بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله ومن اهتدى بهداه، وبعد.
يقول ابن كثير -رحمنا الله وإياه- في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [سورة الأحزاب:57، 58].
يقول تعالى متهدداً ومتوعداً مَنْ آذاه، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك، وإيذاء رسوله بعيب أو تنقص، عياذاً بالله من ذلك.
قال عِكْرِمة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: نزلت في المصوّرين.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله : يؤذيني ابن آدم، يَسُبّ الدهر، وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره[1].
ومعنى هذا: أن الجاهلية كانوا يقولون: يا خيبة الدهر، فعل بنا كذا وكذا، فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر ويسبونه، وإنما الفاعل لذلك هو الله ، فنهى عن ذلك.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله تعالى: يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: نزلت في الذين طعنوا على النبي ﷺ في تزويجه صفية بنت حُيَيّ بن أخطب.
والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
قوله: قال عكرمة: إن الآية نزلت في المصورين إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بمعنى: أنهم يضاهئون بخلق الله ، فهذا تعدٍّ عليه، وعلى شيء من خصائصه، وذلك أن من أسمائه -تبارك وتعالى- المصور، فليس لأحد أن يتعدى ذلك ليجترئ عليه، وهذا التفسير هو من قبيل التفسير بالمثال، يعني أن أذيّة الله يدخل فيها كل ما يصدق عليه أنه أذى، فقوله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، فهذا من أذيته ، وهكذا من تعدى على شيء من خصائصه فهو كذلك، ومعلوم أن الأذى غير الضرر، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني[2]، فالخلق أضعف من أن يوصلوا الضرر إلى الله ، وأما الأذى فإنه غير الضرر، الأذى دون الضرر، يمكن للمخلوق أن يوصل الأذى إلى الله كأن يسب الدهر ونحو ذلك؛ ولهذا قال: يؤذني ابن آدم، والله يقول: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [سورة آل عمران:111].
وقول من قال: إن سب الدهر هو الأذى، إلى آخره، هذا كله مما يدخل فيه، من سماه بغير أسمائه، أو وصفه بما لا يليق، أو أشرك معه غيره، أو حرف أسماءه -معاني الأسماء والصفات- فهو داخل في هذا.
وبالنسبة لأذية الله، وأذية النبي ﷺ هو الذي ذكره بعده عن ابن عباس -رضي الله عنهما، فيدخل فيه جميع أنواع الأذى للنبي ﷺ، كما قال الله : وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [سورة التوبة:58]، وكذلك مَن قال: هُوَ أُذُنٌ [سورة التوبة:61]، يسمع من جاءه ويقبل قوله، وكذلك في أذية المنافقين فيما يتعلق بقصة زيد وهي متصلة بهذا الموضوع، في تزوج النبي ﷺ من زينب، وجاءت هذه الأمور متتابعة، وكذلك أيضاً لما لمزه من لمزه من قسْم الغنائم، قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، وقال النبي ﷺ: رحم الله أخي موسى -عليه الصلاة والسلام- فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر[3]، فكل هذا من الأذى، يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
في قوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، قيده بهذا القيد بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، وفي أذية الله ورسوله لم يذكر هذا القيد، والسبب في هذا ظاهر، وهو أن أذية الله ، وأذية النبي ﷺ لا يمكن أن تكون بوجه من الحق، وأما أذية المؤمنين فقد تكون على سبيل المقابلة والمقاصة والانتصار ممن ظلمه وآذاه، فقيدها بهذا القيد، بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا يعني: بيناً ظاهراً، وهذه الأذية أيضاً -كما يقال فيما قبله- عامة، يصدق فيها الأذى بالقول والأذى بالفعل.
وروى أبو داود عن أبي هريرة، أنه قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ذكرُكَ أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه[4]، وهكذا رواه الترمذي ثم قال: حسن صحيح.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا[سورة الأحزاب:59-62].
لما نهى الله وحذر من أذيته وأذية رسوله وأذية المؤمنين أمر الله -تبارك وتعالى- بعض من يلحقهم الأذى بترك أسبابه الموصلة إليه، يعني في المرأة لربما يطالها أذى كثير من بهت، وقذف، وأذى بألوان مختلفة، فأمر الله بالحجاب والحشمة والتستر لهذا.
