الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
[22] من قوله تعالى: {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ} الآية 120 إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} الآية 123
تاريخ النشر: ٢٦ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 2775
مرات الإستماع: 2848

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سورة التوبة:120].

يعاتب تعالى المتخلّفين عن رسول الله ﷺ في غزوة تَبُوك، من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة، فإنهم نَقَصُوا أنفسهم من الأجر؛ لأنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو: العطش وَلا نَصَبٌ وهو: التعب وَلا مَخْمَصَةٌ وهي: المجاعة وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي: ينزلون منزلا يُرهبُ عدوهم وَلا يَنَالُونَ منه ظفرًا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم -وإنما هي ناشئة عن أفعالهم- أعمالا صالحة وثوابا جزيلا إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ كما قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا [سورة الكهف:30].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ "ما كان" أحياناً تأتي مراداً بها النفي كقوله تعالى: وَلا مَخْمَصَةٌ قال: هي المجاعة، وبعضهم قيده بالمجاعة التي يحصل معها الجوع ويحصل معها ضمور البطن.

وقوله: إِلا كُتِبَ لَهُمْ قال الحافظ -رحمه الله: بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم -وإنما هي ناشئة عن أفعالهم- أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً بمعنى أن هذه الآية ذكر فيها أموراً تحصل للإنسان من غير أن يتطلبها أو أن يقصدها، فهي تحصل له من غير إرادته تعب وعطش جوع وما أشبه هذا فهذه لا يطلبها الإنسان، ولا يقصدها بل تحصل له من غير إرادة، فهنا قال: إِلا كُتِبَ لَهُمْ فهذه الأعمال قال: ليست داخلة تحت قدرتهم -وإنما هي ناشئة عن أفعالهم- أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً، أما الأعمال الأخرى التي ذكرها إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، فيه ففرق في العبارة بين هذا وذاك، وهنا قال: إِلا كُتِبَ لَهُمْ، وهناك إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ وهو من أعمالهم وحسناتهم التي عملوها.

وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة التوبة:121].

يقول تعالى: ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل الله نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً أي: قليلا ولا كثيرا إِلا كُتِبَ لَهُمْ ولم يقل ها هنا "به" لأن هذه أفعال صادرة عنهم؛ ولهذا قال: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان، ، من هذه الآية الكريمة حظ وافر، ونصيب عظيم، وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة، والأموال الجزيلة، وروى عبد الله أيضاً عن عبد الرحمن بن سمرة ، قال: جاء عثمان إلى النبي ﷺ بألف دينار في ثوبه حتى جَهَّز النبي ﷺ جيش العسرة قال: فصبها في حجر النبي ﷺ، فجعل النبي ﷺ يقلبها بيده ويقول: ما ضَرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارا[1].

وقال قتادة في قوله تعالى: وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ الآية: ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدًا إلا ازدادوا من الله قربًا.

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة:122].

هذا بيان من الله تعالى لمَا أراد من نَفير الأحياء مع الرسول في غزوة تبوك.

نفير الأحياء يعني أحياء العرب القبائل التي كانت حول المدينة.

فإنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله ﷺ؛ ولهذا قال تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا [سورة التوبة:41]، وقال: مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، قالوا: فنسخ ذلك بهذه الآية.

وقد يقال: إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها، وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو، فيجتمع لهم الأمران في هذا: النفير المعين وبعده ﷺ تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي ﷺ وحده، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يعني: عصبة، يعني: السرايا، ولا يسيروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي ﷺ، وقالوا: إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا، وقد تعلمناه، فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يقول: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم، وليعلّموا السرايا إذا رجعت إليهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

في هذه الآية كما ترون هذا الخلاف هل هي منسوخة؟ أو محكمة؟ والخلاف واقع في المراد بالطائفة التي تتفقه، هذه القاعدة أو الخارجة، فهنا قال: فنسخ ذلك بهذه الآية يعني انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا، وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ.

ومن أهل العلم من يقول: إنها مُحكمة؛ لأنه لا دليل على النسخ، ولا يوجد تعارض من كل وجه؛ لأنه يمكن الجمع بين هذه الآية وبين تلك الآيات، فعند ابن جرير -رحمه الله، ومن وافقه أن تلك الآيات هي حينما استنفرهم رسول الله ﷺ، فإذا أمرهم بالخروج واستنفرهم فلا يسعهم المقام والبقاء بعده -عليه الصلاة والسلام، وأما هذه الآية فحيث لم يُستنفروا فلا يخرج جميعهم، وإنما يخرج بعضهم ويبقى آخرون.

ثم هنا قال: وقد يقال: إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم ليتفقه الخارجون مع رسول الله ﷺ بما ينزل عليه من الوحي، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين، وبعده تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه، وإما للجهاد فإنه فرض كفاية على الأحياء، فقال هنا: ليتفقه الخارجون مع رسول الله ﷺ فصار وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يرجع إلى أقرب مذكور، وهم الذين خرجوا، فالتفقه يكون بملازمتهم ومصاحبتهم لرسول الله ﷺ، ومعرفة ما ينزل من الوحي، ليعرفوا أحكام الدين، وبعد ذلك هنا فسر الإنذار قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ أي لطلب العلم ليتفقهوا في الدين، وهذا إذا كانوا لا يجدون العلم في بلادهم التي يقيمون فيها، فيسافرون في طلبه.

