السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[27] من قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} الآية 185 إلى قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} الآية 194
تاريخ النشر: ١٨ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 4578
مرات الإستماع: 2395

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ۝ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [سورة آل عمران:185-186].

يخبر تعالى إخباراً عاماً يعمُّ جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [سورة الرحمن:26-27] فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخراً كما كان أولاً.

وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحداً مثقال ذرة، ولهذا قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:185].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- هنا: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ بعد أن وجَّه الله -تبارك وتعالى- نبيَّه ﷺ بألا يحزن لإسراع من أسرع في الكفر، وبعد أن ذكر الله جملة من الفِرى التي يفتريها أعداؤه، كقولهم: إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [سورة آل عمران:181] وما أشبه ذلك قال بعده: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ فكلام ابن كثير -رحمه الله- هنا كأنه مشى فيه على أن ذلك من الكلام المستأنف.

وبعض أهل العلم كأبي جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله- يربطها بما قبلها، وعلى كل حال هؤلاء يقولون: إن الله قال لنبيه ﷺ: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [سورة آل عمران:176] أي ولا تكذيب من كذّب وافتراء من افترى، فإن الكل سيوافي ويموت، ويرجعون جميعاً إلى الله فيثيب المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فمرجع الجميع ومصيرهم إليَّ، هذا وجه الارتباط بين الآية وبين الآيات التي قبلها على قول هؤلاء، والله أعلم.        

وقوله: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [سورة آل عمران:185] أي: من جُنِّب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز.

أصل الزحزحة: التنحية والإبعاد، والمعنى من نُحي عن النار وأبعد عن النار فقد فاز، وقد يكون أكثر ما تستعمل هذه اللفظة في الأشياء الثقيلة التي يصعب حملها أو رفعها، فيقال: زحزحته يعني حركته ونحيته.

روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [سورة آل عمران:185] هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة، وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه[1].

وقوله تعالى: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185] تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة الأعلى:16-17] وقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة القصص:60] وفي الحديث: والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بمَ ترجع إليه[2].

وقال قتادة في قوله تعالى: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185] هي متاع متروكة، أوشكتْ والله الذي لا إله إلا هو أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله.

في قوله: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185] المتاع هو الشيء الذي يضمحل ويزول لا بقاء له، فالنعيم الذي يضمحل هو من قبيل المتاع، والغرور: هو الذي يتبهرج ويتزين أمام الناظرين ومن تعاطاه، ولكنه لا حقيقة له، فكل ما غرَّ فهو من الغرور.

وبعضهم يقول ذلك للشيطان، ولهذا فسر بعضهم هذه الآية بالشيطان، وهذا -والله أعلم- لا منافاة بينه وبين الأول؛ لأن كل ما يغر الإنسان فإنه يقول له: غرور، فالدنيا تغره ومتاعها يستهويه فذلك مما يحصل به الغرور، وكذلك الشيطان أيضاً يفعل ذلك في نفسه كثيراً فيصدق عليه هذا، والله يقول: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [سورة لقمان:33]. 

فبعضهم يقول: أي فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم الشيطان، وعلى كل حال يمكن أن يقال: لا تغرنكم الحياة ولا يغرنكم الشيء الذي لا حقيقة له من كل ما يتبهرج ويتزين أمام الناظرين ثم لا يلبث أن يضمحل، والشيطان يزين ذلك فهو غرور أيضاً، ولا نحتاج أن نرجح بين هذه المعاني، والله أعلم.

يقول ابن كثير في قوله تعالى: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185]: فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.

وابن جرير الطبري -رحمه الله- يقول: وما متاعها الذي متعكموه في هذه الحياة الدنيا إلا الغرور والخداع؛ لأنها لا حقيقة لها وهي مضمحلة ولا تستحق أن ينصرف الإنسان عن الدار الآخرة الباقية بسبب هذه الدنيا الفانية، ولكن الغرور والخداع هو الذي يفعل فعله في نفوسكم فيحصل الانكباب عليها والتشاغل بها عن طاعة الله -تبارك وتعالى.