يقول تعالى آمراً رسوله -ﷺ تسليماً- أن يأمر النساء المؤمنات -خاصة أزواجه وبناته لشرفهن- بأن يدنين عليهن من جلابيبهن؛ ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء، والجلباب هو: الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخرساني، وغير واحد، وهو بمنزلة الإزار اليوم.
قال الجوهري: الجلباب: الملحفة.
الملحفة: الرداء فوق الخمار، يعني بمنزلة العباءة التي تلبسها المرأة، فالخمار وحده لا يكفي، هذا الذي يسميه بعضهم: الحجاب، تضع شيئاً على رأسها ثم تظهر بعد ذلك بملابس لربما لا تستر، تلبس بنطالاً ونحو ذلك وتذهب إلى الجامعة، وعلى رأسها شيء تغطيه به، فهذا لا يكفي، وليس بحجاب شرعي، فهو الرداء فوق الخمار، وهذا شيء معروف حتى عند أهل الجاهلية، أن المرأة لا تخرج هكذا، كما تخرج كثير من النساء اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، فهذا لا يعرف حتى عند الجاهليين، وإنما غاية ما ذكر أنها قد تبدي شيئاً من نحرها، يعني: تضع ذلك على رأسها، ثم بعد ذلك لا تشده فيبدو موضع القلادة ونحو ذلك، فهذا تبرج الجاهلية الذي فسر به ذلك الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى.
فالشاهد أن الجلباب كان يعرفه أهل الجاهلية، ولما جاء الإسلام زاد ذلك تقريراً وتأكيداً إذ هو من الستر والحشمة، ومما يدل على أن أهل الجاهلية كانوا يعرفونه قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه، في مرثيتها التي قالت في ضمن ما قالت فيها:
تمشي النُّسورُ إليه وهي لاهيةٌ | مشْيَ العذارى عليهنّ الجلابيبُ |
فتمشي العذراء عليها الجلباب، مثل النسر إذا كان يمشي بأجنحته، فهي تصف أخاها وهو طريح قتيل وتأتيه النسور تمشي إليه مشي العذارى عليهن الجلابيب، فكانوا يعرفون مثل هذا، خلافاً لمن يقول: إن هذه بدعة وإن هذا لا يعرف، أو إن هذه عادات وتقاليد، فالله يقول: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، الجلباب: هو الرداء فوق الخمار، وهو بمعنى قول الجوهري: الجلباب: الملحفة.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة.
وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السّلماني عن قول الله : يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى.
هذا قال به ابن عون، فهذا من ابن عباس -رضي الله عنهما- وابن سيرين وابن عون، كله محمول على تغطية الوجه، وهذا فيه رد على من يقول: إن تغطية الوجه لا تعرف، وإنها محدثة، وإنه لا أصل لها، فهذا الكلام غير صحيح، بل ذلك معلوم مشهور، والدلائل عليه كثيرة جداً، ولا يُعرف أن امرأة مسلمة كانت تكشف وجهها في مشارق الأرض ومغاربها قبل مجيء الاستعمار، هذا لا يعرف.
والعلماء -رحمهم الله- في مضامين كلامهم وفي رحلاتهم حينما يأتون بلداً أو يصفون الحال في البلد التي يمرون عليها يذكرون أشياء من هذا القبيل، فمنهم من يقول: ما رأيت امرأة قط أصلاً، يقول: ما رأيت النساء، كأن البلد ليس فيه نساء، ولما جاء الاستعمار الفرنسي إلى مصر كان الناس يتعجبون من النساء الفرنسيات، ومن جرأتهن، ولما جاءت الدعوة إلى ما يسمى بتحرير المرأة ذهب ثماني نسوة إلى أوروبا بلا محرم لأول مرة، كان خمس يغطين وجوههن، من دعاة تحرير المرأة، وثلاث كاشفات، فكان الغربيون يقولون: إن الثلاث مستعارات، استعارتهن مصر ولسن من المصريات، لا يصدقون أن امرأة مسلمة تكشف وجهها.
وتجدون في كتاب جيد اسمه "هل يكذب التاريخ"، ذكر فيه صوراً قديمة لنساء من البوسنة إلى المغرب، صور لا توجد امرأة تكشف وجهها، وحجاب لا يمكن أن يقارن بالحجاب الذي عندنا اليوم في هيئته وصورته، والمرأة أبعد ما تكون عن الفتنة، لكن لما جاء الاستعمار حصل العبث، والذين أبقوا الحجاب كثير منهم حولوه إلى فتنة، لربما تفوق فتنة من نزعوا الحجاب، وهو لون من التبرج، وللأسف الشيطان لا يترك أحداً، فيأتي إلى من يتحجبن فيحول حجابهن إلى فتنة إلا من رحم الله ، ويأتي لأهل الصلاح ويُسمعهم السماع المحرم ويسميه نشيداً، وهكذا.
