الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[8] من قول الله تعالى: {فتقبلها ربها} الآية 37 إلى قوله تعالى: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} الآية 44.
تاريخ النشر: ١٥ / ربيع الآخر / ١٤٢٦
التحميل: 7681
مرات الإستماع: 2740

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة آل عمران:37].

يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة، وأنه وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أي: جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده، تتعلم منهم الخير والعلم والدين.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى-: وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جمع فيه بين معنيين: المعنى الأول: ما يتعلق بالجسد، والمعنى الثاني: ما يتعلق بالنفس.

أما ما يتعلق بالجسد فذكره فيه المنظر البهيج والشكل المليح، وأما ما يتعلق بالنفس فذكر القبول، حيث جعل لها القبول ويسر لها ما يسر من العلم وأسباب تحصيله والصلاح، وما تعلو به مرتبتها في الدنيا والآخرة، وذلك بالاستقامة على طاعة الله -تبارك وتعالى، فجمع بين المعنيين؛ وذلك أن من أهل العلم من راعى، أو من ذهب إلى الجانب الأول، كقول من يقول: بأن أبنتها نباتاً حسناً أي سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان. 

ومنهم من لا حظ المعنى الثاني فأعاد ذلك إلى حسن التربية وما يعود إليها بصلاح الحال، وإلى الأول جنح ابن جرير -رحمه الله، فهو يفسر ذلك بإنباتها في غذائه وفي رزقه حتى اكتملت وتمت.

وعلى كل حال لا زال الناس يستعلمون هذا في دعائهم وكلامهم، يقول: أنبتك الله نباتاً حسناً، ويقصدون به غالباً ما يرجع إلى الجسد، وما يرجع أيضاً إلى النفس، والله أعلم.

وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا أي جعله كافلاً لها.

قوله: "أي جعله كافلاً لها": أي أن الله تعالى جعل زكريا كافلاً لها، وهذه القراءة هي قراءة الكوفيين أيضاً، وفي القراءة الأخرى وَكَفَّلَهَا بتخفيف الفاء في غير قراءة الكوفيين، وذلك أنهم لما استهموا وقع السهم له فكفلها وضمها إليه، وهذا معنى كفلها أي: ضمها إليه ليقوم برعايتها وحفظها وتعاهدها.

وإنما قدر الله كون زكريا كافلاً لسعادتها لتقتبس منه علماً جمَّاً نافعاً وعملاً صالحاً؛ ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرها، وقيل: زوج أختها كما ورد في الصحيح: فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة[1].

قوله: وهما ابنا الخالة يعني أن أم عيسى وأم يحيى أخوات، فعلى هذا يكون زكريا زوجاً لأختها، ولكن هذا الحديث في الدلالة على هذا المعنى ليس بقاطع، وذلك أن الخالة تطلق على أخت الأم كما تطلق على الخالة فوقها، بمعنى أن أخت الجدة يقال لها: خالة أيضاً، فيحتمل أن يكون المراد به هذا أو هذا، والله تعالى أعلم.

وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضاً توسعاً، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال: الخالة بمنزلة الأم[2].

ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها، فقال: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً، قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والربيع بن أنس وعطية العوفي والسدي: يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.

المحراب في قوله: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ هو أشرف المجالس، أو هو صدرها وأرفعها وأشرفها والمقدم فيها فإذا كان ذلك في المجالس فهو كما ذكر، وإذا كان في المساجد فهو أشرف بقعة فيها وهي المقدمة فيها، وهذه هي المحاريب، كل مقدمة في مصلى أو مجلس فهو محراب، وهو سيد المجالس، أشرف المجالس يقال له: محراب هذا أصله في كلام العرب، فإذا كان في المساجد فهو المقدم فيها وأشرفها.

فإذا زكريا هذا عندها قال: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا أي يقول: من أين لك هذا، قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة آل عمران:37].

قوله تعالى: إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ بعد أن ذكر قولها: قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ، يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم في جوابها على زكريا، قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعقيباً على ذلك وتأكيداً وتقريراً له، وهذا الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- فالآية تحتمل هذا وهذا.

وعلى الثاني -أنه من كلام الله- يكون من الموصول لفظاً المقطوع معنىً، يعني أنه كلام واحد متصل في ظاهره، لكنه من متكلمَين.