ويقول: فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم ثم هو عائد عليكم بالفجائع، أي أن هذا المتاع الذي يحصل لكم إنما متعكموه الغرور ثم ما يلبث أن يضمحل وتقع بكم الفجائع والمكاره، ولذلك لما ذكر الله نعيم الآخرة، ذكر أنه باق لا يزول وذكر الخلود بالنسبة لأهل الجنة فقال: خَالِدِينَ فِيهَا [سورة آل عمران:198]؛ لأن الإنسان مهما كان يُمتّع فإنه إذا تذكر أنه مفارق لهذا النعيم فذلك ينغص عليه لذته ويكدر عليه صفوها، ولهذا قال الشاعر:

هو الموت ليس يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فالفقير منغص بالموت إذا تذكره، والغني وهو يعيش في غاية الترف والنعيم في الدنيا إذا تذكر أنه مفارقه وأن هذا العقد الذي قد انتظم باجتماع بنيه وأحبابه وما أشبه ذلك، وأن كل ذلك سيأتي عليه يوم ينفرط فيه فيتهافتون ويتساقطون الواحد بعد الآخر، ثم ما يلبث هذا البيت أو هذا المكان أو هذا القصر الشامخ حتى يكون خراباً لا ترى فيه أحداً يرد الصوت وأن هذه طبيعة هذه الحياة، إذا تذكر كل ذلك تنغصت عليه حياته.

وقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186] كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [سورة البقرة:155] إلى آخر الآيتين، أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء.

وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا [سورة آل عمران:186]، يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر، مسلياً لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين وآمراً لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله فقال تعالى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [سورة آل عمران:186].

قوله تعالى: فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ بعض أهل العلم يفسره بعزمات الأمور، أي مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لكونه عزمة من عزمات الله ؛ لأن الله طلبه وأمر به وأحبه.

روى البخاري عن أسامة بن زيد -ا- أن رسول الله ﷺ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية.

القطيفة هي مثل السرج الذي يوضع على الفرس، فما يوضع على ظهر الحمار تحت الراكب يقال له: قطيفة، والذي يوضع على الفرس يقال له: سرج والذي يوضع على البعير يقال له: رحل..

وقوله: فدكية: منسوبة إلى فدك قريبة من خيبر.

وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، فسلَّم رسول الله ﷺ ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. 

فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. 

فقال عبد الله بن رواحة -: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي ﷺ يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي ﷺ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة. 

فقال له النبي ﷺ: يا سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي- قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعف عنه واصفح، فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك.

يقول: "على أن يتوِّجوه ويعصِّبوه " أي كانت عادتهم إذا ملَّكوا أحداً عليهم أن يتوجوه ويعصبوه.

وقوله: "شرِق بذلك" الأصل أن شرق تقال إذا شرب الإنسان الماء أو أكل شيئاً فوقف في حلقه أو دخل في مجرى النفس، وكذلك يقال: شرق بهذا الأمر بمعنى أنه ساءه وتلكأ فيه ولم يقبله.

فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله ﷺ[3].

وكان رسول الله ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى.

طبعاً هذا قبل أن يُشرع الجهاد، حيث أمروا بالصفح والعفو والإغضاء والتجاوز، لكن بعد أن شُرع الجهاد كان النبي ﷺ يجيش الجيش، كما حصل في قينقاع وقريظة والنضير.

قال الله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا الآية [سورة آل عمران:186]، وقال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ الآية [سورة البقرة:109].

وكان النبي ﷺ يتأول في العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله ﷺ بدراً فقتل الله به صناديد كفار قريش قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول الله ﷺ على الإسلام وأسلموا.

قول عبد الله بن أبي: "هذا أمر قد توجه" يعني مضى وأخذ طريقه في القوة والانتشار وتجاوز مرحلة البداية والضعف وما أشبه ذلك.

