السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[19] من قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا} الآية 105 إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} الآية 108
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 5257
مرات الإستماع: 10469

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[سورة التوبة:105].

قال مجاهد: هذا وَعيد، يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرضُ عليه -تبارك وتعالى، وعلى الرسول ﷺ، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [سورة الحاقة:18]، وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [سورة الطارق:9]، وقال وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [سورة العاديات:10] وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا، وقال البخاري: قالت عائشة، ا: إذا أعجبك حُسن عمل امرئ فقل: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فقول مجاهد: إن هذا وعيد إذا ضم إليه قول عائشة -ا- نخرج من ذلك بأنه وعيد للمنحرفين الظالمين، وهو حث وتنشيط وتبشير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، فالآية فيها هذا الأمر العام للجميع وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ اعمل وسيظهر هذا العمل إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والنبي ﷺ قال: أنتم شهداء الله في الأرض[1]، فالله مطلع على الأعمال، والنبي ﷺ في حياته يرى عملكم فيما يراه منه أو يبلغه، ويراه أهل الإيمان، فمن الناس من يكون مُجداً في طاعة الله -تبارك وتعالى- فيكون ذلك تنشيطاً له، ومن الناس من يكون مقصراً في طاعة الله مُجداً في معصيته ومخالفة أمره فهذا وعيد له؛ ليرعوي، فإن الله مطلع عليه، وأهل الإيمان يرون عمله ويكرهونه، ويدل على ذلك حديث أنس التالي.

وقد ورد في الحديث شبيه بهذا، روى الإمام أحمد -رحمه الله- عن أنس ، أن رسول الله ﷺ قال: لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له؟ فإن العامل يعمل زمانًا من عمره -أو: بُرهَة من دهره- بعمل صالح لو مات عليه لدخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئًا، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ، لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحًا، وإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله قبل موته، قالوا: يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه[2] تفرد به أحمد.

هذا الحديث الصحيح يدل على معنى كبير وهو أن الناس يعملون ثم بعد ذلك تنكشف بعض الحقائق التي قد تكون خافية على الناس، وذلك من جهة حال هذا الإنسان، وما يصير إليه، فعلّمنا النبي ﷺ لئلا نتعلق بأحد من الناس، أو نبالغ في الثناء عليه أو نجعله إماماً نذب عن أقواله، ونشتغل بالمدافعة عنه، وبتقديمه ومحبته، وتقديسه وإطرائه، ثم بعد ذلك تتغير الحال ويصير هذا الإنسان الذي كان يعمل عملاً صالحاً يعجب منه الناس أصبح يعمل بخلاف ذلك فيُسقَط بأيدي هؤلاء الناس ويحبط كثيرون!! ولهذا قال ابن مسعود : "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"[3]، ولذلك:

أحبِبْ حبيبَك هوناً ما عسى أن يكون بغيضَك يوماً ما

فالذين يبالغون في المدح، ويبالغون في المحبة والإطراء والتقديم فهؤلاء قد يندمون على ما بذلوا من جهود كبيرة وأضاعوا من أوقات طويلة بالدفاع عن فلان، وبيان منزلة فلان وما شابه ذلك، فالله لا يضيع عنده شيء، والأمة تعرف الصادق من الكاذب ومن يمثّل، يعني ليست النائحة الثكلى كالمستأجَرة، لابد أن يظهر ويتبين ولو بعد حين، والله المستعان.

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[سورة التوبة:106].

قال ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة، والضحاك وغير واحد: هم الثلاثة الذين خلفوا، أي: عن التوبة، وهم: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد، كسلا وميلا إلى الدَّعَة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكًّا ونفاقا، فكانت منهم طائفة رَبَطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لُبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية، وهي قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الآية [سورة التوبة:117]، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ الآية [سورة التوبة:118]، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك.

وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي: هم تحت عفو الله، إن شاء فعل بهم هذا، وإن شاء فعل بهم ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبه، وهو عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، حكيم في أفعاله وأقواله، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

هنا في هذا التفسير الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذا المعنى من أحسن ما قيل فيها، يعني هناك قال الله : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فحُمل على أولائك الذين ربطوا أنفسهم بالسواري، وقد جاءت بعض الروايات التي تصح من مجموع طرقها، وتدل على هذا المعنى، وهناك من أُخّر أكثر من ذلك كما هو معروف في حال الثلاثة وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وأولائك قال فيهم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [سورة التوبة:103].

