الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[28] من قول الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} الآية 195 إلى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآية 200
تاريخ النشر: ١٩ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 4590
مرات الإستماع: 2654

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [سورة آل عمران:195].

يقول تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي: فأجابهم.

روى سعيد بن منصور عن سلمة رجل من آل أم سلمة قال: قالت أم سلمة -ا: يا رسول الله، لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى إلى آخر الآية، وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا، وقد رواه الحاكم في مستدركه ثم قال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه[1].

وقوله تعالى: أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى هذا تفسير للإجابة، أي: قال لهم مجيباً لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى.

وقوله: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: جميعكم في ثوابي سواء.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأما بعد:

فقوله: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: جميعكم في ثوابي سواء" أي أن رجالكم ونساءكم سواء، لا فرق بينهم في الطاعة إلا ما دل عليه الدليل والثواب الذي يعطيه الله  للعاملين، فالرجال كالنساء جزاؤهم واحد، والنساء كالرجال، هكذا فسره جماعة من أهل العلم، وابن جرير -رحمه الله- ذكر نحوه، حيث قال: بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي: في الملة والنصرة والدين، وحكم جميعكم وما أنا فاعل بكم من الثواب فأنتم فيه سواء، لا فرق بين الرجال والنساء، فالمرأة ليس لها نصف الأجر إذا عملت عملاً صالحاً وإنما هي كالرجل، والله وعد من أحسن عملاً أن يوفى له أجره بغير حساب، فهذا معنى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ أي أنه لا يضيع عمل عامل منهم ذكراً كان أو أنثى.

فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ أي: تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان.

هذا المعنى المشهور في الهجرة، وإلا فالهجرة أوسع من هذا، فالهجرة إلى الحبشة لم تكن من قبيل الانتقال من دار الشرك إلى دار الإسلام بل كانت انتقالاً من دار شرك إلى دار شرك آخر، لكن الهجرة الشرعية هي انتقال المؤمن إلى المكان الذي يأمن فيه بحيث يستطيع أن يعبد ربه من غير خوف ولا مضايقة، هذه هي الهجرة الشرعية، وقد تكون إلى بلاد الشرك وقد تكون إلى بلاد الإسلام.

أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران.

وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم.

هذا التفسير الذي ذكره يبيّن حقيقة الواقع؛ لأن المشركين ما أخذوهم وأخرجوهم من بلدهم، وإنما ضيَّقوا عليهم فاضطروهم إلى الخروج فكان ذلك من قبيل الإخراج؛ لأنهم تسببوا فيه، كما قال الله : وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [سورة محمد:13] مع أن المشركين بذلوا ما يستطيعون في حصار النبي ﷺ وكانوا يتخوفون خروجه، لكن لما كانوا متسببين بذلك لمضايقتهم لرسول الله ﷺ ولأصحابه صح أن يقال: إنهم أخرجوهم.

ولهذا قال: وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي [سورة آل عمران:195] أي: إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [سورة الممتحنة:1] وقال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة البروج:8].

وقوله تعالى: وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ [سورة آل عمران:195] هذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه.

وفي القراءة الأخرى -قراءة أبي عامر وابن كثير: وقاتلوا وقُتِّلوا) وهي تدل على التكثير، فزيادة المبنى لزيادة المعنى، وفي قراءة حمزة والكسائي: وقُتلوا وقاتلوا) والواو لا تدل على الترتيب وإنما تدل على مطلق الجمع، فلا يشكل المعنى على هذه القراءة كما قال الشاعر:

فإن تقتلونا عند حرة واقم فلسنا على الإسلام أول من قتل
هو حي ويتكلم ويقول: تقتلونا، وهو لم يقتل وإنما المقصود أن بعضهم قد وقع عليه القتل، فقد يطلق ذلك على وقوعه على البعض، وقد يطلق ذلك على قتل الكل، فالمقصود أن الواو لا تقتضي الترتيب.

وقد ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر أيكفِّر الله عني خطاياي؟ قال: نعم ثم قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه ما قال، فقال: نعم إلا الديْن، قاله لي جبريل آنفاً[2] ولهذا قال تعالى: لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة آل عمران:195] أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماءٍ غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وقوله: ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:195] أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً.

ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ أي لأُثيبنهم ثواباً كائناً من عند الله، والثواب هنا مصدر مؤكِّد.

وقوله تعالى: وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [سورة آل عمران:195] أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً.

لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ ۝ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ۝ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ [سورة آل عمران:196-198].

يقول تعالى: لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور فعما قليل يزول هذا كله عنهم، ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نمدّ لهم فيما هم فيه استدراجاً، وجميع ما هم فيه متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد.

وهذه الآية كقوله تعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [سورة غافر:4]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة يونس:69-70] وقال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:24] وقال تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [سورة الطارق:17] أي قليلاً. 

وقال تعالى: أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [سورة القصص:61] وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر مآلهم إلى النار قال بعده: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:198] أي: ضيافة من عند الله وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ [سورة آل عمران:198].

وروى ابن جرير عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول: وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ [سورة آل عمران:198] ويقول: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة آل عمران:178][3].

قول أبي الدرداء هذا يخالفه حديث النبي –عليه الصلاة والسلام- لما سئل عن خير الناس فقال: من طال عمره وحسن عمله[4]، وقوله أيضاً: لا يتمنين أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب[5] أي لعله أن يتوب ويراجع، أما إن مات ولم يتب بعد طول العمر فلا شك أن هذا أكثر لذنوبه وجرائمه وأشد لحسابه.

وفي قوله: وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ [سورة آل عمران:198] هذا جاء موضحاً في كتاب الله ، في آيات كثيرة كقوله: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [سورة المطففين:22] وكقوله: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [سورة الإنسان:5] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على نعيمهم وما أعطاهم الله وحباهم به.

وقوله: نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:198] يقال فيه كما قيل في قوله: ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:195] أي أن النُّزل مصدر مؤكد، والنزل في الأصل هو المكان المهيأ المعدُّ للضيف.

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:199-200].

يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان وبما أنزل على محمد ﷺ مع ما هم يؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي: مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه.

لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أي: لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد ﷺ وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم سواء كانوا هوداً أو نصارى، وقد قال تعالى في سورة القصص: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ۝ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ۝ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا الآية [سورة القصص:52-54]. 

وقد قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121] وقد قال تعالى: وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [سورة الأعراف:159] وقال تعالى: لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران:113] وقال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ۝ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [سورة الإسراء:107-109].

وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلاً، كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] إلى قوله تعالى: فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا الآية [سورة المائدة:85]، وهكذا قال هاهنا: أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ الآية [سورة آل عمران:199].

وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب لما قرأ سورة كهيعص [سورة مريم:1] بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم[6].

وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي ﷺ إلى أصحابه وقال: إن أخاً لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه[7].

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [سورة آل عمران:199] يعني مسلمة أهل الكتاب، وقال عباد بن منصور: سألت الحسن البصري عن قول الله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ الآية [سورة آل عمران:199] قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد ﷺ فاتبعوه، وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد ﷺ وبالذي اتبعوا محمداً ﷺ [رواهما ابن أبي حاتم].

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر منهم: ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي[8].

وقوله تعالى: لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً [سورة آل عمران:199] أي: لا يكتمون ما بأيديهم من العلم، كما فعله الطائفة المرذولة منهم، بل يبذلون ذلك مجاناً، ولهذا قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة آل عمران:199] قال مجاهد: سَرِيعُ الْحِسَابِ يعني سريع الإحصاء [رواه ابن أبي حاتم وغيره].

هذه الآيات كلها في من آمن من أهل الكتاب وأما من لم يؤمن منهم فقد ذمه الله غاية الذم في القرآن، وهذا كثير، ولا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يظن أن اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد ﷺ بمفازة من العذاب وأنهم ينجون عند الله -تبارك وتعالى- بل هم من حطب جهنم، كما قال النبي ﷺ: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار[9].