وقول ابن كثير: "وكان النبي ﷺ يتأول في العفو ما أمره الله به" المقصود بالتأول هنا التطبيق والعمل، وهذا أحد معاني التأويل، فإذا قيل: يتأول قوله تعالى كذا، فالمعنى أنه يمتثل.

فكل من قام بحق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى، فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله .

وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ۝ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:187-189].

هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد ﷺ، وأن ينوِّهوا بذكره في الناس، ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه.

هذا التفسير واضح أنه ينحى إلى أن هذه الآية في أهل الكتاب في قضية بيان ما عرفوا من أحقية ما جاء به الرسول ﷺ، وهذا الذي مشى عليه ابن جرير -رحمه الله، وهذه الآية وإن سيقت لتقرير هذا المعنى، إلا أن ظاهر اللفظ أعم من ذلك فيدخل في هذا المعنى وغيره من البيان، ويكون ذلك أيضاً متوجهاً لهذه الأمة، فأهل الكتاب قص الله عنهم أنهم كما قال: فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ [سورة آل عمران:187] فالبيان لا يختص بأهل الكتاب فهذه الآية وإن كانت فيهم، إلا أنه يؤخذ منها أنه يجب على من عرف الحق أن يبيِّنه للناس، فالله أخذ الميثاق على أهل الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187] أي كل ما يجب عليهم بيانه ومن ذلك أحقية ما جاء به الرسول ﷺ مما عرفوه في كتبهم، لكنهم جحدوا ذلك وغيروا أوصافه وكذّبوا به، وهكذا..

فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ويُسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي ﷺ أنه قال: من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار[4].

وقوله تعالى: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا كما جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ: من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة[5] وفي الصحيح أيضاً: المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور[6].

هذه الآية: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] هذا التفسير الذي قاله الحافظ ابن كثير: "يعني بذلك المرائين المتكثرين" يعني أنه حمل الآية على العموم، أي كل من وقع منه ذلك فهو ليس بناجٍ من العذاب، فهذه الآية على هذا الاعتبار لا تختص بأهل الكتاب الذين سئلوا عن شيء فكتموه ثم استحمدوا عن رسول الله ﷺ أنهم قد أعلموه وأخبروه بما سألهم عنه، وهذا التفسير مشى عليه جماعة من المفسرين غير الحافظ ابن كثير، وهو حملٌ للآية على ظاهرها وهو الأرجح، وقد قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا على اتباع السنة والإخلاص، يعني أنه حملها على العموم.

وقول ابن عباس في الآية مشهور وسيأتي أنها مختصة بأهل الكتاب وهذا الكلام ليس محل اتفاق بين السلف -، وتوجد أدلة تدل على خلاف ذلك.

وروى الإمام أحمد أن مروان قال: اذهب يا رافع –لبوابه- إلى ابن عباس -ا- فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذَّباً لنعذَّبنَّ أجمعون، فقال ابن عباس: وما لكم وهذه، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [سورة آل عمران:187] وتلا ابن عباس: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ الآية [سورة آل عمران:188].

 وقال ابن عباس: سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه، وهكذا رواه البخاري في التفسير، ومسلم، والترمذي والنسائي في تفسيريهما.

نعم، الآن هذا تفسير من ابن عباس أنها نزلت في هؤلاء وليس هذا من قبيل سبب النزول، فهو من قبيل التفسير، فهذا فهم ابن عباس -ا.

وعلى كل حال الآية ظاهرها العموم، وأما قول مروان بأنه إن كان كذا وكذا فلنعذبن أجمعون، فهذا غير صحيح؛ لأن المؤمن الذي قد حقق الإيمان الواجب وصدق مع الله لا يحب أن يحمد بما لم يفعل إطلاقاً، بل قد لا يحب أن يحمد بما فعل، لكن إن فرِح أو سرَّه أن يحمد بما فعل فهذا عاجل بشرى المؤمن ولا إشكال فيه. 