وبعضهم يقول: إنه من كلام زكريا، لكن هذا في غاية البعد؛ لأنه لا يوجد ما يدل عليه، وليس في السياق ما يرجحه، فلا يوجد عليه قرينة ولا دليل.

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ۝ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ۝ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ۝ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [سورة آل عمران:38-41] لما رأى زكريا أن الله يرزق مريم -عليها السلام- فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء طمع حينئذ في الولد.

 هُنَالِكَ من قوله : هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ظرف يستعمل للزمان وللمكان، فيمكن أن يكون المعنى هنالك، أي في ذلك الحين دعا ربه بهذا الدعاء، أو يكون للمكان بمعنى في ذلك المكان وهو قائم عند مريم حينما شاهد فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء دعا ربه بهذا الدعاء، فالآية تحتمل هذا وهذا.

وقول ابن كثير -رحمه الله-: "لما رأى زكريا أن الله يرزق مريم -عليها السلام... الخ": يكون هذا هو المقصود بقوله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أي: لما رأى مظهراً من مظاهر قدرة الله  بهذا الإفضال والإنعام والرزق دعا هذا الدعاء حيث حرك نفسه وانبعث فيها التطلع إلى شيء من فضل الله الذي هو بحاجة إليه، وهو الولد دعا حينئذ ربه.

ويحتمل أن يكون أنه حينما رأى قدرة الله حيث رزقت امرأة عمران بهذه البنت، إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة آل عمران:35]، فرأى هذه البنت وما هي عليه من الصلاح وحسن الحال، وما أنبتها الله به من الإنبات الحسن، دعا ربه أن يرزقه بالولد.

والأول أقرب والله تعالى أعلم؛ لأنه هو المذكور قبله، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً [سورة آل عمران:37] فلما رأى هذا المظهر من مظاهر قدرة الله -تبارك وتعالى- دعا ربه أن يرزقه الولد مع تخلف سببه.

طمع حينئذ في الولد، وكان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم واشتعل رأسه شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفياً

يعني هو كما قال الله في سورة مريم: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم:8]، والعتي هو الذي بلغ من الكبر غايته، وذلك أن أصل العتي بالنسبة للإنسان الكبير هو ما يحصل له من الجفاف واليبَس في العظام والمفاصل والتقحل في البدن، فالإنسان مثل النبات أو الشجرة تبدأ صغيرة ثم بعد ذلك تكتمل ثم بعد ذلك تبدأ بالضعف والتقحل، ويؤثر ذلك في ثمرتها وفي هيئتها وما إلى ذلك، فهذا هو المراد والله أعلم بقوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم:8]. 

فالهرم سبب مانع لوجود الولد، وقد كان زكريا كبيراً جداً حتى قيل: إنه بلغ مائة وعشرين سنة، والأمر الآخر من جهة امرأته وهو أنها عاقر، والعاقر هي التي لا تلد، وقد بيّن الله أن ذلك لم يكن بسبب كبرها فحسب، كانت كبيرة أيضاً، وإنما كان ذلك وصفاً ملازماً لها منذ شبابها، وذلك لقوله: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [سورة مريم:5] فهذا يدل على اتصافها بذلك، وملازمة هذه الصفة لها من أولها، كما تقول: وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:96] قال: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [سورة مريم:5].

فالحاصل أنه دعا ربه قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [سورة آل عمران:38] مع تعذر هذا في العادة لا على قدرة الله ، وقد بشر الله إبراهيم ﷺ بالولد وقد تقادم به العمر، وامرأته كانت أيضاً عقيمة وكبيرة، ولهذا أقبلت في صيحة من هو المفاجأة، وصاحت قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72]، وهذا التعجب الذي جاء مفسرا هذا التفسير في قصة إبراهيم ﷺ هو المراد هنا، والله تعالى أعلم، بقول زكريا ﷺ: أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ [سورة آل عمران:40] فهو يتساءل ويتعجب؛ لأن ذلك مستبعد بطريق العادة لا سيما مع وجود المانعَين من جهته ومن جهة امرأته.

وهذا القول أحسن من قول بعضهم: إن هذا التساؤل من زكريا قصد به هل يرزق هذا الولد الذي بشر به من هذه المرأة العاقر أو من غيرها؛ إذ لا حاجة لهذا القول؛ لأن هؤلاء إنما بنوا قولهم على أمر وهو أنهم أرادوا يستبعدوا استبعاده، فقالوا: كيف يستبعد الولد وهو يعلم أن قدرة الله  فوق كل شيء، ولكن الصواب أن ذلك كان كما قالت امرأة إبراهيم: أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه قال ذلك استعظاماً لقدرة الله أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [سورة آل عمران:40].