ولكن هذا فيه بُعد، فالآيات تتحدث عن الجهاد، ولفظ النفير يدل على هذا المعنى، فإنه إنما يعبر به عن الجهاد، كقوله -تبارك وتعالى: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [سورة التوبة:38]، ثم ذكر هنا عن ابن عباس -ا- وما كان المؤمنون لينفروا كافة، قال: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً، ويتركوا النبي ﷺ وحده فعكس المعنى الأول، هذا المعنى الجديد الذي نقله عن ابن عباس -ا، وهو اختيار ابن جرير: أن التفقه يحصل بالقعود، في المعنى الأول التفقه يحصل بالخروج مع النبي ﷺ في الجهاد ومصاحبته، فيعرفون ما نزل عليه، ويعرفون سنته -عليه الصلاة والسلام، وأحواله في الحرب وغيرها، وهذا المعنى أن التفقه يكون بالقعود وليس بالنفير، فتخرج طائفة، يعني السرايا فالنبي ﷺ يبعث سراياه، وكان المسلمون يتسارعون ويتسابقون إلى الخروج في هذه السرايا فلا يقعد النبي ﷺ وحده في المدينة، وإنما يخرج من يخرج من هذه السرايا ممن تقوم بهم الكفاية، ويبقى آخرون مع النبي ﷺ يتفقهون في الدين، فإذا رجع إليهم أصحابهم الذين خرجوا في تلك السرايا فقّهوهم وعلّموهم. 

فهذا معنى كما ترون هو عكس المعنى الأول تماماً، واحتج له ابن جرير بأن التخلف عن النبي ﷺ لا يجوز؛ لأن الله عاتبهم على ذلك حيث استنفرهم، فإذا خرج النبي ﷺ للجهاد وجب عليهم أن يخرجوا معه، فذلك بينه قوله -تبارك وتعالى: مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ هذا إذا خرج ثم بين لهم الحال إذا بقي في المدينة، قال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية التي قبلها إذا خرج النبي ﷺ فليس لهم أن يتخلفوا عنه في هذه السرايا فيبقى النبي ﷺ وحده، فتبقى معه طائفة من أجل أن يتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، قال هنا: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قال: يعني السرايا، وهنا قال: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

يقول: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون، لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ ابن جرير -رحمه الله- حمل هذا على التي تخرج، والإنذار بما شاهدوا من فعل الله بالكفار حينما يشاهدون غلبة المسلمين وهزيمة الكفار وما أشبه ذلك، فينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم؛ لئلا يحل بهم ذلك، فتقع بهم نقمة الله ، وهذه معانٍ تحتملها الآية، وابن القيم -رحمه الله- كان يرى أنه المعنى الأرجح -ونسبه إلى الأكثر: أن الطائفة التي تتفقه هي التي تقعد، وقال: هذا ما يحصل به قوام الدين، وهو الجهاد والعلم، فطائفة تخرج تجاهد، وطائفة تبقى تتفقه وتتعلم.

وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب محمد ﷺ، خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم: ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي ﷺ، فقال الله : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يبتغون الخير، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

وقال قتادة في هذه الآية: هذا إذا بعث رسول الله ﷺ الجيوش، أمرهم الله أن يغزوا بنبيَّه ﷺ، وتقيم طائفة مع رسول الله ﷺ تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.

قوله: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله ﷺ على مُضر بالسنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تُقبِل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب النبي ﷺ وأجهدوهم، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ الآية.

يعني الإنذار هنا عن الخروج إلى المدينة، وهذا الكلام بعيد، ولا يدل عليه ظاهر القرآن، وكان حقه أن يحذف من هذا المختصر، يعني هنا الله يقول: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً على هذا القول الذي لا يوجد ما يدل عليه: أن المقصود هؤلاء الذين جاءوا إلى المدينة بسبب الجوع، وهم لا يقصدون الهجرة ولا الإيمان، هذا بعيد.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة التوبة:123].

أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأولاً الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسول الله ﷺ بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهْد الناس وجَدْب البلاد وضيق الحال، وكان ذلك سنة تسع من هجرته -.

ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حَجَّة الوداع، ثم عاجلته المنية -صلوات الله وسلامه عليه- بعد الحجة بأحد وثمانين يوما، فاختاره الله لما عنده.

وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق ، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل، فثبته الله تعالى به فوطد القواعد، وثبت الدعائم، ورد شارد الدين وهو راغم، ورد أهل الردة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام، وبين الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عَبَدةِ الصلبان وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك رسول الله.

وكان تمام الأمر على يدي وصيّه من بعده، وولي عهده الفاروق الأوّاب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا، وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدًا وقُربا، ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي.

ثم لما مات شهيدًا وقد عاش حميدًا، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان شهيد الدار، فكُسى الإسلامُ رياسة حلة سابغة، وأُمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجةُ الله البالغة، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، فكلما عَلَوا أمةً انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار، امتثالا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ

وقوله تعالى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر، كما قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:54].

وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [سورة الفتح:29]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73، وسورة التحريم:9]، وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي: قاتلوا الكفار، وتوكلوا على الله، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه.

وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة، في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سَفال وخَسار، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يُمانَعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد، فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله، والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم.

  1. رواه الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في مناقب عثمان بن عفان ، برقم (3701)، وأحمد في المسند، برقم (20630)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل كثير -وهو ابن أبي كثير- مولى عبد الرحمن بن سمرة، ضمرة: هو ابن ربيعة الفلسطيني"، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (6064).

مواد ذات صلة