فالمقصود أن هذا الكتاب هو في غاية الفائدة، فهو يرد رداً بليغاً على الذين يكابرون في هذه القضية، يقال لهم: هذه الصور، لا تقرأ، تصفح فقط، حتى تعرف الحالة التي كان عليها الناس قبل الاستعمار، وتعرفون ما ذكره الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في بلاد الشام، لما خرجت وكيلة مدرسة قد أبدت وجهها فقط، فأقفل الناس الأسواق وأضربوا حتى فصلت من عملها، -والله المستعان، واليوم يأتيك من يقول لك: أصلاً هذه المسألة خلافية، قول الجمهور، أو يقول لك: إن هذا الأمر عادات وتقاليد، مزجنا العادات والتقاليد بالدين، وهذا كله تكذبه الأدلة، ويكذبه واقع الأمة قبل مجيء الاستعمار.
قال: وأبرز عينه اليسرى، بمعنى أنها تُخرج العين من أجل أن تنظر، لا أن تخرج ما حولها مع الزينة كالكحل، فإن هذا لون من التبرج، وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما، لكن بسند صحيح: أن تشد جلبابها على جبهتها وتتقنع، تشد الجلباب، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ تشده على جبهتها وتتقنع، والقناع: ما يغطي الوجه.
وجاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه: ما يمنع المرأة المسلمة إذا أرادت أن تخرج أن تلبس من أطمارها أو أطمار جارتها، الأطمار هي الثياب الخلقة البالية، يعني لا تلبس عباءة مزينة أنيقة، والله المستعان.
وقوله: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، "مِن" هذه مِنْ جَلابِيبِهِنَّ يمكن أن تكون تبعيضية، والتبعيض هنا يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، يعني أن الحرة لا تكون متبذلة في درع وخمار كالأمَة، إنما يكون لها جلبابان فأكثر في بيتها، بحيث يكون لها عناية بهذا الأمر، والأمة تخرج بدرع وخمار، الدرع المقصود به الثوب، يعني: تخرج بثوب، ما يسميه العامة اليوم: دراعة، وخمار؛ لأن شرفها ليس كالحرة، فتخرج بهذه الصفة، أما الحرة فلا، الحرة يحتاط لها ويحترز لها، وتكون في حال من الصيانة والحشمة أعظم من حال الأمة، لا أن تعكس القضية، ويكون التبذل والتهتك سمة للتحضر والتحرر والتقدم، فهو تحرر من قيود الشريعة، ومن قيود الحشمة والعفاف إلى الابتذال، يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا، فهذا مما يدعو إليه الشيطان، والله المستعان.
المعنى الثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها الذي عليها على وجهها لتتقنع به؛ حتى تتميز عن الأمة، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ: تغطي، فتتميز عن الإماء، ولهذا قال بعده: ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ، قال: أي إذا فعلن ذلك عُرفن أنهن حرائر لسن بإماء ولا عواهر، فإذا كانت لا تحتشم تتبذل فذلك صنيع الإماء أو العاهرات، أما الحرة فلا تكون بهذه المثابة، وبعد هذا لا يحتاج أن يجادل أحد، ويقول: مسألة كشف الوجه لا إشكال فيها، وليست من الدين، وكذلك لون هذا الحجاب، حينما يقال: لماذا السواد؟ نقول: إن عائشة -رضي الله عنها- لما ذكرت نساء الأنصار لما نزل الحجاب قالت: شققن مروطهن، الشاهد أنها قالت: فخرجن كأن على رءوسهن الغربان[5]، ولا يوجد غراب أبيض أبداً، فالغراب أسود، والسواد في اللباس أبعد عن الألوان المزينة، فتلبس هذا.
