بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الإمام الحافظ أبو الفداء ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة الأحزاب:50].
يقول تعالى مخاطباً نبيه ﷺ بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مُهورهُنَّ، وهي الأجور هاهنا، كما قاله مجاهد وغير واحد، وقد كان مَهْرُه لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونَشًّا -وهو نصف أوقية، فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي -رحمه الله- أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حُيَيّ فإنه اصطفاها من سَبْي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكذلك جُوَيرية بنت الحارث المصطلقية، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها -رضي الله عنهن جميعاً.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا حمله على أنه أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن، وهذا قول الجمهور، على ظاهر الآية: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ فأضاف ذلك إليه.
ومن أهل العلم -كابن زيد والضحاك واختاره القرطبي- من قال: إن المقصود بذلك إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ كل امرأة يتزوجها النبي ﷺ ويعطيها مهراً، فيبقى النساء اللاتي يتزوجهن ﷺ من غير مهر، وهن الواهبات كما سيأتي، وكذلك أيضاً أحل الله له أن يتسرى بملك اليمين، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، فجعلوا هذا قسيماً لهذا، إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، فهؤلاء كالقرطبي ومن قبله أصحاب القول الثاني يقولون: إن المقصود أن الله أحل للنبي ﷺ أن يتزوج من النساء بمهر، وأنه يدل على ذلك هذا الموضع من الآية، والأولون يقولون: ظاهر الآية أن ذلك في أزواجه خاصة، أحل له أزواجه، ولأصحاب القول الثاني أن يقولوا: كأن هذا من قبيل تحصيل الحاصل، والله أعلم.
قال: وقوله تعالى: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي: وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم -عليهما السلام، وكانتا من السراري -رضي الله عنهما.
وقوله تعالى: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ الآية، هذا عدل ووَسط بين الإفراط والتفريط؛ فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فَرّطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا شنيع فظيع.
وإنما قال: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ فَوَحَّدَ لفظ الذكر لشرفه، وجمع الإناث لنقصهن كقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ [سورة النحل:48]، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة البقرة:257]، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1]، وله نظائر كثيرة.
هذا جواب لهذا السؤال الذي قد يرد، لماذا أفرد العم وجمع العمات، وأفرد الخال وجمع الخالات؟ قال: لشرف الذكر، هذا قول ابن كثير -رحمه الله، وبعضهم يقول: إن العم والخال كل منهما اسم جنس وهو يصدق على الواحد والكثير، فحينما يقول: بنات عمك، أفرد العم، يعني: بنات أعمامك، اسم جنس، عم: مفرد مضاف إلى معرفة وهي كاف الخطاب، عَمِّكَ يعني أعمامك، كما قال الله : أَوْ صَدِيقِكُمْ [سورة النور:61]، يعني أو أصدقائكم، فاسم الجنس يعم، سواء كان ذلك بالإضافة أو كان من غير إضافة كقوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:31] يعني: أو الأطفال.
بها جِيَفُ الحسْرى فأمّا عظامُها | فبيضٌ وأما جلدُها فصليبُ |
عظامها: جمع، وجلدها: مفرد، أضافه إلى ضمير الهاء، جلدها أي: جلودها، فصليب يعني: صليبة، هو يصف إبلاً في فلاة منقطعة، ميتة، متفسخة، عظامها تلوح.
فهذا جواب لبعض أهل العلم، وهو جواب –أيضاً- يبدو أن السؤال لا يزال معه قائماً، فهو وإن كان اسم جنس إذاً لماذا عبر به –بالمفرد؟ لماذا لم يقل: أعمامكم ليكون مثل: الخالات؟ فهم يقولون: إن الخالات والعمات ليست اسم جنس، فلا يفي عنها التعبير بالمفرد، هكذا قالوا، ولعل من أحسن ما قيل في ذلك ما ذكره القاسمي: من أن ذلك يناسب المقام هنا، فالقرآن أفصح وأبلغ الكلام، فالمناسب هنا هو ما عبر به، وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ، ولكل مقام مقال، بينما في آية أخرى، في سورة أخرى أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [سورة النور:61]، يعني مما يباح للإنسان أن يأكل منه بغير إذن، فهناك ذكر الجمع، وهنا أفرده، فهناك مناسب للسياق، وهذا يناسب السياق، والله أعلم.
