بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [سورة الأحزاب:18، 19].
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ أي: أصحابهم وعُشَرائهمِ وخلطائهم هَلُمَّ إِلَيْنَا أي: إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وهم مع ذلك لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلاً أشحةً عليكم أي: بخلاء بالمودة، والشفقة عليكم.
وقال السُّدي: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي: في الغنائم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، قَدْ هنا دخلت على الفعل المضارع، وبعضهم يقول: إن دخولها في هذا الموضع إذا دخلت على المضارع تفيد التقليل، ويمثلون كثيراً لهذا بقولهم: قد يجود البخيل وقد يكبو الجواد، وما إلى ذلك، يقولون: للتقليل، والقاعدة: أن دخولها في مثل هذا الموضع، يعني: فيما ينسب إلى الله كقوله: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64]، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ لا يراد به التقليل قطعاً، فإذا دخلت على المضارع فإنها تفيد التحقيق، يعني قد علم ذلك لا محالة.
وذكر ابن عاشور -رحمه الله- أن دخولها على المضارع عند المحققين لا يخرجها عن معنى التحقيق أصلاً، يعني حتى في كلام الناس، فهي باقية فيه، ودالة عليه، وأضاف هذا إلى المحققين، وذكر أن كونها تفيد التقليل إنما توهمه قائله بسبب أن المقام يقتضيها في بعض المواضع فقط، وإلا فالأصل أنها تفيد التحقيق، لكن إذا دل المقام على أنها تفيد التقليل مثل: قد يجود البخيل، فإنها تكون كذلك، وهذا أوسع مما ذكرته آنفاً من أن ذلك فيما يضاف إلى الله -تبارك وتعالى؛ لأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ يعلم المعوقين، مَن هؤلاء؟ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ، بعضهم يقول: إن المخاطب بذلك هم المنافقون الذين خاطبهم بقوله قبله: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [سورة الأحزاب:16-18]، هذا قال به صاحب التحرير والتنوير.
والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد بذلك والمخاطب به المسلمون الذين كانوا مع النبي ﷺ، فالله يذكر مواقف الناس فيقول: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا، فهنا في قوله: وَالْقَائِلِينَ يحتمل أن يكون ذلك يرجع إلى طائفة واحدة فيكون من قبيل عطف الصفات، أي أوصاف متتابعة لموصوف واحد، أن المعوقين هم القائلون لإخوانهم هلم إلينا، فذكر صفتين من أوصافهم، هذا يحتمل، ويحتمل أن يكون الذين قالوا هذا فئة، يعني أن الذين صدر منهم هذا القول ليس الكل، ولا يقصد به جميع المعوقين مثلاً، أو أن المعوقين طائفة وأن هذا صدر -أعني القول هَلُمَّ إِلَيْنَا- من فئة معينة، ولا شك أنه من جملة التعويق، فالتعويق يكون بهذا وبغيره، لكن هذا من أوضح صوره حينما يقولون: هلم إلينا، يعني: واتركوا رسولَ الله ﷺ، والمقامَ معه على الخندق.
فالحاصل أن قوله: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا بعضهم قال: هذا في المنافقين حينما كانوا يخذلون المسلمين عن المرابطة مع النبي ﷺ على الخندق، وبعضهم يقول: إن هذا صدر من يهود بني قريظة لما نقضوا العهد قالوا ذلك للمنافقين: هَلُمَّ إِلَيْنَا، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا.
لكن هذا لا يخلو من بُعد، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا، كأنه يفهم من السياق -والله أعلم- والقائلين منكم لإخوانهم هلم إلينا، ويحتمل أن يكون ذلك كان في رجل كما يذكرون في كتب التفسير والسير لو صح ذلك، يعني أن رجلاً جاء من الخندق، استأذن النبي ﷺ من المؤمنين، أن يرجع إلى أهله لحاجة، فوجد أخاً له يتعشى فقال: أنت هاهنا ورسول الله ﷺ في الخندق؟ فقال: هلم إلينا فإنما محمد وأصحابه أَكَلَة رأس، يعني هم قلة، وأن العدو سيجتاحهم، تعالَ عندنا، دع عنك النبي ﷺ والمرابطة معه، فيحتمل هذا ويحتمل هذا.
وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا فهذا هو من جملة التعويق والتثبيط عن الجهاد مع النبي ﷺ، كقوله في سورة براءة عن قِيل المنافقين: لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ [سورة التوبة:81]، وقولهم كما في قصة المصطلق: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7] يعني: يتفرقوا عنه ويطلبوا بلداً آخر غير المدينة، فهذا كله من التعويق.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ قال: أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم، جعل هنا الأخوة بهذا الاعتبار، والأخوة قد تقال في الإخوة في النسب، فإذا نظرنا مثلاً إلى قول من قال: إنها نزلت في هذا الرجل الذي قال لأخيه هذه الكلمة فهي أخوة في النسب، وإذا نظرنا إلى أن ذلك صدر من المنافقين، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ، وأنهم قالوه لبعض المسلمين، فيحتمل أن يكون ذلك أخوة مثلاً في القبيلة، يقولون لعشيرتهم.
هنا الحافظ ابن كثير يقول: أي لأصحابهم وعشرائهم وخلطائهم، فهذا نوع أيضاً من الأخوة والمؤاخاة، والأخوة تارة تكون في الاشتراك في بلد، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ، لو قيل: إن ذلك مثلاً صدر من اليهود للمنافقين، ليس بينهم نسب، ولا يشتركون في قبيلة، ولا يشتركون في دين، فيكون ذلك بسبب اشتراكم في البلد، من بلد واحد.
وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا، وكما سبق يبعد أن يكون من قول اليهود وأن المراد به اليهود، وإنما ذلك أقرب إلى أنه من قول المنافقين وأنهم قالوا لإخوانهم أي نظرائهم وعشرائهم كما يقول الحافظ ابن كثير، لِإِخْوَانِهِمْ فالأخوة هنا بالمشاكلة، كما قال الله : إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27]، يعني: أنهم شابهوهم وشاكلوهم، واتبعوا خطاهم وآثارهم، هَلُمَّ إِلَيْنَا أي: إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال.
وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، وهذا -كما سبق- أن ذكر القلة أحياناً يكون بمنزلة العدم، ولكن لا يبعد أن يكون مراداً على ظاهره، يعني أنهم يأتون البأس قليلا فقط للتعويق والتثبيط، أو للاطلاع، أو لإثبات الحضور ونفي التهمة، أو كما قال الله : لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [سورة التوبة:42]، فهم يأتون للأماكن أو يحضرون المشاهد التي تكون فيها الغنيمة قريبة وسهلة المنال، فيشاركون في حضورهم من أجل تحصيل الغنائم، فيكون هذا هو القليل الذي أشار الله إليه، والله تعالى أعلم.
قوله هنا: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ قال: أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم؛ لأن الكلمة هذه قد تقال بمعنى أنه شحيح عليك أي: مشفق عليك، خائف عليك، من المحبة، فهنا ابن كثير -رحمه الله- يقول: بخلاء بالمودة والشفقة عليكم، ونقل قول السدي، وقاله أيضاً غيره كقتادة: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ يعني في الغنائم، يعني: يطالبون بها ولا يتنازلون ولا يتخلون عنها.
وبعضهم يقول كمجاهد: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ يعني: بالخير، وهذا أحسن مما قبله -والله أعلم، يعني أشحة عليكم بالخير، وبعضهم يقول: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بالنفقة، ما يخرج من يده شيء لنصر الإسلام والمسلمين إطلاقاً، شحيح، ولا ينفق على الضعفاء من المسلمين، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، وهذه المعاني تُحتمل كما ترون، ولذلك ابن جرير -رحمه الله- حمل الآية على العموم، عموم هذه المعاني، هم أشحة عليكم بكل خير، بكل شيء، بكل معروف، لا ينفقون ولا مشاعر جيدة تجاهكم، ولا يشاركون ولا يتنازلون عن غنيمة، ولا يصدر منهم نفع ولا دفع إطلاقاً، إنما هم عبء وعالة على المسلمين، يتطفلون عليهم، والله المستعان.