وبعضهم يقول: إنه يتساءل يقول: بأي شيء أستوجب هذا الولد، وامرأتي على هذه الحال؟ وعلى كل حال الآية لا إشكال فيها، فإن هذا لم يكن في مجاري العادات فلما بشر به قال ذلك تعجباً مع أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، فأنت حينما تبشر الإنسان بأمر سيحصل له، يتساءل مثل هذا التساؤل، ويتعجب مثل هذا التعجب مع إيقانه به إذا كان واثقاً بالمخبر، كأن يقول لإنسان فقير مثلاً: ستكون زكواتك مثلاً كافية لأهل البلد أو نحو ذلك، فهو يقول: أنى يكون ذلك وأنا الآن لا أجد ما أقتات به!! فإذا كان يقول ذلك مستبعداً لوقوعه أصلاً، شاكاً في الخبر فهذا شأن، لكن إذا كان واثقاً من المخبر كأن يخبره نبي مثلاً بهذا أو نحو ذلك، فإنه لا يقوله استبعاداً على قدرة الله  فالإنسان يصدر منه مثل هذا، فهو بحسب حاله، ووثوقه بالمخبر.

لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفياً وقال: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ: أي من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي: ولداً صالحاً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [سورة آل عمران:38].

الذرية هي النسل وتطلق على الواحد وعلى الجمع، والمراد به هنا الواحد؛ بدليل قوله في الآية الأخرى: فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ۝ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [سورة مريم:5-6]، فهو سأل واحداً يكون وارثاً له.

قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [سورة آل عمران:39] أي خاطبته الملائكة شفاهاً خطاباً أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خلوته، ومجلس مناجاته وصلاته.

قوله تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ على قراءة حمزة والكسائي: (فناداه الملائكة)، وكثير من أهل العلم من السلف فمن بعدهم يقولون: إن المقصود بالذي ناداه هو ملك واحد، وهو جبريل -عليه الصلاة والسلام، وهو الموكل بالوحي، فيكون بهذا الاعتبار، يكون من العام المراد به الخصوص، كقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173]

فالقائل واحد والمقول له واحد، ولهذا فالأصوليون يذكرون هذه الآية، في جملة الأمثلة التي يذكرونها على العام المراد به الخصوص، حيث يقولون: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ، أي: جبريل، لكن ليس هذا محل اتفاق؛ لأن من أهل العلم من يقول: إنه محمول على ظاهره وهو الجمع الحقيقي، أي جمع من الملائكة بشروه وأخبروه بهذه البشارة.

ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة: أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [سورة آل عمران:39] أي: بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى، قال قتادة وغيره: إنما سمي يحيى؛ لأن الله أحياه بالإيمان.

هذا قاله كثير من السلف غير قتادة أيضاً، ولكن الاسم هذا هل هو اسم عربي أو اسم أعجمي أو أنه معرب؟

فإذا قلنا: إنه ليس من الأسماء العربية أصلاً فلا مجال لتفسيره بهذه الطريقة، على أنه من كلام العرب، وعلى كل حال الله سماه يحيى وأخبر أن هذا الاسم مبتكر، بمعنى أنه ليس له سمي، لم يسمَّ به أحد قبله كما قال تعالى: لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا [سورة مريم:7].

وقوله: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ [سورة آل عمران:39] روى العوفي وغيره عن ابن عباس -ا- وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيره في هذه الآية: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ أي: بعيسى بن مريم.

قوله: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ [سورة آل عمران:39] أي بعيسى بن مريم، هذا التفسير قاله كثير من السلف، وكلمات الله -تبارك وتعالى- شرعية وكونية، فعيسى ﷺ إنما وجد وخلق بكلمة الله الكونية، فالله -تبارك وتعالى- إذا أراد شيئاً قال له: كن، فأطلقت الكلمة على ما تكوَّن وخلق بها عيسى، وأطلق عليه كلمة من باب إطلاق السبب على المسبب، أي سمي عيسى كلمة لأنه وجد بسبب الكلمة من غير أب، فالمسبَب عيسى ﷺ والسبب الكلمة، فلما سمي بذلك، قيل له كلمة، أي صار ذلك من باب إطلاق السبب الذي هو الكلمة على المسبب، يعني الناتج عنها الذي خلق بها وهو عيسى ﷺ، فقيل: هو كلمة الله ألقاها إلى مريم، فهذا هو المراد.

