بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصبحه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله تعالى وإياه- في تفسير قوله تعالى:
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة العنكبوت:38-40].
يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم، فأخذهم بالانتقام منهم، فعاد قوم هود وكانوا يسكنون الأحقاف وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن، وثمود قوم صالح وكانوا يسكنون الحِجر قريبًا من وادي القرى، وكانت العرب تعرف مساكنهما جيدا، وتمر عليها كثيرًا، وقارون صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة، وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله ورسوله ﷺ.
فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ أي: كانت عقوبته بما يناسبه، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا، وهم عاد، وذلك أنهم قالوا: مَنْ أشدُّ منا قوة؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد، عاتية شديدة الهبوب جداً، تحمل عليهم حصباء الأرض فتقلبها عليهم، وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم إلى عَنَان السماء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدناً بلا رأس، كأنهم أعجاز نخل منقعر.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وهم ثمود، قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة، مثل ما سألوا سواء بسواء، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم، وتهددوا نبي الله صالحا ومَنْ آمن معه، وتوعَّدوهُم بأن يخرجوهم ويرجموهم، فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات.
وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ، وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا، وعصى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحًا، وفرح ومرح وتاه بنفسه، واعتقد أنه أفضل من غيره، واختال في مشيته، فخسف الله به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا، وهم فرعون ووزيره هامان، وجنودهما عن آخرهم، أغرقوا في صبيحة واحدة، فلم ينج منهم مُخبَر، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي: فيما فعل بهم، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي: إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقاً بما كسبت أيديهم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ يحتمل أن يكون منصوباً بمقدر محذوف أي: واذكر عاداً، ومن أهل العلم من يقول: إنه عائد إلى أول السورة، كما سبق في الذي قبله؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال في أولها: وَعَادًا أي: وفتنا عاداً، وبعضهم يقول: إنه عائد إلى ما قبله حيث ذكر الله -تبارك وتعالى- قوم شعيب، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَعَادًا أي: وأخذتْ عاداً الرجفةُ، وهذا قال به بعض الأئمة كالكسائي -رحمه الله، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى مقدر وهو: وأهلكنا عاداً، وَعَادًا وَثَمُودَ يعني: وأهلكنا عاداً وثمود، هذا الذي اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وهذه الأقوال محتملة، وقريبة، والله تعالى أعلم.
وقوله -تبارك وتعالى: وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، بعض أهل العلم يقول: كانوا مستبصرين: أي أن الله قد أعطاهم من العقول بحيث إنهم أصحاب بصائر يتمكنون معها من التمييز بين الحق والباطل ومعرفة حقيّة ما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ما كانوا يجهلون صدق الرسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين أرسلوا إليهم، ولا صدق ما جاءوا به من الله -تبارك وتعالى، فكانوا أصحاب بصائر، فعذبهم الله وعاقبهم لمّا حصل منهم الكفر مع استبصارهم.
وبعض أهل العلم يقول: كانوا عقلاء لهم بصائر فلم تنفعهم، يعني لم يربط هذا بمعرفتهم الحق، فرقٌ بين هذا والذي قبله، وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي: يعرفون حقيّة ما جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام، كانوا يدركون ويعلمون أنهم جاءوا بالحق، وأن هذا ليس افتراء على الله ولا كذباً، والآخرون يقولون: وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي: كانوا أصحاب بصائر وعقول لكنها لم تغنِ عنهم ولم تنفعهم، وكما قال الله -تبارك وتعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا [سورة الأعراف:179]، فكما لم تنفعهم أسماعهم ولا أبصارهم كذلك أيضاً لم تنفعهم عقولهم، فقد يكون الإنسان كثير العقل، حاد الذكاء ولكنه لا ينفعه ذلك عند الله -تبارك وتعالى، ولا يقربه إليه، بل لا يزيده من الله إلا بعداً، فالعقل ليس كل شيء، وإنما الهداية من الله يوفق إليها من شاء من عباده.
وبعضهم يقيد ذلك بكفرهم وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ في ضلالهم وكفرهم، يعني أنهم معجبون بذلك ويحسبون أنهم على هدى، وهذا القول -يعني أنهم على معرفة ودراية بما هم عليه ظناً منهم أنهم على هدى- هو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، مع أنه لا يخلو من إشكال -والله تعالى أعلم، الله -تبارك وتعالى- يذكر هؤلاء الأقوام والأمم أو يذكر قوم عاد، يقول: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ فهل معناه أنهم كانوا على معرفة بكفرهم لا على أنه كفر، وإنما كان لهم معرفة المعتقد المعجب بما هو عليه، هل هذا هو المراد؟ هل أراد الله أن يبين هذا المعنى؟
هذا لا يخلو من إشكال، وأظنه -والله تعالى أعلم- أبعد من سابقيه، وأن الله -تبارك وتعالى- إنما أراد أن يبين أن هؤلاء حينما وقعوا في الضلالة لم يكن ينقصهم العقل والبصر سواء قلنا: إنهم عرفوا حقية ما جاءت به الرسل، أو أن العقول لم تنفعهم، فإن ذلك مقارب؛ لأن هؤلاء إن كانوا يعرفون حقية ما جاءت به الرسل فهم في الواقع لم ينفعهم ذلك العقل، فلم يهتدوا بما جاءوا به، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن الكافرين الذين بعث فيهم النبي ﷺ أنهم كانوا يعرفون الحق، أخبر عن اليهود بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، واليهود كانوا مستبصرين، كانوا يعرفون، لهم معرفة وعلم وعقل، ومع ذلك ما نفعهم هذا العلم والعقل، أو قلنا بإطلاق: إن هؤلاء كانوا مستبصرين، كانوا أصحاب بصائر وعقول فلم تنفعهم تلك العقول، فذلك غير منافٍ لما قبله.
ومن أهل العلم من يقول: إن المراد بذلك كانوا مستبصرين أي أصحاب علوم ومعارف ويرجع ذلك إلى ما ذكره الله -تبارك وتعالى- من قوله: "فرحوا بما عندهم من العلم"، كان عندهم علوم، لكن هذه العلوم لم تزدهم من الله إلا بعداً، ما نفعتهم علومهم، فهذا الذي ذهب إليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وهذا أيضاً لا ينافي القول الأول والثاني، ولكن الإشكال فيما أظن -والله تعالى أعلم- فيما ذكره أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، فيمكن أن نؤلف من القول الأول والثاني والرابع معنى وهو: أن هؤلاء الذين كذبوا الرسل وأخذتهم هذه العقوبات لم يكن ينقصهم عقل ومعرفة وبصر ولكن ذلك العقل والمعرفة والبصر لم ينفعهم ولم يهتدوا به إلى الإيمان، فبقوا على كفرهم وعنادهم، هكذا يبدو المعنى، والله تعالى أعلم.
