الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
[18] من قول الله تعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء} الآية 113 إلى قوله تعالى: {وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآية 117.
تاريخ النشر: ٠٧ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 6022
مرات الإستماع: 2552

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

نوع آخر من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة.

روى الإمام أحمد عن جابر أنه سمع النبي ﷺ يقول: إنِّي لأرْجُو أنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبْعَ الْجَنَّةِ قال: فكبَّرنا، ثم قال: أَرْجُو أنْ يَكُونُوا ثلثَ النَّاسِ قال: فكبرنا، ثم قال: أَرْجُو أنْ تَكُونُوا الشَّطْرَ وهكذا رواه عن طريق آخر وهو على شرط مسلم[1].

وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله ﷺ: أمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنِّةِ؟ فكبرنا، ثم قال: أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فكبرنا، ثم قال: إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونُوا شطر أَهْلِ الْجَنَّة[2].

حديث آخر: روى الإمام أحمد عن بريدة أن النبي ﷺ قال: أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأمة من ذلك ثمانون صفاً وكذلك رواه عن طريق آخر وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن، ورواه ابن ماجه[3].

وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، الناس لنا فيه تبع، غداً لليهود وللنصارى بعد غد [رواه البخاري ومسلم مرفوعاً بنحوه][4].

ورواه مسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول من يدخل الجنة وذكر تمام الحديث[5].

فهذه الأحاديث وغيرها في معنى قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة آل عمران:110] فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب في حجة حجها رأى من الناس رِعةً فقرأ هذه الآية: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ثم قال: من سرَّه أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها [رواه ابن جرير].

ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمَّهم الله بقوله تعالى: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ الآية [سورة المائدة:79] ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ أي: بما أنزل على محمد ﷺ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة آل عمران:110] أي قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: "رأى من الناس رِعةً"، أي أنه رأى منهم ما لا يليق وذلك أنهم ازدحموا عليه ورأى منهم بعض ما يكره، والرِّعة –بكسر الراء- براد بها سوء الهيئة ويراد بها سوء الفعل، فالمقصود أنه رأى منهم ما لا يليق.

وهذه الأحاديث التي ذكرها إضافة إلى الآية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ لا تعارض ما سبق من قول الله -تبارك وتعالى- في بني إسرائيل: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47].

وقد ذكرنا هناك بأن المقصود بتلك الآية هو أنهم فضلوا على عالمي زمانهم ولم يفضلوا على هذه الأمة، ثم بعد ذلك نزع الله منهم هذا التفضيل وأورث الكتاب لهذه الأمة، كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ الآية [سورة فاطر:32] وهم هذه الأمة، فخير أمة على الإطلاق هي أمة محمد ﷺ والنصوص مصرِّحة بهذا لا خفاء فيها.

وأما ما ذكر الله بعده من قوله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة آل عمران:110] فالمقصود أنهم لو آمنوا بمحمد ﷺ ودخلوا في الإسلام لكان خيراً لهم.

فالله تعالى في هذه الآية قسمهم على طائفتين منهم من آمن ومنهم من لم يؤمن وهم الذين عبر عنهم بالفاسقين؛ لأنهم خرجوا عن الإيمان الذي وجب عليهم ولم يتابعوا رسول الله ﷺ ثم إنه بعد ذلك فصل في حال الفريقين كما سيأتي في قوله تعالى: لَيْسُواْ سَوَاء [سورة آل عمران:113] فهذا تفصيل لهذا على قول طائفة من أهل العلم كما سيأتي.

وقوله تعالى: مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة آل عمران:110] يحتمل أن يكون المقصود بذلك قبل مبعث النبي ﷺ أي أن منهم من كان على دينه متمسكاً به متابعاً لنبيه، ومنهم من كان خارجاً عن ذلك، فهذا تحتمله الآية، وقد يكون المراد -والله تعالى أعلم- هو ما ذكرته أولاً، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

ثم قال تعالى مخبراً عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، فقال تعالى: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ [سورة آل عمران:111] وهكذا وقع، فإنهم يوم خيبر أذلّهم الله وأرْغَم أنوفهم.

قوله: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى يمكن أن يكون هذا الاستثناء بـ"إلا" مفرغاً من أعم الأحوال، ويمكن أن يكون مقطعاً بمعنى لكن، أي لن يضروكم لكن.