ومن شك في كفر هؤلاء اليهود والنصارى فهو كافر مثلهم يحشر محشرهم، فلا ينبغي أن يتردد في هذا أحد، فقد بلغ الأمر ببعض أهل الهوى أو الجهل ممن ينتسب إلى الإسلام أنهم يقولون: لا نكفِّر هؤلاء فهؤلاء مؤمنون لا يجوز لأحد أن يحكم لهم بالنار أو أن يطعن فيهم أو ما أشبه ذلك، فكلهم يجمعنا ويجمعهم الإيمان، فكل من آمن بالله فإن مصيره إلى الجنة، ويحتج ببعض الآيات المشتبهات التي أثنى الله فيها على طوائف من أهل الكتاب، مع أن المقصود بها من آمن منهم، فيحتجون بمثل قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] وأمثال ذلك، وسبق الكلام على آية البقرة.

على كل حال فقوله تعالى: لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً [سورة آل عمران:199] قال: أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم، وهذا على كل حال تفسير بالنتيجة فهم يكتمون ذلك، لكن لماذا يكتمونه؟ إذا فسرنا على اللفظ فإنهم يكتمونه لما يستعيضون بذلك من الثمن القليل، وهو ما يأخذونه من الرشا أو ما ينالونه من هؤلاء الأتباع من الرئاسات ومن الأموال، إلى غير ذلك مما يقدمونه لهم، كما هو معروف حينما كانت الكنيسة تهيمن على حياة الناس فقد كان عندهم ما يعرف بالسخرة، يأتي الإنسان ويتبرع بيوم يعمل في الإقطاعات التابعة للكنيسة، فيعمل بها الناس مجاناً تديناً وتقرباً إلى الله فتصور الملايين! كل واحد منهم يشتغل يوماً مجاناً. 

أضف إلى ذلك ما يحصلونه من الرئاسات، وما يحصلونه من الرشا، فيكتمون، فيكونون قد استعاضوا بثمن قليل كما قال المعلمي -رحمه الله- في أسباب الضلال وتعلق ذلك بالهوى، يقول: ومنهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة، فيكون ذلك سبباً لإصراره على الباطل، فمثل هؤلاء يكون لهم في الباطل شهرة ومعيشة ورئاسة تحملهم على البقاء؛ لأنهم لو أسلموا سيكونون من آحاد الناس.

قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة آل عمران:199] قال: يعني سريع الإحصاء، وهذا أيضاً باعتبار النتيجة، وإلا فإن معنى سريع الحساب يمكن أن يقال: أي لا يحتاج إلى عدّ كما يحتاجه البشر، فالله علمه محيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية فهو سريع الحساب يحاسب خلقه جميعاً كما يحاسب واحداً منهم، فكثرتهم لا تحتاج إلى عد وإحصاء بحيث يحتاج ذلك إلى وقت طويل، فالله سريع الحساب، وهذا المعنى موافق للمعنى الذي ذكره ابن كثير، لكن ابن كثير -رحمه الله- عبر بالنتيجة.

وتحتمل الآية معنىً آخر وهو إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة آل عمران:199] يعني الجزاء والأخذ وما أشبه ذلك، فالله لا يظلم الناس شيئاً كما يحصل من المخلوقين من المطل وما أشبه ذلك في أداء الحقوق، والمعنى الأول هو الأقرب وهو المتبادر، أي أنه لا يشغله محاسبة أحد عن محاسبة الآخر أو نحو ذلك وبالتالي لا يحصل إبطاء بسبب كثرة الخلق ولا يحتاج إلى عد ولا إحصاء.

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [سورة آل عمران:200]، قال الحسن البصري -رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام.

هنا ذكر ثلاثة أشياء: اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ هذه ثلاث مراتب، وهذا انتقال من الأدنى إلى الأعلى، ومثل الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: إن الصبر حالة الصابر في نفسه والمصابرة هي مقاومة الخصم في ميدان الصبر؛ لأنها مفاعلة والأصل في المفاعلة غالباً أن تكون بين طرفين فأكثر، والمرابطة أصلها اللزوم والثبات، والنبي ﷺ لما ذكر انتظار الصلاة إلى الصلاة قال: فذلكم الرباط فذلكم الرباط[10].

فأصل الرباط إذن هو اللزوم والثبات، فاللزوم والثبات على الطاعة أوسع معانيها، وتطلق على معنىً أخص وهو ملازمة الثغور في نحر العدو، والمقصود بالثغور هي الأطراف التي يتخوف العدو من ناحيتها، وهي التي ورد فيها الأحاديث في فضل الرباط كقوله –عليه الصلاة والسلام: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها[11] وما أشبه ذلك من الأدلة الواردة في الحث على هذا. 

