بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أما بعد:
فقال المؤلف -رحمه الله تعالى:
قال الله : فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [سورة العنكبوت:24، 25].
يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم ودفعهم الحق بالباطل أنه ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، وذلك لأنهم قام عليهم البرهان، وتوجهت عليهم الحجة، فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم، قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ [سورة الصافات:97، 98]، وذلك أنهم حَشَدوا في جمعِ أحطابٍ عظيمة مدة طويلة، وحَوّطوا حولها، ثم أضرموا فيها النار، فارتفع لها لهب إلى عَنَان السماء، ولم توقد نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفَّة المنجنيق، ثم قذفوا به فيها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وخرج منها سالما بعدما مكث فيها أياما، ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماماً، فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، وسَخَا بولده للقربان، وجعل ماله للضيفان، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان.
وقوله: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي: سَلَّمه الله منها، بأن جعلها عليه برداً وسلاماً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يقول لقومه مقرِّعاً لهم وموبخًا على سوء صنيعهم في عبادتهم الأوثان: إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا، صداقةً وألفةً منكم، بعضكم لبعض في الحياة الدنيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ينعكس هذا الحال، فتبقى هذه الصداقة والمودة بَغْضَة وشنآنا، فـ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي: تتجاحدون ما كان بينكم، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [سورة الأعراف:38]، وقال تعالى: الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف:67]، وقال هاهنا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ الآية، أي: ومصيركم ومرجعكم بعد عَرَصات القيامة إلى النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله، وهذا حال الكافرين، فأما المؤمنون فبخلاف ذلك.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قوله: مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فيه ثلاث قراءات متواترة، فقد قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ، وهذه القراءة ذكر بعضهم لها وجهين، يعني وجّهها بتوجيهين:
التوجيه الأول: باعتبار أن "ما" موصولة، إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ "إنما" يعني: إن الذي اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ، فتكون مرفوعة باعتبار أنها خبر "إنّ"، أو يكون ذلك -أعني قراءة الرفع- باعتبار أنها خبر لمبتدأ مضمر، خبر لمبتدأ مقدر.
والقراءة الثانية: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ، فهذه قرأ بها أيضاً جماعة، فمن السبعة نافع، وبها قرأ أبو عمرو، وهي رواية أبي بكر مَوَدَّةً، وهذه باعتبار أنها مفعول لأجله، يعني اتخذتم من دون الله أوثاناً، ماذا يريدون بهذه الأوثان؟ لأجل المودة، مَوَدَّةً، أو باعتبار أنها مفعول لاتخذتم، اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ، والقراءة التي نقرأ بها قراءة حفص وحمزة إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ، فهذه ثلاث قراءات، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسر هذه القراءة بما تقدم.
يقول: إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا، فيكون هذا معنى اتخاذ هذه المعبودات من دون الله مودة، والمعاني والتوجيهات التي ذكرت في القراءات الثلاث كلها لا ينافي هذا المعنى، سواء قيل: اتخذوها مودة أو لأجل المودة، فهم يدورون حول هذا المعنى.
وقوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: أي تتجاحدون ما كان بينكم، هذا التجاحد يحصل بين الأتباع والمتبوعين، كما قال الله -تبارك وتعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:166، 167]، فهذا من التجاحد.
وبعض أهل العلم يقول: هذا الكفر الذي ذكره الله هنا يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ يعني: أنه واقع بين المعبودات والعابدين، مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [سورة القصص:63]؛ لأنه هنا ذكر أنهم اتخذوا هذه الأوثان معبودات من دون الله ، فيحصل هذا التجاحد، ومن نظر إلى أنهم فعلوا ذلك من أجل التوادّ فيما بينهم فسرها بما سبق من أن ذلك يتحول إلى عداوة يوم القيامة، فهم اجتمعوا على عبادتها في الدنيا ثم في الآخرة يكفر بعضهم ببعض، كل واحد -نسأل الله العافية- يتبرأ من الآخر إذا وقع في مغبّة عمله السيئ، وعند ذلك يريد الخلاص ويتبرأ من أولائك الذين دعوه أو شاركوه في عمله القبيح، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا عما يحصل من كفر المعبودين بالعابدين، والعكس، وكذلك أيضاً كفر الأتباع بالمتبوعين، والعكس، فكل ذلك واقع.
وقول من قال: إن ذلك يقع بينهم، يعني أنه ليس المراد المعبودات مع عابديها قد يؤيده ظاهر قوله -تبارك وتعالى- على سبيل الخطاب لهم؛ لأن هذا من قول إبراهيم ﷺ، يقول لهم: إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ يعني: يتبرأ بعضكم من بعض، مع أن ذلك لا يبعد معه ما ذكر من تبرؤ المعبودين من عابديهم، ولو قيل: إن ذلك جميعاً يدخل في الآية -لأن الله لم يحدد شيئاً من هذا وقد دل القرآن على ذلك جميعاً- لم يكن ذلك بعيداً، والله تعالى أعلم.
وقوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ، وأيضاً مأوى الأوثان، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة التحريم:6]، بعضهم قال: المراد بالحجارة هي المعبودات من دون الله -تبارك وتعالى.
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ[سورة العنكبوت:26، 27].