لكن لو قال: أو بيوت عمكم باعتبار أن العم اسم جنس، فاسم الجنس يعم الواحد والكثير، لكن هناك أنسب للمقام باعتبار أنه جمع البيوت، يعني في كل موضع بحسب السياق، فلما جمع البيوت هناك ناسب أن يجمع الأعمام.
يعني يترتب على هذا أن العطف يقتضي المغايرة، فهنا وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ يعني: من لم تهاجر معه فلا تحل، وعلى القراءة الأخرى قراءة ابن مسعود: "واللاتي هاجرن معك" يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الأوصاف المتنوعة لموصوف واحد، وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ "واللاتي هاجرن معك"، يعني: أن ذلك يرجع جميعاً إلى هؤلاء اللاتي هاجرن معه، لكن هذا فيه بعد، والأقرب: أنه نوع آخر، أن المهاجرات أباحهن الله له من عموم المؤمنات.
اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ بعضهم فسره بالمسلمات، يعني اللاتي أسلمن معك، وأن غير المسلمة لا تباح للنبي ﷺ، وأن ذلك من خصائصه، يعني: لا يجوز له أن يتزوج الكتابية مثلاً، ولكن هذا خلاف الظاهر، أعني تفسير المهاجرات بالمسلمات، وإن قال به بعض السلف.
وبعضهم يقولك: اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ الهجرة المعروفة، هاجرن معه إلى المدينة -عليه الصلاة والسلام، وأن غير المهاجرة لا تحل للنبي ﷺ، وهذا اختيار ابن جرير، وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ فغير المهاجرة لا تحل، وهذا ظاهر القرآن، هذا ظاهر الآية.
وبعضهم أطلقه، وبعضهم خصه بهؤلاء القرابات، يعني بعضهم قال: لا تحل له مطلقاً أيُّ امرأة ما لم تكن مهاجرة، وأم هانئ بنت أبي طالب فهي من بنات عمه، فبعضهم يخصص هذا بهؤلاء القرابات فقط، وليس في كل امرأة، اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ، طيب هل يجوز للنبي ﷺ أن يتزوج امرأة من الأنصار مثلاً ليست مهاجرة؟ الجواب: نعم، وبعض أزواج النبي ﷺ لم تكن من المهاجرات، فقول من قال: إن ذلك مقيد بقرابته التي ذكرت قبله وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ هذا هو الأقرب لظاهر الآية، -والله تعالى أعلم، أما ابن جرير فأطلقه، قال: ما يحل له إلا من هاجر معه إلى المدينة.
فإذا ذكر قولين ولم يرجح فلا يصح أن يقتصر على أحد القولين فيفهم منه أن هذا اختيار ابن كثير، إلا أن يشار إلى ذلك في الهامش.
قال: وقوله تعالى: وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ الآية، أي: ويحل لك -يأيها النبي- المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك.
يعني الآن أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك، هذا معنى خَالِصَةً لَّكَ يعني: أن تتزوجها من غير مهر، هذا اختيار ابن كثير، وهو قول عكرمة، وهو اختيار ابن جرير، خَالِصَةً لَّكَ يعني: أن تتزوج من غير مهر، ولا يجوز لغير النبي ﷺ أن يتزوج من غير مهر.
ومن أهل العلم من حمل الآية: خَالِصَةً لَّكَ على أن المقصود بذلك التزوج بلفظ الهبة، أن يتزوج بلفظ الهبة، يعني: ما هو بلفظ أنكحتك، زوجتك، لا، بلفظ: وهبت، لو الآن أحد يعقد لآخر على ابنته أو مُوَلِّيته ويقول له: وهبت لك ابنتي، لا يصح العقد، فهنا قال: خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، فالشافعي -رحمه الله- حمل هذا على هذا المعنى: أنه يجوز له أن يتزوج بلفظ الهبة، والأولون قالوا: إن المقصود خَالِصَةً لَّكَ أن تتزوج من غير مهر.