والرباط هو أكمل صور الصبر وحالاته، وملاك هذه الأمور جميعاً -الصبر والمصابرة والمرابطة- هو تقوى الله ولهذا قال بعده: وَاتَّقُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:200]؛ لأن الإنسان قد يصبر ولا يتقي وقد يصابر ولا يتقي وقد يرابط ولا يتقي فيكون ذلك نقصاً في مرتبته عند الله وقد يذهب أجره. 

وحقيقة هذه التقوى يمكن أن يقال: هي المرابطة التي قال عنها ابن القيم –رحمه الله: هي لزوم ثغر القلب وحراسته؛ لئلا يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل، فهذه الثغور يدخل منها العدو فيجوس خلال الديار ويفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور ولا يخلى مكانها فيصادف العدو –أي الشيطان- والثغر خالياً فيدخل منها[12].

قال الحسن البصري -رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام فلا يدَعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، ويصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذا قال غير واحد من علماء السلف.

أي يصبروا على أمر الله ويصبروا عن معصيته، ويصابروا أعداء الله -تبارك وتعالى- وهذا هو الذي قال به كثير من المفسرين وهو اختيار ابن جرير في تفسير هذه الآية، وما ذكرته عن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- موافق لهذا أيضاً.

وأما المرابطة: فهي المداومة في مكان العبادة والثبات، وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة.

تفسير المرابطة بالمداومة على الطاعة هذا تفسير لها بأعم معانيها، وتفسيرها بانتظار الصلاة إلى الصلاة، يكون من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فالمعنى أوسع من ذلك، وتكون المرابطة بلزوم العبادة، وأولى ما يدخل فيها وهو المعنى الذي يتبادر أولاً هو لزوم الثغور في نحر العدو.

وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس وسهل بن حنيف -ا- ومحمد بن كعب القرضي وغيرهم.

وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط[13].

هذا الحديث مثل قول النبي ﷺ: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب[14] فهذا تفسير للمجاهدة بمعنىً يدخل فيها، والهجرة بمعنىً يدخل فيها، بمعنى هجرة القلب إلى الله بترك الذنوب والمعاصي، ولكن المعنى الذي يتبادر عند إطلاق الهجرة -وهو أكمل صورها وحالاتها- هو الانتقال من الأوطان والعشائر إلى الله أو في سبيل الله، حيث يأمن الإنسان على دينه.

وقيل: المراد بالمرابطة هاهنا، مرابطة الغزو في نحور العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين.

هذا كما قلت: هو المتبادر، لكن الذين قالوا: إنه ملازمة طاعة الله أو انتظار الصلاة إلى الصلاة، يمكن أن يوجه قولهم هذا باعتبار أن هذه الآية- اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [سورة آل عمران:200]- حينما نزلت لم يكن هناك رباط في عهد النبي ﷺ إلى أن قبض، فمثل هذا هو الذي حمل هؤلاء على القول بأن الرباط ملازمة طاعة الله أو انتظار الصلاة إلى الصلاة، وهذا إن لم يقصدوا بذلك التفسير بالمثال، وفي أقل التقديرات -والله أعلم- أن بعضهم على الأقل قصد هذا المعنى، بعضهم أراد أن يذكر أعمَّ المعاني أو أن يذكر شيئاً مما يدخل فيه لينبه عليه. 

لكن بعضهم قصد هذا المعنى لهذا السبب، وهو أنه لم يوجد رباط على عهد النبي ﷺ، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن هذه الشريعة عامة والله شرَّعها لتكون ديناً للناس في كل زمان ومكان، فكان الرباط بعد النبي ﷺ؛ ولذلك فالأحاديث الواردة في هذا كحديث: رباط يوم في سبيل الله..[15] تحمل على ملازمة الثغور مع أنه لم يكن موجوداً في زمان النبي ﷺ إلا إن قُصد بذلك حالات عارضة يسيرة كأن يكون النبي ﷺ في ناحية أو نحو ذلك، فيرسل بعض من يرصد العدو أو يقف في ناحيته أو نحو ذلك فيكون مرابطاً بهذا الاعتبار مرابطة جزئية وقتية. 