والمراد بالأذى في قوله: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى يعني كأن يُسمعوكم ما تكرهون في نبيكم وكتابكم وتسمعون منهم ما تكرهون في عيسى -عليه الصلاة والسلام- وفي أمِّه وما إلى ذلك من القبائح التي تسمعونها منهم.

والأذى والضرر بينهما فرق؛ فالله يقول في الحديث القدسي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني[6] ومع ذلك يقول في كتابه الكريم: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [سورة الأحزاب:57] ويقول في الحديث القدسي الآخر: يؤذيني ابن آدم[7] وذلك أن الأذى يمكن أن يوصله الإنسان إلى الله -تبارك وتعالى- كالذي ينسب إليه الصاحبة والولد ويشرك بالله ، ويكذب عليه وما أشبه ذلك، فهذا من الأذى. 

لكن الضرر أبلغ من الأذى فلا يستطيع أحد أن يلحق الضرر بالله -تبارك وتعالى، فالله –تبارك وتعالى- يقول هنا: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [سورة آل عمران:111] فالأذى ليس بضرر وإنما هو دونه، ومعنى الآية: لن يصلوا إليكم بما يحبون من النكاية والقتل وما أشبه ذلك، ولكنه أذى بما تكرهون سماعه حيث يسمعونكم ما تكرهون من قالة السوء ونحو هذا فحسب، فلن يصل الأمر إلى أبعد من ذلك مما يكون أثره في الواقع من النيل منكم وإصابة أهل الإيمان بالقتل ونحوه.

وهكذا وقع، فإنهم يوم خيبر أذلّهم الله وأرْغَم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضِير وبني قريظة كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك، ويحكم بشرع محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- فيَكْسر الصَّلِيب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزْية، ولا يقبل إلا الإسلام.

ثم قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ [سورة آل عمران:112] أي: ألزمهم الله الذلة والصَّغَار أينما كانوا فلا يأمنون إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ أي: بذمة من الله، وهو عَقْد الذمة لهم وضَرْب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملة.

وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ أي: أمان منهم لهم، كما في المُهَادَن والمعاهَد والأسير إذا أمَّنَه واحد من المسلمين ولو امرأة، وكذَا عبد، على أحد قولي العلماء.

قال ابن عباس -ا: إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ أي: بعهد من الله وعهد من الناس، هكذا قال مُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطَاء، والضَّحَّاك، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، والرَّبِيع بن أنس.

بعض أهل العلم يفسر الحبل من الله بأنه العهد الذي يعطيهم إياه أهل الإيمان؛ لأن عقد أهل الإيمان وحلهم مع غيرهم من الكفار إنما يكون موافقاً لأمر الله -تبارك وتعالى، فالعلاقات بينهم وبين سائر الطوائف والأمم تكون موافقة لشرع الله تبارك وتعالى، وعلى هذا يكون الحبل من الله هو ما يعطيهم أهل الإيمان من العهد والأمان والعقد ونحو ذلك.

والحبل من الناس هو ما يعطيهم إياه غير المسلمين من العهود والأمان ونحو ذلك، فهذا قول مشهور قال به كثير من أهل العلم من السلف فمن بعدهم.

وبعضهم يقول: الحبل من الله هو العهد من الله، والحبل من الناس هو ما يعطيهم إياه عباده مما يكون بينهم من العهود ونحو هذا، فالحاصل أن الآية قيل فيها غير هذا أيضاً، لكن هذا أشهر هذه الأقوال، والله أعلم.

وقوله: وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ [سورة آل عمران:112] أي أُلزموا فالتزَمُوا بغضب من الله وهم يستحقونه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ [سورة آل عمران:112] أي: أُلزِموها قَدراً وشَرْعاً.

الغضب والمسكنة لا تفارقهم بحال من الأحوال حتى ولو كان لهم عهد، والمراد بالمسكنة معروف، فهي خشوع الفقر وذل النفس والحاجة وخشوع الظاهر تذللاً وانكساراً لضعف الحال، فهذا أمر لا يكاد يفارقهم.

ولهذا قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة آل عمران:112] أي وإنما حملهم على ذلك الكبْر والبَغْي وَالْحسَد، فأعْقَبَهم ذلك الذلة والصغَار والمسكنة أبداً متصلاً بذلة الآخرة.