قال المؤلف -رحمه الله: يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم أنه آمن له لوط، يقال: إنه ابن أخي إبراهيم، يقولون: هو لوط بن هاران بن آزر، يعني: ولم يؤمن به من قومه سواه، وسارة امرأة إبراهيم الخليل، لكن يقال: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين الحديث الوارد في الصحيح: أن إبراهيم حين مَرّ على ذلك الجبار، فسأل إبراهيم عن سارة: ما هي منه؟ فقال: أختي، ثم جاء إليها فقال لها: إني قد قلت له: إنك أختي، فلا تكذبيني، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في الدين[1]، وكأن المراد من هذا -والله أعلم- أنه ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام غيري وغيرك، فإن لوطاً آمن به من قومه، وهاجر معه إلى بلاد الشام، ثم أُرسِل في حياة الخليل إلى أهل "سَدوم" وإقليمها، وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي.
وقوله: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي يحتمل عود الضمير في قوله: وَقَالَ على لوط، لأنه أقرب المذكورين، ويحتمل عوده إلى إبراهيم، قاله ابن عباس، والضحاك، وهو المُكنَّى عنه بقوله: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي: من قومه.
وهذا الذي اختاره ابن جرير وبه قال قتادة وإبراهيم النخعي قبله، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ولكن الحديث أصلاً عن إبراهيم ﷺ، فهو المخبر عنه، قال: فَآمَنَ لَهُ أي: لإبراهيم ﷺ وقال إبراهيم: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ، أي لإبراهيم ﷺ، إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ يعني: إبراهيم ﷺ، وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ، إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ أيضاً كذلك، وهكذا ما قبله أيضاً.
وَقَالَ أي: إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا إلى آخره، فهذا كله في إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، والقاعدة أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فاجتمع عندنا هذا وهذا، يعني اجتمع عندنا قاعدة الضمير يرجع إلى أقرب مذكور فيكون المراد لوطاً -عليه الصلاة والسلام- لهذا الاعتبار، واجتمع أيضاً القاعدة الأخرى وهي أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فيرجح باعتبار السياق، فالسياق كله في إبراهيم ﷺ وبهذا الاعتبار يقال: إن ترجيح قاعدة توحيد مرجع الضمائر أولى من حمل المعنى على لوط ﷺ باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور.
قال -رحمه الله: ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك؛ ولهذا قال: إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي: له العزة ولرسوله وللمؤمنين به، الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية.
وقال قتادة: هاجرا جميعا من "كوثى" وهي من سواد الكوفة إلى الشام.
وقوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، كقوله تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا [سورة مريم:49] أي: إنه لما فارق قومَه أقرّ الله عينه بوجود ولدٍ صالحٍ نبيٍّ، ووُلد له ولدٌ صالح في حياة جده، وكذلك قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [سورة الأنبياء:72] أي: زيادة، كما قال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ أي: ويولَد لهذا الولد ولدٌ في حياتكما، تقر به أعينكما.
الله يقول: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [سورة مريم:49]، وهنا لما قال لهم: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي، ونابذهم وتركهم، ترك الأهل والوطن والعشيرة وهبه الله -تبارك وتعالى- من الولد ما تقر به عينه، وينسيه الأهل والوطن والعشيرة، إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ[2]، وهذا المعنى أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في مناسبات سابقة -مضى الكلام على هذا، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في كتابه "القواعد الحسان" عقد لها قاعدة أو عنواناً بما ذكرتُ أو قريباً منه "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً" وذكر أمثله على ذلك من القرآن، والله المستعان.
وقوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، هذا كقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [سورة الحديد:26]، وقد سبق الكلام على كون البشر جميعاً من ذرية نوح -عليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول عنه ﷺ إنه آدم الصغير، فجعل الله ذريته هم الباقين، ذرية نوح ﷺ، فكل من بقي بعد الطوفان ممن تناسل ووجد من البشر هو من ذرية نوح -عليه الصلاة والسلام.
وبعض أهل العلم يقول: إن الذين ركبوا معه في السفينة هذا النفر القليل هم أولاده وليس كل الأولاد، أحد هؤلاء الأولاد قص الله خبره وما حصل له من الغرق، قالوا: هم من آمن من أولاده، وأيضاً ركب معه أزواج بناته، فيكون الذين وجدوا بعد ذلك هم من نسل هؤلاء، وحتى لو ركب معه غيرهم أو وُجد من أهل الإيمان ممن لم يكونوا من نسله فإن نسله هو الذي بقي، فنوح -عليه الصلاة والسلام- كلُّ نبي جاء بعده، بل كل بشر تناسل من بعده فهو من ذريته، فكل الأنبياء بعد نوح ﷺ فهم من ذريته، وأما إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فكل الأنبياء الذين جاءوا من بعده فهم من ذريته لا كل البشر.
هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا حيث ذكر الحافظ -رحمه الله- أن الله جمع له بين سعادة الدنيا ثم عدد صوراً لهذه السعادة من الرزق الواسع الهنيء والمنزل الرحب والمورد العذب والزوجة الحسناء الصالحة، والثناء الجميل والذكر الحسن، وكل أحد يحبه ويتولاه، كل هذه أقوال للسلف في تفسير قوله: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا، فتجدونها مفرقة في المروي عنهم، ولهذا كان من محاسن هذا التفسير أنه يجمع هذه الأقوال التي هي من قبيل اختلاف التنوع، فما ذكره كل واحد من هؤلاء يصلح أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ما المراد به؟ جعل له لسان صدق في العالمين، في الآخرين، آتاه زوجة ذات حسن، كل أحد يتولاه، كل هذه المعاني صحيحة، فهذا مما أعطيه في الدنيا وعُجل له، مع موفور الجزاء والثواب في الآخرة، واضح هذا؟ فإذا طالعت في كتب التفسير ونظرت في هذا الموضع عرفت قيمة هذا الكتاب، وهذا له نظائر كثيرة، قد أنبه على هذا في كثير من المواضع وقد لا أشير إليه ولكنه كثير، وهذه هي الطريقة الصحيحة في التفسير التي لا يحصل فيها تشتيت للقارئ، وإنما تجمع له الأقوال التي يمكن أن تجتمع في معنى الآية، والله أعلم.
قال سبحانه: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [سورة العنكبوت:28-30].
قال -رحمه الله: يقول تعالى مخبراً عن نبيه لوط إنه أنكر على قومه سُوء صنيعهم، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال، في إتيانهم الذكران من العالمين، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم، وكانوا مع هذا يكفرون بالله، ويكذّبون رسوله ويخالفونه، ويقطعون السبيل أي: يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي: يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها، لا ينكر بعضهم على بعض شيئًا من ذلك، فمن قائل: كانوا يأتون بعضهم بعضا في الملأ، قاله مجاهد، ومن قائل: كانوا يتضارطون ويتضاحكون.
في قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ، الواو يمكن أن تكون عاطفة على ما سبق، فأول الكلام: الله -تبارك وتعالى- يقول فيه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [سورة العنكبوت:14] ثم قال بعد ذلك: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ [سورة العنكبوت:16] يعني: أرسلنا نوحاً وأرسلنا إبراهيم ثم قال: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ، يعني: أرسلنا لوطاً، ويحتمل أن يكون المعنى واذكر لوطاً، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله، واذكر لوطاً إذ قال لقومه، فيكون متعلقاً بفعل مقدر محذوف.
وأما قوله -تبارك وتعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ، هنا قال: ويقطعون السبيل أي: يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم، يعني فسره بقطع الطريق المعروف، يعني فعل المحاربين، فعل المحاربين الذين يقفون في سبل الناس ويأخذون المال ويقتلون، يعني قطاع طرق، هذا الذي فسره به ابن كثير -رحمه الله، وهو المتبادر إذا قيل: قطع السبيل، السبيل هو الطريق، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10]، طريق الخير وطريق الشر، ومن أهل العلم يعني من هؤلاء الذين ربطوه بهذه الفاحشة من قال: إن قطعهم السبيل أنهم كانوا يفجرون بمن يجتاز تلك الناحية، يقفون في طريق الناس وفي سبيلهم فمن مر بهم فجروا به.
وبعض أهل العلم فسره بمثل هذا ولكنه قصد لازمه، قالوا: إنهم كانوا يقفون في طريق الناس ممن يمر بأرضهم ويفجرون بهم، فترك الناس المرور بها، فكان ذلك منهم قطعاً للسبيل، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، لكن لا يوجد ما يدل على هذا، أما تفسيره بقطع النسل فهذا بعيد، وأما كون هؤلاء أنهم يقطعون السبيل بفعل الفاحشة، قطاع طرق من أجل الفاحشة لا من أجل المال؛ لأن العادة أن قطع الطريق يكون من أجل المال ويحصل معه القتل من أجل المال، لا لأجل القتل وحده، وهذا الذي يذكرونه في قتل الغيلة، تعرفون أن كثيراً من الفقهاء مَن يفسره بهذا، الذي يقطع على الناس طريقهم فيقتلهم ليأخذ أموالهم، هذا الذي قال بعض أهل العلم: إنه لا تقبل فيه الدية إذا تنازل أولياء الدم، وليس المقصود هذا، والصحيح أن الدية تقبل، لكنه قد يقتل تعزيراً.
وهنا في قوله -تبارك وتعالى: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ الأولى أن يفسر -والله أعلم- بما ذكره الحافظ ابن كثير أنهم يقطعون على الناس طريقهم، قطع الطريق معروف من أجل سلبهم، وهذا يدل على فسادهم المتناهي، فإن تلك الخصلة لا تكون إلا من أهل الإجرام، بلد ينتشر فيها الإجرام، لا يأمن فيها أحد، ويكفي أن لوطاً ﷺ لما أتاه هؤلاء الضِّيفان جاء إليه هؤلاء يهرعون يريدون أن يفعلوا بهم الفاحشة، فمعنى ذلك أنهم كانوا يفعلون ذلك من غير مواربة بمن يعرفون ومن لا يعرفون، ومن يوافقهم ومن لا يوافقهم، فهذا لا يُعرف لأمة بهذا الوصف من الأمم إطلاقاً إلى يومنا هذا، أمة هكذا يستغني الرجال بهذا الشذوذ ويفعلونه علانية مجاهرة من غير استتار ولا حياء مع من يوافقهم ومن لا يوافقهم، مع من يرِد ذلك البلد بنص القرآن، هذا لا يعرف في أمة من الأمم، فكانوا أول من اخترع هذه الفاحشة، وهم أيضاً أول من جسدها بهذه الصورة الشنيعة التي لا تعرف لغيرهم إلى يومنا هذا، على كثرة ما يوجد من الفساد والانحراف في بني البشر إلا أنه بهذه الصورة لا يُعرف لأحد على مستوى أمة يتحول إلى هذه الحال، يوجد مجموعات يوجد أفراد، لكن أمة بهذا الشكل تتحول كلها!، فهذا معنى قطع السبيل، والله تعالى أعلم.