والمسألة ليست مجرد مناقشة علمية، إنما هو إرجاف بالحجاب وأهله، وأصبحت القضية تضرب من جهات عدة لزعزعته والتشكيك فيه، تارة بتغيير اللون، وتارة بتغيير الهيئة، وتارة بتحويله إلى فتنة، عباءة فرنسية! وما شأن الفرنسيين بالعباءة؟ وهذا من أعجب الأشياء، والنساء لا يتوقفن من السؤال، هؤلاء اللاتي يسألن ما يتوقفن من السؤال، عباءة فراشة، عباءة على الكتف واسعة، عباءة على الرأس إذا وضعتها على الكتف تنكمش، أنا أتأذى من عباءة الرأس، تسقط وتوطأ بالأقدام، وليست سهلة في الحركة ولا عملية، الآن صارت ليست عملية ولا سهلة! مثل كشف الوجه في البداية النقاب، أنا ما أشوف، صاروا ما يشوفون الآن، وصار تحول النقاب إلى هذا العبث الذي نشاهد، ثم صار كشف الوجه، والآن المثقفة هي التي تجلس في الخلف مع السائق لوحدها لربما، ومعها كتاب تقرأ وكاشفة لوجهها، كأنها تقرأ ما شاء الله تفسير ابن جرير أو تفسير ابن كثير، تقرأ مجلة سيئة، أو رواية سيئة، وتبدو أنها امرأة في غاية التحضر والأناقة، وما علموا أن هذا من طاعة الشيطان واتباع ما يمليه من خطواته، وتلاعبه بالنساء، والعتب على الأولياء الذين تساهلوا وفرطوا، فالواحد يرى عرضه بهذه الطريقة ولا يتحرك فيه شيء، والله المستعان.
ابن كثير في الشام وليس بحنبلي ولا نجدي ولا فقيه بدوي، كما يحلو لبعضهم أن يعبر، بل هو شافعي في القرن الثامن الهجري.
وقوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا أي: لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك.
ثم قال تعالى متوعداً للمنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال عكرمة وغيره: هم الزناة هاهنا وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ يعني: الذين يقولون: "جاء الأعداء" و"جاءت الحروب"، وهو كذب وافتراء.
والارتباط بين هذه الآية والتي قبلها ظاهر، لما ذكر الله أمْر بالحجاب قال: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ، قبله نهى عن الأذية، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، ثم ذكر الحساب، ثم بعد ذلك، قال: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ، فوجه الارتباط ظاهر وهو ما يعرف بالمناسبة، فالذين يطعنون في الحجاب، ويقعون في المحجبات، تارة بالسخرية، وتارة برميهن بأقبح الأوصاف، كالذين يقولون: هذه التي تتحجب امرأة غير نزيهة، فهي لأنها تقوم بأعمال مشينة تريد أن لا تعرف، وهذا مما يلقيه الشيطان على ألسن أوليائه، فلربما يستفز بعض النساء في بعض البلاد حينما يسمعن ذلك، ولربما يقال لبعضهن: إن المرأة إذا كانت قبيحة فإنها تغطي وجهها؛ لتستفز الضعيفة، فتبدي زينتها ومفاتنها؛ لتثبت لهم خلاف ما يقولون.
وهنا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ، فمن الأنواع الداخلة تحت العموم، لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ، الأشياء الداخلة تحت العموم على ثلاث مراتب من حيث القوة -قوة الدخول:
المرتبة الأولى: وهي أقوى ذلك ما يسمى بصورة سبب النزول، فهذه لا يجوز إخراجها منه بالاجتهاد، ما نزلت فيه الآية أو الآيات.
المرتبة الثانية: ما دخل بسبب المجاورة، يعني المناسبة، فهذا يليه بالقوة.
الدرجة الثالثة: عموم الأفراد الداخلين تحت العموم، عموم الأفراد.
هذا ذكره بعض الأصوليين، وهذا مثال يصلح له، فالوعيد لعموم المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وأهل الإرجاف، أولى ما يدخلون به هو ما يتصل بما جاوره، بموضوع المناسبة، أولائك الذين يطعنون ويشككون ويحاربون الحجاب والمحجبات، ويسنون القوانين لمنعه، والتضييق عليه، وما شابه ذلك، فهم متوعَّدون بهذا، وقوله -تبارك وتعالى: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ، الجمهور على أن هذه الأوصاف لموصوف واحد، أن هؤلاء يتصفون بهذه الأوصاف جميعاً، هي فئة واحدة.