قوله: وَسَيِّدًا [سورة آل عمران:39] قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم: الحكيم، وقال ابن عباس -ا- والثوري والضحاك: السيد الحكيم التقي.

السلف يفسرون الكلمة ببعض معناها أحياناً، فالسيد مثلاً ليس هو الحكيم فقط؛ إذ قد يكون الإنسان حكيماً ولا يكون سيداً، لكن السيد لا يكون موصوفاً بالحماقة والخرق وسوء التدبير، فإن ذلك ليس من الصفات التي تحصل بها السيادة، وإنما تحصل السيادة باجتماع عدة أوصاف يكون بها الإنسان نبيلاً سيداً يحصل له بها الشرف، وكلما كانت هذه الأوصاف كلما كانت السيادة أكثر وأوفر وأعظم فيسود بذلك قومه، ويكون مقدماً فيهم ويفوق أقرانه في كل شيء من الخير، فالسيادة هي الشرف في العلم والعمل والشرف في العبادة، فكل ذلك داخل فيه والله أعلم. 

وتفسيره بالحليم التقي أحسن من تفسيره بالحكيم، فهذا أقرب وأدخل وأعلق بمعنى السيادة، والذي لا يحسن التدبير ولا يضع الأمور في مواضعها ولا يوقعها في مواقعها فهذا لا يكون سيداً إلا بقيد كأن يقال له: الأحمق المطاع، فبهذا القيد يمكن، أما أن يكون سيداً هكذا بإطلاق، ولا يحسن التدبير فلا.

وقال سعيد بن المسيب: هو الفقيه العالم، وقال عطية: السيد في خلقه ودينه.

على كل حال النبي ﷺ قال عن الحسن: ابني هذا سيد[3] فالحاصل أن المقصود بالسيد هو الشريف المقدم، ويكون شريفاً مقدماً بناء على اجتماع عدة أوصاف، فلا يكون السيد بخيلاً، ولا يكون ضيق العطن وضيق الصدر، ولا يكون سيء التدبير، ولا يكون في غاية الجهل، ونحو ذلك.

وقال عكرمة: هو الذي لا يغلبه الغضب، وقال ابن زيد: هو الشريف، وقال مجاهد وغيره: هو الكريم على الله .

هذا كله من اختلاف التنوع، يعني ما نحتاج أن نرجح، فهم يفسرون بما يقرب المعنى بجزئه.

وقوله: وَحَصُورًا [سورة آل عمران:39] ليس هاهنا أنه لا يأتي النساء، بل معناه أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات.

الحصور: أصله من الحصر وهو الحبس، ومعناه المتبادر هنا وهو الذي عليه عامة أهل العلم هو الحبس عن النساء، يعني الممتنع من النساء، وهذا الامتناع يحتمل أمرين من جهة سببه:

الأول: ألا يكون له تطلع إلى النساء أصلاً ولا شهوة، أي ليس له رغبة أصلاً، وقد جاء هذا عن بعض السلف، ولكن هذا فيه بعد ولا يمدح الإنسان به إطلاقاً، بل هو من النقص والعيب، وهو لون من العجز كبير، وإنما يكون المدح حينما يكون هذا الانصراف بإرادة وعزيمة ثابتة راسخة، لا يلتفت معها إلى هذه المقارفة، وهذه المقارفة من أهل العلم من يقيدها بالحرام، يقول: المقصود بالحصور هو الذي يمنع نفسه من مقارفة ما حرم الله مع النساء، ولكنه يتزوج.

ومنهم من يقول: بل هو منقطع للعبادة، وذلك كان جائزاً في شريعتهم، فهو معرض عن النساء لا يشتغل بهن، ولا يتزوج وإنما فرغ نفسه للعبادة، فهذا المعنى تحتمله الآية، وهي تفسر بهذا والله تعالى أعلم، لكن من أي جهة؟ هل هو الانصراف تماماً لا بالتزوج ولا غيره مع القدرة على إتيان النساء؟ أو يكون المراد بالحصور هو الذي ينصرف عن مقارفة الحرام دون ما أحل الله -تبارك وتعالى؟

بل معناه أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال، وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [سورة آل عمران:38]، كأنه قال: ولداً له ذرية ونسل وعقب، والله أعلم.