فقطع السبيل بمعنى اعتراض الناس في الطرق بهذا الفعل القبيح هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، فصار قول ابن كثير أنه قطع الطريق المعروف، وأخذ المال، والقتل، وقول ابن جرير أنهم يقطعون الطريق بفعل الفاحشة.
هذا جمع جيد بين هذه الأقوال، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ النادي والنَّدِيّ والمنتدى كل ذلك بمعنى المجلس، يعني أنهم يأتون في مجالسهم بالمنكر، والله لم يحدد شيئاً من ذلك، فهذه الأقوال التي ذكرها السلف -رضي الله تعالى عنهم- لا حاجة لترجيح واحد منها فيقال: هذا هو المراد، فليس عندنا على ذلك دليل، وإنما ذكر الله أنهم يأتون في مجالسهم –يفعلون- المنكر، فيدخل في ذلك فعل الفاحشة وغيره من المنكر والقبائح التي ما كانوا يستحون من فعلها، فهذه بعض الأمثلة التي ذكرت، وبعضهم يذكر غير هذا أيضاً كالتصفير والتصفيق ونحو ذلك من أفعال السفهاء، فكل هذه الأشياء المذكورة هي من أفعال السفهاء.
والمنكر -كما هو معروف- هو ما خالف المعروف، فما أنكره الله -تبارك وتعالى- وأنكره أهل الإيمان، وأنكرته الفطر السليمة والعقول الصحيحة كل هذا يقال له: منكر، ولهذا يمكن أن يقال: إن المنكر هو ما أنكره الشرع، إذ الشرع ينتظم النقل والعقل الصحيح، فذلك منكر، والمعروف يقابله ويشمل ذلك محابّ الله -تبارك وتعالى، ولهذا يقولون: ما استحسنه الشرع، فإذا قيل: ما استحسنه الشرع فهذا يدخل فيه ما يحسن في مجاري العقول الصحيحة؛ لأن الدليل العقلي والنظر العقلي الصحيح هو من جملة أدلة الشرع، ولهذا قيل لأعرابي: بمَ عرفت أنه رسول الله ﷺ؟ قال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه، وما نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به.
هنا الحافظ ابن كثير قبل ذلك قال: ومن قائل كانوا يناطحون بين الكباش ويناقرون بين الديوك، وهكذا بعضهم يقول: إنهم كانوا يحذفون بالحصباء يحذفون المارة، يعني يجلسون في مجالسهم فإذا مر بهم أحد حذفوه، من الاستخفاف بالناس، وبعضهم يقول: كانوا يستخفون بالغريب إذا جاء، يستهزئون به، وليس له حرمة ولا حشمة، وبعضهم يقول: كانوا يلبسون المصبغات أو يصبغون أصابعهم بالحناء، وكل هذا مما يذكر، بعضهم يقول: يلعبون الشطرنج والنرد، فالمقصود أن هؤلاء في مجالسهم لا يتنزهون ولا يتورعون ولا يحتشمون، فيأتي منهم كل قبيح، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ، مجالسهم مجالس منكرات، شأن السفهاء وسخفاء العقول، بخلاف أهل الإيمان وأهل المروءة فإن مجالسهم تُحفظ من هذا كله.
قوله -تبارك وتعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ هنا استعجلوا العذاب، في سورة النمل قالوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ [سورة النمل:56]، هذا جوابهم، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ، لاحظ، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ، وهناك وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ [سورة الأعراف:82].
ووجه الجمع بين هذا وهذا أن ذلك وقع منهم جميعاً، فكانت دعوته لهم -عليه الصلاة والسلام- مستمرة يدعوهم في كل مناسبة وفي كل حين، فقالوا له مستعجلين العذاب حينما خوفهم به: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ، ثم بعد ذلك لما استثقلوا بقاءه بينهم قالوا: أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ، فوقع منهم الاستعجال، هات العذاب الذي تعدنا به، وقالوا أيضاً: أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ، ويحتمل أن يكونوا بادروه بذلك أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ثم لما خوفهم بالعذاب قالوا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ.
المقصود أن هذا وقع منهم جميعاً، وهذا كما يروى عن عثمان -رضي الله تعالى عنه: أن المرأة الزانية تحب أن النساء جميعاً يزنين، فأهل المنكر وأهل الباطل لا يحتملون وجود أهل الصلاح والفضل والطهر بينهم، وذلك أن وجود هؤلاء يوجه إليهم التهمة، ويجلي حالهم وما هم فيه من الفساد والظلمة، وبضدها تتميز الأشياء وتتبين، ولهذا فالمرأة المحجبة في بيئة متبرجة لا تطاق، والإنسان الذي يتنزه من شرب المسكر في بيئة يشربون المسكرات لا يطاق ويعير بهذا، والإنسان الذي يتنزه عن الفواحش في بيئة تفعل الفواحش أو مع صحبة يفعلون الفواحش ابتلي بهم في دراسة أو بعثة أو نحو ذلك فإنهم لا يحتملونه.