توالى فيها، وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً الشرط الأول: إن وهبت نفسها للنبي، الشرط الثاني: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا؛ لأنها بمجرد الهبة لا تكون زوجة له، لو قالت له: وهبت لك نفسي، لا تكون زوجة له بهذا الاعتبار، ومعلوم أن الهبة في غير النكاح تتوقف على قبول الموهوب، بخلاف الميراث فهو تملك جبري، ما يتوقف على قبوله، بمجرد ما يموت المورث ينتقل المال إلى الورثة، أما الهبة فتتوقف على قبول الموهوب، ولا يخفى التعليل الذي ذكره أهل العلم في هذا: أنه قد يلحقه بذلك معرّة، فذلك يتوقف على قبوله، قد لا يقبل هذا، ولا يريده، يرى أن هذا لا يصلح لمثله أو لأي سبب آخر، فهذان شرطان، وهذه الآية أكثر الآيات في القرآن من جهة الضمائر.
لابد من المهر في غير النبي ﷺ.
وروى ابن أبي حاتم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: التي وهبت نفسها للنبي ﷺ خولة بنت حكيم[2].
وروى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي ﷺ وأقول: أتهب امرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ قلت: ما أرى ربك إلا يُسَارع في هواك[3].
المقصود: في هواك، ليس الهوى المذموم، وإنما يعني ما تميل إليه النفس من مطلوباتها، إن لم يكن ذلك محرماً، وإلا فالهوى لا يكاد يطلق في القرآن إلا على سبيل الذم، لكنه قد يأتي في الاستعمال معبراً به عن ميل النفس، يقال له: هوى، تقول: هذا الأمر لك فيه هوى، لك فيه ميل، نفسك تميل إليه، نقول: لأن هذا الأمر لك فيه هوى فعلتَه، وهذا لم يكن لك فيه هوى -في أمور ليست محرمة- لم تفعله، وقول العامة: إكرام النفس هواها، الأحسن من هذا أن يقال: إكرام النفس هداها، وليس إكرام النفس هواها، باعتبار أن الهوى لا يكاد يذكر إلا على سبيل الذم، وليس إكرام النفس هو أن تتبع الهوى، وتُترك مع الهوى، وإنما باتباع الوحي والهدى، فهذا إكرامها، لكنهم يقصدون معنى صحيحاً، وهو أن الإنسان لا يُحمل على شيء يكرهه من باب الإكرام، فيكون هذا الإكرام، كما قيل:
رامَ نفعاً فضَرّ من غيرِ قصدٍ | ومن البِرِّ ما يكون عقوقاً |
أراد أن يكرمه فشق عليه، فيقولون: إكرام النفس هواها؛ بهذا الاعتبار، لكن هذا الكلام لا يقال: إنه حرام وباطل بإطلاق، وإنما فيه التفصيل المتقدم، وكثير من الكتيبات التي تظهر، والمطويات في المنهيات تحتاج إلى تفصيل، إن قصد كذا فهو كذا، وإن قصد كذا يحتمل كذا، ويحتمل كذا، أو هم يقصدون كذا، لا يقصدون هذا المعنى الفاسد البعيد الذي لا يخطر لهم على بال، وبعض الناس يتحمس ويسارع في نشر هذه الأشياء، وقد لا يكون في بعضها الأمر يصل إلى ما ذكر، والله أعلم.
قال: وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لم يكن عند رسول الله ﷺ امرأة وهبت نفسها له.
ورواه ابن جرير عن يونس بن بُكَيْر، أي: إنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به؛ لأنه مردود إلى مشيئته، كما قال الله تعالى: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا أي: إن اختار ذلك.
هذا قول ابن عباس واختاره مجاهد، وقال آخرون: بل يوجد في نسائه من وهبت نفسها له، وسمى بعضهم مجموعة من أزواج النبي ﷺ على خلاف في التفاصيل، لكن ممن سُمي من أزواج النبي ﷺ: ميمونة بنت الحارث، وهذا مروي عن ابن عباس وقتادة، وكذلك زينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وهذا قال به الشعبي، وأم شريك بنت جابر وهي أسدية، منقول عن علي بن الحسين وعروة والضحاك ومقاتل، وخولة بنت حكيم من بني سليم، وهذا منقول عن عروة بن الزبير، ومضى كلام عائشة -رضي الله عنها- بأن خولة بنت حكيم من الواهبات، وبعضهم يقول غير هذا.
