السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[5] من قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} الآية:102‏ إلى قوله تعالى: {إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} الآية:135
تاريخ النشر: ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٣٣
التحميل: 6116
مرات الإستماع: 9301

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله أجمعين، وبعد.

وقوله: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [سورة الصافات:102] أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه، وقد كان إبراهيم يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد "فاران" وينظر في أمرهما، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك، فالله أعلم.

وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرمة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخرساني، وزيد بن أسلم، وغيرهم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ يعني: شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وَحْي، ثم تلا هذه الآية: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى.

وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [سورة القصص:20]، ويقال أيضاً: للعمل، إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9]، والمقصود بالسعي في هذه الآية على أرجح أقوال المفسرين يعني العمل على حضورها، وترك الاشتغال عنها والمبادرة إليها، وليس الإسراع في المشي؛ لأنه منهي عنه، وهنا في هذه الآية: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ يقول: وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه، هذا احتمال بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ يعني صار يذهب ويمشي.

ويحتمل معنى آخر نقله هنا عن جماعة من السلف قال: بمعنى شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ يعني صار في سنٍ يطيق فيها العمل وهو الوقت الذي يتشوف الوالد فيه إلى الولد وعائدته وما يرجِّيه منه، ثم بعد ذلك يؤمر بذبحه فذلك أشد من ذلك الطفل الصغير الذي يحتاج إلى رعاية ويكون كَلًّا على أبيه، هذا بلغ السن الذي يرجّيه، يرجّي نفعه وعائدته ثم بعد ذلك إذا أمر بذبحه فهذا أشد. 

فهذان معنيان قريبان وبينهما نوع ملازمة، وذلك أنه إذا بلغ السن التي يطيق فيها العمل فإنه يصير في حال يذهب ويجيء ويمشي مع أبيه ويتقلب معه كما لا يخفى فهذان معنيان متلازمان، أما قول من قال: إن المقصود سعي العبادة، بلغ معه السعي أو أنه سعي العقل أو نحو ذلك فهذا لربما يكون أبعد من سابقيه، -والعلم عند الله، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى، وفي القراءة الأخرى قراءة حمزة والكسائي تُرِي وهذه القراءة بالياء فسرت بأن المراد ماذا تريني؟ ماذا تريني من صبرك واحتمالك؟ وبعضهم يقول: ماذا تُرِي؟ يعني ماذا تريك نفسُك؟ وليس ماذا تريني؟ ماذا تريك نفسك من الرأي؟ والله أعلم.

وقوله: يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران، والمقصود ببلاد فاران يعني الحجاز، وجاء هذا أيضاً في بعض النصوص المنقولة من كتب أهل الكتاب، في نبوة محمد ﷺ وأن الله تجلى من جبال فاران.

وقوله: وإنما أعلم أبنه بذلك ليكون أهون عليه ليختبر صبره في صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه، بمعنى أنه لم يكن يعرض ذلك عليه لأخذ رأيه في تنفيذ ما أمره الله به فيكون تنفيذ ذلك متوقفاً على رأيه، ليس هذا هو المقصود وإنما قصد بذلك أن ينظر في صبره وتحمله ليكون عوناً له على تحقيق أمر الله -تبارك وتعالى، يعني لم يكن عنده تردد في تنفيذ أمر الله.

قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ أي: امضِ لما أمرك الله من ذبحي، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي: سأصبر وأحتسب ذلك عند الله ، وصدَقََ -صلوات الله وسلامه عليه- فيما وعد؛ ولهذا قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا ۝ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [سورة مريم:54، 55].

قال الله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي: فلما تشهدا وذكرا الله تعالى، إبراهيم على الذبح والولد على شهادة الموت، وقيل: أَسْلَمَا، يعني: استسلما وانقادا؛ إبراهيم امتثل أمْرَ الله، وإسماعيل طاعة الله وأبيه، قاله مجاهد، وعكرمة والسدي، وقتادة، وابن إسحاق، وغيرهم.