والروايات الواردة في هذا كثيرة لكن من هذه الروايات مثلاً: عن ابن عباس عن طريق علي بن أبي طلحة وهذا إسناد حسن، قال: جاءوا بأموالهم يعني أبا لبابة وأصحابه حين أطلقوا، هم أوثقوا أنفسهم فنزلت توبتهم فأُطلقوا فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، قال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا فهذه غير الزكاة، وإنما هي صدقة، وَتُزَكِّيهِم بِهَا قال: يعني بالزكاة، يقول ابن جرير: يعني الزكاة طاعة الله والإخلاص وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يعني استغفر لهم.

فالشاهد أن هؤلاء هم الذين اعترفوا بذنبهم، ثم بعد ذلك جاء هؤلاء وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ قال: أي مرجئون لأمر الله وقضائه، بمعني مؤخرون، ثم ذكر الأقوال في هؤلاء، ومما ذكر أن هؤلاء أناساً ندموا على ما فعلوا، ولم يعتذروا عند قدوم النبي ﷺ ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجأ أمرَهم إلى أن صحت توبتهم، فتاب الله عليهم ثم ذكر الأقوال في هذا.

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ[سورة التوبة:107، 108].

 وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا هذه قراءة الجمهور بالواو، وفي القراءة الأخرى قراءة ابن عمر وأهل المدينة الَّذِينَ اتَّخَذُوا بدون واو، و ذلك يرجع إلى حرف قريش، يعني ما كان بحرف قريش كتبه عثمان في مصحف هكذا، وفي مصحف هكذا؛ لأنه جمع الناس على حرف واحد، وهنا قال: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا تكون جملة مستقلة مستأنفة، ويكون الاسم الموصول "الذين" مبتدأ، والخبر اختلفوا فيه، فبعضهم قال: لاَ تَقُمْ فِيهِ الخبر، وقيل غير ذلك.

والاتخاذ بمعنى الإعداد والارتقاب وما شابه ذلك من المعاني، وبعضهم يزيد عليه، يقول: كلمة الاتخاذ بمعنى الإعداد ولكنه إعداد بعناية، يعني ليس مطلق الإعداد، وإنما إعداد بعناية، إعداد خالص تقول: "اتخذت فلاناً خليلاً"، و"اتخذت فلاناً صديقاً"، و"اتخذت الكتاب جليساً" وهكذا، الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا هذا يدل على أنهم اعتنوا بهذا المسجد، وصاروا يقضون أوقاتهم فيه، ويتخلفون عن رسول الله ﷺ.

اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا ضرراً يعني مضارة، فهم أرادوا أن يفرقوا الناس عن مسجد قُباء؛ لأن هذا المسجد كان قريباً من قُباء، فأرادوا تفريق الناس عنه، وبعض أهل العلم -كابن جرير- يقول: أرادوا تفريق الناس عن مسجد رسول الله ﷺ، والمشهور أنهم أرادوا تفريقهم عن مسجد قباء ولا يمتنع هذا وهذا، فهم يفرقون الناس الذين يأتون إلى مسجد النبي ﷺ يصلون معه، والذين يصلون في قباء لربما جذبوا طائفة منهم فـ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بهذا الاعتبار، يعني يصلون معهم ويفرقون الجماعة.

وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ فالإرصاد بمعنى الإعداد أو الارتقاب، وبعضهم يزيد عليه أن يكون ذلك بعداوة حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ، يحتمل أن يكون يعنى به أهل النفاق الذين حاربوا اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ يعني من قبل بناء المسجد. 

وجاء في كثير من الروايات أن المقصود بهذا هو أبو عامر الراهب، هذا الرجل كان محسوباً على الأنصار، وكان قد تنصر قبل الإسلام، وتعبد حتى لقب بالراهب، فلما جاء النبي ﷺ والإسلام لم يقبل الإسلام وذهب إلى المشركين في مكة بعد غزوة بدر لما انتصر المسلمون ذهب يحرض المشركين!! وجاء معهم في غزوة أحد، ووعدهم عند التقاء الصفين أنه سيخرج ويعرفه قومه، ثم بعد ذلك يدعوهم إلى الالتحاق بجيش المشركين!! وعندئذ تحدث الهزيمة للمسلمين قبل القتال!! يلتحق الأنصار به وكذا، ويقال: إنه الذي حفر الحُفر بميدان المعركة بين الصفين قبل بدئها فسقط النبي ﷺ في إحدى الحفر وشج وجهه ﷺ وكسرت رباعيته اليمنى السفلى. 