لكن الذي يحب أن يحمد، يعني أنه ولو لم يقع ذلك فهو يتمنى أن يقع فمثل هذا لا يتطلبه المؤمن، ولا يفعل الخير ولا يقدم على الأعمال من أجل أن يحمد، وكذلك أن يحمد بما لم يفعل فهذا لا يرضى به إنسان يحترم نفسه ويصدق مع الله ، بل هو بالعكس يستاء من هذا، ولا يفعل هذا أو يرضى به إلا مُراءٍ، فالمقصود أن هذا الكلام لا ينطبق على الجميع كما قال مروان: ولنعذبن أجمعون، فهذا الكلام ليس بصحيح في معناه. 

والمقصود أن الآية ظاهرها العموم ولا يوجد دليل على تخصيصها، ولو فرضنا أن هذا سبب النزول فإذا كان هذا التوعد واقعاً لبني إسرائيل فهو في حق هذه الأمة أشد؛ إذ ما الذي يجعل هذه الأمة بمنجاة ومنأى من هذا؟ فعلى قدر المقام يكون الملام، فإذا كان هذا الوصف من الأوصاف الذميمة، والله توعد من وقع فيه من بني إسرائيل -لو فرضنا أنها في بني إسرائيل- فإن ذلك يكون لهم ويكون لغيرهم فالله حكم عدل لا يظلم الناس شيئاً، فإذا كانت هذه الأمة أشرف من بني إسرائيل ووقع ذلك لبني إسرائيل ولحقهم ذلك الوعيد، فإن ذلك يكون أوجب في هذه الأمة، والله أعلم.

ولذلك فالرواية التي في البخاري ومسلم تدل على أن ذلك على عمومه، مع أن هذه الآية اشتهر فيها قول ابن عباس -ا- أنها خاصة في أهل الكتاب، وبناء عليه يركن الإنسان إلى أنه لا حرج عليه إذا أحب أن يحمد بما لم يفعل، فهذا الكلام غير صحيح.

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله ﷺ، كان إذا خرج رسول الله ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﷺ فإذا قدم رسول الله ﷺ من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ الآية [سورة آل عمران:188] وكذا رواه مسلم بنحوه[7].

هذا سبب نزول صريح ويدل على أن الآية على العموم، ولكن يؤخذ منه أن الذي أتوه ليس هو العمل الصالح وإنما هو مخالفة الرسول ﷺ ومعصية الله وقعودهم عن الجهاد معه ﷺ أي أنهم يفرحون بما أتوا من التخلف عن الغزو مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام، وعلى كل حال من فرح بالمعصية وأحب أن يحمد بما لم يفعل فلا شك أن هذا ليس من أوصاف أهل النجاة. 

وأما فرح الإنسان بما فعل من الأعمال الطيبة الصالحة، فهذا أمر لا إشكال فيه، ولكن الله ذكر هنا أمرين اثنين، هما: أنهم يفرحون بما أتوا، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فإذا جعلنا قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] على عمومها وقلنا: بما أتوا من العمل الصالح مثلاً، وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] بمعنى أنه يكون متكثراً بهذا إضافة إلى أعماله فإن اجتماع هذا إلى هذا أمر لا يليق ولا يحسن ولا يجمل بالمؤمن.

وأما إذا قلنا: بأن يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] يعني من المخالفة، وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188] بمعنى أنهم لا يعملون الصالحات ويفرحون بمخالفاتهم ويحبون أن يحمدوا بشيء لم يفعلوه، فبهذا الاعتبار تكون قد اتضحت المسألة.

وقوله تعالى: فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ [سورة آل عمران:188] يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد، وبالياء على الإخبار عنهم، أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب.

قوله: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قرئت بالتاء وقرئت بالياء (لا يحسبن)، فعلى الأولى يكون الخطاب للنبي ﷺ، وبالتالي يكون أيضاً متوجهاً إلى الأمة، وعلى القراءة الثانية: (لا يحسبن) يكون المعنى لا يظن هؤلاء الذين وقعوا في هذا الفعل القبيح أنهم بمنجاة من عذاب الله .

أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لابد لهم منه، ولهذا قال تعالى: ولهم عذاب أليم.

