الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
‏ [9] من قول الله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} الآية:36 إلى قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} الآية:37‏
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو القعدة / ١٤٣٢
التحميل: 4788
مرات الإستماع: 7592

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام أبو الفداء ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا [سورة الأحزاب:36].

روى الإمام أحمد عن أبي برزة الأسلمي قال: إن جليبيباً كان امرأ يدخل على النساء يَمُرّ بهن ويلاعبهن، فقلت لامرأتي: لا تدخلن عليكن جُليبيباً، فإنه إن دخل عليكن لأفعلن ولأفعلن، قالت: وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم لم يزوجها حتى يعلم: هل للنبي الله ﷺ فيها حاجة أم لا؟ فقال رسول الله ﷺ لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك، قال: نعم، وكرامة يا رسول الله، ونُعْمَة عين، فقال ﷺ: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال ﷺ: لجليبيب. فقال: يا رسول الله، أشاور أمها، فأتى أمها فقال: رسولُ الله ﷺ يخطب ابنتك؟ فقالت: نعم ونُعمة عين، فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه، قال: إنما يخطبها لجليبيب، فقالت: أَجُلَيبيب إنيه؟

مختلف في ضبطها، وفي صورتها، صورة الكلمة، لكن على ما هاهنا يعني يقال ذلك: للاستبعاد والإنكار، جليبيب، يعني كانت تقول: كيف؟ ما يمكن.

قال: فقالت: أجليبيب إنيِه؟ أجليبيب إنيِه؟ لا لعمر الله لا نزَوّجُه.

يعني هي تتساءل، تقول: جليبيب، كأنها تقول: جليبيب؟ لا يمكن.

قال: فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله ﷺ فيخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: مَنْ خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، قالت: أتردون على رسول الله ﷺ أمره؟! ادفعوني إليه، فإنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله ﷺ فقال: شأنَك بها، فَزَوّجها جليبيباً، قال: فخرج رسول الله ﷺ في غزاة له، فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه : هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً، قال ﷺ: انظروا هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا، قال ﷺ: لكني أفقد جليبيباً، قال ﷺ: فاطلبوه في القتلى، فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتاه رسول الله ﷺ فقام عليه، فقال: قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه مرتين أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله ﷺ على ساعديه وحفر له، ما له سرير إلا ساعد النبي ﷺ، ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله ، قال ثابت: فما كان في الأنصار أيّم أنفق منها، وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً: هل تعلم ما دعا لها رسول الله ﷺ؟ فقال: قال: اللهم صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً كذا كان، فما كان في الأنصار أيم أنفق منها، هكذا أورده الإمام أحمد بطوله، وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله[1]، وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب": أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله ﷺ أمره؟ نزلت هذه الآية: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، هذا ابتداء حديث عن أمر يتصل بما جاءت الإشارة إليه في أول السورة على أن سبب النزول أو أن هذه الآيات تتحدث عن تزويج زيد بن حارثة -رضي الله تعالى عنه- بزينب بنت جحش، لما خطبها النبي ﷺ له، وانظر ما قال الله بعد: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [سورة الأحزاب:37]، وفي أول السورة وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ [سورة الأحزاب:4]، فأبطل هذا الأمر من الناحية النظرية، أي أن الله قد حكم ببطلانه، ومن الناحية العملية لما كان ذلك شاقاً على النفوس، وكانوا يرون أن الرجل لا يجوز بحال أن يتزوج امرأة مَن تبناه، وأن هذا عندهم من العظائم، أمر نبيه ﷺ أن يتزوج امرأة زيد بعدما فارقها؛ ليكون ذلك رافعاً لما في النفوس من الحرج، فقد يحصل الإيمان والتسليم ولكن يبقى التنفيذ لربما صعباً، فأراد  أن يجعل ذلك على يد نبيه ﷺ من الناحية العملية، وهذا له نظائر في الشرع.

وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ، أورد المصنف -رحمه الله- هنا حديث أبي برزة في أن سبب النزول: هو أن النبي ﷺ خطب امرأة من الأنصار لجليبيب، وأن الآية نزلت فيه، فهذه يمكن أن تكون نزلت في جليبيب، وفي قصة زيد -رضي الله تعالى عنه، والسياق في خبر زيد، ولا منافاة، والله تعالى أعلم.