ليس بلازم أن يكون المراد بالذرية الطيبة أن يكون له نسل وعقب، فإن الإنسان إذا رزق بالولد كان ذلك ذرية، وعلى هذا يكون دعاءه قد استجيب.

وقوله: وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ [سورة آل عمران:39]، هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، كقوله لأم موسى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص:7]، فلما تحقق زكريا هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، قال: رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ [سورة آل عمران:40] أي الملك: كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [سورة آل عمران:40] أي: هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر.

قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً [سورة آل عمران:41] أي: علامة أستدل بها على وجود الولد مني.

ما سبب هذا السؤال: اجْعَل لِّيَ آيَةً؟ هل قصد بذلك آية على وجود الحمل وانعقاده وصحته؟ هذا معنىً قريب، قد قال به جماعة من أهل العلم.

ومن أهل العلم من ذهب بها إلى معنى آخر، قالوا: إنه طلب الآية وذلك أنه لما سمع نداء الملائكة بصوت وهو يصلي في المحراب كأنه وقع له شيء من الوسوسة أراد دفعها فكأنه يقول: اللهم إن كان هذا الصوت هو صوت الملائكة وهذه البشرى هي بشرى حق منك يا رب فاجعل لي آية تدل على ذلك، فهو لم يكتفِ بالبشارة بمجرد سماع الملائكة فأراد أن يتحقق أكثر ويتوثق.

وهؤلاء الذين يقولون بهذا يقولون: إن الآية التي جعلت له فيها نوع عقوبة، أي هي آية مع العقوبة، وذلك بانحباسه عن الكلام من غير علة ثلاثة أيام إلا من التسبيح والذكر، قال تعالى: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [سورة آل عمران:41]، والرمز المقصود به الإشارة بالشفة، وقد يكون بالعين واليد وما إلى ذلك، وفي الآية الأخرى يقول سبحانه: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [سورة مريم:10]، يعني من غير مرض ومن غير عله، فهؤلاء قالوا: استجيب دعاؤه فجعلت له آية وكان فيها نوع عقوبة، وذلك أنه لم يكتف بالبشارة حينما سمع الملائكة تبشره، والمعنى الأول أقرب والله أعلم، مع أن هذا المعنى الثاني ذهب إليه بعض الكبار كابن جرير -رحمه الله.

قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [سورة آل عمران:41] إشارة لا تستطيع النطق، مع أنك سوي صحيح كما في قوله: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [سورة مريم:10].

ثم أمر بكثرة الذكر والشكر والتسبيح في هذه الحال فقال تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [سورة آل عمران:41].

قوله: بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ: العشي: يكون من بعد الزوال إلى غروب الشمس، والإبكار يكون من وقت طلوع الفجر إلى الضحى، يعني أول النهار، وهذه هي أوقات الذكر.

وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم، إن شاء الله تعالى.

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ۝ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ۝ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [سورة آل عمران:42-44].

هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم -عليها السلام- عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها، أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهرها من الأكدار والوسواس، واصطفاها ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين.

هذا الذي مشى عليه ابن كثير مع أنه لم يوضح المراد منه، وهو أن الاصطفاء الثاني غير الاصطفاء الأول. 

ومن أهل العلم من يقول: إن الاصطفاء الثاني هو الاصطفاء الأول، أي أنه أعيد تأكيداً، ومعلوم أن القاعدة تقول: إن التأسيس مقدم على التوكيد، فابن كثير -رحمه الله- مشى على هذه القاعدة، وهو أن الاصطفاء الثاني غير الأول، فهو صرح وقال: "واصطفاها ثانياً" أي أن الاصطفاء الثاني غير الأول، لكنه لم يوضح المراد بالاصطفاء الأول والمراد بالاصطفاء الثاني، وإنما ذكر كلاماً عاماً فقال:

"اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهرها من الأكدار والوسواس، واصطفاها ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين".

إلا أنه يمكن أن يقال: إن الاصطفاء الأول كان لعبادتها وزهادتها لتكون من أهل القرب منه، والاصطفاء الثاني أنه اصطفاها على نساء العالمين، أي فضلها عليهن، وعلى هذا يكون الاصطفاء الثاني بمعنى التفضيل على نساء العالمين، فهذا احتمال.