إذاً سبب نزول قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] يدل على أنه بما أتوا من المعصية، وهذا هو الذي فسره ابن القيم بقوله: يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من السنة.. الخ.

وإذا فسر قوله: يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ [سورة آل عمران:188] بأنه من العمل الطيب فإن هذا لا يشكل؛ لأنه مرتبط بما بعده أي بقوله: وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ [سورة آل عمران:188]، هذا وهذا، لكن المعنى الأول أقرب، أي بما أتوا من المخالفة والمعصية والقعود عن رسول الله ﷺ، ويرجح هذا سببُ النزول، والأمر الثاني: أن من كانت هذه صفتهم من المرائيين أو المنافقين أو اليهود، فهم لا يفرحون بالعمل الطيب الصالح وإنما همهم ثناء الناس وإطراؤهم.

ثم قال تعالى: وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:189] أي: هو مالك كل شيء، والقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه، والقدير الذي لا أقدر منه.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۝ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ۝ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران:190-194].

يقول الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت، وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات، وزروع وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والروائح والطعوم والخواص.

وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي: تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً ويقصر الذي كان طويلاً.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا جمع بين المعنيين، فبعض أهل العلم يقول: اختلاف الليل والنهار يعني التعاقب، هذا يأتي بعد هذا، وبعضهم يقول: هو ما يحصل من الطول والقصر، فالليل يأخذ من النهار كما هو الحال في الشتاء، والنهار يأخذ من الليل كما هو في الصيف، فكل ذلك -والله أعلم- داخل في قوله: وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فابن كثير –رحمه الله- جمع بين المعنيين.

وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم، ولهذا قال تعالى: لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [سورة آل عمران:190] أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله فيهم: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۝ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:105-106].

ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:191] كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين -ا- أن رسول الله ﷺ قال: صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب[8] أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم.

بعض أهل العلم يخصص هذا بالصلاة ويحتج عليه بهذا الحديث، لكن المعنى أعم من هذا، وقد يكون ما ذكروه إنما هو من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فإن الآية أعم من هذا والله يقول: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [سورة النساء:103].

فالحاصل أن الله ذكر هذه الأحوال في الذكر، وذلك أن الذكر لا يكلف شيئاً ولا يحتاج إلى أن يكون في حال معينة من قيام أو قعود أو استقبال للقبلة أو نحو هذا، وإنما يذكر الإنسان ربه –تبارك وتعالى- في كل الحالات ولهذا لا يكاد يُذكر الذكر في القرآن حينما يؤمر به أو يثنى على أهله إلا مقروناً بالكثرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الأحزاب:41-42]

وقال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [سورة الأحزاب:35] فالذكر ليس كالصلاة أو الصيام أو الحج أو نحو هذا وإنما هو شيء لا يتطلب كلفة زائدة، فالإنسان على فراشه يذكر الله وكذلك يذكره وهو يمشي وهكذا في كل الأحوال.

وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة آل عمران:191] أي: يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه واختياره ورحمته.

وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۝ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:105-106].

ومدح عباده المؤمنين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، قائلين: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً [سورة آل عمران:191] أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً بل بالحق.

قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:191] الإشارة في قوله: مَا خَلَقْتَ هَذا هي إشارة للقريب -والأقرب والله أعلم- أن المقصود بها ما خلقت هذا الخلق، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير هنا، قال: "أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً "، واختار هذا المعنى ابن جرير -رحمه الله- واحتج له بالدعاء بعده، مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:191] أي: سبحانك أن تكون قد خلقت هذا الخلق من غير حكمة، وإنما خلقتهم لحكمة عظيمة، فتجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته إذا وافوا يوم القيامة، فالله خلقهم لأمر عظيم.

وقوله هنا في نفي الخلق أن يكون باطلاً: مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً نفي الباطلية كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أوغل في بيان المعنى المقصود والدلالة عليه وذلك أن هذا الخلق لحكمة عظيمة، فبيان هذه الحِكَم كما هي أمر يطول؛ لأن بيان الحكمة كلها أمر يطول وصفه وبيان البعض من الحكم قد تقف عنده الأذهان وتقتصر عليه وتغيب عما سواه وتتوهم أن تلك هي الحكمة فحسب، لكن حينما يقال: مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً فنفي الباطلية يدل على أنه خلق لمعنىً عظيم، والله أعلم.

أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ثم نزهوه عن العبث.

أي كما في قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [سورة ص:27] فهم الذين يظنون أن الله -تبارك وتعالى- خلقهما عبثاً وباطلاً.

فقالوا: سُبْحَانَكَ أي: عن أن تخلق شيئاً باطلاً، فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أي: يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، وقيِّضنا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم وتجيرنا به من عذابك الأليم.

ثم قالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [سورة آل عمران:192].

الخزي: بمعنى الإذلال والإهانة والفضيحة؛ لأن من عُذب فقد لحقه الخزي وافتضح وأذل وأهين.

وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [سورة آل عمران:192] أي: يوم القيامة لا مجير لهم منك ولا محيد لهم عما أردت بهم.

رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أي: داعياً يدعو إلى الإيمان وهو الرسول ﷺ: أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي: يقول: آمنوا بربكم فَآمَنَّا أي فاستجبنا له واتبعناه، رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أي: بإيماننا وإتباعنا نبيك، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أي: استرها وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا فيما بيننا وبينك وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ [سورة آل عمران:193].

ذكر الغَفْر وذكر التكفير للسيئات، فمن يقول بالترادف يكون فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا معناه واحد، وعلى قول من يفرق بين الغَفْر والتكفير يكون معنى: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أي استرها وقنا شؤمها، ويكون وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا معناه المحو والإزالة أي امحها عنا.

وبالنسبة للذنوب والسيئات من يقول بالترادف يقول: هو شيء واحد، وبعضهم يفرق بين هذا وهذا، إما بأن بجعل البعض من الصغائر والآخر من الكبائر، أو أن البعض يتعلق بحقوق الخلق والآخر بحقوق الله أو نحو ذلك، فالحاصل أن الذنوب هي المعاصي، والسيئات هي المعاصي، ولكن لفظة السيئة تدل على معنىً وهو أن ذلك يسوء صاحبه، فإذا نظر إليه في ديوان عمله فإن ذلك مما يسوءه أو لوصفها بأنها سيئة مقابل الحسنة فهي موصوفة بذلك.

وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ [سورة آل عمران:193] أي: ألحقنا بالصالحين.

ألحقنا بالصالحين معناه اقبضنا في عداد الأبرار واحشرنا محشرهم، فقوله: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ أي توفنا في عدادهم، واحشرنا محشرهم، كما يقول ابن جرير الطبري -رحمه الله.

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ [سورة آل عمران:194] قيل: معناه على الإيمان برسلك، وقيل: معناه على ألسنة رسلك، وهذا أظهر.

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ أي على الإيمان بهم أو على ما ورد على ألسنتهم من الوعد بالجزاء، هذا معنى مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ [سورة آل عمران:194] والراجح المتبادر الذي رجحه هنا ابن كثير، وهو اختيار جماعة من المحققين كابن جرير وابن القيم، أي ما وعدتنا على ألسنة رسلك، مع أن المعنى الأول تحتمله الآية، وبعضهم يقول غير هذا لكنها معانٍ بعيدة.

وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة آل عمران:194] أي: على رءوس الخلائق.

أي لا تهتك سترنا ولا تفضحنا، ومن هُتك ستره وفضح فقد عذب، ومن عذب فقد افتضح.

إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ أي: لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك.