ثم إن قوله -تبارك وتعالى: وَقَارُونَ كذلك أيضاً يحتمل أن يعود على ما قبله من قوله: وَعَادًا إذا قلنا: إن هنا يعني أهلكنا عاداً مثلاً، أو فتنا عاداً، يعني وقارون، ويمكن أن يكون عائداً إلى ما ذكر أيضاً من قوله -تبارك وتعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وصد قارون، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ يعني: وصد قارون وفرعون، ويحتمل أن يكون ذلك يتعلق بمقدر محذوف يعني: واذكر قارون وفرعون وهامان، وبعضهم يقول: إنه عائد إلى ما سبق من ذكر عقوبة قوم شعيب فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني: وأخذت هؤلاء أيضاً، لكن هل هؤلاء أخذتهم الرجفة فعلاً؟ هذا غير صحيح، والله تعالى أعلم.
يقول: وقارون صاحب الأموال الجزيلة، وفرعون ملك مصر ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله تعالى ورسوله ﷺ، قال الله -تبارك وتعالى: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ، أي: ما كانوا فائتين، يعني أنهم لا يفوتون، لا يسبقون، لا يحصل لهم نجاة وفوت من عذاب الله -تبارك وتعالى، فإن الله قادر عليهم، ومجازيهم على كفرهم وضلالهم، وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ أي: وما كانوا سابقين في الكفر، فقد سُبقوا إلى ذلك، يعني ليسوا أول من كفر، والأول أرجح، وليس المراد -والله تعالى أعلم- أن الله يذكر أن هؤلاء ليسوا أول من كفر، وَمَا كَانُوا سَابِقِينَلما ذكر أخذه -تبارك وتعالى- لهؤلاء المكذبين واقتداره، قال: وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ أي: أنهم لا يفوتون الله -تبارك وتعالى، فيتخلصون من العذاب.
قال: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ قال: أي كانت عقوبته بما يناسبه، فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا، فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ، لاحظ الآن أول من ذُكر عاد، مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، فجاءتهم ريح صرصر باردة عاتية إلى آخر ما ذكر، وهؤلاء الذين أرسل الله عليهم حاصباً، هل هم فقط قوم عاد؟ قوم لوط ألم ينزل عليهم الله -تبارك وتعالى- حجارة من السماء؟ ولهذا ذكر بعض أهل العلم أن الذين أرادهم الله -تبارك وتعالى- بقوله: فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا قالوا: يعني قوم عاد وقوم لوط، فهنا ذكر الله -تبارك وتعالى- قوم لوط أولاً، وذكر بعده قوم عاد، وقوم عاد وقوم لوط يصدق عليهم أن الله أرسل عليهم حاصباً.
والحاصب: هي الريح، يقال للريح التي تحمل الحصباء، تحمل الحجارة أو نحو ذلك، ومن رمي بالحجارة يقال أيضاً: إنه حصب، فقوم لوط لم يُرسَل عليهم ريح فيها حجارة ولكن نزلت عليهم حجارة من السماء، ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: إن قوم لوط داخلون في هذه الآية، أن الله أرسل عليهم حاصباً، فيصدق على هؤلاء وهؤلاء، قال: وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ قال: وهم ثمود، وكذلك أيضاً أصحاب مدين قوم شعيب -عليه الصلاة والسلام، ولهذا جمع بين هؤلاء بعض المحققين من المفسرين، قالوا: إن هذا يصدق على هؤلاء وهؤلاء، كابن جرير -رحمه الله، وهنا قال: وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ قال: وهم ثمود قامت عليهم الحجة وظهر لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة، مثلما سألوا سواء بسواء، هو يريد أن يبين أن كل عقوبة كانت تتناسب مع القوم الذين نزلت بهم، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم، والله -تبارك وتعالى- أيضاً قال: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ [سورة هود:67].
قال: وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا قال: هو فرعون ووزيره هامان، أغرقوا في اليم، وممن أغرق أيضاً من الأمم المكذبة من يصدق عليهم هذا قوم نوح ، وعلى هذا الترتيب إذا صرفنا النظر عمن لم يذكر يكون في الآية لف ونشر مرتب، الله -تبارك وتعالى- ذكر هذه الأمم ثم ذكر هذه العقوبات مرتبة بحسب ما ذكر قبله، ذكرها بترتيب معين ثم بعد ذلك جاءت هذه العقوبات مرتبة حسب ما ذكر قبله، والله تعالى أعلم.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ[سورة العنكبوت:41-43].
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم ورزقهم، ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمَنْ يتمسك ببيت العنكبوت، فإنه لا يجدي عنه شيئًا، فلو عَلموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع فإنه مستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، لقوتها وثباتها.
قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ بعض أهل العلم يقول: إن هذا المثل بمعنى مثل هؤلاء في اتخاذهم الآلهة كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ليكنّها، فهو تمثيل لحال هؤلاء الكفار، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ، مثل هؤلاء الكافرين في اللجَأ إلى هذه الأوثان والمعبودات من دون الله، وعبادة هذه الأصنام كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ليكنّها من الحر والقر، وهو بتلك المثابة لا يكنّ من هذا ولا هذا.
وبعض أهل العلم يقول: إن المراد بذلك بيان ضعف هؤلاء، هم ضعفاء فأرادوا أن يستقووا وأن يلجئوا إلى ركن منيع، فكانوا بهذه المثابة اتخذوا أولياء أضعف منهم، كالعنكبوت اتخذت بيتاً بهذه الصفة من الوهن، فهؤلاء على ضعفهم اتخذوا معبودات أضعف منهم، أحجاراً وأشجاراً وقبوراً وما أشبه ذلك، فهذا تمثيل لحال العابدين والمعبودين، فهذا المعنى ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله: أن ذلك في بيان ضعفهم وضعف معبوداتهم، وأنها أضعف منهم، والأول الذي ذكرت: أن هذا يمثل حالهم في اتخاذهم الآلهة فهم كالعنكبوت اتخذت بيتاً ليكنها لكنه بهذه المثابة كما يقول ابن جرير -رحمه الله.
والمعنى يرجع إلى شيء واحد، وإن اختلفت عباراتهم فيه، فهو تمثيل لحال العابدين والمعبودين بالضعف والعجز واللجوء إلى ما لا غناء فيه ولا نفع، والعجيب أن بعض من يتكلمون في التفسير العلمي يهولون بيت العنكبوت ويتحدثون عن تلك الأسلاك التي يتكون منها هذا البيت كأنها قضبان من الفولاذ، ويذكرون أشياء لربما من يقرأ ما يكتبون يتوهم أن ما ذكروا له حقيقة وأن الله -تبارك وتعالى- قد ذكر ذلك لمعنى غير ما فهمه السلف -رضي الله تعالى عنهم، الله -تبارك وتعالى- يقول: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ثم هؤلاء يذكرون أشياء عجيبة في هذا النسيج.
وبعضهم يتكلم على هذا بطريقة أخرى أيضاً عجيبة وغريبة، يتكلم عن وهاء معنوي وليس بحسي، وهو يتكلم عما يجري داخل هذا البيت بيت العنكبوت، وكيف يحصل فيه من تنافر وفتك وأنه غير ملتئم، يعني أن الذكر من العنكبوت والأنثى على غير وئام، وأن الحياة تقوم بينهما على الفتك، وما أشبه ذلك، فيجعلون الوهاء وهاء معنويًّا، أنه بيت يتكون من هذا النوع من العلاقة المتنافرة.
