بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأحزاب وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [سورة الأحزاب:1-3].
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا فلأن يأتمر مَن دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى، وقد قال طَلْق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله.
قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ابن كثير -رحمه الله- يقول: هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، بمعنى أنه خطاب وجه إلى النبي ﷺ وهو أتقى الأمة لله ، والمراد مخاطبة الأمة بالتقوى، فإن الأمة تخاطب في شخصه -عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قدوتها ومتبوعها، هذا المراد، والنبي ﷺ مأمور بتقوى الله -تبارك وتعالى، وهذا يدل على عظم شأن التقوى وهي مراتب، مراتبها كثيرة لا تنتهي، ثم إن هذا أيضاً جاء توطئة لما ذكر هنا من قوله: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، ولقوله: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، فهذا يفيد قصر تقواه ﷺ وحصر هذه التقوى على التعلق بالله دون أحد سواه، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وكأن هذا مقدمة لما ذكره بعده يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ.
وفيما يتصل أيضاً بمخاطبته ﷺ بـ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ هنا فرق بين باب المخاطبة والإخبار، فالمخاطبة حينما تقول: يا فلان، طبعاً معروف أن العرب تفضل وتحب الكنية فإن لم يكن فالاسم، فآخر ذلك اللقب، تكره النداء باللقب، فهنا في باب المخاطبة يحسن أن تذكر الكنية أو ما يكون به التكريم، تقول: يا أبا فلان، وتقول: يا أستاذ ونحو ذلك، في باب المخاطبة، فهنا قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ تكريماً وتعظيماً لشأنه ﷺ، وفي باب الإخبار يذكر الاسم؛ ليحصل المقصود، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ [سورة الفتح:29] ليعرف الناس أنه رسول الله ﷺ، هذا تعليم من الله، فليس ذلك المقام -أعني الإخبار- كالمخاطبة، فحينما يخاطب يطلب من التعظيم ما لا يطلب بمجرد الإخبار، تقول: جاء زيد وذهب عمرو، ونحو ذلك، فإذا خاطبت واحداً منهما خاطبته بما يحب أو بما يكون فيه التعظيم أو التكريم أو نحو ذلك.
قوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أي: لا تسمع منهم ولا تستشرهم، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا أي: فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، ولهذا قال تعالى: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي: من قرآن وسنة، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي: فلا تخفى عليه خافية.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي: في جميع أمورك وأحوالك، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أي: وكفى به وكيلاً لمن توكل عليه وأناب إليه.
هنا لما نهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين أمره باتباع ما يوحى إليه من ربه؛ لأن النهي ليس مقصوداً لذاته فهو من باب التخلية، فأمره باتباع ما يوحى إليه من ربه، وبالتوكل عليه؛ لأنه قد يتخوف غوائلهم، فهنا في قوله: وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ قال: لا تسمع منهم ولا تستشرهم، يعني: لا تسمع ما يشيرون به ابتداء، ولا تستشرهم: تطلب رأيهم، فإنهم لا يدلونك على خير، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً، في قراءة أبي عمرو بِمَا يَعْمَلُونَ، فيشمل ذلك المسلمين وغير المسلمين، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [سورة الأحزاب:4، 5].
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي أمراً حسياً معروفاً، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله: أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًّاً له، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولداً للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابناً له، فقال: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ، كقوله: مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ الآية.
قوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن هذا توطئة بذكر أمر محسوس معلوم لدى الجميع، يعني كأنه يقول: كما أنه لا يكون لرجل قلبان في جوفه فكذلك لا يكون له أبوان، ولا تكون زوجته التي هي محل الاستمتاع لا تكون أماً، فالأم يحرم الاستمتاع بها مطلقاً والزوجة هي محل الاستمتاع، ولا تكون أماً وزوجة كما لا يكون الدَّعيّ ولداً، يعني لا يكون له أبوان، فذكر أمراً محسوساً ليتوصل بذلك إلى ما بعده، حيث أبطل الله به أمرين كان الناس عليهما منذ الجاهلية، وهكذا أيضاً يزيد بعض أهل العلم على هذا فيقول: هو توطئة أو هو إيضاح وليس مجرد توطئة، إيضاح لما قبله أيضاً، يعني: لا تجتمع طاعة الله وطاعة أعدائه من الكافرين والمنافقين مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
وسواء على هذا أو هذا يكون ذلك من قبيل البيان والإيضاح بأمر محسوس يدركه الجميع ويقر به، مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وهو الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله، وما عدا ذلك من الأقوال، وغالبه يذكر في أسباب النزول، كما جاء من أن المراد بذلك أن المنافقين قالوا هذا في حق النبي ﷺ أن له قلبين، فكذبهم الله ، أو أن رجلاً يُدعى بذي القلبين، رجل عنده قُدَر وإمكانات عقلية وفطنة فكانوا يقولون له ذلك، هكذا يزعمون، حتى زعموا أنه فر يوم بدر وانهزم ورآه أبو سفيان حينما -كما تعرفون- ساحَلَ أبو سفيان بالعير، فلقيه وإذا هو يحمل نعلاً بيد ويلبس أخرى، فسأله عن هذا، فلم يتفطن، فعرفوا أنه لا يكون كذلك، يعني أنه كغيره من الناس، يصيبه ما يصيبهم من الذهول، لكن لا يصح من ذلك شيء، فهذه روايات غالبها من المراسيل، وما لم يكن كذلك فهو ضعيف الإسناد.