يلاحظ هنا أن المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ يعني البعث والقيامة، لكن الذي يظهر -والله أعلم- وما يدل عليه ظاهر القرآن إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ أي: المذكور قبله، وهو أنهم سألوا ربهم أن يوفي لهم ما وعدهم به على ألسنة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وذلك من الجزاء الحسن والثواب، فيقولون: إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران:194]

لكن يَحمِل بعضَ أهل العلم كالحافظ ابن كثير وجماعة ممن فسروا بمثل هذا على هذا التفسير أنهم ربما استشكلوا قولهم: إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران:194] كيف يقولون هذا في مقام الدعاء والله لا يخلف وعده، ويوفي أهل الإحسان بالثواب، فكيف يقولون نسألك الثواب الذي وعدتنا على ألسنة الرسل: إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران:194]؟ فكأنهم رأوا أن هذا أمر غير لائق وغير مستحسن ولا يُظن أن أهل الإيمان يقولون مثل هذا، والمعنى لا إشكال فيه.

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران:194] فهم يستعينون بالله ويطلبونه الثواب وإنجاز ما وعدهم؛ لأن ذلك يتوقف على تحقق الشروط وانتفاء الموانع من الإخلاص والمتابعة وما أشبه ذلك من شروط العمل الصالح، أي أن يكون على عقيدة صحيحة ويرتفع عنه أسباب الحبوط من العجب وإتباع الصدقات بالمنِّ والأذى وما أشبه هذا مما تحبط به الأعمال فيكون ذلك مضمناً لهذا المعنى كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فتكون الآية متضمنة لسؤاله -تبارك وتعالى- التوفيق للعمل الصالح الذي يرضاه الله ويتقبله، فهو ثناء على الله لكن الإشكال عند بعض المفسرين هو كما ذكرت، وهو كيف أنهم في مقام الدعاء يقولون: أثبنا وجازنا على أعمالنا الصالحة إنك لا تخلف الميعاد؟

وقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، فروى البخاري -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس -ا- قال: بتُّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله ﷺ مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ثم قام فتوضأ واستن فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح، وكذا رواه مسلم[9].

وروى ابن مردويه عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر -ا- وعبيد بن عمير إلى عائشة -ا- فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول الشاعر: زر غباً تزدد حباً، فقال ابن عمر: ذرينا، أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ﷺ فبكت وقالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلة حتى مس جلده جلدي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي قالت: فقلت: والله إني لأحب قربك وإني أحب أن تعبَّد لربك، فقام إلى القربة فتوضاً ولم يكثر صبَّ الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل عليَّ في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها[10].

  1. أخرجه بدون الزيادة البخاري في كتاب بدء الخلق - باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3078) (ج 3 / ص 1187) وأخرجه مع الزيادة الترمذي في كتاب التفسير – باب تفسير سورة آل عمران (3013) (ج 5 / ص 232) وابن حبان (7417) (ج 16 / ص 433) وكذا الحاكم (3170) (ج 2 / ص 327) وحسنه الألباني في سنن الترمذي برقم (3013) أعني مع الزيادة
  2. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2858) (ج 4 / ص 2193).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة آل عمران (4290) (ج 4 / 1663) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب في دعاء النبي ﷺ وصبره على أذى المنافقين (1798) (ج 3 / ص 1422).
  4. أخرجه أبو داود في كتاب العلم - باب كراهية منع العلم (3660) (ج 3 / ص 360) والترمذي في كتاب العلم - باب ما جاء في كتمان العلم (2649) (ج 5 / ص 29) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب من سئل عن علم فكتمه (264) (ج 1 / ص 97) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (223).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الأدب- باب ما ينهى من السباب واللعن (5700) (ج 5 / ص 2247) ومسلم في كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (ج 1 / ص 104) إلا هذه العبارة: من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة فقد تفرد بها مسلم.
  6. أخرجه البخاري في كتاب النكاح – باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار الضرة (4921) (ج 5 / ص 2001) ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط (2129) (ج 3 / ص 1681).
  7. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة آل عمران (4291) (ج 4 / ص 1664) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2777) (ج 4 / ص 2142).
  8. أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة - باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب (1066) (ج 1 / ص 376).
  9. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة آل عمران (1665) (ج 4 / ص 1665) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (763) (ج 1 / ص 525).
  10. أخرجه ابن حبان (620) (ج 2 / ص 386) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

مواد ذات صلة