هذه المرويات عن بعض السلف: أنه فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ يعني على وجهه، على جبينه ليذبحه من قفاه بألا يرى وجهه فيرقّ قاله جماعة من السلف، ولكن يمكن أن يكون المعنى غير هذا -والله أعلم؛ وذلك أن الجبين هو جانب الجبهة يقال لكل جانب منها: جبين، وليس المقصود بالجبين الجبهة حتى يقال: أكبه على وجهه، فمن كان على جانبٍ كهيئة الذي يذبح فإن جبينه أي أحد جانبي الجبهة يكون إلى الأرض، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ كهيئة الذي يذبح يكون جبينه يعني أحد جانبي الجبهة إلى الأرض، ولا يلزم من ذلك أن تكون الجبهة على الأرض بحيث يذبحه إلى قفاه، والله أعلم.

وقوله: فَلَمَّا أَسْلَمَا أسلما بمعنى استسلما وانقادا، هذا معنى أسلما، لكن هنا فَلَمَّا أَسْلَمَا والتقدير يكون أمرناه ناديناه أوحينا إليه، لا، هو قال: وَنَادَيْنَاهُ [سورة الصافات:104] هذا مصرح به ليس بمحذوف فَلَمَّا أَسْلَمَا فإذا قلت: إنه محذوف بعضهم يقدر ذلك بقوله: فَلَمَّا أَسْلَمَا ظهر صبرهما، وَتَلَّهُ والسياق يكون فَلَمَّا أَسْلَمَا ظهر صبرهما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أو يكون التقدير فَلَمَّا أَسْلَمَا أجزلنا لهما أجرهما، أو فَلَمَّا أَسْلَمَا فديناه بكبش، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.

لكن هذا الأخير فيه إشكال، لما أسلما فديناه بكبش وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ كأن الكلام يعود إلى الكبش، وبعضهم يقول: إن الجواب مذكور، يقولون: إن الجواب هو وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ طيب والواو؟ الواو زائدة عندهم، وهذا على طريقة الكوفيين فإن مذهبهم أسهل بكثير من مذهب البصريين، أما تلك التقديرات فهي للبصريين، ويعارضون مثل هذا الإعراب عند الكوفيين، يقولون: الواو هنا من حروف المعاني لا يمكن أن تزاد.

وبعضهم يقول: إن الجواب هو ناديناه وإن الواو زائدة فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۝ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ فيما يظهر أن واحدة من هذه المذكورات هي الجواب، لكن كونه مقدراً مع أن الأصل عدم التقدير كأنه أقرب -والله أعلم، فلما أسلما ظهر صبرهما، ظهر ثباتهما، ظهر يقينهما، وقد يفهم المقدر من بعض ما ذكر، يعني مثلاً ظهر يقينهما، ظهر صبرهما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ والتل جذب الشيء بقوة أو بشدة، تلّه.

ومعنى وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه، ليكون أهون عليه، قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: أكبه على وجهه.

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لما أُمر إبراهيم بالمناسك عَرَض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، وثَمّ تَلَّه للجبين، وعلى إسماعيل قميص أبيض، فقال له: يا أبت، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلعه، فنُوديَ من خلفه: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع ذلك الضَّرْب من الكباش[1].

على هذه الرواية يكون ذلك في مِنى؛ لأن المفسرين والمؤرخين يختلفون كثيراً أين كان ذلك.

الضِّرب أو الضَّرب؟ ذلك الضَّرب: النوع يعني من الكباش، أننا نشتري هذا للأضحية ما كان بهذه الصفة أبيض أقرن أعين.

وذكر هشام الحديث في المناسك بطوله.

وقوله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [سورة الصافات:104، 105] أي: قد حصل المقصودُ من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، وذكر السدي وغيره أنه أمَرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا، بل حال بينها وبينه صفيحة من نحاس، ونودي إبراهيم عند ذلك: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا.