وفي قوله -تبارك وتعالى- في الآية التي سبقت: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32]، قلنا هنا: إن المقصود به الميل المحرم إلى النساء، هنا فسره بعض أهل العلم بهذا المعنى، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يعني: الميل المحرم إلى النساء، بلمز النساء وأذيتهن وما إلى ذلك، والجمهور على أنها أوصاف لموصوف واحد، وأهل النفاق في قلوبهم مرض، وأصحاب أراجيف، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ وأصل الإرجاف من الاضطراب الشديد، رجفت الأرض، أرجف الناس، أصاب الناسَ رجفةٌ، فيكون ذلك بإشاعة الكذب والباطل والأمور التي تسبب للناس الاضطراب والاغتمام، يعني لا يكون ذلك بنشر الأخبار السارة، وإنما ما يسوء الناس ويبعث المخاوف في نفوسهم، فهؤلاء هم المرجفون، وكان ذلك من عمل المنافقين.
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: لنسلطنَّك عليهم، وقال قتادة: لنحرّشَنَّك بهم، وقال السدي: لنُعْلِمنّك بهم.
ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا أي: في المدينة إِلا قَلِيلا مَلْعُونِينَ حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين.
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ يوضح المراد به ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ يعني: بعقوبتهم والتسلط عليهم، وبأخذهم بجرمهم، وما شابه ذلك،ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ يعني: حال كونهم ملعونين.
أَيْنَمَا ثُقِفُوا أي: وُجدوا، أُخِذُوا لذلتهم وقلتهم، وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا.
ثم قال تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي: هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا أي: وسنة الله في ذلك لا تُبدل ولا تغير.
وهذا الأمر لا يقيسه الإنسان بيوم ولا بسنة ولا بسنتين أو سنوات، ولكن سنّته -تبارك وتعالى- ماضية، وإذا أردت أن ترى هذه السنة فهي ظاهرة في هذه الأيام التي أدركنا فيها شيئاً لربما كان الإنسان يقوله من قبل، بأن سنة الله جارية، وأن ذلك لا يقاس بسنة أو سنتين أو ثلاث، ولكن العاقبة للمتقين، وأن نهاية المنافقين والظالمين والمجرمين تكون وخيمة وتعيسة، وقد رأى الناس من ذلك ما لم يخطر لهم على بال، ولا يدور في خيال، من كان يتصور أن هؤلاء، أكبر من يحارب الحجاب في هذا العصر لا نعلم أحداً يحارب الحجاب كهذا الهالك الذي فر طريداً شريداً من تونس، حاربه غاية المحاربة، ومنع الحجاب واعتبره جريمة، ثم بعد ذلك كانت عاقبته ما رأى الناس أجمعون، وانتشر الحجاب وصار الناس يتهافتون عليه، وهذا شيء نعلمه، والحمد لله هو حاصل بكثرة، وخيب الله مساعيه، وتبرأ منه أولياؤه، وتركوه يلاقي مصيره الذي رآه العالم، ورأيتم حال غيره وما حل بهم وما أنزل الله بهم من بأسه، وما كان يظن أحد أن هؤلاء العتاة يصيرون إلى ما صاروا إليه، ولكن مقتضى معاني أسمائه الحسنى -تبارك وتعالى- أن يقع ذلك ولو بعد حين، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ الظالم لم يفلته، فأخذه شديد، فالحمد لله على آلائه ونعمائه.
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا[سورة الأحزاب:63-68].
يقول تعالى مخبراً لرسوله ﷺ: أنه لا علم له بالساعة، وإن سأله الناس عن ذلك، وأرشده أن يرد علمها إلى الله ، كما قال له في سورة الأعراف، وهي مكية وهذه مدنية، فاستمر الحال في رَدّ علمها إلى الذي يقيمها، لكن أخبره أنها قريبة بقوله: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا، كما قال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر [سورة القمر:1]، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُون [سورة الأنبياء:1]، وقال أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1].
هذا السؤال تكرر من الناس، وذكره الله في مواضع من كتابه، والسائلون هؤلاء منهم من يسأل ليعرف الوقت، ومنهم من يسأل للاستبعاد، مستبعداً وقوعها، وحديث جبريل لما سأل النبيَّ ﷺ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل[6].
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ أي: أبعدهم عن رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا أي: في الدار الآخرة.
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أي: ماكثين مستمرين، فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها، لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا أي: وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه.
ثم قال: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا أي: يُسحبون في النار على وجوههم، وتُلوى وجوههم على جهنم، يقولون وهم كذلك، يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول، كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا [سورة الفرقان:27-29].
وقال تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [سورة الحجر:2]، وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله، وأطاعوا الرسول في الدنيا.