وهذا في غاية البعد، فالعرب الذين خوطبوا بالقرآن وذكر لهم هذا المثل والأمثال الحسية إنما تضرب ليقرب بها المعاني التي قد تغيب عن الأفهام، فيجعلونها بهذا المستوى والحال من الغموض والصعوبة التي قد لا يدركها إلا بعض المختصين في علم الحشرات، كيف العرب تفهم هذا المثل الذي ضرب مع أن العرب تفهم وتضرب المثل بهذا أن بيت العنكبوت هو أضعف البيوت من حيث البناء في مادته ووهائه وضعفه؟! فكيف يذهب إلى هذه المعاني البعيدة التي هي خلاف مقصود الشارع تماماً؟!
ومثل هذا للأسف أيضاً تجده في كلام بعضهم على قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [سورة البقرة:26]، فإذا قرأت كلامهم على البعوضة يخيل إليك أنك تقرأ عن طائرة أباتشي مقاتلة ما هي بعوضة، يجعلون لهذه البعوضة من الخصائص والإمكانات، وكيف هذا الخرطوم، وكيف يدخل في جسم الإنسان دون أن يشعر، وكيف يمتص الدم، وكيف تتكون البعوضة، وكم لها من عين، والرؤية، والأشعة تحت الحمراء، وأشياء، أبداً طائرة أباتشي هذه، ما هي ببعوضة، حتى إنك يصيبك الخوف من البعوضة التي تملك هذه الخصائص والإمكانات الرهيبة، مع أن الله ذكر هذا على أن البعوضة ضعيفة صغيرة حقيرة، كما قال النبي ﷺ: لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة[1]، فالعرب تذكر البعوضة باعتبار أنها لا شيء، صغيرة ضعيفة في غاية الضعف، فمن الخطأ قلب هذه المعاني والأمثال بعكس ما قصده الشارع تماماً، فهذا إفساد للمثل، وقلب للمعنى، والله تعالى أعلم.
وهنا في قوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لو كانوا يعلمون ماذا؟ من أهل العلم من يقول: لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأولياء من دونه كاتخاذ العنكبوت بيتاً، لو كانوا يعلمون هذه الحقيقة، ضعيف يلجأ إلى من هو أضعف منه، كالعنكبوت التي لجأت أو صنعت هذا البيت، فهو لا يغني عنها، أو لو كانوا يعلمون شيئاً من العلم يَعْلم بهذا، وقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، يمكن أن يكون لو كانوا يعلمون ما عبدوا هؤلاء من دون الله، أو لو كانوا يعلمون أن حالهم كحال هذه العنكبوت مع بيتها حينما عبدوا غيره -تبارك وتعالى، عبدوا ما لا يضر ولا ينفع.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتاً وهو أوهن البيوت وأضعفها، وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حيث اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفاً كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً [سورة مريم:81، 82]، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [سورة يس:74، 75] وقال بعد أن ذكر هلاك الأمم المشركين: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [سورة هود:101] فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكثر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده، وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده، فإن قيل: فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ؟
فالجواب: أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقوة فكان الأمر بخلاف ما ظنوا"[2].
وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ، "ما" هذه تحتمل أن تكون موصولة إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ، ويحتمل أن تكون مصدرية، ويحتمل أن تكون نافية إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ يعني: أن ما دونه لا حقيقة له، وليس بإله كما يزعمون.
وقوله: مَا يَدْعُونَ يدعون هذه قرأها الجمهور "تدعون"، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ، فيكون الخطاب موجهاً لمن كانوا في زمن النبي ﷺ فمن بعدهم، وقراءتنا التي نقرأ بها قراءة عاصم، وكذا في قراءة أبي عمرو إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ، هذه قراءة الجمهور "تدعون" لمن خوطبوا في زمن النبي ﷺ فمن بعده، وقراءتنا التي نقرأ بها: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ بالياء فيمكن أن يكون هذا يرجع إلى من ذكر، فيشمل السابقين، الأمم السابقة، لكن الله -تبارك وتعالى- قبله قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ وجه الخطاب إليهم مباشرة، أي الذين كانوا في وقت نزول القرآن، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ يعني هؤلاء المشركين في أي وقت كانوا، فكان الكلام -سواء على الغيبة أو على الخطاب- متوجهاً للمشركين الذين وصف حالهم كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى متوعدا لِمَنْ عبد غيره وأشرك به: إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
ثم قال تعالى: وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ أي: وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه.
وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني، لأني سمعت الله تعالى يقول: وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ.
قوله -تبارك وتعالى: يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ هذا على الياء، لكن كما سبق أن هذا كلام يقرر الله -تبارك وتعالى- فيه حقيقة وهي أن هؤلاء ليسوا على شيء ممن وصفهم الله وضرب لهم المثل، لكن على طريقة ابن جرير -رحمه الله- في ربط أجزاء الكلام ببعضه، وإلحاق الكلام بما يليه فإن ذلك أولى أن يربط، مثل هذا على هذه القراءة يربطه بمن ذكر من الأمم، فهو يرى أن الكلام لا زال مترابطاً، وأن الله عنى به أولائك الذين ذكر خبرهم ومآلهم وما صاروا إليه -ما نزل بهم من العقوبات، على هذه القراءة.
وقوله: وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ، المثل إذا أردت أن تحقق معناه فإنه قد يكون في حال من الغموض بحيث قد يعسر على كثير من طلبة العلم أن يتوصلوا إلى معنى يصدق عليه ما ذكر في القرآن من المثل في جميع المواضع، ولذلك تجد عبارات العلماء -رحمهم الله- مختلفة اختلافاً كثيراً، وتجد أن ما يذكر مما يُظن أنه من أقرب هذه المعاني أنه تقريب المعقول بصورة المحسوس لتجليته للأذهان، هذا تصوير، وهذا الكلام مشهور، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا هو معنى المثل في القرآن، ولكن عند التأمل والتتبع للمواضع التي ذكر فيها المثل في القرآن تجد أن ذلك يصدق على بعضها، الأمثال التي يبين الله فيها القضايا المعقولة بصورة محسوسة فقط، لكن المواضع الأخرى ما يصدق عليها هذا.
وذكرت حينها أن أقرب ما يصدق على تفسير المثل -مع أنه غير متداول عند طلاب العلم- هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وهو أن ذلك يرجع إلى الشبه، أصل المعنى اللغوي يعني، فوسع معناه حيث أطلق في القرآن ليشمل كل ما يحصل به الاعتبار، فأدخل فيه قصص الأنبياء، قصص الأمم المكذبة، وغير المكذبة، وكل ما قصه الله في القرآن فهو داخل في الأمثال؛ لأن الله يذكر ذلك في بعض المواضع أن هذا من قبيل الأمثال، وأيضاً يقول: إن هؤلاء ذُكروا فإذا نُظر في حالهم -نظر الإنسان في حال هؤلاء- رجع إلى نفسه، فإن كانوا مكذبين قد نزلت بهم العقوبات فإنه يرجع إلى نفسه من أجل أن لا يعمل عملهم، يتعظ فلا يعمل ما عملوا، لا يقع فيما وقعوا فيه، فينزل به ما نزل بهم، فيقول: هذا على وجه الاشتباه، على وجه الشبه أو الارتباط فيرجع ذلك إلى أصل المعنى اللغوي وهو الشبه.
