الجمعة 17 / شوّال / 1445 - 26 / أبريل 2024
[24] من قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ} الآية 159 إلى قوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} الآية 164.
تاريخ النشر: ١٤ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 5358
مرات الإستماع: 2440

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ۝ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۝ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ۝ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۝ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۝ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [سورة آل عمران:159-164].

يقول تعالى مخاطباً رسوله ﷺ ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم ليناً لولا رحمة الله بك وبهم.

وقال قتادة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] يقول: فبرحمة من الله لنت لهم و“ما” صلة والعرب تصلها بالمعرفة كقوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ [سورة النساء:155] وبالنكرة كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ [سورة المؤمنون:40] وهكذا هاهنا قال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] أي: برحمة من الله.

وقال الحسن البصري: هذا خلق محمد ﷺ بعثه الله به، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ [سورة آل عمران:159] قال: أي فبرحمة من الله لنت لهم.

يقول: و”ما“ صلة، وعرفنا أنهم يعبرون بالصلة عن الزيادة، يعني أنها زائدة إعراباً وحينما يقولون: صلة، فالمقصود أنها مزيدة للتوكيد، وهذا مشى عليه كثير من المحققين من أئمة العربية، ومن أئمة التفسير كأبي جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله، فقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ أي: برحمة محققة من الله حصل لهم هذا اللين من جانبك، فإن ذلك أدعى للقبول والمتابعة والالتفاف حول النبي ﷺ.

ثم قال تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [سورة آل عمران:159] والفظُّ: الغليظ.

الغليظ الجافي الجلف يقال: فلان فظ يعني أنه غليظ جاف من الأجلاف الذين يعاملون الناس بالمخاشنة وسوء الخلق.

والمراد به هاهنا غليظ الكلام، لقوله بعد ذلك: غَلِيظَ الْقَلْبِ.

يقال: غليظ الكلام وغليظ الخلق، وغليظ الكلام لا شك أنه ينتج عن غليظ خلق ينطوي عليه، فهو غليظ الخلق مع قسوة القلب، فقوله: فظاً أي: غليظ الأخلاق غَلِيظَ الْقَلْبِ يعني قاسي القلب لا يرحم ولا يشفق على أتباعه ونحو ذلك، فالنبي ﷺ بخلاف هذا.

أي: لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم كما قال عبد الله بن عمرو -ا: إنه رأى صفة رسول الله ﷺ في الكتب المتقدمة: إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.

على كل حال هذه أخلاق كاملة لا سيما لمن أراد أن يتصدى لدعوة الناس أو نحو ذلك فينبغي أن يتحلى بها، فلا يكون جلفاً سيئ الخلق، يتأذى الناس بمجالسته وما يسمعون منه من جرح مشاعرهم وسبهم وشتمهم ويكون في قلبه قاسياً حقوداً لا يعفو الزلة عن الأتباع ولا يتجاوز ولا يحتمل لهم الغلط والهفوة وما أشبه ذلك، وإنما طبعه الغلظة والشدة، فمثل هذا تنفر منه النفوس بطبيعتها، فالنفوس لا تحب من كان كذلك، يعني حتى الإنسان الغليظ الجافي إذا رأى إنساناً آخر غليظاً جافياً فإنه ينفر منه، وفي كثير من الأحيان الإنسان قد لا يتفطن، ولا يرى عيوبه ولو كانت أمثال الجبال لكنه يرى ذلك في الناس ولو كان صغيراً فينفر من هذه الصفات.

فالمقصود أن الدعاة إلى الله وطلاب العلم أولى بمثل هذه الأوصاف من رحمة المسلمين والعطف عليهم والشفقة، وألا يكون سيئ الخلق في تعامله مع الناس فهذه أمور لا تليق، قد يكون الإنسان طالب علم فيغلظ على الناس في الكلام وربما شتمهم ورما آذاهم وربما أقفل السماعة وهو يحادثهم في الهاتف، فيخاف الناس منه ومن سؤاله، ومن الدنو منه ومن معاشرته، وإذا عاشروه رأوا منه ألوان الأخلاق الكريهة. 