وقد وُجد وحصل، وفي نهار رمضان يجتمعون عليه فيفتحون فمه ويصبون المسكر فيه، وحصل أيضاً أنهم يتفقون مع ملكة جمال الكلية، الكليات هناك يعمل لها مسابقات ملكات الجمال، يتفقون مع ملكة جمال الكلية ويقولون: عندنا حالة تحتاج إلى مساعدة إنسانية، عندنا زميل معقد، فنحتاج إلى مساعدة، ما هي المساعدة؟ أنها تحاول أن تغري هذا الشاب الذي يتنزه؛ لأنه معقد، يتنزه من الفواحش ولا يتعاطى شيئاً من ذلك، فيتفقون على أنها تأتي في وقت لا يكون أحد منهم فيه فتنفرد به، ثم بعد ذلك تتجرد من ملابسها أمامه وتغريه بالفاحشة، وحصل هذا.
وفي بعض الحالات كان ذلك سبباً لإسلامها، تعجبت كيف الكل يتمناها، الشباب خلفها كيعاسيب النحل، كل واحد يطلب ودها، ويخطبه، وهذا يأبى وهي عنده وتعرض نفسها عليه، وتحاول به، ومع ذلك يعرض ويغض بصره ويأمرها بالخروج ويغضب، هذا غير طبيعي! فتطلب منه شرح ذلك، ثم بعد ذلك بعدما تلبس يخبرها بأن دينه يمنعه من هذا، فيكون ذلك أول شيء يطرق سمعها عن العفاف، فيكون سبباً لإسلامها فيتزوجها هذا، هذا وُجد وحصل، حدثني بهذا بعض من كان آنذاك يدرس في بلاد الغرب.
فمثل هذا لا يستغرب، أن أهل الباطل وأهل المنكر يكرهون ويستثقلون وجود أهل المعروف والصلاح بينهم، فإن ذلك يكون سبباً لضيق نفوسهم، وهو -كما مضى- إشارة إليهم بأصابع الاتهام، فهنا مباشرة قالوا: أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ، أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ والجريمة التي رموهم بها إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ، الجريمة هي التطهر، هذه هي الجريمة التي فعلوها، والله المستعان.
وتسمع اليوم في بعض البلاد بعض التهم الموجهة إلى بعض الناس أنهم رفعوا في الانتخابات الحل في الإسلام، أو الإسلام هو الحل، يسجنون بتهمة قلتَ هذا؟ قال: لا ما قلتُ هذا، رفعتَ هذا الشعار؟ ما رفعتُ هذا الشعار، هذا غير صحيح، هذه التهمة، الإسلام هو الحل، لكن إذا قال: الشيوعية هي الحل، أو قال: الديمقراطية هي الحل، أو نحوه، أو الحرية المطلقة هي الحل فهذه ليست جريمة، ولهذا لا يكاد يجرؤ أحد اليوم في ظل هذا السَّخب أن يقول: لا حكم إلا للشرع، والشرع هو المرجع وليس الشعب، والشرع هو مصدر السلطات وليس الشعب، من يجرؤ على هذا اليوم؟ أظنه سيضرب بالنعال -أعزكم الله- حتى يموت تعزيراً من تلك الجموع الغاضبة إلا من رحم الله -تبارك وتعالى، والله المستعان.
قال سبحانه: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }[سورة العنكبوت:31-35].
قال المؤلف -رحمه الله: لما استنصر لوط الله عليهم، بعث الله لنصرته ملائكة فمروا على إبراهيم في هيئة أضياف، فجاءهم بما ينبغي للضيف، فلما رأى أنه لا همَّة لهم إلى الطعام نَكِرَهم، وأوجس منهم خيفة، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بوجود ولد صالح من امرأته سارة -وكانت حاضرة- فتعجبت من ذلك، كما تقدم بيانه في سورة "هود" و"الحجر"، فلما جاءت إبراهيمَ بالبشرى، وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط، أخذ يدافع لعلهم يُنظَرون، لعل الله أن يهديهم، ولما قالوا: إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ أي: من الهالكين؛ لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم ودَبْرهم، ثم ساروا من عنده فدخلوا على لوط في صورة شباب حسان، فلما رآهم كذلك سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا أي: اهتمَّ بأمرهم، إن هو أضافهم خاف عليهم من قومه، وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم، ولم يعلم بأمرهم في الساعة الراهنة.
في قوله -تبارك وتعالى: إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ قال: أي من الهالكين؛ لأنها كانت تمالئهم، أي من الهالكين، كلمة الغابر تدل على معنيين متقابلين، مِنَ الْغَابِرِينَ يعني: من الذاهبين في الهلاك، وتدل على معنى آخر يقابل الذاهبين أي: إلا امرأته كانت من الباقين في الهلاك، ولكن المعنى في النهاية -في المآل- يرجع إلى شيء واحد وهو أنها بقيت في أرضهم فكان ذلك هلاكاً لها، فمن فسره بالذاهبين فهذا معنى صحيح، ومن قال: أي من الباقين في الهلاك فهذا معنى صحيح.
وهذا مثال على حمل الآية على المعاني التي تحتملها وهي من قبيل المشترك الذي يحمل معاني متناقضة أو متضادة، فإن ذلك قد لا يجتمع كقوله -تبارك وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ [سورة البقرة:228]، وهنا لابد القروء الطهر أو الحيض، فلابد من تفسيره بواحد من هذين، ولا يمكن أن يجتمعا خلافاً لما قاله الشوكاني -رحمه الله، وهذا غريب جداً في غاية الغرابة أن ذلك مما يمكن أن يجتمع، هذا لا يمكن، لكن من الصور التي يمكن أن تجتمع: مِنَ الْغَابِرِينَ من الذاهبين أو من الباقين، فذهابها هلاكها، وبقاؤها أيضاً هلاك لها، بقيت مع من هلك، بقيت مع قومها فنزل بهم العذاب فكان ذلك ذهاباً لها.