فعند شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الأمثال في القرآن تشمل القصص بجميع أنواعها، وهذا معنى واسع، وإذا أردت أن تجمع تطبيقات هذا في القرآن تحتاج إلى جمع القصص، بالإضافة إلى المعاني المعقولة التي تصور بصورة محسوسة، فهذا نوع من الأمثال، هذا بالإضافة إلى قضية أخرى العلماء متنازعون فيها كثيراً، من أهل اللغة وغيرهم، وهي أن المثل هل يأتي بمعنى الصفة أو لا؟ مَّثَلُ الْجَنَّةِ [سورة الرعد:35]، فهل هذا يدخل في قضية الاعتبار، هل له تعلق بها أو أنه جاء هنا لمعنى آخر، وهو الصفة؟ وبعضهم ينكر هذا، مع إن إنكاره -والله أعلم- لا يخلو من تكلف، مع رجوعه إلى أصل المعنى الذي هو الشبه.
وقوله -تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، هذه الأمثال الآن هل المقصود بها ما ذكر من حال هؤلاء مع معبوداتهم أنهم كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً؟ أو أن ذلك يصدق أيضاً على ما قبله من ذكر خبر المكذبين من هؤلاء الأمم والأقوام، فكل ذلك من الأمثال، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، هل المقصود وَمَا يَعْقِلُهَا يعني ما يفهمها فقط؟ هل المراد الفهم؟ الفهم داخل فيه، ولكن الفهم وحده قد يتقاصر عن مرتبة العقل، عقل الشيء، فإن عقله يتضمن معنى زائداً وهو أنه يدرك مغزى المثل وما ضرب له، وموطن العبرة والعظة فيه، تقول: عقلت عنه، بهذا المعنى، فلان يعقل عن الله، فلان يعقل أو عقل ما أخبر الله عنه من حال المكذبين مثلاً أو نحو ذلك، ما هو مجرد فهم المعاني، أو هناك أمر وراء هذه المعاني، الذي يقولون أو يعبرون عنه اليوم بالقراءة لما بين السطور.
يعني هذا المثل يرمي إلى ما وراء هذه الألفاظ، وهذه حقيقة التدبر؛ لأن ذلك يرجع إلى أدبار، دُبُر الشيء آخر الشيء، فماذا وراء هذه الألفاظ؟ ماذا وراء هذه الأمثال والقصص التي ذكرها الله -تبارك وتعالى؟ أن يرجع الإنسان إلى نفسه وينظر في حاله، سواء فيما قصه الله -تبارك وتعالى- أو ما صوره في هذه الأمور المحسوسة، يعني الآن قد يقول الإنسان: إنه لا يعبد غير الله -تبارك وتعالى، ولكن حينما يتعلق قلبه بمخلوق مع أنه يعبد الله لكن قلبه يتعلق بمخلوق بحيث إنه لربما يتوهم أو تصير حاله حال من يظن أن النفع والضر بيد هذا المخلوق، وهو إن رضي عنه فهو في حال من الأمن وطيب العيش والسعادة، وأنه إن سخط عليه حرم وقطع وحيل بينه وبين رزق الله -تبارك وتعالى- وفضله، هكذا أحياناً يتصور الإنسان وهو يعبد الله ، لا يعبد إلهاً آخر، فالذي يعلق قلبه بالمخلوقين ويلجأ إليهم في طلب النفع والضر ويعلق قلبه بهم كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ، فهذا له تعلق بهذا المثل، فهذا لا يذهب الذهن فيه فقط إلى حال من يعبد الصنم مثلاً، فهذا مِن عقْل هذه الأمثال، يقرأ ما وراء السطور، يتوصل إلى المعاني التي لا يتوصل إليها كثير من الناس الذين يقرءون قراءة سطحية، يعقل الكلام ويدرك مراميه ومغزاه فينتفع به، وَمَا يَعْقِلُهَا، كثير من الناس قد يفهم المعنى، ولكنه لا يصل إلى تلك المراتب، والله تعالى أعلم.
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[سورة العنكبوت:44، 45].
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه خلق السماوات والأرض بالحق، يعني: لا على وجه العبث واللعب، لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [سورة طه:15]، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم:31].
وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي: لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية.
قوله -تبارك وتعالى: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ، قال: يعني لا على وجه العبث واللعب، خلقها بالحق يعني خلقاً متلبساً بالحق وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [سورة ص:27].
ثم قال تعالى آمراً رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن، وهو قراءته وإبلاغه للناس: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يعني: أن الصلاة تشتمل على شيئين: على ترك الفواحش والمنكرات، أي: إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق؟ فقال: إنه سينهاه ما تقول[3].
وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى، وهو المطلوب الأكبر؛ ولهذا قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي: أعظم من الأول، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ أي: يعلم جميع أقوالكم وأعمالكم.
وقال أبو العالية في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، قال: إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله القرآن يأمره وينهاه.
وقال ابن عَوْن الأنصاري: إذا كنت في صلاة فأنت في معروف، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.
في هذا الموضوع شيئان: الأول: أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ما المراد به؟
والأمر الثاني: وهو قوله -تبارك وتعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، أكبر من ماذا؟
أكبر مما ذكر قبله من الصلاة، أو أن ذلك بإطلاق، ذكر الله أكبر من كل شيء، فهنا ما يتصل بالصلاة الله -تبارك وتعالى- قال: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ، هذا أمر بقراءة القرآن، نحن مأمورون بهذا، قال: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ، كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ظاهر وهو في المعنى المشهور المتداول، أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بمعنى أنها تحمل صاحبها على الامتثال ولزوم حدود الله والخوف منه والحياء فيرعوي ويرتدع وينزجر عما لا يليق، أن الصلاة تحمله على مجانبة الفحشاء والمنكر.
وهذا المعنى المشهور المتداول، وهو الذي قرره ابن كثير -رحمه الله- هنا، وعليه يقال -وهو معنى صحيح: إن الله -تبارك وتعالى- قال: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ، وَأَقِمِ أمر بالإقامة، وحيث ذكر الأمر بالصلاة فإن ذلك يأتي معبراً عنه بهذا وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ما يقول: أدوا الصلاة، وإنما يقول: وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43]، فالصلاة المطلوب فيها الإقامة لا مجرد الأداء، انتبهوا لهذا، وإقامة الصلاة يعني أن يأتي بها مستوفية لشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فهذه الصلاة التي تأتي مشتملة على هذا تكون قد تحقق فيها هذا المعنى، الإقامة، وهو معنى متفاوت في حقيقته يزيد وينقص، والناس يتفاوتون فيه كثيراً، والشخص الواحد يحصل هذا التفاوت فيه من صلاة لأخرى.