قال: فإذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال.
من شدة الخوف، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يعني: شبههم بنظر المغشي عليه من الموت؛ لأن عينيه تضطربان، تتحركان حركة بطيئة، فهو ينظر بطريقة معينة ويحرك عينيه، فهؤلاء من شدة الخوف لربما وصل بهم الحال إلى أن الواحد منهم لا يستطيع الالتفات؛ لأنه يخشى أن يؤتى من أي جهة في أي لحظة، فيبقى كالجثة الهامدة لا حراك فيه، فتتحرك عيناه يمنة ويسرة، كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
وبعضهم يقول: هذا في نظرهم إلى رسول الله ﷺ في حال الخوف كالمتفرس ماذا عسى أن يصنع؟ فينظرون إليه بهذا النظر، والله يقول: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فالعين تتحرك باتجاهات، ولا يكاد الرأس يتحرك؛ لأنه لم يعد في الجسد حراك من شدة الخوف، هذه حالهم في الخوف.
قال: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أي: فإذا كان الأمن، تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة، وهم يكْذبون في ذلك.
وقال ابن عباس: سَلَقُوكُمْ أي: استقبلوكم.
وقال قتادة: أما عند الغنيمة فأشحُّ قومٍ، وأسوؤه مقاسمة: أعطونا، أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذله للحق.
وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي: ليس فيهم خير، قد جَمَعُوا الجبن والكذب وقلة الخير؛ ولهذا قال تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا أي: سهلاً هيناً عنده.
الأقوال أو المعاني التي ذكرها ابن كثير -رحمه الله، كل ذلك متقارب، فقوله هنا: تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة وهم يكذبون، تقول: فلان يسلق الناس بلسانه، أصل السلق يقال للبسط، ولهذا تجدون في بعض العبارات ما يدل على هذا المعنى في أمور شتى، وتجدون هذا في بعض كلام مسيلمة -قبحه الله- فيما يزعم أنه يوحى إليه، يقول لسجاح المتنبِّئة لما تزوجها ذكر في قرآنه كلاماً فاحشاً ومما قال فيه يخاطبها وأن ذلك مما أوحي إليه، فهو يخيرها في طريقة المعاشرة إن شاءت سلقاً وإن شاءت كذا، مما لا يحسن أن يذكر ولا يقال، يقصد سلقاً مستلقية، فأصله البسط.
فهنا سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، إذا قلت: بسطوا ألسنتهم، فذلك السلق، يبسطون الألسن، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء [سورة الممتحنة:2] هذا في الكفار، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ هذا في الكفار، فبسط اللسان هناك السب والشتم والكلام الذي يسيء إليكم وما شابه ذلك، و الحافظ ابن كثير قال: تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً وادعوا لأنفسهم المقامات والشجاعة والنجدة، فهذا سلق، كما تقول: فلان يسلق الناس، يأخذ الناس بلسانه، يتكلم كلاماً الذي يسمعه يُخدع به كما قال الله : وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، هم يحسنون الكلام -نسأل الله العافية، ولكن الفعال ليست كذلك.
وكما قال الله هناك بأنهم يدّعون لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة وما إلى هذا في قوله -تبارك وتعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، هذه في المنافقين، خلافاً لما هو مشهور عند العامة أنها في اليهود، يعني لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [سورة الحشر:14]، هذه في المنافقين؛ لأن السياق كله في المنافقين، وبعضهم يقول: في المنافقين واليهود حال اجتماعهم، وهذا أيضاً قريب، قال: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، المعاني التي فسر بها هذا الموضوع هناك بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أنهم يدعون لأنفسهم إذا جلسوا يدعون لأنفسهم المقامات والفعال والشجاعة، وينسبون إلى أنفسهم كذباً وزوراً أشياء ما فعلوها ولا صدرت منهم من أمور الشجاعة والبأس في الحرب، وبعضهم يقول: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ بينهم عداوة، وهذا هو الأقرب، لكن الشيء بالشيء يذكر.