فينبغي للإنسان أن يكون قدوة في سلوكه قدوة في تصرفاته، فإذا عنف أحداً فهو يقصد هذا لمعنىً يرى أنه مصلحة لهذا الإنسان المعنف ولا يجد في نفسه تشفياً في مثل هذه الحال، فهو كالطبيب يضع الدواء حيث نفع لا سيما في التعامل مع الناس الذين يظنون أن هؤلاء لهم أخلاق كما يقال: أخلاق ربانية، أو أخلاق أنبياء، فحينما يأتي الناس لطلاب العلم أو يأتون لمن يدرسون في الجامعات الشرعية أو نحو هذا ينبغي أن يجدوا منهم اللين والغلظة ولا يجدون الأخلاق الصحراوية والجفاف في النفوس والسلاطة والتعنيف في اللسان وما إلى ذلك. 

فحتى لو كان الإنسان يعيش في بيئةٍ الغلظة غالبة فيها فإنه ينبغي أن يهذب أخلاقه، فيتخلص الإنسان قدر المستطاع من مثل هذه الأوصاف فإن ذلك ينفر النفوس، وكم من طالب علم جاء مندفعاً متحمساً حينما كان يقرأ عن أخلاق الإمام أحمد والفضيل وابن المبارك وأمثالهم، ثم رأى عكس هذا تماماً لدى بعض من يحتف به أو ابتلي بتعليمه فنفر وكره العلم وكره طلاب العلم وكذلك الدعاة إلى الله إذا كانوا بهذه المثابة. 

فلا بد من التجاوز واحتمال أخطاء الناس وهفواتهم، والذي لا يصلح لشيء يصلح لشيء آخر، والله خلق الناس في غاية التفاوت فلا بد من سعة الصدر لهم وإعطاء كل إنسان ما يحسنه، والحاجة موجودة للجميع.

ولهذا قال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [سورة آل عمران:159] ولذلك كان رسول الله ﷺ يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييباً لقلوبهم؛ ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه.

يعني إذا شاورت الإنسان جعلته شريكاً لك في هذا حتى في الناحية النفسية كما يقال، إذا أردت أن تجعل إنساناً في صفك فيمكن أن تدخله معك من هذه البوابة، إنسان ممكن أن يعترض وينبري لمعارضة هذا الأمر، فمن الممكن أن تأتيه وتقول: نحن نعاني من كذا وكذا وكذا، بماذا تشير علي؟ فيمكن أن يقترح عليك الرأي الذي يمكن أن يكون هو أكثر المعارضين له. 

وللأسف هذه يمكن أن يستغلها أهل الفساد مع بعض الطيبين ويُستغفلون بهذه الطريقة فيكون هذا عوناً لهم، ويمكن أن يستغلها أهل الصلاح، حتى في المشكلات الزوجية، وما أشبه ذلك، قد تسبق الزوجة إلى أحد من المصلحين الذين يصلحون بين الأسر، أو القضاة فتبدأ تذكر له المشكلة وتقلب الأمر بين يديه وماذا يشير عليها وما إلى ذلك، فيتحول تلقائياً إلى إنسان مستشار لها، وهذا لا بأس به إلى هذا الحد، لكن أن يكون كلامها هو الحق، وأن يعطيها تعليمات كيف تفعل لتنتصر على هذا الإنسان، وتأخذ حقها منه وما أشبه ذلك حتى إذا جاء ذلك الزوج فإذا القضية محسومة في نظر هذا القاضي وأن هذا إنسان ظالم، وينبغي أن يؤدب، والسبب أنها جاءت بطريقة مشاورته في الموضوع وماذا يمكن أن تفعل، فتحول دون أن يشعر إلى عاضد وناصر، وهذا حاصل بشكل كبير جداً.