وابن جرير -رحمه الله- فسر ذلك أنها كانت من الغابرين أي ممن تطاولت عليهم الدهور، ولهذا وصفها الله بأنها عجوز، إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [سورة الصافات:135]، تطاولت عليها الدهور، تقادم عليها الدهر، تقدمت بها السن، وذهبت مع من هلك، فابن جرير -رحمه الله- فسره بهذا وهذا، أنها هالكة من بين أهل لوط -عليه الصلاة والسلام- وكذلك أيضاً أنها من الغابرين يعني بلغت من الكبر عتياً، مضى عليها زمان طويل في هذه الحياة، وأن الله أهلكها.
قال: فلما رآهم كذلك: سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، معنى ضاق بهم ذرعاً أي قلت حيلته بهم، هذا معنى ضاق ذرعاً بالشيء، من قلت حيلته بشيء فقد ضاق ذرعه به، ضاق صدره، فضيق الذراع والذرع يقال: لقلة الحيلة والعجز عن التدبير، ليس عنده مساحة يتصرف فيها، ليس عنده خيارات من أجل أن يتصرف، فهذا يكنى به عن هذا المعنى، كما يكنى عن الفقر بضيق ذات اليد، فهنا ضيق الذراع، ضاق بهم ذرعاً، لم يكن هناك مجال للتحرك لإنقاذهم وتخليصهم من هؤلاء المجرمين، والله تعالى أعلم.
وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ، الخوف معروف، يكون مما يتصل بأمر مستقبل، قلق يساوره في أمر المستقبل، والحزن الأصل أنه يقال في أمر مضى، وقد يقال في غيره، وأهل الجنة يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34]، فإذا فسر الحزن الذي ذكروه في الجنة بمعنى الإشفاق من الآخرة، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [سورة الطور:26] فيكون الحزن بهذا الاعتبار من أمر مستقبل، على هذا المعنى، على هذا التفسير، وهذا قليل، وإلا فالأصل أن يكون الحزن على أمر فائت.
ولهذا يقال: إن الحزن لا يحمد إلا إذا كان ذلك مما يتصل بالآخرة إما ندماً على معصية مضت فذلك ركن التوبة، وإما من قبيل الإشفاق والخوف من الآخرة، الخوف من سوء الخاتمة وما شابه ذلك، فقد يقال لهذا بهذا الاعتبار عند بعض أهل العلم: حزن، لهذا فسر بعضهم بهذا المعنى الذي ذكرت قوله -تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، وقد لا يفسر بهذا، فالدنيا دار الكبد والأكدار والحزن، وليس هذا محل الكلام في الآية.
لكن على كل حال قالوا له: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ابن جرير -رحمه الله- حمله على الحزن من هذا الخبر بهلاكهم، لا تخف فلن يصلوا إليك، ولا تحزن مما بشرناك به أو أخبرناك عنه من هلاك هؤلاء المجرمين، ولهذا يأمر الله نبيه ﷺ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [سورة النمل:70]، فكان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أكمل الناس شفقة على أقوامهم، فينهاه عن الحزن عليهم، لا تخف ولا تحزن على هؤلاء، ويمكن أن يكون ذلك بنفي الحزن عنه مطلقاً كما نفاه الله عن أهل السعادة في الجنة عن أهل الإيمان، لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62]، وقالوا له: لا تخف فلن يصل إليك مكروه من هؤلاء ولا من غيرهم حتى هذا العذاب الذي سينزل ستنجو منه، ولا تحزن على ما كان من أمر مضى من ممارسات هؤلاء المنحرفة، وغير ذلك مما يستوجب الحزن، فإن الإنسان إذا رأى مثل هذه الأشياء انقبض قلبه وضاق صدره.
ومما يدخل في هذا -والله تعالى أعلم- أنه ضاق بهم ذرعاً، وقال كلامه المحزن لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود:80]، فهذا يدل على ما كان فيه من الحال والأسف على هؤلاء والخوف على ضيوفه، فقالوا له: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ، ومثل هذا يحتاج إليه الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى، نفي الخوف الذي يساور النفوس فيعرقل هؤلاء ويثبطهم عن دعوتهم وتبليغها للعالمين، الأوهام، والحزن كذلك أيضاً على ما يقع من الناس من انحرفات ونحو ذلك فيتآكل المصلح والداعية من داخله، فإذا كثر عليه الحزن وتتابع ضعفت قوى النفس وتلاشت، وكان ذلك سبباً لليأس إذا تعاظم، إذا تعاظم مثل هذا الأسف تظلم الدنيا في عين الإنسان ولا يرى فسحة الأمل، ومن ثم يصير هذا الإنسان في حال من اليأس من صلاح الناس، ويبقى في حال من الكآبة، وهذا غير صحيح.
