السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[23] من قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ} الآية 124 إلى قوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الآية 129
تاريخ النشر: ٢٧ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 2747
مرات الإستماع: 4061

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [سورة التوبة:124، 125].

يقول تعالى: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فمن المنافقين مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا؟ أي: يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.

وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء، بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك، وقد بُسط الكلام على هذه المسألة في أول "شرح البخاري" -رحمه الله، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ أي: زادتهم شكا إلى شكهم، وريبا إلى ريبهم، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44]، وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيئ المزاج لو غُذي بما غُذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا يقول الحافظ -رحمه الله: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فمن من المنافقين من يقول: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا أي يقول بعضهم لبعض أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا يقولون ذلك على سبيل التهكم، والاستهزاء، والسخرية، وهذا قال به بعض السلف: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا.

وقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: المقصود بـ"المرض" هنا: مرض الشك، والنفاق، والمرض في القرآن يأتي بمعنى الشك، والنفاق، ويأتي أحياناً مراداً به ضعف الإيمان، وذلك كما في قوله في سورة الأحزاب -مع أحد المعاني المشهورة: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ[سورة الأحزاب:12] فالذين في قلوبهم مرض هناك بعضهم يقول: هذا من عطف الأوصاف فهي عائدة إلى موصوف واحد، هذه أوصاف المنافقين، وبعضهم يقول المراد بـفَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] في آية الأحزاب: هم ضعفاء الإيمان، فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ والمقصود بالمرض في هذا الموضع الوحيد في القرآن: هو الميل المحرم إلى النساء.

فالشاهد أن الله يقول: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا المقصود به هنا: مرض النفاق والشك فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا قال: أي شكاً إلى شكهم وريباً إلى ريبهم، وهكذا يمكن أن يقال: زادتهم سوءًا وخبثاً، وهكذا قول من فسره بأن المراد زادتهم إثماً إلى إثمهم، وهذا من باب التفسير باللازم؛ لأنه إذا زادتهم رجساً أي سوءًا وخبثاً، أو زادتهم شكاً أو نحو هذا فإن هذا يلزم منه أن تزيدهم إثماً، وهذه الآيات التي هي هدايات وشفاء لأهل الإيمان لم تجد محلاً قابلاً فأثرت هذا التأثير.

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ۝ وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [سورة التوبة:126، 127].

يقول تعالى: أولا يرى هؤلاء المنافقون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أي: يختبرون فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: لا يتوبون من ذنوبهم السالفة، ولا هم يذكّرون فيما يستقبل من أحوالهم.

قال مجاهد: يختبرون بالسَّنَة والجوع.

يعني يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قال: بالسَّنة والجوع لكن هل هذا حاصل أن المنافقين يفتنون على عهد النبي ﷺ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بالسَّنة والجوع حتى بعدما وسع الله على المسلمين؟

ومعلوم أن المنافقين أحرص ما يكونون على دنياهم، فهم يشحون بالنفقة، وأحرص ما يكونون على أخذ الغنيمة كما قال الله : أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [سورة الأحزاب:19]يعني المال، ويقول: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ يعني يقولون: أعطونا من الغنيمة، أعطونا من مال الله، فهم بهذه المثابة والله وصفهم قال: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4]؛ لشدة عنايتهم بهذه الأجسام فهم مُترِفون لها مُنعِّمون لها، هي غايتهم، ومنتهى مطالبهم، فتفسيره بأنهم يفتنون بالجوع أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قد لا يخلو من إشكال.

وبعضهم قال: إن ذلك يكون بالغزو مع رسول الله ﷺ، فهم يبتلون بهذا وهو أثقل ما يكون عليهم؛ لأنه فيه مشقة كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:216] وهذا خلاف مقصود المنافق تماماً، وكذلك بما يرون في هذا الغزو من ظهور الإسلام، وعلو المسلمين ويرون من دلائل صدق النبي ﷺ أشياء، فهذا معنى ذكره بعض أهل العلم. 

وذكر بعضهم أن هذا الفتْن يكون بما يحصل لهم من العوارض كالمرض الذي لا يخلو منه إنسان، فهو يحصل لهم، وهذه المعاني محتملة، ولهذا قال ابن جرير   -رحمه الله: إنه يجوز أن يكون ذلك بالغزو مع رسول الله ﷺ أو بالجوع يحصل لهم، شدة تقع أو نحو هذا.

وقوله: وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله ﷺ، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ أي: تَلَفَّتُوا.

يعني بعضهم فسر نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فسر نظر بمعنى: قال، ولكن هذا على خلاف الظاهر، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ويحتمل أن يكون هذا النظر يدل على هذا المعنى، يعني ينظرون نظرة يتساءلون فيها هل يراكم أحد؟ فينسلوا دون أن يشعر بهم، ويحتمل أن يكون هناك تقدير معلوم من السياق نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ.

هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا أي: تولوا عن الحق وانصرفوا عنه، وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه.

هنا فسر الانصراف بأنه انصراف عن الحق، ولا شك أن هذا حاصل لهم، ولكن الظاهر المتبادر أنهم انصرفوا عن المجلس الذي تتلى فيه هذه الآيات، لاسيما إذا كانت هذه الآيات تتحدث عن أوصاف المنافقين، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ فهذه قرينة تدل على أن انصرافهم هو انصراف عن المجلس وإلا ما نظر بعضهم إلى بعض يتساءلون هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ فهم يريدون الانسلال من المجلس دون أن يُشعر بهم، فيفسر الانصراف بهذا المعنى، وهو متضمن للانصراف الآخر، فإن انصرافهم عن مجلس النبي ﷺ حينما تنزل الآيات أو تتلى هو انصراف عن قبول الحق، فهم لا يريدون سماعه أصلاً؛ لأن ذلك يشق عليهم ويثقل عليهم.

كما قال تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ۝ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ۝ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [سورة المدثر:49-51].

كما في الآية التي قبلها وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا بمعنى أنهم لا يتأثرون ولا ينتفعون فتزيدهم رجساً، وهكذا هنا وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون.

وقوله تعالى: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ۝ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ [سورة المعارج:36، 37]، أي: ما لهؤلاء القوم يتفللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق، وذهابا إلى الباطل.

وقوله: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ كقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يفهمون عن الله خطابه، ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه، بل هم في شغل عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه.

يعني أنهم جمعوا بين أصلي الضلال: الانصراف عن الحق فلا يقبلون عليه ولا يسمعونه، والأمر الثاني انعدام الفقه والفهم عن الله -تبارك وتعالى، إذا كان الإنسان لا يسمع الحق أصلاً أو لا يريد سماعه، وإذا سمع فإنه لا يفهم لا يفقه، فمثل هذا متى يسلك الطريق ويعرفها ويتبصر بما ينفعه؟ لا يمكن هذا، إذا كان الإنسان منصرفاً عن الحق، وإذا كان لا يريد سماعه أصلاً فإنه لا يمكن أن يعرفه، وإذا سمعه ولكنه لا فقه له فإنه لا يعرف الحق، فهؤلاء جمعوا بين الإعراض عن الحق وعن سماعه، وبين قلة الفقه، فالأول يدل على سوء قصدهم لا يقصدون الحق ولا يريدونه، والثاني يدل على قلة فهمهم واستيعابهم، فأنّى لهم بمعرفة الحق وتمييزه من الباطل.

وقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ يحتمل أن يكون من قبيل الدعاء عليهم، ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعا عليهم بصرف القلوب، وصرف القلوب بمعنى أن تكون صادة عن قبول الحق، فلا تنفذ إليها موعظة، ولا تقبل عن الله -تبارك وتعالى، يكون القلب منكوساً مصروفاً جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26].

والتصدي يعني الإقبال على الشيء مع المناوءة، ليس ذلك بأصل معناه في اللغة كما قال الله : فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [سورة عبس:6]، يعني تقبل عليه وتوجه كلامك ودعوتك إليه تَصَدَّى فالتصدي هو بمعنى الإقبال عليه الاهتمام به.

وفي الآية السابقة في قوله -تبارك وتعالى: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ في قراءة حمزة وهي قراءة متواترة بالتاء أَوَلاَ تَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فيكون الخطاب موجهاً للمؤمنين، وفي بعض القراءات الشاذة {أولا ترى} يعني يا محمد -عليه الصلاة والسلام.

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ۝ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [سورة التوبة:128، 129].

يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم، أي: من جنسهم وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [سورة البقرة:129]، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سورة آل عمران:164]، وقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: منكم وبلغتكم، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: إن الله بعث فينا رسولا منا، نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته، وذكر الحديث.

يعني على هذا التفسير الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- يكون الخطاب للعرب لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أيها العرب يعني يتكلم بلغتكم، وتعرفونه تعرفون أمانته، ولم يكن خافيا عليكم شأنه، ويحتمل أن يكون الخطاب لعموم الناس كما قال الزجاج، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني أيها الناس من البشر، والمعنى المشهور الذي عليه عامة أهل التفسير أنه خطاب للعرب، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن بعثة النبي ﷺ خاصة بالعرب، ولكن هذا كما قال الله على سبيل الامتنان، يمتن على هؤلاء العرب الأميين ببعثه ﷺ منهم، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2] فهو واحد منهم متصف بصفتهم وهي الأمية، يسهل عليهم الأخذ عنه، وفهم خطابه، لم يبعث إليهم فيلسوفاً لا يفهمون ما يقول، ولم يبعث إليهم أعجمياً لا يعرفون لغته، ولم يبعث إليهم ملَكاً لا يستطيعون مخاطبته ومعايشته والاقتداء به.

وقوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أي: يعز عليه الشيء الذي يُعْنِتُ أمتَه ويشق عليها؛ وفي الصحيح: إن هذا الدين يسر[1]، وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه.

عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ يعني العنت الذي يحصل لكم يشق عليه، وهذا العنت ابن جرير -رحمه الله- فسره بالضلال، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ، وكل عنت يحصل لأهل الإيمان فذلك يشق على النبي ﷺ.

وبعضهم فسره بما هو أعم من هذا بمعنى أنه لا يختص بأهل الإيمان، إذا كان الخطاب لعموم الناس لا يختص ذلك بالمؤمنين، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ما يحصل لكم من العنت، ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: من الضلال فهو رحيم بالناس يحب لهم الهداية والإيمان، ويكره لهم الكفر، وكأن تفسير ابن جرير -رحمه الله- هو من تفسير الشيء بسببه بمعنى أن الضلال الذي يحصل لهؤلاء الناس يكون سبباً لعذابهم، وشقوقهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ.

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله لم يُحرم حُرمة إلا وقد علم أنه سيطَّلِعها منكم مُطَّلِع، ألا وإني آخذ بحُجَزِكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش، أو الذباب[2].

وقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ كما قال تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [سورة الشعراء: 215-217].

وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة.

بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ هذه للحصر كما هو معلوم؛ لأن تقديم المعمولات على عواملها يفيد هذا المعنى فهنا قدم الجار والمجرور أصل الكلام "رءوف رحيم بالمؤمنين"، قال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فهذا يفيد الحصر، والرأفة هي أرق الرحمة، رَءُوفٌ رَحِيمٌ مثل ما يقال في الشفقة مع الخوف، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [سورة الفتح:29]، فإذا كان هذا حال أتباعه -عليه الصلاة والسلام- فهو أحق بهذا الوصف، والله وصف المؤمنين بمثل هذه الأوصاف، ويأمر نبيه ﷺ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73، وسورة التحريم:9]، وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً [سورة التوبة:123].

فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي: الله كافِيَّ، لا إله إلا هو عليه توكلت، كما قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [سورة المزمل:9].

وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي: هو مالك كل شيء وخالقه، لأنه رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وَقَدَره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.

هذا على قراءة الجمهور رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ بالكسر فيكون العظيم صفة للعرش، وفي القراءة الأخرى بالرفع (العظيمُ) يكون ذلك عائداً إلى الله ، كما في قوله -تبارك وتعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ فيكون ذلك من صفة العرش، وذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [سورة البروج:15] فيكون ذلك من صفة الله -تبارك وتعالى.

روى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة.

وفي الصحيح أن زيدا قال: فوجدت آخر سورة "براءة" مع خزيمة بن ثابت[3] -أو: أبي خزيمة- وقدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عن رسول الله ﷺ، كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها، والله أعلم.

قول أُبيّ بن كعب : آخر آية نزلت من القرآن، قاله في مناسبة، وذلك أنهم حينما كانوا يجمعون القرآن وكانوا لا يقبلون شيئاً إلا ما جاء عليه شهيدان، وفُسر "الشهيدان" بالكتابة والحفظ كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله، وقيل: شاهدان يشهدان أن ذلك مما كتب بين يدي رسول الله ﷺ، فالشاهد أن هذه الآية لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ هم يطلبون أن يكون هذا مما كتب بين يدي النبي ﷺ، ويشهد على ذلك شاهدان، ويطلبون الحفظ والكتابة، والذين يحفظونها كثير لكن طلبوها مكتوبة، والشاهد أن خزيمة بن ثابت الذي جعل النبي ﷺ شهادته بشهادة رجلين جاء بها فلما أتى بها تذكروها، وهذا على قول بعض أهل العلم.

وبعضهم يقول: إن ذلك الشرط يعني الذي اشترطوه الحفظ والكتابة أدى إلى أنهم لم يجدوها إلا عند خزيمة بن ثابت، فهنا حديث أُبي بن كعب قاله في هذه المناسبة: إنها آخر ما نزل من القرآن، يعني من سورة براءة، أي أنه لا يقصد بذلك أنها آخر ما نزل من القرآن بإطلاق، وغاية ما هناك أنه لو قصد أنها آخر ما نزل من القرآن فإن هذا يكون من قبيل الاجتهاد، وقد خَلَفَ ما تعلمون: أن المشهور أن آخر ما نزل هي الآيات التي في سورة البقرة آية الربا، وآية الديْن، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [سورة البقرة:281] فهذه تكون آخر ما نزل من القرآن من سورة براءة ولهذا جعلوها في آخرها، وخزيمة بن ثابت غير أبي خزيمة.

  1. رواه النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، باب الدين يسر، برقم (5034)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1161).
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (3704)، وقال محققوه: "إسناده حسن".
  3. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3103)، وأحمد في المسند بنحوه، برقم (1715)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لتدليس محمد بن إسحاق، ولانقطاعه".

مواد ذات صلة