فالشاهد أن أبا عامر الراهب ظهر لهم في يوم أحد وقال لهم: أنا فلان وكذا فسبوه وأقذعوا في سبه وشتمه وكذا، فخاب ظنه، وقال للمشركين: لقد أصاب قومي بعدي شراً، يعني ما هم بالقوم الذين كنت أعرفهم يثقون بي ويقدرون عبادتي وتنسكي، فالشاهد أن الرجل بعد ذلك ذهب إلى الروم لما رأى أن المشركين ما حصلوا كبير طائل، ولا يمكن أن يستأصلوا المسلمين ذهب إلى الروم يطلب منهم المدد بجيش يأتي به إلى المدينة لاستئصال المسلمين!! وقال للمنافقين: اتخذوا لكم مكاناً تتوجه إليه الرسل، يعني والكتب ليرسلها لهم، مكان معين معقل يجتمعون فيه، بحيث يكون هناك تجمع، انحياز، إذا أرسل مندوباً أو أرسل وفداً يأتون إلى هذه المجموعة المنحازة، وفي ذلك الوقت ما يمْكن هذا إلا أن يظهر بصورة مسجد!! فوضعوا لهم مسجداً وطلبوا من النبي ﷺ أن يصلي لهم فيه؛ من أجل أن يكون هذا المسجد مُقرًّا من قبل النبي ﷺ ولا شُبه فيه، وكان النبي ﷺ خارجاً إلى تبوك فآجلهم إلى أن يرجع، ثم أوحى الله إليه عند مقدمه إلى المدينة بحال هذا المسجد وأهله فأُهدم وأحرق.

سبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله ﷺ إليها رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهبُ.

بعد ذلك صار يسمى أو يلقب بأبي عامر الفاسق.

وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية وقرأ علْم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قَدم رسولُ الله ﷺ مهاجرًا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شَرِق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش فألَّبهم على حرب رسول الله ﷺ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله، وكانت العاقبة للمتقين.

وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله ﷺ، وأصيب ذلك اليوم، فجرح في وجهه وكُسِرت ربَاعِيتُه اليمنى السفلى، وشُجَّ رأسه -صلوات الله وسلامه عليه.

وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبُّوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شَر، وكان رسول الله ﷺ قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرَّد، فدعا عليه رسول الله ﷺ أن يموت بعيدًا طريدًا، فنالته هذه الدعوة.

وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحد، ورأى أمرَ الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل، ملك الروم، يستنصره على النبي ﷺ، فوعده ومَنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويُمنّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله ﷺ ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا يقدم عليهم فيه مَن يقدم من عنده لأداء كُتُبه ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي ﷺ إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله ﷺ أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته -، فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله.

فلما قفل راجعاً إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضِّرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم -مسجد قُباء- الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله ﷺ إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه المدينة، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية: وهم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر، ابنوا مسجدًا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتِي بجنود من الروم وأخرج محمدًا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي ﷺ فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله : لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إلى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

في ذلك الزمان أفضل جيل ورأوا النبي ﷺ وعاشروه، وعرفوا أحواله، وصدقه، ومع ذلك ينتظرون الروم متى يأتون حتى ينشروا لهم الحرية!! -نسأل الله العافية، في ذلك الزمان فلا يستغرب من المنافقين في أي عصر من العصور إذا كان هذا في زمن النبي ﷺ، وهذه الجهود والمحاولات فكيف بغيره من الأزمان؟! فما على المؤمن إلا أن يعمل بطاعة الله ويجد ويجتهد في نشر دينه، والله يوفق من يشاء إلى ما شاء فيستعمل أقواماً في طاعته، ويخذل آخرين فيكونون من أولياء الشيطان وحزبه، والله المستعان، نسأل الله العافية.

وقوله: وَلَيَحْلِفُنَّ أي: الذين بنوه إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى أي: ما أردنا ببنيانه إلا خيرًا ورفقًا بالناس، قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أي: فيما قصدوا وفيما نوَوا، وإنما بنوه ضِرارا لمسجد قباء، وكفرا بالله، وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الفاسق، الذي يقال له: "الراهب" -لعنه الله.

وقوله: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا نهيٌ له ﷺ، والأمة تَبَع له في ذلك عن أن يقوم فيه، أي: يصلي فيه أبدا.

النهي عن القيام يستلزم النهي عن الصلاة، فالصلاة يقال لها: قيام كقيام الليل، قام ليلة، قام يصلي وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه[4] فلا إشكال في هذا.