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، وقال طاوس: سادتنا: يعني الأشراف، وكبراءنا: يعني العلماء.
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ أي: بكفرهم وإغوائهم إيانا.
وروى أبو القاسم الطبراني عن أبي رافع في تسمية مَنْ شهد مع عليٍّ : الحجاج بن عمرو بن غَزيَّة، وهو الذي كان يقول عند اللقاء: يا معشر الأنصار، أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا؟.
ويحتمل أن يكون قوله: أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا من الأوصاف لموصوف واحد، يعني أنهم أطاعوا المقدمين منهم من الكبراء والسادة والأشراف والعظماء والقادة، فإن أهل النار على صنفين: المتبوعين والأتباع، كما قال الله واصفاً حالهم بعد دخولهم فيها، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا [سورة البقرة:167]، بعد أن قال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166]، فهؤلاء الكبراء والعظماء والقادة هم الصنف الأول، والصنف الثاني من الأتباع، وبهذا يعرف بطلان قول من يقول: إن الأتباع لا شأن لهم، وإنهم مغرر بهم، وإنما الذين يعذبون ويؤاخذون هم القادة والعلماء من رءوس الضلال، وهذا غير صحيح، فهؤلاء يعذبون وهؤلاء يعذبون، وأهل النار من هؤلاء، وهؤلاء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[سورة الأحزاب:69].
روى البخاري في أحاديث الأنبياء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن موسى كان رجلا حَيِيًّا سِتِّيرا، لا يُرَى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما برص وإما أدْرَة وإما آفة، وإن الله أراد أن يُبرئَه مما قالوا لموسى ، فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على حَجَر، ثم اغتسل، فلمَّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حَجَر، ثوبي حَجَر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عُرياناً أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبَه فلبسه، وطَفقَ بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إن بالحجر لَنَدباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، قال: فذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[7]، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم.
هذا الحديث نص واضح صريح في تفسير الآية، لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى آذوه فقالوا: آدَر أو أبرص؛ لأنه ما كان يغتسل معهم فظنوا به سوءاً، فرموه بذلك وعابوه به، فبرأه الله من هذا بما أظهر، كما دلت عليه هذه الواقعة.
ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك مروي عن علي ، أنهم ادعوا أنه قتل هارون ، يقولون: إنه غار منه؛ لأن هارون كان ليناً مع بني إسرائيل، وادعوا أن موسى ﷺ قتله، ويقولون: إن الله أحياه، وكذبهم في ذلك، وهذا لا دليل عليه، فالله تعالى أعلم.
وابن جرير -رحمه الله- يجوز أيًّا من هذه الاحتمالات أن يكون هو المراد، ولكن الحديث: كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى لما قالوا: آدر أو أبرص، ويدخل في هذا الأذى ألوان ما لقيه موسى ﷺ، كما سبق في الحديث لما قال النبي ﷺ: لقد أوذي أخي موسى بأكثر من هذا فصبر، فمن أذيتهم له أنهم قالوا: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24]، إلى غير ذلك مما قصه الله -عز وجل- من خبرهم مع موسى -عليه الصلاة والسلام.
روى الإمام أحمد عن عبد الله -أي ابن مسعود- قال: قسم رسول الله ﷺ ذات يوم قسْماً، فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، قال: فقلت: يا عدو الله، أما لأخبرن رسول الله ﷺ بما قلت، فذكرت ذلك للنبي ﷺ فاحمرَّ وجهه، ثم قال: رحمة الله على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر، أخرجاه في الصحيحين.
وقوله تعالى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا أي: له وجاهة وجاه عند ربه .
قال الحسن البصري: كان مستجابَ الدعوة عند الله.
وقال بعضهم: من وجاهته العظيمة عند الله: أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه، فأجاب الله سؤاله، وقال: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [سورة مريم:53].
هذا كله -يعني قول الحسن وما ذكر بعده- مما يمثل به على هذا المعنى، أنه وجيه عند الله ، له منزلة، أجاب الله دعاءه، وقبل شفاعته في أخيه، وكان مستجاب الدعوة، فهذا كله من قبيل المثال.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[سورة الأحزاب:70، 71].
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة مَنْ كأنه يراه، وأن يقولوا قَوْلا سَدِيدًا أي: مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها.
ثم قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا: وذلك أنه يجار من النار، ويصير إلى النعيم المقيم.
وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ابن كثير يقول هنا: أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف، بعضهم يقول: القول السديد وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا أي: لا إله إلا الله، فإذا قالوا ذلك أصلح الله لهم أعمالهم، وغفر لهم ذنوبهم.
وبعضهم يقول: وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا أي: صدقاً، فالصدق تحصل به النجاة، وبعضهم يقول: وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا أي: صواباً، وهذه الأقوال متقاربة، فأصدق ما يقال هو كلمة التوحيد، وإذا حصل ذلك من الإنسان وآمن بالله ، أصلح الله حاله وعمله، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، فـ لا إله إلا الله من القول السديد، والتزام الصدق من القول السديد، وكل ذلك حق، ولهذا فإن ابن كثير في الأصل حمله على جميع هذه المعاني، يقول: والكل حق، وكان اللائق أن ينقل مثل هذا في المختصر، لكن العبارة التي نقلت "مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف" فيدخل فيه قول لا إله إلا الله والصدق والصواب، ولكن كثيراً من القراء قد لا يميز هذا، يعني: لا يدرك ما تحته، والله تعالى أعلم.
إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[سورة الأحزاب:72، 73].
قال العوفي عن ابن عباس: يعني بالأمانة: الطاعة، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يُطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضتُ الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحمَّلها، فذلك قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا يعني: غِرًّا بأمر الله.
وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن البصري، وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض.
وقال آخرون: هي الطاعة.
وقال الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها،
وقال قتادة: الأمانة: الدين والفرائض والحدود.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة.
وكل هذه الأقوال لا تنافِيَ بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إذا قام بذلك أثيب، وإن تركها عُوقِب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا مَنْ وفق اللَّهُ، وبالله المستعان.
حاصل الأقوال في الأمانة: الطاعة والفرائض، وأن المرأة مؤتمنة على فرجها، الدين والفرائض والحدود، الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم والاغتسال من الجنابة، يقول: كل هذه الأقوال لا تنافيَ بينها، وهذا صحيح، فتفسر الأمانة بالفرائض ووظائف الدين والتكاليف، فهذه هي الأمانة، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم ممن ذكرهم وممن لم يذكروا هنا، ونسبه القرطبي إلى جمهور المفسرين: أن الأمانة هي ما ذكر من التكاليف الشرعية، هي الفرائض، كل هذه العبارات متقاربة، وظائف الدين المتنوعة.
وبعضهم يقول: أمانات الناس مع بعضهم، وبعضهم يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أن آدم ائتمن ابنه قابيل على أهله وولده، فقتل هابيل، وهذا من تضييع الأمانة، كون الإنسان يقتل بغير حق، ولكن الأمانة أوسع من هذا، فيدخل في الأمانة التكاليف الشرعية بجميع أنواعها، والوظائف الدينية، ومما يدخل في ذلك أن الإنسان إذا اؤتمن على شيء فإنه يؤديه، فهناك أمانة مع الله ، ونفسه أمانة، وكذلك الأمانات فيما بين الناس، الوعد أمانة، والشهادة أمانة، كلمة الحق، الكلمة أمانة، إلى غير هذا.
وبعضهم يفصل في الأمانات تفصيلاً آخر، لا تفسر به هذه الآية، يقول: إن التكاليف على نوعين: شعائر وأمانات، هذا لا تعلق له بما نحن فيه، يقولون: الشعائر هي الأمور الظاهرة، مثل التلبية والتكبير في الأعياد وأيام العشر، والأذان، وما إلى ذلك، والأمانات: هي التي لا يطلع عليها الناس مثل الصيام أمانة، فلو أكل أو شرب أو غيَّر نيته، نوى الفطر وهو لم يأكل ويشرب هو مفطر، وكذلك الطهارة، الغسل من الجنابة هذه أمانة؛ لأن الناس لا يعلمون هل يصلي هذا بطهارة أو لا؟ هل أحدث أو لا؟ فهذه أمانات، فيقولون: الدين أمانات وشعائر.
لكن فيما يتصل بالآية: الجميع أمانة تحمّلها الإنسان، العمل الذي يؤديه أمانة، الأسرة كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته[8] أمانة، وكذلك ما يزاوله من أعمال الوظائف التي يقوم بها ويكلف بها، الأعمال التي تناط به هذه أمانة، يمكن أن يخل بها، حتى المهن والصنائع وما إلى ذلك فقد يكون غاشاً في بيعه وشرائه، أو في صنعته، فكل هذا داخل في الأمانة، ولهذا حملها ابن جرير -رحمه الله- على العموم، على أعم معانيها.