فهنا قال: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء فـ"إنّ" هنا تدل على التعليل، وكما هو معروف أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فهنا عندنا الحكم: أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والوصف الإقامة، الحكم المعلق على وصف الإقامة يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فنقول: هذا الأثر للصلاة الذي هو الحكم يزيد، يعني كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر الناس يتفاوتون في هذا، يزيد بزيادة الوصف الذي علق عليه، فعلى قدر إقامتنا للصلاة على قدر ما يكون من الأثر لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، هذا المعنى -والله تعالى أعلم، فإذا فُهم هذا عرف الجواب عما يرد كثيراً من السؤال وهو لماذا نجد كثيراً من المصلين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر؟
السبب: أنهم أدوا هذه الصلاة وما أقاموها، أو أن إقامتهم لها كانت ضعيفة ومن ثَمّ ضعف الأثر، فهذا الإنسان الذي يأتي بالصلاة بهذه الطريقة لابد أن هذه الصلاة تؤثر فيه، في عمله وفي سلوكه وفي حاله مع الله -تبارك وتعالى، وهذا لا يتأتى لمن يأتي دائماً والناس قد شرعوا في الصلاة أو بعد الإقامة، ويأتي مسرعاً مشوش الفكر والقلب ثم يدخل في الصلاة لا يدري ماذا قرأ الإمام، ولا يدري ما صلى! ولربما كان الإمام سها أو نحو ذلك في ركعة أو زاد أو نقص وهو يمشي مع تكبيرات الإمام فإذا جلس في التشهد الأول وغير صوته بالتكبير عرف أنه التشهد، فإن كان الإمام لا يغير صوته قام إلى الثالثة مباشرة، أو ينظر إلى من بجانبه هل يقوم أو يجلس، ولهذا فإن بعضهم يقول: إنه إن كان مسبوقاً فإنه لا يدري كيف يصلي، لا يدري كم فاته ومتى يجلس، كم بقي عليه من صلاته.
وبعض الناس يقول: إنه إذا جاء إلى المسجد ووجد الناس قد صلوا، أو يصلي السنة الراتبة فهو لا يعرف أنه في الركعة الثانية إلا أن عقاله قد سقط على الأرض، يعرف أنه حصل له سجود وركوع، فحينما يرى أن العقال على الأرض يعرف أن هذه هي الركعة الثانية، يقول: هذا فقط، لكن إذا كان يصلي صلاة رباعية فاتته مثلاً صلاة العشاء، فإن عقاله يكون من الركعة الأولى على الأرض، فبعد ذلك لا يعرف، يقول: أنا أصلي السنة الراتبة ما أخطئ فيها؛ لأني أرى هذه العلامة الفارقة بين الركعة الأولى والثانية، لكن إذا كانت ثلاث ركعات أو أربع فلا أعرف ما صليت، ويشتكي من هذا، هذا تاجر، رجل أعمال مشغول قلبه ومشتت بالتجارات، فهذه لا تعد إقامة، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ.
لكن ابن كثير -رحمه الله- هنا ذكر قولاً آخر وهو ما ذكره آخراً، قال ابن عون الأنصاري: إذا كنت في صلاة فأنت في معروف وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر، ومعنى هذا الكلام: هذا القول الآخر في معنى إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ، يقول: وأنت تصلي فإن اشتغالك بهذه الصلاة إشغال لك عما هو منكر وباطل ومعصية لله ، يقول: هذا الوقت المستغرق فيها قد اشتغلت فيه بطاعة، وهذا الاشتغال بالطاعة صرفك في هذا الوقت نفسه عن المعصية.
والفرق كبير بين القولين، يعني على هذا يكون الجواب عن الإشكال الذي يرد لماذا لا تنهى كثيراً من الناس صلاتُهم عن الفحشاء والمنكر، يقول لك: هي تنهاه أثناء الصلاة، انشغل بها عن المنكر والفحشاء، لكن إذا خرج ما عاد هو في صلاة، هذا معنى هذا القول، وهذا قال به أئمة كبار كما سترون، مع أن القول الذي قبله أولى -والله أعلم.
ويمكن الجمع بين القولين فيقال: إن الصلاة أثناء إقامتها والاشتغال لا شك أن الإنسان منشغل بها عما هو منكر وفحشاء في هذا الوقت، والنفس إن لم تُشغل بالطاعة شغلت صاحبها بالمعصية، وفي الوقت نفسه أيضاً فإن هذه الصلاة تؤثر بحيث إنها تجعل صاحبها مجانباً لمساخط الله -تبارك وتعالى- فيستحي منه.
لكن كما قلت: يحتاج إلى أن يأتي بها على الوجه المطلوب، لو جرب الواحد منا مثلاً من اليوم أن يصلي صلاة أخرى بحيث إنه يحرص أن يكون عند الأذان في المسجد، وهو يقرأ القرآن ويذكر الله فإذا أقيمت الصلاة يكون متهيئاً، لو استمر على هذا مدة ولهذا جاء في الحديث: من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق[4]، فهذا -والله تبارك وتعالى أعلم- لو أن الإنسان طبقه وجربه ومضى على هذا هذه المدة فإنه سيجد أن الصلاة لها معنى آخر، وأنه إن طال ذلك عليه فإن الصلاة ستتحول إلى قرة عين يجد فيها أنسه وراحته ولذته وانشراح الصدر.
أما هذه الطريقة التي نحن عليها دائماً في صراع وتآكل ونأتي على الإقامة أو بعد الإقامة دائماً، بهذه الطريقة فهذه الصلاة تكون قليلة التأثير، لكن لو جربنا من اليوم أن نحرص إذا أذن المؤذن نكون في المسجد، ونستمر على هذا، نخرج قبل الأذان، ستجد أن الصلاة لها معنى آخر تماماً، وتتذكر قول النبي ﷺ: وجعلت قرة عيني في الصلاة[5]، لكن هذا يحتاج إلى شيء من الصبر والمكابدة، كما قال بعض السلف: كابدت الصلاة عشرين سنة، واستمتعت بها عشرين سنة.
قال ابن جرير -رحمه الله: " اختلف أهل التأويل في معنى الصلاة التي ذُكرت في هذا الموضع، فقال بعضهم: عنى بها القرآن الذي يقرأ في موضع الصلاة، أو في الصلاة.
وقال آخرون: بل عنى بها الصلاة.
والصواب من القول في ذلك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإن قال قائل: وكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر إن لم يكن معنياً بها ما يتلى فيها؟ قيل: تنهى من كان فيها، فتحول بينه وبين إتيان الفواحش؛ لأن شغله بها يقطعه عن الشغل بالمنكر، ولهذا قال ابن مسعود: من لم يُطع صلاته لم يزدد من الله إلا بعداً، وذلك أن طاعته لها إقامته إياها بحدودها، وفي طاعته لها مزدجر عن الفحشاء والمنكر"[6].
وقال ابن القيم -رحمه الله: "قول الله -تعالى ذكره: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، فقيل: المعنى أنكم في الصلاة تذكرون الله وهو مِن ذِكْره، ولذكره تعالى إياكم أكبر"[7].