فالمقصود أنك بكل بساطة تستطيع أن تحول الكثيرين إلى أعوان وأنصار بهذا الأسلوب حتى بالتعامل مع الأب مثلاً قد تجده يعترض على شيء فتعرض عليه وتقول: أنا أعاني من إشكال وكذا، فماذا تشير عليَّ؟ فتجده يبدأ يجتهد بكل طاقته ليعطيك حلولاً، فهذه الحلول قد تكون أنت تفكر فيها أصلاً، لكن إذا طرحتها لأول وهلة تجد المعارضة.

وعلى كل حال هذه الآية تضمنت حق الله وحق النبي ﷺ وحق الخلق، فالله يقول: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [سورة آل عمران:159]، فقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ أي: إن بدر منهم تقصير في حقك، وقوله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي مما يقع منهم من الذنوب والمعاصي والتقصير في حق الله ، وقوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ هذا حق لهم.

كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون، وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل، حتى أشار المنذر بن عمرو المُعْنق؛ ليموت، بالتقدم إلى أمام القوم.

قوله: ”المعنق ليموت“ ربما قيل له ذلك -إن صحت الروايات التي في السير- لما كان في بئر معونة فأقدم بعد أن قتل أصحابه وأصرَّ ألا يبرح وألا يفارق حتى يقاتل المشركين أو يقتل، فأقدم عليهم حتى قتلوه، فيقولون: إن النبي ﷺ قال له: أعنق ليموت[1].

فقوله: أعنق ليموت يعني بادر ليموت، ثم لقب بهذا، هكذا في بعض الروايات في السير إن صحت.

وشاورهم في أُحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم، وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى عليه ذلك السعدان، سعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة -ا- فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين فقال له الصديق -: إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال.

على كل حال هذا هو الواجب، وقد قال ابن عطية -رحمه الله: إن من لا يشاور أهل الدين والصلاح والعلم يجب عزله.

وقال ﷺ في قصة الإفك: أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليه إلا خيراً[2].

واستشار عليًّا وأسامة -ا- في فراق عائشة -ا وأرضاها- فكان ﷺ يشاورهم في الحروب ونحوها.

وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: المستشار مؤتمن [ورواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي].

قوله: (أبْنوا أهلي الأَبْن: التهمة، والمعنى هنا اتهموا أهلي، وعلى كل حال الحديث فيه كلام معروف وضعف في إسناده، لكنه قد يحتمل التحسين لشواهده، وقد رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والتحسين من قبل الترمذي.

وقوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ [سورة آل عمران:159] أي: إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران:159].

وقوله تعالى: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:160] وهذا كما تقدم من قوله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126] ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران:160].

قوله: وَإِن يَخْذُلْكُمْ الخذلان هو الترك والتخلية، فحينما يكون الإنسان أحوج ما يكون إلى الألطاف والنصر إذا تركته في هذا الوقت الذي يحتاج إليك فيه وتخليت عنه تكون قد خذلته، أما إذا كان لا يحتاج إليك فتركته فليس هذا من الخذلان، إنما يكون الخذلان في وقت الحاجة والاضطرار.

وفي قوله: وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ الاستفهام هنا مضمن معنى النفي، والمعنى لا أحد ينصركم من بعد الله .

وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ [سورة آل عمران:161] قال ابن عباس -ا- ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون.

وروى ابن جرير عن ابن عباس -ا- أن هذه الآية: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعلَّ رسول الله ﷺ أخذها، قال: فأكثروا في ذلك، فأنزل الله: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:161] وكذا رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حسن غريب، وهذه تبرئة له -صلوات الله وسلامه عليه- عن جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك.

سبب النزول هذا صحيح ثابت وبه يفهم إيراد هذه الآية، وذلك أنه قد يتساءل الإنسان عند قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ما الموجب لذكر هذا المعنى مع أن الأنبياء كما هو معلوم منزهون عن هذا؟ فهل اتهمهم أحد بهذا؟ أو هل حصل موقف؟ أو هل جوَّز عليهم أحد ذلك؟

فيكون الجواب أن سبب النزول أن من الناس من قال هذه المقالة: لعل رسول الله ﷺ أخذها.