ثم قال تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة آل عمران:112] أي: إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله وقُيِّضوا لذلك أنّهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله والغشيان لمعاصي الله، والاعتداء في شرع الله، فعياذًا بالله من ذلك، والله المستعان.

لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة آل عمران:113-117].

قال محمد بن إسحاق وغيره ورواه العَوْفِيّ عن ابن عباس -ا: إن هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبار أهل الكتاب.

هناك ذَكَر أن أهل الكتاب على طائفتين منهم من آمن وأكثرهم الفاسقون، وذكر حال هؤلاء الفاسقين وأنهم لن يضروكم إلا أذى، وأنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة إلى آخر ما ذكر، ثم ذكر بعد ذلك تفصيلاً فقال: لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ [سورة آل عمران:113]، فأثنى على أهل الإيمان منهم، وهم الذين آمنوا بمحمد ﷺ والآية تحتمل معنىً آخر وهو أنه وصف أهل الإيمان منهم قبل مبعث النبي ﷺ ممن كانوا على الدين الصحيح.

وعلى كل حال فإنه بعد بعث النبي ﷺ لا يُقبل من أحد دين سوى الإسلام ومتابعة النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا يمكن بعد مبعث النبي ﷺ أن يوصف أحد من أهل الكتاب بأنه على شيء وأنه على استقامة أو يُثنى عليه.

فالمقصود أن هذه الآية على المعنى الأول أنها في المؤمنين بمحمد ﷺ كما ذكر هنا، وكما قال الله : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121] وفي الآية الأخرى وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ [سورة آل عمران:199] وكذلك قوله: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:83] إلى آخر الآية. 

فهؤلاء كلهم كما قال الله : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] ليس كل النصارى، وإنما قال: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:82-84] إلى آخر ما ذكر، فهذا لا يقوله الكفار منهم، وإنما هي في الذين آمنوا أمثال النجاشي وعبد الله بن سلام وأمثال هؤلاء ممن تابع النبي ﷺ فإن الأوصاف المذكورة بعدها لا يمكن أن تكون إلا فيمن آمن بالنبي ﷺ وبالكتاب الذي جاء به، فهي مصرحة بذلك.

وهذه الآيات يُلبَّس بها كثيراً هذه الأيام في الثناء على النصارى ومدحهم وأنهم أقرب إلى المسلمين، وهؤلاء لا تسيل دموعهم إذا سمعوا ما جاء به الرسول ﷺ ولا يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، فهم لا يؤمنون إطلاقاً، فينبغي للإنسان أن لا يبتر الآية وإنما يكمل الآية فيتضح المراد بها، وإلا فإن هؤلاء النصارى اليوم لا فرق بينهم وبين اليهود، فهم عرفوا الحق وجحدوه، فجمعوا بين الضلال وبين الغضب، فكفرهم اجتمع فيه الجهل والعناد والمكابرة فكل ذلك وقع لهم، فهؤلاء ليسوا أقرب للمسلمين، وما يجري للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عامته إنما يقع بسبب النصارى، والله المستعان.

إن هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سَلام وأسَد بن عُبَيْد وثعلبة بن سَعْية وأسَيد بن سعْية وغيرهم، أي: لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: لَيْسُواْ سَوَاء [سورة آل عمران:113] أي: ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ [سورة آل عمران:113].

قوله: لَيْسُواْ سَوَاء يعني الذين آمنوا بالنبي ﷺ والذين كفروا به، وهذا على المعنى الذي ذكرته آنفاً، وهو اختيار كثير من المحققين ومنهم ابن جرير -رحمه الله.

ولهذا قال تعالى: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ [سورة آل عمران:113] أي: قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه متبعة نبي الله فهي قَآئِمَةٌ يعني مستقيمة يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران:113] أي: يقومون الليل ويكثرون التهجد.

قوله: يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ يعني في ساعات الليل، فآناء جمع مفرده إنْيٌ، والمراد ساعات الليل.

وقوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ هل المراد أنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل وفي السجود أيضاً مع أنه ورد النهي عن ذلك كما جاء من حديث علي وابن عباس، فهل المراد أنهم يقرءون القرآن في السجود؟

هكذا فهم بعض أهل العلم واستشكلوا -بناءً عليه- معنى الآية بهذا الاعتبار، والذي يظهر -والله أعلم- أنه ليس المراد أنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل وفي السجود، ولذا فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد أنهم يتلونه في الصلاة وأنه عبر عنها بركن منها، فالشيء قد يعبر عنه بجزئه وعليه يكون المعنى أنهم يتلونه في ساعات الليل وفي الصلاة فالصلاة يقال لها: سجود.

 ولعل الأحسن من هذا أن يقال: إنهم يتلون آيات الله آناء الليل، في ساعات الليل وهم مع ذلك يسجدون لله -تبارك وتعالى- ويتقربون إليه، لا أنهم يقرءونه في حال السجود لكن ذكر لهم صفتين هما: أنهم يتلون آيات الله وهم مع ذلك يسجدون لله -تبارك وتعالى، فإذا فُهم هذا المعنى فيمكن أن يقال بعد ذلك: إن المراد بالسجود هو الصلاة، ومن المعلوم أن السجود لا يكون منفرداً وإنما يكون في صلاة إلا في حالات مخصوصة كسجود الشكر وسجود التلاوة.

أي: يقومون الليل ويكثرون التهجد ويتلون القرآن في صلواتهم يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة آل عمران:114] وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ الآية [سورة آل عمران:199].

هذا تصريح من الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بأن هؤلاء هم أهل الإيمان، أي من آمن بمحمد ﷺ فالثناء الذي في هذه الآية على طائفة منهم هم الذين دخلوا في الإسلام.

وهكذا قال هاهنا: وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ [سورة آل عمران:115] أي: لا يضيع عند الله بل يجزيهم به أوفر الجزاء وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران:115] أي: لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً.

في قوله: فَلَن يُكْفَرُوْهُ هذا الفعل "يكفروه" عداه إلى مفعولين مع أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، تقول: كفر بكذا، لكن قال هنا: فَلَن يُكْفَرُوْهُ فالمفعول الأول يرجع إليهم والمفعول الثاني يرجع إلى العمل الذي عملوه، وفي مثل هذه الحال يمكن أن يقال: إنه قد ضُمِّن معنى فعل آخر يصح أن يُعدَّى إلى مفعولين مثل الحرمان، أي: وما يفعلوا من خير فلن يحرموه، تقول مثلاً: حرمت زيداً حقه، فصار متعدياً إلى مفعولين بخلاف كفَر فالأصل أنه يُعدَّى إلى مفعول واحد، فلما عدي إلى مفعولين دلَّ ذلك على أنه قد ضمن معنى فعل آخر يصح أن يعدَّى إلى مفعولين وهو الحرمان، فيكون المعنى فلن يحرموه، أي أن هؤلاء يقع لهم وعد الله بأن لا يجحد عملهم وإحسانهم ولن يحصل لهم شيء من الحرمان من الأجر مما عملوا من الصالحات والله أعلم.

وهذه الآية وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ [سورة آل عمران:115] فيها قراءة أخرى متواترة هي وما تفعلوا من خير فلن تكفروه).

وهذه الآية على قراءة التاء وما تفعلوا من خير فلن تكفروه) يكون الخطاب فيها موجهاً إلى عموم هذه الأمة، يعني أن الله تعالى أثنى على الذين آمنوا من أهل الكتاب ثم خاطب عموم الأمة، وأما على القراءة الأولى وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ فواضح أن المقصود بهم أهل الكتاب.

ثم قال تعالى مخبرًا عن الكفرة المشركين بأنه لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا أي: لا يُرَدّ عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة آل عمران:116].

لما ذكر تعالى حال الذين تابعوا النبي ﷺ وآمنوا، ذكر بعدُ عموم الكفار -ويدخل فيهم دخولاً أولياً كفار أهل الكتاب- وذكر أنهم لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً.

وبالنسبة لذكر الأولاد والأموال وجهه لا يخفى، وذلك أن أقرب الناس إلى الإنسان هم ولده الذين يتعزى بهم ويتقوى بهم ويتكثر بهم، والأموال يُجري فيها حكمه ويتصرف فيها كما يشاء فهي ملك له، فإذا كان أقرب الناس إليه وأمواله التي يُجري فيها حكمه لا تنفعه فغيره لا ينفعه من باب أولى.