ولهذا تجد كثيراً في القرآن ينهى ربنا -تبارك وتعالى- نبيه ﷺ عن مثل هذا، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8]، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6]، وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [سورة النحل:127]، إلى غير ذلك، فالإنسان يقدم ما يستطيع ويكِل الخلق إلى خالقهم، ويبقى متفائلاً مستبشراً، وأجره موفور عند الله -تبارك وتعالى، ويتذكر أنه يأتي النبيُّ وليس معه أحد، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، فكل ذلك مع اكتمال ما يطلب في الداعي إلى الله -تبارك وتعالى- من أسباب القبول الموجود في الأنبياء، العلم بما يدعو إليه والحرص والجد والاجتهاد في تبليغه والنصح للمدعو ومحبة الخير له، هذه الثلاثة الأركان كلها موجودة في هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مع غاية البيان، فلا يحصل منهم أي تقصير.
فإذا فعل الإنسان ما ينبغي فعند ذلك تبقى النتائج إلى الله -تبارك وتعالى، هذا الذي يقال فيه: النتائج إلى الله وليست إلينا، ولا يقال ذلك في التقصير أو في حال التقصير في النظر الشرعي، وفي مآلات الأمور التي قد تتحول إلى مفاسد، فهذا لا يجوز أن يقال فيه: نحن نعمل والنتائج على الله، يجب التحري وضبط التصرفات بالضوابط الشرعية، ومراعاة المآلات ثم بعد ذلك يقول الإنسان: النتائج على الله، وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:108]
كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بأن الله جعل مكانهم بحيرة منتنة يقصد بذلك البحر الميت، يعني مكان قرى قوم لوط -عليه الصلاة والسلام، وسبق الكلام على هذا، وأن الكثيرين يذكرونه، وقد لا يوجد ما يُقطع معه بأن هذا المكان هو مكان قوم لوط، ولكن قوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ يدل على أنهم كانوا يعرفونهم، ولكن قد يقول قائل: إنهم يمرون عليهم ولا يعرفونهم، فالله يخبرهم أنهم يمرون عليه مصبحين وبالليل، يخبرهم عن أمر لم يتفطنوا له، لو قال قائل مثل هذا لم يكن ذلك بعيداً في المعنى، ولو قيل: إنهم كانوا يعرفون المكان، فإن كانوا يعرفونه فذلك مما يتناقله الناس جيلاً عن جيل، فالمشهور أنها هي هذا البحر الذي يسمونه البحر الميت، وهكذا قال قبله بعض السلف مثل مجاهد، قال: وهذا البحر الأسود، ويقصد بالبحر الأسود البحر الميت، والله تعالى أعلم.
قال: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً، هذه الآية البينة ابن كثير يقول: بحيرة -البحر الميت، وهكذا قول مجاهد كما سبق: البحر الأسود، وبعضهم يقول: هذه الآية البينة هي أنه اندرست معالمهم واختفت آثارهم كما يقول ابن جرير -رحمه الله، بعدما كانت قرى عامرة، والقرية لا يفهم منها ما نطلقه على القرية اليوم أنها مجمع البنيان الصغير، وإنما القرية تطلق على البلد، فالعواصم يقال لها قرى، ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى [سورة هود:100]، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [سورة محمد:13].
فذلك يقال له: القرى، المدن الكبار والصغار، فقرى قوم لوط مجموعة من القرى، ولهذا قال ابن كثير -رحمه الله: إنه بُعث إلى سدوم وإقليمها، إقليمها كان مجموعة من القرى، ولهذا قال الله: وَالْمُؤْتَفِكَاتُ [سورة الحاقة:9] باعتبار المجموع، وقال: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] باعتبار أنها ترجع إلى إقليم واحد، فهي مجموعة من النواحي أو مجموعة من القرى التابعة لإقليم واحد، -والله تعالى أعلم.
فهنا ما هذه الآية البينة؟ هل هي البحيرة -البحر الميت؟ أو هذه الآية البينة هي أنه عفت آثارهم؟ آيَةً بَيِّنَةً، لكن إذا عفت آثارهم هل هذه تكون آية بينة مع قوله: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ؟ [سورة الصافات:137]، فهذا الذي حدا بكثير من أهل العلم أن يقولوا: إن المقصود بهذا هو هذا البحر الميت، فإذا قيل ذلك في معناها هنا سيأتي السؤال وهو: هل يجوز الانتفاع بالمستخرجات من البحر الميت ومعلوم أن كثيراً من صناعات الأدوية ومواد التجميل، وأشياء كثيرة جداً اليوم تستخرج من البحر الميت، بل هكذا توجد "منتجات البحر الميت"، وتوجد فيما نسمع منتجعات وأنواع من العلاج هناك، فهل للإنسان إذا كان هذا مكاناً للمعذبين، هل للناس أن ينتفعوا بشيء من هذا؟ منتجات البحر الميت، ويضعون منتجعات ويسبحون فيها، إلى آخره، أو أن مثل هذه الأشياء يفعل معها كما فعل النبي ﷺ حينما جاء على أرض الحِجر -أرض ثمود- فأسرع -عليه الصلاة والسلام- ونهاهم عن دخولها إلا أن يكونوا باكين، هذا حينما كان مجتازاً فكيف بقصدها والذهاب إليها للمتعة والسياحة، أو نحو ذلك؟ وهكذا فعل عليٌّ حينما مر على أرض الخسف من بابل، أسرع، وبعضهم يذكر أن وادي محسِّر الذي بين مزدلفة ومنى النبي ﷺ أسرع فيه يقولون: لأنه المكان الذي أُهلك فيه الفيل، لكن هذا لا يثبت، والله أعلم.
قال سبحانه: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة العنكبوت:36، 37].