وحقيقة الغلول هو الأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم، وبعضهم يعمم هذا فيقول: الأخذ من الغنيمة والفيء أو بيت المال يعتبر من الغلول، لكن معنى الغلول المشهور الذي إذا أطلق تبادر إليه الذهن هو الأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم، وسبب النزول هنا يدل على هذا.

ثم قال تعالى: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة آل عمران:161]، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة.

روى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي عن النبي ﷺ قال: أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً، فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة[3].

الحديث عند الإمام أحمد في إسناده ضعف، لكن له أصل من حديث سعيد بن زيد عند البخاري في الصحيح، وعلى كل حال، لو تأملت حينما تسمع هذه الآية: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ [سورة آل عمران:161] دون أن تعرف سبب النزول، ثم انظر بعد أن عرفت سبب النزول فتجد أن فهم الآية يتغير والإشكال ينحل، فأحياناً سبب النزول يعين على فهم المعنى ويزول به الإشكال، فأسباب النزول متفاوتة، وأحياناً تكون من باب زيادة العلم لا تؤثر في فهم الآية، ولذلك فأسباب النزول من جملة التفسير، أعني حينما يسمع الإنسان مثل هذه الآية وهو لا يعرف خلفيتها ولا يدري لماذا قيل هذا يكون هناك فرق إذا سمعها وهو يعرف معناها ويعرف لماذا أوردها الله .

وروى الإمام أحمد عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله ﷺ رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله ﷺ على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت ثلاثاً، وزاد هشام بن عروة: فقال أبو حميد: بصر عيني وسمِع أذني وسلوا زيد بن ثابت [أخرجاه][4].

قوله: حتى رأينا عفرة إبطيه، العفرة هي بياض يخالطه لون يغايره، كما يقال: صبي أعفر، أي أبيض، وعلى ظهره شيء من لون الأرض كما نقول بني فاتح، أي بياض متغير يمازجه لون آخر غير لون سائر الجسد.

ومثل هذا الحديث حينما أورده ابن كثير -رحمه الله- يحتمل أنه أراد أن يقرر أن الغلول هو الأخذ من المال العام، سواء كان من أموال الغنيمة قبل قسمها أو الفيء أو بيت مال المسلمين، وهذا قال به جماعة من أهل العلم، والنبي ﷺ هنا لم يذكر الآية في هذا الحديث، فذلك يرجع إلى اجتهاد المفسر، فإذا كان المفسر يظن أن هذه الآية مرتبطة بهذا الحديث ومفسرة له فإنه يريده، هو قد يصيب في هذا وقد يخطئ، هذا النوع الذي يكون من قبيل التفسير بالسنة مما يدخله اجتهاد المفسر، فقد يخطئ المفسر وقد يصيب.

ويحتمل أيضاً أن الحافظ ابن كثير يرى أن الغلول هو الأخذ من مال الغنيمة خاصة، ولكن أيضاً هناك أشياء من الأخذ يحاسب عليها الإنسان ويأتي بها يوم القيامة، كما قال الله : وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [سورة آل عمران:161]، فربما يريد أن يفسر هذا القدر كيف يأتي به، فالحديث بيّن أنه يأتي بالشاة أو البعير على تلك الهيئة التي ذكرت فيفتضح أمام الناس.

وروى أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال: أتدري لمَ بعثت إليك، لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك[5] هذا حديث حسن غريب.