لا، هذا: وَلَذِكْرُ اللَّهِ، لكن إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء ما تكلم عليها؟
فبهذا تبين وجه المعنى الأول والمعنى الثاني وأنه يمكن أن نجمع بينهما، فالاشتغال بها اشتغال عن الفحشاء والمنكر وهي أيضاً تحمل صاحبها على الامتثال، وهل يخص هذا بالصلاة المكتوبة؟ قاله بعض أهل العلم، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء، ولكن هذا لا يختص بها، فالصلاة حينما يناجي العبد ربه ويقرأ كلامه فيها فإن ذلك يؤثر فيه هذا التأثير، ولا يقال: إن "ال" هذه عهدية، يعني الصلوات المكتوبة مثلاً، وإنما عموم الصلاة يحصل منها هذا الأثر، سواء قلنا: الاشتغال بها هو اشتغال عن الفحشاء والمنكر، فهذا ظاهر، أيّ صلاة يصليها نافلة أو فريضة، اشتغال بقيام الليل عن الاشتغال بالفحشاء والمنكر.
ومن الفحشاء والمنكر هذه الأيام مطاولة الليل أوقات التنزل الإلهي على مواقع إباحية ونحو ذلك، وقد كثرت الشكوى من هذا، زوجات يشكين أزواجهن، وما إلى ذلك، إلى أن يصابح الإنسان الصبح، ولو أنه اشتغل بصلاة الليل لكان ذلك اشتغالاً عن الفحشاء والمنكر، ثم إن هذه الصلاة أيضاً تجعل هذا الإنسان يخاف ويستحي من الله ، والفحشاء: يعني الذنب العظيم الشنيع الكبير، يقال له: فحشاء، وفاحشة، فكل ما فحش وعظم من الذنوب والجرائم فهو فحشاء، والمنكر خلاف المعروف، فكل معصية لله -تبارك وتعالى- فهي منكر، فيكون ذلك من قبيل عطف العام على الخاص؛ لأن المنكر يشمل المعاصي الصغار والكبار، والفحشاء تكون لما عظم، وتصدق في عرف الاستعمال غالباً على لون من المنكرات الكبار وهو ما يتصل بالزنا وما في معناه، الفحشاء، والفاحشة، فالصلاة تنهى عن هذا كله.
قال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: أي أعظم من الأول، فالأول الصلاة، يعني أنّ ذكر الله -تبارك وتعالى- أعظم في هذا الأثر، أبلغ من أثر الصلاة، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذكر الله أبلغ أثراً في ذلك، هذا الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله.
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله: "وقوله: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم"[8].
فالمعنى الأول: أن ذكر الله إياكم أبلغ من ذكركم له ، من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه[9]، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، ذكره إياكم أكبر من ذكركم إياه، وعلى هذا المعنى ليس فيه نهي عن الفحشاء والمنكر، لكن المعنى الذي ذكره ابن كثير هو يرجع إلى ما سبق: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وذكر الله أبلغ في ذلك، في النهي عن الفحشاء والمنكر، المعنى الذي هنا: ذكر الله أكبر من ذكركم إياه.
وقال -رحمه الله: "وقال آخرون: بل معنى ذلك ولذكركم الله أفضل من كل شيء"[10].
يعني هنا أكبر من كل شيء حمله على العموم والإطلاق بحيث لم يقيده بذكر العبد ربه، وإنما قال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، أكبر من كل شيء، فالاشتغال بهذا الذكر خير من الاشتغال بغيره، وهذا مقتضى حذف المتعلق؛ لأنه يفيد العموم النسبي، ما قال: أكبر من كذا، فيحمل على العموم، أكبر من كل شيء.
وقال ابن جرير -رحمه الله: "وقال آخرون: هو محتمل للوجهين جميعاً، يعنون القول الأول الذي ذكرناه والثاني.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولَلصلاة التي أتيت أنت بها وذكرك الله فيها أكبر مما نهتك الصلاة عن الفحشاء والمنكر.
وأشبه هذه الأقوال بما دل عليه ظاهر التنزيل قول من قال: ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه"[11].
هذا اختيار ابن جرير، أن ذكره إياكم أفضل من ذكركم إياه.
وقال ابن القيم -رحمه الله: فقيل: المعنى أنكم في الصلاة تذكرون الله وهو من ذكره، ولذكره تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه، وهذا يروى عن ابن عباس وسلمان وأبي الدرداء وابن مسعود ، وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل بن مرزوق عن عطية فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة:152] فذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم إياه.
وقال ابن زيد وقتادة: معناه: ولذكر الله أكبر من كل شيء، وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ قال: أمَا تقرأ القرآن ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق..[12]، الحديث.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس -قدس الله روحه: الصحيح أن معنى الآية أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان وأحدهما أعظم من الآخر: فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى، ولَمَا فيها من ذكر الله تعالى أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر.
وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر.
وفي السنن عن عائشة عن النبي ﷺ قال: إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى[13]"[14].
وقال -رحمه الله: "فيها أربعة أقوال:
أحدها: أن ذكر الله أكبر من كل شيء، فهي أفضل الطاعات؛ لأن المقصود بالطاعات كلها إقامة ذكره، فهو سر الطاعات وروحها.
الثاني: أن المعنى أنكم إذا ذكرتموه ذكَرَكم، فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له، فعلى هذا المصدر مضاف إلى الفاعل، وعلى الأول مضاف إلى المذكور.
الثالث: أن المعنى ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر، بل إذا تم الذكر محق كل خطيئة ومعصية.
وهذا ما ذكره المفسرون، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: معنى الآية أن في الصلاة فائدتين عظيمتين: أحدهما: نهيها عن الفحشاء والمنكر.
والثانية: اشتمالها على ذكر الله وتضمنها له، ولَمَا تضمنته من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر"[15].
مع أن هذه الأقوال لا يوجد منها قول بعيد، وإنما هي مقاربة -والله تعالى أعلم، فإذا قيل: إن ذكر الله أكبر من كل شيء، فهذا مقتضى القاعدة، أن حذف المتعلق يحمل على أعم معانيه، وإذا قيل بما ذكره شيخ الإسلام أنها مشتملة على هذا وهذا فذكر الله فيها أكبر، وهذا قريب من قول من قال أيضاً: إن المقصود من العبادات هو ذكر الله -تبارك وتعالى، فهو أكبر من كل شيء، وهكذا قول من قال: إن ذكره لكم أبلغ من ذكركم وأعظم من ذكركم إياه، لكن هذا كأنه يحتاج إلى تقدير، والأصل عدم التقدير.
هنا الشوكاني -رحمه الله- ذكر هذه الأقوال وغيرها يقول: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي: أكبر من كل شيء، أي أفضل من العبادات كلِّها بغير ذكر، ويقول: قال ابن عطية: وعندي أن المعنى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ على الإطلاق -نفس كلام الشوكاني- أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذكر الله أكبر من كل شيء، وله هذا الأثر في الصلاة وخارج الصلاة، قال: لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله مراقب له، وقيل: ذكر الله أكبر من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر مع المداومة عليه.
قال الفراء وابن قتيبة: المراد بالذكر في الآية التسبيح والتهليل، يقول: هو أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر، وقيل: المراد بالذكر هنا الصلاة، أي: ولَلصلاة أكبر من سائر الطاعات، وعبر هنا عنها بالذكر كما في قوله: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9]، للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات، يعني يقول هؤلاء: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ} يعني: في الصلاة، وقيل: المعنى ولذكر الله لكم في الثواب، ما هو من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي[16]، لا بالثواب، والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلاتكم، قال: واختار هذا ابن جرير، مع أن ابن جرير عبارته كأنها فيها بعض المغايرة، فإنه لم يقيد ذلك بالثواب ذكرته في ملأ، هل معناه ذكرته بالثواب؟! وذكر الحديث قال: ويؤيده حديث: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، هل هذا بالثواب؟ ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه.