قال المؤلف -رحمه الله: يخبر تعالى عن عبده ورسوله شعيب أنه أنذر قومه أهل مَدين، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وأن يخافوا بأس الله ونقمته وسطوته يوم القيامة، فقال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ.
قال ابن جرير: قال بعضهم: معناه واخشوا اليوم الآخر، وهذا كقوله تعالى: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [سورة الممتحنة:6].
وقوله: وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد، وهو السعي فيها والبغي على أهلها، وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، هذا مع كفرهم بالله ورسوله، فأهلكهم الله برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها، وعذابَ يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها، إنه كان عذاب يوم عظيم، وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف، وهود، والشعراء.
وقوله: فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، قال قتادة: ميتين، وقال غيره: قد ألقي بعضهم على بعض.
قوله -تبارك وتعالى: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ يقول: قال ابن جرير: قال بعضهم: معناه واخشوا اليوم الآخر، يعني هنا فسر الرجاء بالخوف، ومن معانيه التي ذكرها بعض أهل اللغة: الخوف، وبذلك فسر بعضهم قوله -تبارك وتعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ [سورة الكهف:110] بعضهم يقول: يعني يخاف لقاء الله، وهذا معنى ذكره بعض أهل العلم من المفسرين وأهل اللغة، أن الرجاء يفسر بالخوف، بعضهم خصه بموضع في كتاب الله -تبارك وتعالى، وبعضهم ذكر غير ذلك، وابن جرير -رحمه الله- نقل هذا القول، معناه واخشوا اليوم الآخر، لكنه فسره، فسر قوله: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ، يعني وارجوا بعبادتكم إياي جزاء اليوم الآخر، يعني فسر الرجاء بالمعنى المتبادر المشهور، وهو ما يؤمله الإنسان من أمر يقرب حصولُه فيُرتجى، بخلاف الشيء البعيد فإنه يقال عنه: تمنٍّ، فالشيء الذي يبعد وقوعه أو يستحيل
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً |
هذا يقال له: تمنٍّ، وأما الشيء القريب فإنه يقال له: ترجٍّ، ورجاء، فهنا وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ارجوا بعبادتكم إياي جزاء اليوم الآخر، هذا الذي فسرها به ابن جرير -رحمه الله، ونقل القولَ الذي ذكره ابنُ كثير، فيكون ابن جرير -رحمه الله- فسرها بالمعنى المشهور من الرجاء.
وقوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ هنا قال: هو السعي فيها والبغي على أهلها، السعي فيها بالفساد، وبعضهم يقول: إن العيث أشد الفساد، وَلَا تَعْثَوْا، تقول: عاث فساداً، يعني أكثر من الفساد والإفساد، وقوله -تبارك وتعالى: فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة هود:67]، قال قتادة: ميتين، هذا تفسير له بالمعنى، يعني: بمعنى أنهم فارقوا الحياة.
لكن بأي صفة وأي صورة؟ هذا ليس بتفسير مطابق، فإن الجاثم ليس معناه الميت، لكن لما كانوا بصفة معينة موتى فسره بالمعنى فقال: ميتين، يقول: وقال غيره: قد ألقي بعضهم على بعض، هذا قاله ابن جرير -رحمه الله، بمعني أكوام من الموتى -نسأل الله العافية- جاثمين، ترى أحياناً بعض الصور في كارثة تقع في زلزال أو في حرب مدمرة أو نحو ذلك تجد الناس أحياناً قد وقع بعضهم على بعض موتى، فابن جرير -رحمه الله- يفسر الجاثمين بمعني قد وقع بعضهم على بعض.
وكثير من أهل العلم يفسرون ذلك بصفة معينة، فالجاثم هو الجاثي على الركب، يعني صفة الموت ليس مستلقياً أو على جنب أو نحو ذلك، وإنما على ركبه ووجهه إلى الأرض، وهذه الصفة قد تدل على حال عند الموت من حسرة أو محاولة أو طلب للمخرج والنجاة فسقط على وجهه، فهذه كانت صفتهم، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [سورة الحاقة:7] فهؤلاء عاد، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، أعجاز النخل معروفة، فهم أجسامهم عظيمة جداً كأنها أعجاز نخل، وإذا رأيت النخيل قد تهاوت بعدما خوت، مَن قُدر له أن يرى هذا المشهد في أرض مشهورة فإنه يذكر هذا المعنى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، وقد رأينا في الطوفان الذي وقع قبل هذا الذي وقع في شرق آسيا في إندونيسيا تسونامي السابق رأينا الموتى وهم جثوم على وجوههم، الناس على الوجوه، يذكرك بقول الله -تبارك وتعالى، وهم بين هذا الحصيد من بقايا البيوت والأثاث يطفو على الماء وهذه الجثث ساقطة على الوجوه جاثمة على الركب، يذكرك بقوله -تبارك وتعالى: فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، هؤلاء حيث يعاجلهم الموت فلا يستطيعون التصرف ولا الخلاص، فيقع على وجهه، على ركبتيه، ينزل على الأرض ويتهاوى، يخر صريعاً، والله المستعان.
- رواه البخاري، كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، برقم (2217).
- رواه أحمد في المسند، برقم (23074)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وقال الإمام الألباني -رحمه الله- في السلسلة الضعيفة في آخر تعليقه على الحديث رقم (5): ".... نعم صح الحديث بدون قوله في آخره: "في دينه ودنياه"".