فهنا السلق هذا يدل على البسط، وبعضهم يفسر السلق برفع الصوت بالصياح، كما سبق: أعطونا، أعطونا، أو سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ يعني: رفعوا أصواتهم وبسطوها، بسطوا ألسنتهم في الملامة أنكم تسببتم بما جرى من مجيء الأحزاب وتألّب الناس علينا، وحصار هؤلاء للمدينة، أن ما وقع كان بسببكم فبدءوا يلومون وأن المسلمين كانوا هم السبب في التعرض لهذا الخطر، أنهم ما قبلوا إشارتهم ونصحهم يعني في ممالأة الكفار ومصانعة هؤلاء الأعداء، فهم عند أنفسهم -أعني هؤلاء المنافقين- يقولون في ممالأتهم: نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [سورة المائدة:52]، وكذلك يقولون: إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [سورة النساء:62]، نحن نحاول أن نوفق ونحاول أن نسدد ونقارب ونكون في وضع لا يستهدفنا هذا العدو.
والمشهور أن هذا عند الغنيمة، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وأن ذلك الكلام اعتبره ابن جرير من لازمه، يعني هم عند الغنيمة يسلقونكم بالكلام أعطونا، أعطونا، فهم لا يتنازلون إطلاقاً عن هذا الحطام.
وبعضهم حمل السلق على الملق، أي بسطوا ألسنتهم بالثناء الكاذب والتزلف للمسلمين، فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ لكن هذا فيه بُعد وإن قال به بعض السلف كيزيد بن رومان، فيه بعد؛ لأن ذكر الألسن الحداد يدل على شدة، وأن ذلك في كلام يكرهه السامع، إما في معاتبة عنيفة أو في مطالبة عنيفة، أو في نقد جارح، وما أشبه ذلك، ولا يكون ذلك في المدح، وأنهم يسلقونكم بالملق أو كذا، قال هنا: سَلَقُوكُم أي استقبلوكم، وهذا يرجع إلى ما سبق، قال قتادة: عند الغنيمة أعطونا أعطونا إلى آخره، فهذا كله راجع إلى معنى واحد استقبلوكم أعطونا أعطونا.
وفي قوله: يتكلمون، يدّعون لأنفسهم المقامات، إلى آخره وهم يكذبون في هذا، مع أن ما بعده أقرب إذا أردنا أن نرجح، وحينما يقول: بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ يُشعر بأنهم يوجهون كلاماً لا يحسن أن يقال وأن يخاطب به النبي ﷺ وأصحابه بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ يعني ليست القضية أنهم يمدحون أنفسهم ويثنون عليها وعلى بأسهم ومقاماتهم في القتال، وإنما يوجهون ذلك للمسلمين مطالبين أو منتقدين، سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ تسمع منهم ما تكره.
وقوله: وهم مع ذلك أشحة، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يعني: ليس فيهم خير، هنا قال: ليس فيهم خير، قد جمعوا وقلة..إلى آخره ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، الذي يظهر -والله أعلم- أن المعنى أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يعني لا يفهم بحال من الأحوال أن المقصود أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ الذي هو؛ لأن الخير يطلق على المال، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8]، ويطلق على المعروف والبر فذلك من الخير، لا يفهم منه أنهم أهل حرص على البر والمعروف إطلاقاً، فهم أبعد الناس عن هذا، وإنما أشحة على الخير يعني المال، أشحة على المال، حرصاء كل الحرص على ذلك، وأيضاً هم ممسكون عن كل خير لكم، كما سبق في قوله: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، يعني سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ حال كونهم أشحة على نفعكم والإحسان إليكم والبذل من أجل الإسلام وأهله، فخصامهم هذا لا يكون بحال من الأحوال خوفاً عليكم وشفقة عليكم.