هذه الأقوال كما في قوله: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، فهو أكبر من كل شيء، إذا قلنا بهذا فيكون أكبر من الصلاة وأكبر من ذكركم إياه، فإنه لا يوجد فيما نعلم دليل على تحديد واحد من هذه المعاني، والله -تبارك وتعالى- قد أطلق ذلك، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} من ذكر العبد له، وهو أكبر من كل الأعمال التي يزاولها العباد، وهو أكبر وأعظم تأثيراً في النهي عن الفحشاء والمنكر، وهو أكبر في بلوغ العبد المراتب العالية سَبق المُفرِّدون[17]، وفسره بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فإذا حمل على هذا المعنى انتظم ما سبق، والله -تبارك وتعالى- قد أطلق ذلك، فلا يقيد بمعنى منها -والله أعلم- من غير دليل، أكبر من كل شيء، من ذكرنا له، من عبادتنا، وهذا أمر لا يخفى.
وإذا نظرت في مثل كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في الوابل الصيب مثلاً في فوائد الذكر ذكر له نحو مائة فائدة، فإذا نظرت في هذه الفوائد التي ذكرها للذكر تجد منها هذا الأثر، والإنسان الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله -تبارك وتعالى- يحصل له من الإخبات والانكسار والانقياد والدوام على الطاعة، وما يزجره عن المعصية، ومقارفة ما لا يليق شيء كثير، ولذلك تجد كثيراً ما يأتي حث الشارع على الذكر والأمر به مقيداً بالكثرة، بل لا يكاد يذكر إلا مع هذا القيد، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الأحزاب:41، 42]، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [سورة الأحزاب:35]، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [سورة الشعراء:227].
فإذا أكثر الإنسان من هذا الذكر بلسانه وقام ذلك بقلبه فكان قلبه ذاكراً مع ذكر اللسان فإنه يكون في حال من القرب وصلاح الظاهر والباطن وتحقيق العبودية، فإن ذكر الله يقربه ويقوده ويسوقه حتى يلزم الصراط المستقيم في أقواله وأفعاله، في أحواله كلها، هذا أمر مشاهد، وهو بالغ التأثير، ولا يخفى أن ذكر الله -تبارك وتعالى- حاصل في الصلاة كما إن ذكره -تبارك وتعالى- حاصل في قراءة كلامه، لكن لابد من مواطأة القلب مع هذا كله، فإذا حصلت هذه المواطأة بين القلب واللسان صار ذاكراً في الحال، صارت له حال الذاكرين، واستقام ظاهره وباطنه، ونسأل الله أن يجعل ما نتعلمه قائداً لنا إلى العمل والامتثال، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن من أفضل الدعاء هذا "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، واقرءوا ما ذكر في هذا المعنى، فإذا أعين الإنسان على هذه الأمور الثلاثة حصل له خير الدنيا والآخرة، فيكثر الإنسان من هذا، والله أعلم.
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة العنكبوت:46].
المعنى: مَنْ أراد الاستبصار منهم في الدين فيجادَل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الآية [سورة النحل:125]، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44]، ولهذا قال: إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي: حادوا عن وجه الحق، وعَمُوا عن واضح المحجة، وعاندوا وكابروا، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجِلاد، ويقاتلون بما يردعهم ويمنعهم، قال الله : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحديد:25].
قال جابر: أُمرْنَا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف.
وقوله: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ يعني: إذا أَخبروا بما لا يُعلم صدقه ولا كذبه فهذا لا نُقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقاً، ولا على تصديقه فلعله أن يكون باطلاً، ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقاً على شرط وهو أن يكون منزّلا لا مبدلاً ولا مؤولاً.
روى البخاري -رحمه الله- عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [سورة المائدة:59][18]، وهذا الحديث تفرّد به البخاري.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله ﷺ أحدث تقرءونه محضا لم يُشَب، وقد حدّثَكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله، وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل إليكم.
وروى البخاري عن حُمَيد بن عبد الرحمن: أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكرَ كعبَ الأحبار فقال: إنْ كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
قلت: معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد؛ لأنه يُحدث عن صحف هو يحسن بها الظن، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة؛ لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة.
في المقصود بالكذب يقول: يقع منه الكذب لغةً، الكذب في اللغة يقال للخطأ، فمن لم يقع على الصواب يقال: كذَبَ، والكذب في إحدى إطلاقاته في لغة العرب يقال على الخطأ، فبعضهم يطلقه على كل تخالف بين الواقع والقول، فما خالف الواقع سواءً قصد به القائل ذلك أو لم يقصد فإنه يقال له: كذب، فمن أخطأ يقال: كَذَبَ، ولهذا قال النبي ﷺ: صدق الله في قصة العسل، لما قال رجل: إن أخي قد استطلق بطنه، يشكو، فقال النبي ﷺ: اسقه عسلاً، فقال: ما زاده إلا استطلاقاً، فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك، فالكذب يقال للمخالفة التي تكون بين القول والواقع في لغة العرب.
ولهذا إذا وجدت بعض الآثار عن الصحابة يقول عن صحابي آخر: إنه كَذَبَ فيقصد به أخطأ، ويقال أيضاً -وهو المذموم- لما يحصل به التخالف بين ما في القلب وما في اللسان، وإن وافق الواقع، إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [سورة المنافقون:1]، مع أن هذا القول الذي قالوه هو موافق للواقع، النبي ﷺ هو رسول الله، لكن لمّا خالف ما في نفوسهم كان كذباً، ولهذا فإن الإنسان إذا قصد الكذب فسُئل عن زيد فقال: إنه مسافر وهو يعتقد أنه موجود، فتبين أنه مسافر فعلاً فإنه يكون كاذباً، مع أنه وافق الواقع، فهذا هو الكذب الذي ذمه الشرع.
وقوله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من السلف من قال: إنها منسوخة بآية السيف، والمقصود بآية السيف هي الآية الخامسة من سورة براءة وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قالوا: ما في بالتي هي أحسن، كل شيء فيه إعراض وعفو وصفح وتسامح منسوخ بآية السيف، حتى قالوا: إن قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [سورة التين:8] قالوا: منسوخ بآية السيف، هو أحكم الحاكمين هذا لم ينسخ؛ لأن الأخبار لا يدخلها نسخ، لكن قالوا: إن ذلك قيل في المتاركة، دعهُم لله ، فقالوا: ما في بعد آية السيف ترك لهؤلاء وإنما أن يعمل السيف فيهم، فلا عفو ولا صفح ولا إغضاء ولا إعراض، كل الآيات التي فيها الإعراض، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة السجدة:30]، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ [سورة الزخرف:89]، قالوا: لا سلام ولا مسامحة، كل هذا منسوخ، وهذا فيه نظر.