يعني: في أصلها.
هو ذكر قبله: مثل أثر الوَكْت والوَكْت: هو أثر يكون في الشيء، كالسواد الذي يكون في بياض العين، أو لون داكن أحياناً كأنه دم متجمع قديم، ويكون أيضاً بآثار، جروح تكون أحياناً في الجلد قديمة، مثل أثر الوَكْت لون متغير، ثم ينام النومة وذكر ما بعده هنا فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المَجْل وفسره، قال: كجمر إن دحرجته على رجلك تراه مُنتبراً وليس فيه شيء، ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، مثل أثر المَجْل، أثر المجل: هو ما يكون من أثر في يد الإنسان بسبب العمل، أو بسبب حروق سطحية فيحصل له تنفطٌ في الجلد، يعني إذا كان الإنسان يعمل بآلة أو نحو ذلك فأثر ذلك في يده، فينتفخ الجلد ويكون فيه ماء، فهذا أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك تراه منتبراً يعني: منتفخاً، "وليس فيه شيء" يعني: فيه ماء فقط.
يقصد هنا بالمبايعة البيع والشراء في التعامل مع الناس، وليس البيعة على الولاية والإمارة؛ لأنه لا يبايع يهودياً ولا نصرانياً، يقول: إن كان مسلماً ليردَّنه عليّ دينُه، يعني: هذا في السابق يوم كانت الأمانة متوفرة في الناس، فدينه يمنعه ويردعه، وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردَّنه عليّ ساعيه يعني: صاحب الولاية، يقال له: ساعٍ، سُعاة، ويقال ذلك على السعاة على الصدقة، ليردَّنه عليّ ساعيه يعني: الوالي أو الأمير، أو الحاكم أو السلطان في ناحيته، هذا في زمن حذيفة -رضي الله تعالى عنه، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً، ما يثق بأحد؛ لترحُّل الأمانة من نفوس الكثيرين في زمنه، فكيف باليوم؟!
اليوم صار الأصل عند الناس التهمة، يدخل السوق، إذا جاء يشتري شيئاً من مطعوم أو ملبوس أو مركوب أو أثاث أو غير ذلك، فإن الأصل التهمة، فيحتاج أن يتفقد وأن ينظر، وأن يتحرى، ولربما يسأل؛ لأنه يعتقد أن الأصل الغش والاحتيال والتدليس، فهذا مما ذكر حذيفة -رضي الله تعالى عنه، لاسيما مع كثرة الصنائع اليوم وتنوعها فأصبح المرء يدخل إلى السوق ويتحير في الأسماء الكثيرة، والأصناف الكثيرة التي لا يدري ما الجيد من الرديء.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: أربع إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حِفْظ أمانة، وصِدْق حديث، وحُسْن خليقة، وعِفَّة طُعمة[10].
وقوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ أي: إنما حُمِّل ابن آدم الأمانة ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات، وهم الذين يظهرون الإيمان خوفاً من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ، وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أي: وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله، وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
آخر تفسير سورة "الأحزاب" ولله الحمد والمنة.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة حم (الجاثية)، برقم (4549)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
- رواه البخاري، كتاب الخمس، باب ما كان النبي ﷺ يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، برقم (2981)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه، برقم (1062).
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، برقم (2589).
- رواه أبو داود، كتاب اللباس، باب في قول الله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ، برقم (4101)، وصححه الألباني في كتاب جلباب المرأة المسلمة، (ص83).
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، برقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ، برقم (8).
- رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى -عليهما السلام، برقم (3223)، ومسلم، كتاب الحيض، باب جواز الاغتسال عريانا في الخلوة، برقم (339).
- رواه البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، برقم (2278)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم (1829).
- رواه أحمد في المسند، برقم (23255)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وأصله في الصحيحين، البخاري، كتاب الرقائق، باب رفع الأمانة، برقم (6132)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، برقم (143).
- رواه الإمام أحمد، برقم (6652)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لانقطاعه، الحارث بن يزيد الحضرمي لا يعرف له سماع من عبد الله بن عمرو، إنما يروي عنه بواسطة، وقد روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حُجيْرة، عنه، لكن في الإسناد ابن لهيعة -كما سيرد- وهو سيئ الحفظ، وروي الحديث موقوفاً، وهو أصح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (873)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (733).