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ سواء أن ذلك من قبيل الرد على المنافقين أو الرد على من زعم أن أحداً من الناس له قلبان، كل هذا لا يصح منه شيء، لكن لو أن أحداً توهم ذلك في نفسه أو في أحد فهذا هو الرد، مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، هذه خلاصة لما ذكر على كثرة الأقوال فيها، وذِكْر الرجل هنا لا يختص به، فكذلك المرأة من باب أولى، وما ذكر أولاً كأنه الأقرب -والله أعلم، مع أن ظاهرها يُردّ به على من زعم أن أحداً من الناس له قلبان.
هنا قال: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ، فهنا هذا تحريم الظهار ورد على هؤلاء المظاهرين، فكذبهم الله بقولهم هذا، وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ؛ لأنه هو يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي، وهناك قال الله : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم [سورة المجادلة:2] ماذا قال عنهم؟ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ، هذا رد، الرد الأول، ثم قال: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ يعني: ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، ثم أيضاً قال ثالثاً: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، ثم قال: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
فهذه الوجوه جميعاً تدل على تحريم الظهار، كذبهم بذلك، وقال: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، لما كان قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي صيغة خبرية، وهي مضمنة معنى الإنشاء، يعني هو يريد أن يصدر حكماً بتحريم هذه الزوجة عليه، أن يظاهر منها، فهو بهذا ينشئ حكماً، فهو خبر مضمن معنى الإنشاء، الصيغة خبرية، وهي مضمنة حكماً، فقال: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ فالحكم منكر، وهذا الخبر أو هذه الصيغة كاذبة، وَزُورًا، والزور أشد الكذب، ثم ذِكْر العفو والمغفرة يدل على أنه ذنب، وكذلك ذكر الكفارة بعده، وكل هذه الأوجه يؤخذ منها تحريم الظهار.
فهنا قال: مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، ويرد هنا سؤال وهو أن هؤلاء هل قالوا: إن هذه الزوجة أمٌّ، هل قالوا: إن هذه الزوجة أمٌّ لهم؟ هم ما قالوا هذا فكيف قال الله : مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ، وقال: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم؟ لأنه حينما ظاهر منها نزّلها منزلة الأم، فأكذبه الله بهذا، وإن كانت الصيغة التي قالها: أنتِ عليّ كظهر أمي، مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ، ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وهنا أيضاً يرد سؤال؛ لأنه سيأتي بعده وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، كيف نجمع بينه وبين قوله هنا: إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ، ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، كيف نجمع بين الآيتين؟
هناك المقصود به التعظيم والتوقير وتحريم النكاح، ولكن تحتجب منه، ولا يجوز أن يخلو بها، أما هنا إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ففي بيان تقرير حكم يتصل بالاستمتاع والظهار.
قال ابن كثير: هذا هو المقصود بالنفي، المقصود بالنفي مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أنها مقدمة وتوطئة، وقوله هنا: ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ هذا فيه أيضاً تكذيب لهم، ومعلوم أن الإنسان إنما يقول بفيه، وهذا فيه نوع من الإدانة لهم، كما تقول: قال بفيه، قلت ذلك بفيك، كتبته بيدك، ومعلوم أن الإنسان يكتب بيده ويقول بفيه، وفيه أيضاً تكذيب لهم من جهة أن هذا القول لا حقيقة له في الواقع، إنما هو لا يجاوز الأفواه.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ: قال سعيد بن جبير يَقُولُ الْحَقَّ أي: العدل، وقال قتادة: وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي: الصراط المستقيم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا زهير، عن قابوس -يعني ابن أبي ظِبْيَان- قال: إن أباه حدثه قال: قلت لابن عباس: أرأيت قول الله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، ما عنى بذلك؟ قال: قام رسول الله ﷺ يوما يصلي، فخَطَر خَطْرَة...