والأقرب أن هذه الآيات لا يقال: إنها منسوخة بآية السيف بهذا الإطلاق، والتوسط في مثل هذه الأمور هو الصحيح -والله تعالى أعلم، فهذه الآيات لم تنسخ، والأمة تمر بأحوال من القوة والضعف وما إلى ذلك، فهناك أحوال تُنزَّل عليها الآيات المكية من الصفح والإعراض والصبر والمداراة والدفع بالتي هي أحسن، وفي أوقات القوة والتمكن تُعمَل آية السيف لأعداء الله ، فهذا بالنسبة للقول: إنها منسوخة، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال بعضهم: يعني كابر وعاند، فهذا ليس له إلا السيف، فكما في الآية السابقة من أن الله -تبارك وتعالى- قال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ [سورة الحديد:25]، فذكر إنزال الكتاب الذي تحصل به الهداية، وذكر الأمر الآخر وهو إنزال الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، فمن لم ينفع معه الكتاب فإن الكتائب والحديد هي التي قد تفل عناده وحربه لله ولرسوله ﷺ، قالوا: من لم يُجدِ معه الكتاب أجدى معه الحديد.
وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بعضهم حمله على هذا الإطلاق، وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ كعبد الله بن سلام ومن آمن منهم، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، ومن عاند وكابر ولَجّ في الخصومة بعد بيان الحق له فهو من جملة الذين ظلموا، ففي البداية يجادَلون بالتي هي أحسن، المسلم منهم والكافر، ومن أسلم منهم لا يقال: إنه من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام .
فالذي يظهر -والله أعلم- أن المراد أهل الكتاب بإطلاق، أنهم يجادلون بالتي هي أحسن؛ لأن عندهم من العلم والمعرفة، ونزلت عليهم الكتب، فإن مجادلتهم بالحسنى وذكر الحجج لهم أجدى في جذبهم وهدايتهم وإصلاح قلوبهم وكشف الشبهات العالقة في نفوسهم، وما وُضع الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه، وإذا كان هذا في أهل الكتاب في مجادلتهم فإن من نزل عليهم القرآن أولى بذلك حينما يجادلون فإنهم يجادلون بالتي هي أحسن، إلا من كان معانداً يقصد إبطال الحق، ونصر الباطل، وما أشبه ذلك، فإنه يعامل بما يستحق.
أمّا أن تكون المجادلة بين الناس من طلبة العلم أو نحو ذلك بالتي هي أخشن دائماً فإن مثل هذا لا يليق بحال من الأحوال، ويكون ذلك سبباً لصد الناس عن الحق ونفرتهم منه، وهذا باب واسع يطول الكلام فيه أدى ببعضهم إلى ارتكاب أمور عظيمة جداً من تحريف القرآن خطًّا ليوافق ما قاله أولاً -نسأل الله العافية، ولربما وصل ببعضهم الحال كما ذكر بعض أهل العلم إلى أن يقذف مناظره فيرميه بالزنا أو أنه ابن كذا لمّا يحتمي ويحتدّ، ولما كانت المجادلة فيها من حضور النفوس ما لا يخفى كان التلطفُ وجعْلُ هذه المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن هو الطريق إلى تخفيف غلواء النفوس فيها، حتى إن بعضهم يقول: إن أصلها -هذه المجادلة- مأخوذ من الجَدَالة وهي الأرض الصلبة، ولهذا غالباً ما تذكر في القرآن في مقام الذم، غالباً، فلابد فيها من مراعاة ما ذكر، والله تعالى أعلم.
هنا في قوله: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الشوكاني يقول: بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم، هكذا فسر الآية أكثر المفسرين، بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وقيل: معنى الآية وَلَا تُجَادِلُوا، يقصد فسرها أكثر المفسرين بهذا: إن أساء وكابر ولَجّ في الخصومة، وقيل: معنى الآية لا تجادلوا من آمن بمحمد من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن، يعني بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أهل الكتاب، ويكون المراد بـ الَّذِينَ ظَلَمُوا على هذا القول هم الباقين على كفرهم، وقيل: هذه الآية منسوخة بآيات القتال، وبذلك قال قتادة ومقاتل.
قال النحَّاس: من قال: هي منسوخة احتج بأن الآية مكية، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية، ولا غير ذلك، قال سعيد بن جبير ومجاهد: إن المراد بالذين ظلموا منهم الذين نصبوا القتال للمسلمين فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، يعني من حاربوكم وقاتلوكم فهنا لا يقال: والله الحوار هو القوة الحقيقية، يقاتلون ويحتلون بلاد المسلمين ويأتي من يتفلسف ويقول: القوة الحقيقية في الحوار، أي حوار مع هؤلاء وهم بهذه المثابة؟
الجهاد هو حماية المشروع الإسلامي، هذا الجهاد صار حماية المشروع الإسلامي، هذا الجهاد في سبيل الله، والقوة الحقيقية هي الحوار، يهدمون البلاد على أهلها ويقال: القوة الحقيقية الحوار!، والجهاد هو حماية المشروع الإسلامي، يستحي أن يقول: القتال في سبيل الله -نسأل الله العافية- نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8]، -نسأل الله العافية، فتن يتقلب الناس ظهراً لبطن، ما تدري إلى أين يتجه، يريد أن يقود الناس بهذه الأطروحات وبهذه الضلالات والانحرافات، يريد أن يقودهم لماذا؟ الله يصلح الحال.
قال: لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة. ومع ذلك وقُربِ العهد وُضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة، لا يعلمها إلا الله ومن منحه الله علما بذلك، كلٌّ بحسبه، ولله الحمد والمنة.
- رواه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله ، برقم (2320)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم (4110)، والحاكم في المستدرك، برقم (7847)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5292).
- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 119، 120).
- رواه أحمد في المسند، برقم (9778)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (1237).
- رواه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل التكبيرة الأولى، برقم (241)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2652)، وحسنه في صحيح الجامع برقم (6365).
- رواه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم (3939)، وأحمد في المسند برقم (12293)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3291)، وفي صحيح الجامع برقم (3124).
- جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر الطبري (20/ 40-42)، منقول بتصرف.
- الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم (ص: 74، 75).
- جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (20/ 42).
- رواه الإمام أحمد في المسند برقم (8650)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وله إسنادان: أما الِإسناد الأول فحسن، حماد بن سلمة سمع من عطاء بن السائب قبل الاختلاط في رأي بعض أهل العلم، وأما الِإسناد الثاني -وهو حماد بن سلمة عن حميد وثابت وصالح- ففيه انقطاع، لأن الحسن -وهو البصري- لم يسمع من أبي هريرة".
- جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (20/ 44).
- جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (20/ 45، 46)، بتصرف.
- رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب منه، برقم (3377)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (2269).
- رواه أبو داود، كتاب المناسك، باب في الرمل، برقم (1888)، وأحمد في المسند برقم (24351)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف، وقد روي مرفوعاً وموقوفاً، والصحيح وقفُه"، ورواه برقم (24468)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وضعف إسناده الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (328).
- الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم (ص: 74، 75).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (2/ 398).
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28]، برقم (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (2675).
- رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم (2676).
- رواه البخاري في مواضع منها في كتاب تفسير القرآن، باب قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [سورة البقرة:136]، برقم (4485).