على كل حال الحديث فيه ضعف، ولو صح فيمكن الاحتجاج به على أن الغلول أيضاً يطلق على الأخذ من الأموال العامة، مثل الزكوات أو غير ذلك؛ لأن معاذاً قائم في اليمن وسيعطيه الناس أموالاً من زكواتهم ونحو هذا، وكان يبعث ذلك إلى النبي ﷺ ويقسم أيضاً على المستحقين، فالأخذ من هذا يكون من قبيل الغلول لو صح هذا الحديث، وعلى كل حال يمكن أن يقال: إن الغلول يطلق إطلاقاً خاصاً وهو الأخذ من مال الغنيمة قبل أن تقسم، وإطلاقاً أوسع وهو الأخذ من الأموال العامة.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله ﷺ يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك [أخرجاه][6].

الصامت هو الذهب والفضة، والرقاع: مثل الجلود أو الثياب أو نحو هذا، وفي هذا الحديث ذكر الأصناف، وهي الحيوانات والمصنوعات أو الجلود وذكر أيضاً الذهب والفضة.

وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله ﷺ: كلا؛ إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ثم قال رسول الله ﷺ: يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون“[7] وكذا رواه مسلم والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة آل عمران:162] أي: لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه.

لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه، يعني في كل شيء، اتبع رضوان الله في الأعمال القلبية وأعمال الجوارح في طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ كما قال ربنا -تبارك وتعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۝ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ [سورة آل عمران:73-74] فوصفهم بهذا حيث أجابوا النبي ﷺ لما دعاهم للخروج إلى حمراء الأسد بعد غزوة أُحد مباشرة.

أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه، فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه، وأجير من وبيل عقابه، ومن استحق غضب الله وألزم به فلا محيد له عنه، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير.

يعني هذا أيضاً في محادّة الله ومعصيته بكل الأشكال والصور كما قال الله : تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ۝ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [سورة المائدة:80-81].

فالحاصل أنه قال: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ أي: سولت لهم وزينت أن يوالوا المشركين، فكان ذلك سبباً لسخط الله عليهم.

وهذه لها نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [سورة الرعد:19].

هذا دأب ابن كثير -رحمه الله- حيث يفسر القرآن بالقرآن ولو أن أحداً دوَّن بعض النماذج لمعرفة منهج ابن كثير في التفسير فإنه سيجد عنده في النهاية تطبيقات على قواعد التفسير بأنواعها خاصة وأن الكتاب هذا حافل بذلك، فإذا جمع أحدنا هذه الأمور شيئاً فشيئاً فإنه يمكن أن يخرج بمجلدات، والناس في هذا كلٌّ بحسبه، فمنهم من يجدها تلوح لأنه يذكرها صراحة وأحياناً تكون خفية لا تظهر إلا لمن كان له خلفية بهذا.

وهذه لها نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [سورة الرعد:19] وكقوله: أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية [سورة القصص:61].

ثم قال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ [سورة آل عمران:163] قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: يعني أهل الخير وأهل الشر درجات، وقال أبو عبيدة والكسائي: منازل يعني متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار، كقوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ الآية [سورة الأنعام:132] ولهذا قال تعالى: واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة آل عمران:163] أي: وسيوفِّيهم إياها لا يظلمهم خيراً ولا يزيدهم شرَّاً بل يجازي كلاًّ بعمله.

وقوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ [سورة آل عمران:164] أي: من جنسهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به.

قوله تعالى: مِّنْ أَنفُسِهِمْ المعنى الأعم هنا يمكن أن يكون من جنسهم أي ليس من جنس آخر كالملائكة، فمن رحمة الله أن جعله مشاكلاً لهم يستطيعون الأخذ عنه والاقتداء به، فلو كان ملكاً من الملائكة فإنهم لا يستطيعون رؤيته على هيئته الحقيقية فضلاً عن الأخذ منه، ثم أيضاً كل ما يفعله ذلك الملك، يقال فيه: هذا ملك ليس فيه شهوات وليس فيه كذا، فهو ليس محل الاقتداء بالنسبة إليهم.