والذي يظهر -والله أعلم- أن أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يعني: هم حرصاء على المال، حرصاء في جمعه يعني وتحصيله حينما يطالبون بالغنيمة، وكذلك لا يخرج من أيديهم شيء، والشح أشد من البخل، فإذا قيل مثلاً: إن الشح الصفة النفسانية والبخل ما يترتب عليه من الناحية العملية –الأثر- يعني فالشح متمكن في نفوسهم، أو من يقول: إن الشح أن يمنع ما في يده وأن يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، أو من قال: إن الشحيح هو الذي يمنع الحقوق الواجبة فيكون شحه على النفقات الواجبة، نفقة أهله وما أشبه ذلك، والبخيل يعني دون ذلك، لكن لا شك أن الشح أعظم من البخل، ولهذا قال الله: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة التغابن:16]، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا أي: سهلاً هيناً، هذا فيه تهكم بهم، أنّ إخراجهم من دائرة الإيمان وإحباط أعمالهم أمر ليس بشيء عند الله .
يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا [سورة الأحزاب:20].
وهذا أيضاً من صفاتهم القبيحة في الجبن والخَوَر والخوف، يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا بل هم قريب منهم، وأن لهم عودة إليهم وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ أي: ويَوَدّون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة بل في البادية، يسألون عن أخباركم، وما كان من أمركم مع عدوكم.
قوله: يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا هذا يحتمل أنه يتصل بما قبله، يعني: فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا يعني باعتبار أن جراءتهم هذه وسلقهم على اعتقاد أن الأحزاب لم يذهبوا، لأنهم يمالئون الكفار ويعتزون بهم، حتى إن قوله: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا فُسر باعتبار أنهم يقولون لهم: هَلُمَّ إِلَيْنَا من أجل إذا دخل الأحزاب نحميكم، نقول: فلان ما شارك، فلان لم يكن معهم، فلان معنا، هَلُمَّ إِلَيْنَا، فكانوا يقطعون بدخول الأحزاب إلى المدينة، فيخذِّلون يقولون: انظموا إلينا من أجل إذا دخل الأحزاب نحميكم، فلا يحصل لكم مكروه، استبقوا على دمائكم، ابقوا على دمائكم وأموالكم.
فهنا يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ بعضهم يقول: يحتمل هذا المعنى، أنهم سلقوكم بألسنة حداد، لا زالوا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا، لكن هذا لا يخلو من بعد؛ لأن الله قال: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، متى يذهب الخوف؟ حينما يذهب العدو، فهم يستقبلونكم بهذا إذا ذهب، وعليه يكون قوله: يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا جملة استئنافية جديدة غير متصلة بما سبق، يعني يذكر صفة جديدة لهؤلاء، وحالاً من أحوالهم، لكنها غير مرتبطة بما سبق، يعني: أن من أوصافهم أنهم يسلقونكم بألسنة حداد، أنهم أشحة على الخير، وذكر من أحوالهم أنهم مع ذهاب الأحزاب لا زالوا غير مصدقين ولا متصورين أن الأحزاب سيرجعون هكذا، فهم حتى مع رحيل هذه الجيوش إلا أنهم يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- أنه غير مرتبط بقوله:سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ؛ لأن هذا إذا ذهب الخوف، فإذا كانوا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا فالخوف موجود.
وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ، يعني: مرة أخرى، فهم يتمنون لو كانوا بعيدين، أَنَّهُم بَادُونَ يعني في البادية يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ يعني: من بعيد لا يطالهم سوء ولا يحصل لهم مكروه.
قال: وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلاً أي: ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إلا قليلاً؛ لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم، والله العالم بهم.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:21، 22].
هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله ﷺ في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر -تبارك وتعالى- الناس بالتأسي بالنبي ﷺ يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه ، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين؛ ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا.
تقلقوا من القلق.