ثم حثه على الصلاة في مسجد قُباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى، وهي طاعة الله، وطاعة رسوله، وجمعا لكلمة المؤمنين ومَعقلا وموئلا للإسلام وأهله؛ ولهذا قال تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: صلاة في مسجد قُباء كعُمرة[5].

الحافظ ابن كثير يرى أنه مسجد قباء، باعتبار السياق، والسياق ظاهر أنه في مسجد قباء، والقول بأنه مسجد قباء قال به جماعة من السلف، ومروي عن ابن عباس والضحاك، والحسن، والشعبي، وابن جرير -رحمه الله- يقول: إنه مسجد النبي ﷺ، وهذا قال به طائفة، وبناءً على ذلك فسر قوله -تبارك وتعالى: اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بمعنى أنهم يفرقون الناس عن مسجد النبي ﷺ. 

وعلى كلٍّ مستند ابن جرير -رحمه الله- ومن وافقه على هذا هو الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه أنه اختلف رجل خدري مع آخر عوفي كما في حديث أبي سعيد الخدري اختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال الخدري: هو مسجد النبي ﷺ، وقال العوفي: هو مسجد قباء، فاحتكموا إلى النبي ﷺ فقال: هو مسجدي هذا[6]، وهو حديث صحيح نص على أن المسجد مسجد النبي ﷺ.

فإذا نظرت إليه بهذا الاعتبار تقول: إنه المسجد النبوي وإن كان السياق في مسجد قباء، فالتفسير النبوي إذا صح فإنه لا يعارض لا بسياق ولا بقول أحد كائناً من كان، لكن القول بأنه مسجد قباء لا ينافي هذا، وقد صحت بعض الأحاديث بشواهدها ومجموع طرقها أن المراد به مسجد قباء، وصح ذلك عن النبي ﷺ كما في حديث أبي هريرة الذي رواه بعض أصحاب السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي ﷺ صرح بأن المراد به مسجد قباء، النبي ﷺ قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا[7]، وكذلك صح أيضاً عن عبد الله بن سلام نحو هذا، أن النبي ﷺ سألهم عن سبب ثناء الله عليهم، سأل أهل قباء، فمثل هذه المرويات لا تعارض ما صح عنه ﷺ بأنه مسجده ﷺ. 

فالشاهد ولسنا بحاجة إلى أن نرجح ونقول الرواية التي في صحيح مسلم مقدمة على هذه الروايات، وذلك من وجه الجمع أن النبي ﷺ ذكر ما هو أولى بهذه الصفة وأحق، وهو مسجده ﷺ وهذا لا إشكال فيه، فالنبي ﷺ قد يفسر الآية بالأحق في الاتصاف بها، وقد يفسرها بجزء معناها، وقد يفسرها بلازمه، وقد يفسرها بأن يحملها على معنى باعتبار اللفظ الأعم وإن كانت نازلة في غيره. 

وفي حديث أبي سعيد يكون النبي ﷺ حمل الآية على الأحق بهذه الصفة، فلا شك أن مسجد النبي ﷺ أولى بهذا الوصف أنه أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أولى من مسجد قباء، لكن هذا لا ينفي عن مسجد قباء هذه الصفة، فمسجد قباء أسس على تقوى من أول يوم، هذا وجه الجمع بين هذه المرويات والأحاديث وما دل عليه السياق، والله أعلم، فمن قال بأن الآية في أهل قباء فإن قوله صحيح، ومن قال هو مسجد النبي ﷺ يكون فسرها بالأولى بهذا الوصف، والله أعلم.

وفي الصحيح: أن رسول الله ﷺ كان يزورُ مسجد قُباء راكبًا وماشيًا[8].

مثل هذا، والأحاديث الواردة في مسجد قباء لا تدل على ترجيح في هذا الموضوع، وإنما تدل على فضل مسجد قباء فقط.

وفي الحديث: أن رسول الله ﷺ لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف، كان جبريل هو الذي عَيَّن له جِهَة القبلة، فالله أعلم.

وروى الإمام أحمد عن عُوَيم بن ساعدة الأنصاري : أنه حَدّثه أن النبي ﷺ أتاهم في مسجد قُباء، فقال: إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطَّهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟، فقالوا: والله -يا رسول الله- ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا[9]، ورواه ابن خُزيمة في صحيحه.