لكن الرباط المعروف يكون بتناوب الناس على مكان المرابطة بحيث يأتون إليه من أماكن كثيرة ويلازمونه السنوات، وهذا لم يكن موجوداً في عهد النبي ﷺ.

وقد وردت الأخبار في الترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله ﷺ قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها[16].

وروى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله ﷺ أنه قال: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتَّان[17].

روى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر[18] وهكذا رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً.

وروى الترمذي عن ابن عباس -ا- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله[19].

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تعِس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفَّع[20].

وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب -ا- يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200].

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وودعته للخروج، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، وفي رواية: سنة سبع وسبعين ومائة:

يا عابِدَ الحرمين لو أبصَرتَنا لَعلِمْت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رَهَجُ السنابك والغبار الأطيب

الرهج يعني الغبار، والسنابك هي أطراف حوافر الخيل.

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رَهَجُ السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يُكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه، وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال: قلت: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا.

وأملى عليَّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي ﷺ: فوالذي نفسي بيده، لو طوِّقْت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أوَ ما علمت أن فرس المجاهد ليُستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات[21].

قوله: يُستن في طوله يعني الفرس يربط بوتد مثلاً وفيه حبل طويل فينطلق هذا الفرس، فمشيه هذا أو انطلاقه كل ذلك يكتب للمجاهد وهو ريما يكون نائماً!

وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:200] أي: في جميع أموركم وأحوالكم كما قال النبي ﷺ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: اتق الله حيثما كنت، وأتْبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن[22].

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200] أي: في الدنيا والآخرة.

وروى ابن جرير عن محمد بن كعب القرضي أنه كان يقول في قول الله : وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200] واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غداً إذا لقيتموني.

انتهى تفسير سورة آل عمران، ولله الحمد والمنَّة، نسأله الموت على الكتاب والسنة، آمين.

  1. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ – باب تفسير سورة النساء (3023) (ج 5 / ص 237) وهو في تفسير سعيد بن منصور (ج 1 / ص 81) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3023).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (1885) (ج 3 / ص 1501).
  3. تفسير الطبري (ج 7 / ص 496).
  4. أخرجه الترمذي في كتاب الزهد – باب ما جاء في طول العمر للمؤمن (2329) (ج 4 / ص 565) وأحمد (17716) (ج 4 / ص 188) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2329).
  5. أخرجه البخاري في كتاب المرضى - باب نهي تمني المريض الموت (5349) (ج 5 / ص 2147).
  6. أخرجه أحمد (1740) (ج 1 / ص 201) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن
  7. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب موت النجاشي (3664) (ج 3 / ص 1407) ومسلم في كتاب الجنائز - باب في التكبير على الجنازة (953) (ج 2/ ص 657).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل من أسلم من أهل الكتابين (2849) (ج 3 / ص 1096) ومسلم في كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (154) (ج 1 / ص 134).
  9. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).
  10. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (251) (ج 1 / ص 219).
  11. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
  12. كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (ص 66).
  13. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (251) (ج 1 / ص 219).
  14. أخرجه أحمد (24004) (ج 6 / ص 21) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (549).
  15. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
  16. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2735) (ج 3 / ص 1059).
  17. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب فضل الرباط في سبيل الله (1913) (ج 3 / ص 1520)
  18. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب في فضل الرباط (2502) (ج 2 / ص 317) والترمذي في كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله ﷺ - باب ما جاء في فضل من مات مرابطاً (1621) (ج 4 / ص 165) وأحمد (23996) (ج 6 / ص 20) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1218).
  19. أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد – باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله (1639) (ج 4 / ص 175) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (3829)
  20. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير – باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2730) (ج 3 / ص 1057).
  21. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير – باب فضل الجهاد والسير (2633) (ج 3 / ص 1026) وأحمد (8521) (ج 2 / ص 344).
  22. أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة – باب ما جاء في معاشرة الناس (1987) (ج 4 / ص 355) وأحمد (21392) (ج 5 / ص 153) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (97).

مواد ذات صلة