أضف إلى ذلك أن عامة ما يُفتن به الناس مما يصدهم عن الحق ويصرفهم عنه هي الأموال والأولاد، والله يقول: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الكهف:46].

ولما ذكر الله تعالى المنافقين وما وصفهم به أخبر أنه لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم؛ لأنه وقع منهم هذا النفاق والتلوُّن من أجل إحراز الأموال والأولاد، والنبي ﷺ يقول: الولد مجبنة محزنة مبخلة[8].

 ثم ضرب مثلاً لما ينفقه الكفار في هذه الدار -قاله مجاهد والحسن والسُّدِّي- فقال تعالى: مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [سورة آل عمران:117] أي: برد شديد، قاله ابن عباس -ا، وعِكْرِمة، وسعيد بن جبَير وقتادة والحسن، والضحاك، والرَّبِيع بن أنس وغيرهم.

وقال عطاء: برد وجَلِيد، وعن ابن عباس -ا- أيضاً ومجاهد فِيهَا صِرٌّ أي: نار، وهو يرجع إلى الأول؛ فإن البرد الشديد ولا سيّما الجليد يحرق الزروع والثمار كما يُحرق الشيء بالنار.

هذا وجه جيد للجمع بين الأقوال، وهذا من مزايا هذا التفسير، فهذه اللفظة فِيهَا صِرٌّ بعضهم فسرها بالبرد، وبعضهم فسرها بالريح، وبعضهم فسرها بالنار المحرقة، والصرير هو الصوت، وهذا الصوت قد يكون في الريح لشدتها وقد يكون ذلك في النار، وهذه المعاني المذكورة في هذه الآية لا منافاة بينها ولا يحتاج ذلك منا إلى ترجيح، وإنما يقال: فِيهَا صِرٌّ أي أنها ريح لها صوت لشدتها وقوتها، فهي ريح باردة تتلف حروثهم وزروعهم وثمارهم فيكون ذلك أثر الإحراق بالنار فكأن هذه الزروع قد أحرقت. 

وهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا وهو اختيار الحافظ ابن القيم -رحمه الله- خلافاً لبعض السلف الذين حددوا أنها البرد الشديد كما مشى على ذلك ابن جرير -رحمه الله- حيث فسرها بالريح الباردة، وعلى كل حال لا حاجة للاقتصار على قول ابن جرير؛ لأنه يمكن أن يجمع بين هذه الأقوال ويكون ذلك من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد وهذا باعتبار ما يئول إليه الحال عند الجمع بين الأقوال، وإلا فإنه يوجد فرق كبير بين الريح وبين النار وبين البرد فهذا في الواقع اختلاف تضاد، لكن من اختلاف التضاد ما يمكن جمع الأقوال فيه كهذا المثال.

أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [سورة آل عمران:117] أي: فأحرقته، يعني بذلك السَّفْعة إذا نزلت على حَرْث قد آن جِدَادُه أو حصاده فدمرته وأعدَمَتْ ما فيه من ثمر أو زرع فذهبت به وأفسدته، فعَدمَه صاحبه أحوج ما كان إليه، فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها كما أذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه، وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة آل عمران:117].
  1. أخرجه أحمد (15154) (ج 3 / ص 383) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قصة يأجوج ومأجوج (3170) (ج 3 / ص 1221) ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة (221) (ج 1 / ص 200).
  3. أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة - باب ما جاء في صفة أهل الجنة (2546) (ج 4 / ص 683) وابن ماجه في كتاب الزهد - باب صفة أمة محمد ﷺ (4289) (ج 2 / ص 1434) وأحمد (22990) (ج 5 / ص 347) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الجمعة - باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم (856) (ج 1 / ص 305) ومسلم في كتاب الجمعة - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (2017) (ج 3 / ص 6).
  5. صحيح مسلم - كتاب الجمعة - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (2017) (ج 3 / ص 6).
  6. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الظلم (2577) (ج 4 / ص 1994).
  7. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15] (7053) (ج 6 / ص 2722) ومسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها - باب النهي عن سب الدهر (2246) (ج 4 / ص 1762).
  8. أخرجه الطبراني في الكبير (651) (ج 1 / ص 236) والحاكم (4771) (ج 3 / ص 179) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7160).

مواد ذات صلة