الذين يقولون: يوجد من أزواجه ﷺ من وهبت نفسها له، مما يحتجون به قول عائشة -رضي الله عنها- السابق أنها كانت تغار من المرأة تهب نفسها للنبي ﷺ، والواقع أن هذا الدليل ليس بصريح في هذا، هي تغار ممن تهب نفسها للنبي ﷺ بصرف النظر عن كونه قبِل أو لم يقبل، لكن ذلك يحرك مشاعر الغيرة في نفسها، ولا يعني أنها تقصد أن النبي ﷺ قبلها، وأنها تغار ممن قبل النبي ﷺ أن يتزوجها، فليس فيه دليل في الواقع، والمعول عليه هو الواقع، وكون الواهبة هي خولة بنت حكيم ليس محل اتفاق، هذا ذكرته عائشة -رضي الله تعالى عنها، ولكن من أهل العلم من يقول غير هذا.
بعضهم يقول: هي أم شريك الأنصارية، واسمها غزية، وقيل غزيلة، وبعضهم يقول: ليلى بنت حكيم، وبعضهم يقول: هي ميمونة بنت الحارث، حيث جاءها يعني: الخاطب يخطبها للنبي ﷺ وهي على بعير فقالت: البعير وما عليه لرسول الله ﷺ، فهذه هبة، وبعضهم يقول: الواهبة هي أم شريك العامرية، وبعضهم يقول: زينب بنت خزيمة، والواهبة اختلفوا فيها، واختلفوا هل يوجد في أزواجه ﷺ من كانت من الواهبات أو لا، على خلاف في التفاصيل، يعني: أيّ هؤلاء الزوجات.
قال: وقوله تعالى: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال عكرمة: أي: لا تحل الموهوبة لغيرك، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً، وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما.
أي: إنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل، فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها، كما حكم به رسول الله ﷺ في بَرْوَع بنت واشق لما فوّضتْ، فحكم لها رسول الله ﷺ بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها، والموت والدخول سواء في تقرير المهر، وثبوت مهر المثل في المُفوِّضة لغير النبي ﷺ فأما هو -عليه الصلاة السلام- فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها؛ لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، كما في قصة زينب بنت جحش -رضي الله عنها؛ ولهذا قال قتادة في قوله: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يقول: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي ﷺ.
لأنه الآن لما ذكر ما يختص بالنبي ﷺ بعد ذلك توجه الكلام والخطاب في بيان ما يتصل بعموم المؤمنين، هذا ما يختص بك أما غيرك من المؤمنين فـ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، باعتبار أنه يجب الولي والمهر، وأن لا يتزوج أكثر من أربع نسوة، فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ [سورة النساء:3]، وما إلى ذلك، يعني هي لعموم المؤمنين، أما ما سبق فهو خاص برسول الله -عليه الصلاة والسلام، يعني ليس لهم به أسوة -عليه الصلاة والسلام- في هذه الخصائص.
قال: وقوله تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.
قال أبي بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة وابن جرير في قوله: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ أي: مِن حَصْرِهم في أربع نسوة حرائر وما شاءوا من الإماء، واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم، وهم الأمّة، وقد رخصنا لك في ذلك، فلم نوجب عليك شيئاً منه؛ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
قوله هنا: من حصرهم في أربع نسوة حرائر، بمعنى أنه لا يجوز للحر أن يتزوج الأمة؛ لأن أولاده سيكونون أرقاء، ولكن ذلك يكون من قبيل الاستثناء حال الضرورة إذا خشي على نفسه العنت، والصبر خير له كما دلت عليه آية النساء، وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة النساء:25]، فيكون رخصة في هذه الحالة، الضرورة، وإلا فالأصل أنه لا يجوز له أن يتزوج الأمة.
- رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم (4741)، ومسلم، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليمَ قرآنٍ وخاتمَ حديدٍ وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يُجحِف به، برقم (1425)، وأحمد في المسند، برقم (22850).
- تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3143)، برقم (17724)، تحقيق: أسعد محمد الطيب، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (13131).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب، برقم (4510).