وقوله هنا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا، هذا النفي بمعنى الحظر، بمعنى: أن ذلك لا يكون، إما عقلاً، يعني هذه تستعمل في نفي الإمكان إما عقلاً وإما عادة، وإما أن يكون ذلك لأن الله أخبرنا أنه لا يكون، أو لأنه حرمه شرعاً من جهة الخطاب التكليفي، وتأمل الآيات التي جاء فيها مثل هذا النفي، مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60]، هذا غير، مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ [سورة التوبة:120] الآية.

وهذا أيضاً مغاير لما هنا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وهو مغاير أيضاً لقوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ [سورة الشورى:51]، وهذه الآية مَا كَانَ لِبَشَرٍ ليست كقوله أيضاً: مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60]. 

فهذه المقامات يختلف فيها المراد بهذا النفي، فمنه ما كان ممتنعاً؛ لأن الله حكم بامتناعه، وذلك كقوله: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا، أو لأنه حرمه في الخطاب التكليفي وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، أو لأن ذلك ممتنع في العقل أو العادة مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا، وهكذا مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [سورة التوبة:17]، ليس هذا من قبيل الامتناع العقلي، ولكنه امتناع آخر من جهة الشرع، والله تعالى أعلم.

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا الأمر هنا يمكن أن يكون من قبيل الأمر الطلبي أو الأمر الخبري، يعني ليس المقصود بالأمر هنا افعل أو لا تفعل.

إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، إذا أخبرنا أن المرأة لها نصف الميراث مثلاً، أو أخبر الشارع مثلاً أن المرأة ناقصة عقل ودين مثلاً، هذا خبر، وليس بتكليف، فهنا لا يكون للإنسان مع الله اختيار، إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة الحجرات:1] برأي أو اقتراح أو اعتراض، بل حتى الأمر الكوني، إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا، إذا كتب للإنسان أن يولد له بنت ليس له أن يعترض، ويصدر منه ما لا يليق مما ينافي الأدب مع الله -تبارك وتعالى.

وقد يكون هذا الأمر من قبيل الطلب، فإذا شرع الله أو أمر نبيَّه ﷺ أن يتزوج هذه المرأة، أو النبي ﷺ خطب هذه المرأة لجليبيب أو تلك لزيد بن حارثة، فينبغي أن يقابل ذلك بالرضا والتسليم، أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، "لهم"، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ أعاد الضمير بالجمع وما قبله مفرد وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ، لأن النكرة في سياق النفي للعموم، فأعاده باعتبار المعنى، أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، فالضمير في قوله: مِنْ أَمْرِهِمْ بعضهم يقول: يرجع إلى النبي ﷺ، وبعضهم يقول: يعني من أمر النبي ﷺ لهم، وبعضهم يقول: يرجع إلى الله وإلى الرسول ﷺ، وبعضهم يقول: يرجع إلى أهل الإيمان، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، مِنْ أَمْرِهِمْ لا يكون له اختيار، لا يكون له من أمره شيء، بل عليه أن يسلم لله ويرضى.

وهنا قال: روى الإمام أحمد عن أبي برزة قال: إن جليبيباً كان امرأً يدخل على النساء، يمر بهن ويلاعبهن، فقلت لامرأتي: لا تدخلن عليكن جليبيباً... إلى آخره، فقوله: "يدخل على النساء"، قد يأتي مَن في قلبه مرض، ويقول: يجوز مخالطة النساء ومضاحكة النساء وملاعبة النساء، فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7]، اتباع المتشابه يكون في اتباع المتشابه من القرآن واتباع المتشابه من السنة، وبعض المنتكسين لربما يجمع لبعض الزائغين أشياء من هذا القبيل، يتتبعها ويجمعها ويعطيه مادة بعد ذلك يقتات عليها، ويضلل بها عباد الله.

فهنا: "كان يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن"، هذا إما أن يكون قبل الحجاب والأمر به، وإما أن يكون هذا الرجل كان يُنظر إليه باعتبار أنه من التابعين غير أولي الإربة من الرجال، يعني أنها نظرة المجتمع إليه كما قال الله : لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ [سورة الأحزاب:55] إلى أن قال: أَوِ التَّابِعِينَ، الذي يتبع الناس ليطعم معهم، يكون تابعاً من غير المحارم غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ والإربة هي الحاجة، يعني أنه لا شهوة له، وإنما يدخل على الناس يأكل معهم، غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ، فهذا استثناه الله ، فكان مِن الرجال مَن يدخلون، وتعرفون في الحديث الذي كان عند أم سلمة -رضي الله عنها- وكان يقول لأخيها: إذا فتح الله عليكم الطائف فعليك بأم غيلان فإنها تُقبل بأربع وتدبر بثمان، فلما سمع النبي ﷺ قوله هذا نهى أن يدخل عليهن، لكونه يتفطن إلى هذه الأمور، فيشترط في هذا من غير أولي الإربة: أن لا يكون له نظر وتطلع وشهوة.