خطرة يعني مثل الخاطرة الوسوسة أو الخواطر.
فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين، قلباً معكم وقلباً معهم؟ فأنزل الله : مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
وهكذا رواه الترمذي ثم قال: وهذا حديث حسن، وكذا رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث زهير، به.
هذه الرواية باعتبار أن المنافقين قالوا ذلك فرد الله عليهم، لكن هذه الرواية لا تصح.
وقوله -عز وجل: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ: هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تبارك تعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط.
فيكون على هذا الاعتبار أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ المقصود به مطلق الاتصاف لا معنى أفعل التفضيل، وادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ يعني قل: فلان ابن فلان،أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
قول ابن كثير -رحمه الله- هنا: هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، هل يقال لهذا نسخ، ما كان الناس عليه ثم بعد ذلك جاء فيه تحريم أو نحو ذلك هل يقال له نسخ؟ رفع ما كان عليه الناس في ابتداء الإسلام، يعني مما كانوا عليه قبل الإسلام، فجاء الإسلام ثم بعد نزل الحكم، هل يقال له نسخ؟ هل يدخل في النسخ، معنى النسخ الاصطلاحي؟
إن هذا سُكت عنه تُرك، لم يتعرض له إلى هذا الوقت، فيمكن أن يقال: إنّ هذا ليس من قبيل النسخ، يعني مثل رفع البراءة الأصلية لا يقال له نسخ، وإنما النسخ بالمعنى المعروف هو رفع حكم شرعي متقدم بخطاب شرعي متأخر، متأخر عنه يعني.
روى البخاري -رحمه الله- عن عبد الله بن عمر قال: إن زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي[1].
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك؛ ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة -رضي الله عنهما: يا رسول الله إنا كنا ندعو سالماً ابناً، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل عَلَيّ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً، فقال ﷺ: أرضعيه تحرمي عليه[2] الحديث.
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولاه، قال: أرضعيه وهو كبير تحرمي عليه، وفي هذا كلام معروف لأهل العلم، هل يحرم رضاع الكبير أو لا؟
فالذي عليه عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم: أن رضاع الكبير لا يؤثر، أن هذا خاص بهذه الحالة، هذا الذي عليه الجماهير، السواد الأعظم سلفاً وخلفاً، ويقابل ذلك قول من قال: إنه يؤثر مطلقاً، وهو قول عائشة -رضي الله عنها، فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت بإرضاعه يعني أن ترضعه أختها أو نحو ذلك فتكون عائشة خالته من الرضاع، وليس المقصود إطلاقاً في مثل هذا أن تباشر إرضاعه، فهذا لا يقول به أحد، وإنما المقصود أن يكون ذلك بواسطة.
وكثير من الناس لما يسمعون مثل هذا يصيبهم الذهول والدهشة ويظنون أنها تباشر إرضاعه فمِن متهكم ومِن فَزِعٍ، وليس المقصود هذا إطلاقاً وإنما أن تعطيه قدر خمس رضعات مشبعات.
وشيخ الإسلام -رحمه الله- توسط في هذه المسألة، فرأى أن ذلك لا يختص بأبي حذيفة ولا يكون أيضاً بإطلاق وإنما في حالات خاصة كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة مع سهلة، نشأ عندهم وكان يصعب فصله، فوجدوا حرجاً، فجاءت هذه الرخصة، فعند شيخ الإسلام يكون ذلك فيمن نشأ مع أناس، تربى معهم كأنه أحد الأولاد، ويصعب عليهم عزله، فإن الإرضاع عند شيخ الإسلام في مثل هذه الحالة يصح.
هذا جواب على سؤال مقدر وهو: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ طيب وكذلك من الرضاعة؟ فأجاب عنه بهذا الجواب، ثم تحدث عما يقال على سبيل التكريم...، نقف عند هذا.
- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد -رضي الله عنهما، برقم (2425)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الأحزاب، برقم (3209)، والنسائي، كتاب النكاح، باب تزوج المولي العربية، برقم (3223).
- رواه مسلم، كتاب إرضاع الكبير، باب رضاعة الكبير، برقم (1453).
- رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، برقم (4821)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، برقم (1447).