ويحتمل معنىً أخص من هذا وهو أن يكون من أهل لسانهم، يعني من العرب وهذا الذي اختاره ابن جرير، ويمكن أن يستشهد له بقوله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2] فهذا الرسول في الأميين أمي مثلهم، وذلك ليكون مشاكلاً لأحوالهم يفهمون عنه، ولذلك يقولون إذا أردت قتل الفيلسوف فضعه بين العوام؛ لأن الفيلسوف يتكلم بكلام لا يفهمه الناس فهو يتكلم بأشياء يتفلسف فيها فإذا وضعته بين العامة يموت؛ لأنه لا يجد من يسايره حتى إن الناس يقولون عنه: إنه مجنون.

فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يعلمون الناس ويبلغونهم شرع الله بطريقة تلائم الفطرة فيفهمونها، فهذه الأشياء التي جاء بها الأنبياء يتدين بها ويعمل بها الأعرابي في الصحراء وأهل الحضر في كل زمان ومكان، فهي كما يقول الشاطبي -رحمه الله: شريعة أمية، فالحاصل أن الآية تحتمل هذا المعنى: رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ أي: من أهل لسانهم، أي من الأميين.

كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [سورة الروم:21] أي: من جنسكم، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ الآية [سورة الكهف:110]، وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20]

وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109]، وقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ [سورة الأنعام:130] فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه، ولهذا قال تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة آل عمران:164].

على كل حال في مثل هذا إذا احتملت الآية معنيين، وكان لكل معنىً ما يشهد له من القرآن ولا يوجد مانع يمنع من حمل الآية على هذه المعاني فإنها تحمل عليها جميعاً، فالله يمتن على المؤمنين أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، وهذا يشمل جميع أهل الإيمان العرب والعجم أن جاءهم رسول من البشر يستطيعون الأخذ منه والاقتداء به، وما أشبه ذلك. 

ويكون هذا الامتنان على العرب بصورة أخص حيث إنه موافق لهم، للغتهم وبلسانهم فتكون المنة عليهم بهذا البعث أعظم، وبناء على ذلك لا نحتاج أن نرجح فنقول: رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ أي: بلسانهم أو أنه من البشر، فالمنة حاصلة على المؤمنين جميعاً بهذا ولكنها أعلق بالعرب، ولذلك كلما كان الناس أخص برسول الله ﷺ من ناحية القرب باللسان أو بالقبيلة كلما كانت المنة عليهم بذلك أكثر، فالمنة على قريش أكثر من المنة على غيرها، والمنة على العرب أكثر من العجم.

ولهذا قال تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يعني القرآن وَيُزَكِّيهِمْ أي: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، لتزكوَ نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم.

يعني أن التزكية تحصل بالتطهير من الذنوب والأرجاس والشرك وما أشبه ذلك، كما تزكو بعمارة النفوس بتقوى الله تعالى، وتتخلص النفوس من الرواسب ومن الانحرافات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال ابن كثير: “يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر”، فهذا هو سبب تزكية النفوس بأن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فيحصل أثر ذلك ونتيجته.

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ يعني القرآن والسنة، وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ أي: من قبل هذا الرسول لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ أي: لفي غي وجهل ظاهر جلي بيِّن لكل أحد.

  1. الطبقات الكبرى لابن سعد (ج 3 / ص 567).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النور (4479) (ج 4 / ص 1780) ومسلم في كتاب التوبة - باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (2770) (ج 4 / ص 2129).
  3. أخرجه أحمد (17294) (ج 4 / ص 140) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن محمد بن عقيل وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الصحيح.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها - باب من لم يقبل الهدية لعلة (2457) (ج 2 / ص 917) ومسلم في كتاب الإمارة - باب تحريم هدايا العمال (1832) (ج 3 / ص 1463).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام - باب ما جاء في هدايا الأمراء (1335) (ج 3 / ص 621).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب الغلول (2908) (ج 3 / ص 1118) ومسلم في كتاب الإمارة - باب غلظ تحريم الغلول (1831) (ج 3 / ص 1461).
  7. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (114) (ج 1 / ص 107).

مواد ذات صلة