الأمر الثاني: أن لا يكون هذا الإنسان ممن يتفطن لمفاتن النساء، إذا كان الطفل ليس له شهوة ومع ذلك قال الله : أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:30] على قولين معروفين مضى الكلام عليهما، لَمْ يَظْهَرُوا من الظهور بمعنى الغلبة أو الانكشاف، لم يقووا على الجماع أو لم يكشفوا عن عورات النساء لجماعهن، والأقرب من هذا هو المعنى الآخر، وهو أن المراد: لَمْ يَظْهَرُوا يعني: أنهم لا يتفطنون، ليس فيه فطنة في مفاتن المرأة، طفل بريء غافل عن هذه الأمور لا تخطر له على بال، فهذا لا بأس، وأما إذا كان الطفل يتفطن فلا يدخل، فهنا هذا جليبيب كان من هذا النوع الذي هو من غير أولي الإربة يدخل على النساء ولا يرونه ممن له همة في النساء ورغبة فيهن، لعله كان كذلك، وإلا فالنبي ﷺ قال: إياكم والدخول على النساء[2]، فيترك هذا المحكم الواضح ويحتج بحالات يلابسها ما يلابسها، ويحتف بها أمور قد نطلع على جملتها وقد نطلع على تفاصيلها، فهذا غير صحيح، ولما سئل النبي ﷺ عن الحمو قال: الحمو الموت[3].

وهنا في كون النبي ﷺ قال للرجل: هذا مني وأنا منه، هذا كما سبق لا يقال: إن ذلك مثلاً يدخله في كونه من أهل البيت، ولا يشكل هذا وحديث: سلمان منا آل البيت، هذا لا يجعله يلحق بهم، وإنما كما يقال: فلان مني، أنا من فلان، أو فلان منا، وإلى آخره، والحديث لا يصح رفعه إلى النبي ﷺ، ولكنه صح عن علي -رضي الله تعالى عنه.

قال: أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ هنا يرد سؤال: يعني لما نزلت في خطبة النبي ﷺ لهذا الرجل أو خطبة النبي ﷺ زينب لزيد بن حارثة، هل كانت الخطبة هذه يجب قبولها على هذه المرأة؟ هل المرأة ملزمة حينما يخطبها النبي ﷺ لرجل من المسلمين لزيد أو لغيره هل يجب عليها شرعاً أن تجيب، أو لا يجب عليها؟

بعضهم يقول: إن ظاهر الآية يدل عليه، هذه خطبة رسول الله ﷺ، واختار لها ذلك، فما كان لها أن تتردد أو تمتنع، وبعضهم يقول: هذا لا يجب، وتوسط بعضهم فقال: إن ذلك في أصله لا يلزم، ولكن لما كان يحتف بهذا الموضوع، بهذه القصة، بناء على أن الآيات في زيد كما هو ظاهر، لما كان يحتف بها تشريع، وما رتبه الله على هذا التزويج، يعني تزويج زينب لزيد من أنه سيطلقها في علم الله ، ثم يتزوجها النبي ﷺ ليكون ذلك رافعاً لما في النفوس من الحرج، فجاء ذلك بهذه الصيغة، "ما كان" وأنه كان يجب عليها أن تمتثل، هذا في قصة زيد، وخطبة النبي ﷺ لزينب، لكن في قصة جليبيب ليس فيه هذا المعنى، وذلك أقوى في الاستدلال بأن خطبة النبي ﷺ كانت واجبة؛ لأن مثل هذا التركيب أو مثل هذه الصيغة، ما كان لك أن تفعل كذا إلى آخره إذا حملناها على أن ذلك يحرم على الإنسان، فيكون ذلك للوجوب، ولكن كون هذه الصيغة مما يدل على التحريم ليس محل اتفاق، بعضهم قال: إن ذلك يكون للاستحباب، كأن تقول له مثلاً: ما كان لك أن تتخلف عن الصف الأول، ما كان لك أن تتخلف عن مجالس العلم.