هنا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة في عمله ﷺ وجهاده في الخندق وما إلى ذلك، بالإضافة إلى أحواله كلها -عليه الصلاة والسلام، فهو قدوة كاملة من كل وجه، ولما ذكر الله الأسوة بإبراهيم ﷺ قال: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ [سورة الممتحنة:4]، فالاستثناء هناك يحتمل أن يكون من الأسوة، لكم فيه أسوة إلا في هذا، فيحتمل أن يكون من قبيل الاستثناء المنقطع هناك، بمعنى لكن قول إبراهيم لأبيه.
فعلى القول بأن الاستثناء من الأسوة أخذ منه بعض أهل العلم أن ذلك من جملة الأدلة الدالة على أن النبي ﷺ أفضل من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وأكمل، لمّا ذكر الأسوة به لم يستثنِ، وفي إبراهيم استثنى إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ، أسوة إلا في كذا، وقد سُئلت عن الأخذ من اللحية، ويحتج السائل بأنه يوجد كثير من الفضلاء يأخذون من لحاهم دون القبضة، وفوق القبضة، فقلت له: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تقول لي: فضلاء، وأقول لك: رسول الله ﷺ أكمل وأشرف، والأسوة فيه، ولم يقل النبي ﷺ: لقد كان لكم في فلان أسوة، وإنما الأسوة به ﷺ، فعجباً لقوم يقتدون بفلان وفلان ويتركون هدي رسول الله ﷺ، بل وما أمر به، وتعرفون ذلك.
فهنا قال: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، مقيدة بالحسنة؛ لأن الأسوة تكون في الخير وفي الشر، لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا، وهذا يدل على أن الائتساء بالنبي ﷺ يحتاج إلى شيء من تحقيق العبودية بذكر الله كثيراً باللسان والقلب والجوارح، وأن هؤلاء أولى الناس بالاقتداء به؛ لأن ذلك يتطلب مجاهدة وترويضاً للنفوس؛ لأن النفوس تتنازعها الأهواء، لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا.
ثم قال تعالى مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجَعْله العاقبةَ حاصلةً لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
قال ابن عباس وقتادة: يعنون قوله تعالى في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة:214] أي: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب؛ ولهذا قال تعالى: وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
هذا أحسن ما فسرت به الآية، يعني بعضهم يقول: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ يعني: النصر، والواقع أن تفسيره بالنصر هو تفسير له ببعض لوازمه، يعني: الابتلاء الذي يعقبه النصر، فهذا من أحسن ما يكون في التفسير، هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وعدهم بالنصر لكن بعد الابتلاء، فيكون ذلك محمولاً على مثل هذه الآيات أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ [سورة التوبة:16] وما شابه ذلك، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186].
فالذي وَعد اللهُ ورسوله هو الابتلاء الذي يعقبه التمكين والنصر، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ رأوا الشدة -ما رأوا طلائع النصر إطلاقاً- تذكروا هذا الوعد فقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فلذلك يحسن بالمؤمن دائماً إذا رأى الابتلاء في نفسه أو أهله أو ماله أو نحو ذلك أن يتذكر هذا المعنى دائماً هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فيعقُب ذلك التسليم والانقياد والرضا والاطمئنان والثقة بما عند الله ، وأن العاقبة لأهل الإيمان، وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، إيماناً بوعد الله ، إيماناً به، لم يتزعزعوا، لم يتزلزلوا ما قالوا: كيف حصل لنا هذا، وكيف وقع لنا هذا؟ ما زادهم إلا إيماناً وتسليماً لأمر الله وقدره.
وقوله تعالى: وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، كما قاله جمهور الأئمة: إنه يزيد وينقص، وقد قررنا ذلك في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
ومعنى قوله -جلت عظمته: وَمَا زَادَهُمْ أي: ذلك الحال والضيق والشدة إِلا إِيمَانًا بالله، وَتَسْلِيمًا أي: انقياداً لأوامره، وطاعة لرسوله ﷺ.
وهكذا قول من قال وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا يعني: تسليم أنفسهم أيضاً لملاقاة العدو، فهذا كله من التسليم لأمر الله -تبارك وتعالى- وطاعته.