطْرٌ مِن خلقهم كأحسن ما أنت رَاءٍ، وشطْرٌ كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فَقَعُوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذا منزلك، قالا: أما القوم الذين كانوا شَطْرٌ منهم حَسَن وشطرٌ منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا، فتجاوز الله عنهم[2]، هكذا رواه البخاري مختصرًا، في تفسير هذه الآية.

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[سورة التوبة:103، 104].

أمر الله تعالى رسوله ﷺ بأن يأخُذَ من أموالهم صدقَة يطهرهم ويزكيهم بها، وهذا عام وإن أعاد بعضُهم الضمير في "أموالهم" إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحًا وآخر سيئا.

يعني خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أي من أموال المؤمنين، صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا يعني الزكاة، وبعضهم قال: إن هذا يرجع إلى ما قبله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، وهذه الصدقة بعضهم يقول: هي صدقة خاصة يتطهرون بها كما جاء عن كعب بن مالك أنه بذل ماله لرسول الله ﷺ لما تاب الله عليه قال: "إن من توبة الله عليّ أن أنخلع من جميع مالي"[3].

فالشاهد أن تصدقهم يكون له هذا الأثر تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، والضمير "الهاء" في الموضعين تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ قيل: يرجع إلى النبي ﷺ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ أنت، وبعضهم يقول: إن الأول للصدقة خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ أنت بأخذك إياها تزكيهم بها، والقاعدة أنه مهما أمكن توحيد مرجع الضمائر فإنه أولى من تفريقه، وعلى هذه القاعدة يمكن أن يقال: إن الضمير في الموضعين يرجع إلى النبي ﷺ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا أنت، والقول الآخر أيضاً تحتمله الآية.

ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون، وإنما كان هذا خاصًا برسول الله ﷺ؛ ولهذا احتجوا بقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً الآية وقد رَدَّ عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد الصديقُ أبو بكر وسائر الصحابة، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة، كما كانوا يُؤدونها إلى رسول الله ﷺ، حتى قال الصديق: والله لو منعوني عِقالا -وفي رواية: عَناقًا- يُؤدُّونه إلى رسول الله ﷺ لأقاتلنهم على منعه.

وقوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي: ادع لهم واستغفر لهم، كما رواه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله ﷺ إذا أُتِيَ بصدقة قوم صَلَّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صَل على آل أبي أوفى[4].

وقوله: إنّ صَلاتك: قرأ بعضهم: "صلواتك" على الجمع.

هذه قراءة الجمهور خلافاً لحمزة وحفص والكسائي قرءوه بالإفراد، ولا منافاة بين القراءتين كلاهما يرجع إلى شيء واحد؛ لأن صَلاتك صلاة هذا مفرد مضاف إلى كاف الخطاب، مضاف إلى معرفة، والمفرد إذا أضيف فإن ذلك يكون بمعنى الجمع، يعني يكسبه العموم فـ صَلاتك و"صلواتك" المعنى واحد.

وآخرون قرءوا: إِنَّ صَلاتَكَ على الإفراد.

سَكَنٌ لَهُمْ قال ابن عباس: رحمة لهم.

يعني السكن هو ما تسكن إليه النفس وتطمئن به، فتسكن نفوسهم بما يحصل لهم من الرحمات بسبب هذه الصلوات وهي دعاء النبي ﷺ لهم.

وقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي: لدعائك عَلِيمٌ أي: بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له.

وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها يحطُّ الذنوب ويمحصها ويمحقها.

من أهل العلم من يقول: إن هذا الخطاب أَلَمْ يَعْلَمُوا لغير التائبين يحرضهم على التوبة يحثهم عليها، وبعضهم يقول: إن هذا لهؤلاء الذين تابوا، الخطاب للذين تابوا قبل أن يقبل توبتهم كما سيأتي في آخر السورة لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [سورة التوبة:117] إلى أن قال: وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ [سورة التوبة:118] فخصها بعض أهل العلم بهؤلاء، ومن أهل العلم -كابن جرير- من حملها وخصها بالذين أوثقوا أنفسهم، فالصحابة الذين تخلفوا الثلاثة جاءوا واعتذروا إلى النبي ﷺ وبقوا ينتظرون، ومن الصحابة من أوثق نفسه حتى يتوب الله عليه، يعني لا يفك وثاقه حتى يتوب الله عليه، فابن جرير -رحمه الله- حملها على هذا المعنى.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ، يعني ابن جرير -رحمه الله- يقول: لماذا يفعلون هذا بأنفسهم ويقولون لا نطلق وثاقنا حتى يطلقنا رسول الله ﷺ؟ كان يكفيهم أن يتوبوا إلى الله، فإن التوبة تكون لله وليسوا بحاجة إلى هذا، هكذا خصها بهؤلاء، وعلى أساس هذا هم اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.

وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربِّيها لصاحبها، حتى تصير التمرة مثل أحد، كما جاء بذلك الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مُهره، حتى إن اللقمة لتَصير مثل أحد[5]، وتصديق ذلك في كتاب الله : أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ، وقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [سورة البقرة:276].
  1. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (34)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (58).
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ  [سورة التوبة:102]، برقم (4397).
  3. رواه النسائي، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا نذر ثم أسلم قبل أن يفي، برقم (3823).
  4. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة، برقم (1078).
  5. رواه الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة، برقم (662)، وقال الألباني: صحيح لغيره، في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (856).

مواد ذات صلة