قال: وعن طاوس قال: إنه سأل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن ركعتين بعد العصر، فنهاه، وقرأ ابن عباس -رضي الله عنهما: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة النساء:65].

هو كما ذكر الحافظ ابن كثير بناء على أن العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، فهذا فيما نزلت فيه وفي غيره من الأمور إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا سواء كان من قبيل الأمر الطلبي أو كان من قبيل الخبري، والخيرة بمعنى الاختيار، لا يكون اختيار مع اختيار الله ، والرضا أن يكون الإنسان راضياً بما حكم الله به كوناً وشرعاً، أحكام الله الشرعية يسلم لها ويرضى ولا يعترض، ولا يتردد في قبولها، ولا يكون في قلبه حرج، وكذلك في أحكامه الكونية القدرية، يرضى ولا يكون له اعتراض على شيء من ذلك، ولا تشهٍّ ولا اختيار؛ لهذا نقول للناس الذين يحاولون أحياناً بعض الأمور، يعني امرأة حملت ولا تريد أن ترهق نفسها من غير علة، لا تريد أن ترهق نفسها بالحمل، فرأت أن هذه مصيبة نزلت بها وتريد أن تسقط هذا الولد وليس بها علة، فمثل هؤلاء يقال: الله اختار لكِ هذا، فينبغي أن ترضى باختيار الله ، وقل مثل ذلك في اختيار نوع الجنين كما يقولون وما إلى هذا، الإنسان يسلم ويرضى، ولا يكون له اختيار مع الله، هذا كمال الرضا.

قال: ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا، كقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة النور:63].

هذا قد يستدل به على أن الخطبة كانت واجبة القبول، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أن ذلك لا يحمل على الاستحباب، وإن جاء ذلك في كلام العرب، أي استعمال كلمة "ما كان" للاستحباب، لكن هنا وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يدل على أنها كانت واجبة القبول، هذا بالنسبة إلينا لا يترتب عليه حكم عملي من هذه الحيثية، موضوع الخطبة، بالنسبة لنا أن ذلك قد انقضى، والنبي ﷺ ليس بين أظهرنا فيخطب امرأة فيقال: هي يجب عليها القبول أو لا يجب، إنما ذلك توصيف لأمور وقعت في زمنه -عليه الصلاة والسلام.

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً [سورة الأحزاب:37].

يقول تعالى مخبراً عن نبيه ﷺ إنه قال لمولاه زيد بن حارثة وهو الذي أنعم الله عليه، أي: بالإسلام، ومتابعة الرسول ﷺ: وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه أي: بالعتق من الرق.

هنا عبر بالاسم الموصول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، لاحظْ ما عبر بالاسم، باسمه العلم، ما قال: وإذ تقول لزيد، لما يشعر به من العلة، يعني: لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، ما عطف على الصلة، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، من فضل النبي ﷺ عليه، وأن ذلك ينفي ما يظنه الظانون من أن النبي ﷺ كان يتطلع إلى زينب أن يتزوجها، ويريد أن يطلقها زيد ليتزوجها، تجدون هذا للأسف في بعض كتب التفسير، في روايات لا يعول عليها بحال من الأحوال، وسيأتي الكلام على هذا عند قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، ما الذي أخفاه النبي -عليه الصلاة والسلام؟ فهنا النبي ﷺ متفضل عليه، وهو الذي خطبها له، هو الذي أعتقه، فكيف يظن مثل هذه الظنون السيئة؟

قال: أي بالعتق من الرق وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر، حبيباً إلى النبي ﷺ، يقال له: الحِبّ، ويقال لابنه أسامة: الحِبّ ابن الحِبّ، قالت عائشة -رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله ﷺ في سرية إلا أمّره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه[4]، رواه أحمد

وكان رسول الله ﷺ قد زَوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية -رضي الله عنها- وأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأصدقها عشرة دنانير، وستين درهما، وخِمارا، ومِلْحَفة، ودرْعاً، وخمسين مُدّاً من طعام، وعشرة أمداد من تمر، قاله مقاتل بن حيان، فمكثت عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله ﷺ فجعل رسول الله ﷺ يقول له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، قال الله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.

وروى ابن جرير عن عائشة -رضي الله عنها، أنها قالت: لو كتم محمد ﷺ شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله، لكتم: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ.

وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، ما الذي أخفاه النبي ﷺ؟ خلاصة ما هنالك أن الله أعلمه أن زيداً سيطلقها، وأن الله سيزوجه بها بعد زيد، فشق ذلك على النبي ﷺ؛ لأن المنافقين سيجدون متنفساً، فيتحدثون عن هذا ويخوضون فيه، ويلوكون عرض نبي الله ﷺ، فكان النبي ﷺ يقول له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، مع أن الله أعلمه أنه سيطلقها، وأن الله سيزوجه إياها، هذا معنى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وما عدا ذلك فهو باطل، من أن النبي ﷺ كان يتطلع إليها، وأن قلبه كان يميل إليها، وما إلى ذلك مما يُذكر، هذا كله غير صحيح، ولو كان للنبي ﷺ فيها حاجة، لو كان له بها حاجة لتزوجها قبل أن يتزوجها زيد.

وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، كان يتخوف النبي ﷺ من ألسن المنافقين.

وقوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا.

هنا أظهره في موضع الإضمار، ما قال: فلما قضى منها وطراً يعني: فيه تنويه بشأن زيد ، زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وهم يرجعون إلى قبيلة تغلب، كان حراً فخطف وهو صغير، لما ذهبت به أمه إلى أخواله من طيئ، فأغارت خيل فأُخذ، وبيع بسوق حباشة قريباً من مكة، وعمره ثماني سنوات، واشتراه حكيم بن حزام، ووهبه لخديجة -رضي الله تعالى عنها، وهي عمته، ثم خديجة -رضي الله تعالى عنها- وهبته للنبي ﷺ.

قال: الوَطَر: هو الحاجة والأرَب، أي: لما فَرَغ منها، وفارقها، زَوّجناكها، وكان الذي وَلي تزويجها منه هو الله ، بمعنى: أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر.

روى الإمام أحمد عن ثابت، عن أنس ، قال: لما انقضت عدة زينب -رضي الله عنها- قال رسول الله ﷺ لزيد بن حارثة: اذهب فاذكرها عليّ، فانطلق حتى أتاها وهي تُخَمِّر عَجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول: إن رسول الله ﷺ ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب، أبشري، أرسلني رسول الله ﷺ يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله ﷺ فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دَخَلَتْ على رسول الله ﷺ أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله ﷺ واتبعته، فجعل يتتبع حُجَر نسائه يسلم عليهن، ويقلن: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أُخبر، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقي الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [سورة الأحزاب:53] الآية كلها[5]، ورواه مسلم والنسائي.

وقد روى البخاري -رحمه الله، عن أنس بن مالك قال: إن زينب بنت جحش -رضي الله عنها- كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ فتقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات"[6].

وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة -رضي الله عنهما- فقالت زينب -رضي الله عنها: أنا التي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة -رضي الله عنها: "أنا التي نزل عُذْري من السماء، فاعترفت لها زينب -رضي الله عنها"[7].

هذه الواقعة كانت في السنة الخامسة بعد وقعة الأحزاب، وبهذا تدرك الارتباط بين هذه الواقعة وموضوع هذه السورة في صدرها، الموضوع الأساس الذي هو الأحزاب، وهذه الغزوة تحدثت عن غزوة الأحزاب وما تبعها من قريظة، والآن الحديث عن تزويج النبي ﷺ بزينب -رضي الله تعالى عنه، وكان ذلك بعد وقعة الأحزاب، وهكذا ما يذكر بعده مما يتصل بالحجاب، فإن ذلك كان في هذا الحين، فجاءت السورة متحدثة عن هذه القضايا التي كانت متقاربة مع غزوة الأحزاب، وحصلت بعدها.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (19784)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم. ثابت: هو ابن أسلم البناني"، واللفظ له، ورواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل جليبيب ، برقم (2472)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب المناقب، باب جليبيب -رضي الله عنه، برقم (8246).
  2. رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة، برقم (4934)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، برقم (2172).
  3. هو الحديث السابق.
  4. رواه الحاكم في المستدرك، برقم (4962)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه".
  5. رواه أحمد في المسند، برقم (13025)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، بهز: هو ابن أسد العمي، وهاشم: هو ابن القاسم"، ومسلم، كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس، برقم (1428).
  6. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء [سورة هود:7]، وهو رب العرش العظيم [سورة التوبة:129]، برقم (6984).
  7. رواه نحوه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (122)، والحاكم في المستدرك، برقم (6774).

مواد ذات صلة