يعني الروايات الواردة في هذا المعنى كثيرة جداً، وكثير منها ضعيف، منها ما يتقوى، ومنها ما هو من قبيل الحسن، ومثل هذه الرواية هي مما يقوّي ما ذكرتُ، فالنبي ﷺ يسألهم ما هذا الشيء الذي أثنى الله عليكم به، وهو يقصد هذه الآيات فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا فهذا كله يؤيد أن السياق، وأن الآيات في مسجد قباء، ومسجد رسول الله ﷺ أحق بهذه الصفة.

يعني لو كان المراد فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا غير الطهارة التي هي طهارة الإيمان فإن هذا يمكن أن يكون مختصاً أو شبه مختص بأهل قباء؛ لأن النبي ﷺ سألهم عن هذا، لمّا قالوا له -في بعض الروايات التي فيها ضعف- إنهم يغتسلون غسل الجنابة ويتوضئون وكذا، سألهم عن شيء آخر، يعني هذا أمر يشتركون فيه مع غيرهم من المؤمنين فلما ذكروا له هذه القضية لم يطلب غيرها أي أنها هي السبب، وهذا يرجح أن الطهارة هنا ليس المراد بها طهارة الإيمان وصلاح العمل والحال والقلب، وإن كانت هذه طهارة فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا يعني بعضهم قال: طهارة الإيمان قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [سورة الأعلى:14] يعني زكى نفسه بالإيمان.

هكذا حتى فسروا قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [سورة الشمس:9] زكى نفسه بطاعة الله، وبالإيمان بالله وبرسوله ﷺ، فهذه وإن كان يقال لها: تزكية، ويقال لها: طهارة إلا أن المقصود هنا -والله أعلم- طهارة أخرى، وهي الطهارة المذكورة في هذا الحديث، وبعضهم حمل الطهارة على معنى آخر بعيد.

وقوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات.

وقد روى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ صَلَّى بهم الصبح فقرأ بهم الروم فأوْهمَ، فلما انصرف قال: إنه يَلبِس علينا القرآنَ أن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء[10].

فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها.

قوله: إنه يَلبِس علينا القرآنَ أن أقواما... يعني بسبب هؤلاء، فدل ذلك على أن صلاة الإمام تتأثر بحال المأموم، تتأثر إما بجهةٍ مِن ظاهره وهي أن المأموم يقرأ مع الإمام مثلا كما ذكر النبي ﷺ: إنكم لتقرءون خلف إمامكم[11]، وإما بسبب خفي وهو ما يحصل من إخلال المأموم أحياناً حتى في الطهارة، فتتأثر صلاة الإمام، فهناك أشياء غير مدركة بالنسبة إلينا كثيرة جداً، يعني الله أعلم بها كيف تقع، حتى في التثاؤب، فلو تثاءب شخص ثم التفت فإذا بآخر يتثاءب ولو لم يره، في نفس الوقت!، إلى غير ذلك من الأمور لمن تأمل في أحوال الناس.

  1. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم (1301)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب فيمن يُثنَى عليه خير أو شر من الموتى، برقم (949).
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (12214)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. رواه البيهقي موقوفاً في السنن الكبرى، برقم (20136)، وضعفه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (193).
  4. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (893)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، برقم (757).
  5. رواه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم (324)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، برقم (1411)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7319).
  6. رواه النسائي، كتاب المساجد، باب ذكر المسجد الذي أسس على التقوى، برقم (697)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3099)، وأحمد في المسند، برقم (11846)، وقال محققوه: حديث صحيح.
  7. رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الاستنجاء بالماء، برقم (44)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3100)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6960).
  8. رواه البخاري، أبواب التطوع، باب مسجد قباء، برقم (1134)، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته، برقم (1399).
  9. رواه أحمد في المسند، برقم (15485)، وقال محققوه: "حديث حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف، أبو أويس -وهو عبد الله بن عبد الله المدني- قد تكلم فيه الأئمة من جهة حفظه، وشرحبيل: هو ابن سعد أبو سعد الخطمي، ضعيف، وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 2/158: "وفي سماعه من عويم بن ساعدة نظر، لأن عويماً مات في حياة رسول الله ﷺ، ويقال: في خلافة عمر "، وحسن إسناده الألباني في صحيح أبي داود، (1/75)، في كلامه على الحديث رقم (34).
  10. رواه أحمد في المسند، برقم (15874)، وقال محققوه: "حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لإرساله"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (222).
  11. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، برقم (823)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (854).

مواد ذات صلة