ومن أهل العلم من يقول: اصطفاها الاصطفاء الأول بأن تقبلها بقبول حسن، والاصطفاء الثاني لولادة عيسى -عليه الصلاة والسلام، فالحاصل أن الله قال لها بطريق الملائكة: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:42] أي أن الله اختارك لعبادته والتقرب إليه، وما إلى ذلك من المعاني، ويدخل فيه أن الله تقبلها بقبول حسن، وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ بمعنى التفضيل، أن الله فضلها على غيرها من النساء.

وقوله: عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ، ظاهره العموم، وقد ذهب إليه جماعة من السلف فمن بعدهم وقالوا: إن ذلك على عمومه وإطلاقه، ومنهم من ذهب إلى أنه يختص بأهل زمانها، كما قال عن بني إسرائيل: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] يعني على عالم زمانكم، وهذا الذي يتفق مع الأدلة الأخرى التي تدل على اصطفاء الله -جل وعلا- لغيرها كما سيأتي، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

روى هشام بن عروة عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد [أخرجاه في الصحيحين][4].

 وروى ابن جرير عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون[5] وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود، ولفظ البخاري: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام[6].

هذه النصوص لا تعارض بينها، فتارة ذكر الاصطفاء والاختيار أو الخيرية، وتارة ذكر الكمال، وذكر مزية لعائشة -ا- وهو أن فضلها كفضل الثريد على سائر الطعام.

والعلماء تكلموا في التفضيل بين عائشة وبين خديجة، وظواهر هذه الأحاديث مع غيرها تدل على أن خديجة -ا- أفضل وأكمل، ولذلك كانت تغار عائشة -ا- منها غاية الغيرة، وقد بيّن النبي ﷺ وجه ذلك. 

فالمقصود أن القاعدة هي أن المزية لا تقتضي الأفضلية، والحاصل أن النبي ﷺ ذكر مزية لعائشة -ا- وذكر فضل خديجة وآسية ومريم، فآسية وخديجة حصل لهن الكمال، ومريم حصل لها الاصطفاء والتفضيل.

وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى بن مريم -عليهما السلام- في كتابنا "البداية والنهاية" ولله الحمد والمنة.

ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها، لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولداً من غير أب، فقال تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43].

أما القنوت فهو الطاعة في خشوع، كما قال تعالى: بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116].

أحد معاني القنوت الطاعة في خشوع، وقد سبق ذكر معاني القنوت فلا حاجة لإعادته.

وفي قوله: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43]: قدم السجود على الركوع مع أن السجود يكون بعد الركوع، فمن أهل العلم من فسر ذلك بأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولم يقصد فيه الترتيب. 

ومنهم من قال: إن ذلك قد يكون في صلاتهم، بحيث لم تكن مرتبة هذا الترتيب في صلاتنا. 

ومنهم من يقول -كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: إنه بدأ بالأعم ثم الأخص، ثم ما هو أخص، فالقنوت أعم، إذ هو الطاعة والخشوع دوام العبادة وما أشبه ذلك من المعاني، ثم السجود أعم من الركوع؛ وذلك أن السجود يكون في الصلاة ويكون خارج الصلاة، مثل سجود الشكر وسجود التلاوة، وأما الركوع فإنه لا يكون إلا في الصلاة، فتارة تذكر الأشياء مرتبة من الأعم ثم ما دونه، ثم ما هو أخص من ذلك، وقد يبدأ بالعكس أي يبدأ بالأخص ثم ما هو أعم من ثم ما هو أعم مطلقاً، كما في الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [سورة الحـج:77] ففي هذه الآية بدأ بالأخص ثم الأعم، أي عكس هذه تماماً، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43].

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب المعراج (3674) (ج 3 / ص 1410).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الصلح - باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان وفلان بن فلان وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه (2552) (ج 2 / ص 960).
  3. أخرجه البخاري في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام (3430) (ج 3 / ص 1328).
  4. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب تزويج النبي ﷺ خديجة وفضلها ا (3604) (ج 3 / ص 1388) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل خديجة أم المؤمنين ا (2430) (ج 4 / ص 1886).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قول الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ.. إلى قوله: وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [سورة التحريم11-12] (3230) (ج 3 / ص 1252) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل خديجة أم المؤمنين ا (2431) (ج 4 / ص 1886).
  6. نفس الحديث السابق وهو لفظ البخاري ومسلم رحمهما الله.

مواد ذات صلة