مسألة النسخ قبل التمكن مشهورة في كتب الفقه وأصوله في موضوع النسخ، يعني تمكن المكلف من الامتثال، وعندهم النسخ بعد التمكن، فقبل التمكن يمثلون له بنسخ خمسين صلاة إلى خمس صلوات، يقولون: نسخت قبل أن تبلغ المكلفين وأول صلاة صلاها النبي ﷺ صلاة الظهر، لهذا يقال لها: الصلاة الأولى، وهناك نسخ بعد التمكن من الامتثال لكن قبل وقوعه، وهذا مثلما يقولون: إبراهيم ﷺ وضع السكين على رقبته سواء على هذه الروايات التي تذكر أنها تحولت إلى نحاس وغير هذا، هذا ليس عندنا دليل ثابت فيما أعلم عن النبي ﷺ في ذلك أنها تحولت إلى نحاس، لكن الله -تبارك وتعالى- أخبر أنه تله للجبين وهيّأه ليذبحه ففداه الله بذبح عظيم، فهذا نسخ بعد التمكن وقبل الامتثال.

وليس هناك من الصور فيما أعلم لهاتين المسألتين غير ما ذكر، يعني حتى مسألة نسخ الصدقة قبل النجوى مناجاة النبي ﷺ كان ذلك بعد التمكن والامتثال، يعني لو امتثل واحد من المكلفين حصل الامتثال، وعليه فهذه المسألة لا يترتب عليها عمل بالنسبة للمكلفين، وهناك جدل كثير في كتب أصول الفقه حول هل يصح النسخ قبل التمكن؟ وهل يصح بعد التمكن؟ وقبل الامتثال أو لا؟

وهي من المسائل التي لا يبنى عليها عمل، والمفروض أنها تخرج من أصول الفقه، أصول الفقه يحتاج أن يخرج منه هذا النوع من المسائل، وهي موجودة -المسائل التي لا يبنى عليها عمل، بالإضافة إلى ما هو أهم من هذا وهي المسائل المبنية على عقيدة فاسدة، مثل هل الأمر يقتضي الإرادة أو لا يقتضي الإرادة؟ هؤلاء الذين لا يفرقون بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية فيفترضون مثل هذه الإشكالات، ويذكرون الأقوال فيها، ولا حاجة إلى ذلك، لكن لما كان الذين ألفوا في أصول الفقه في الغالب من المعتزلة والأشاعرة احتاجوا إلى مثل هذا السؤال؛ لأنه على عقيدتهم يكون محلا للإشكال.

وقوله: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [سورة الطلاق:2، 3].

هذا الحكم العام يذكره الله كثيراً، يعني يذكر قضية معينة خاصة ثم يأتي بالحكم العام بعدها؛ ليشمل ذلك ما ذكر وغيره، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ كذلك الجزاء نجزي المحسنين، فكل من أحسن فإن الله يجازيه ويوجد له من الأسباب التي يحصل له بها السعة والفرج والمخرج ما لم يخطر له على بال كما فعل بإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وابنه إسماعيل.

وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل، خلافا لطائفة من المعتزلة، والدلالة من هذه ظاهرة، لأن الله تعالى شرع لإبراهيم ذَبْحَ ولده، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء، وإنما كان المقصود من شرعه أولاً إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ.

كلام ابن كثير: النسخ قبل التمكن من الفعل، وبعضهم يترجم لهذه المسألة كما قلت: قبل التمكن أو بعد التمكن؟ فنسخ الصلوات قبل التمكن، وهذه على أنه أمرّ السكين إلى آخره، فيكون بعد التمكن، وقبل تحقق الفعل، وهذه يترتب عليها عمل.

أي: الاختبار الواضح الجلي؛ حيث أمر بذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله، منقادا لطاعته؛ ولهذا قال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [سورة النجم:37].

وقوله: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ عن ابن عباس قال: كبش قد رَعَى في الجنة أربعين خريفًا.

هذا -والله أعلم- يحتمل أن يكون أخذه عن بني إسرائيل، وابن عباس -رضي الله عنهما- كان ممن أخذ عن بني إسرائيل أمثال كعب الأحبار، ووهب بن المنبه، ومثل هذه الروايات، والله يقول: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ والعظيم في اللغة يقال للشريف، والكبير بِذِبْحٍ عَظِيمٍ والمفسرون في هذا الموضع يفسرونه بالشريف بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وقول ابن عباس هذا الذي ذكره عزاه الواحدي لأكثر المفسرين، لكن مثل هذا لا يقال من جهة الرأي لكنه لا يمكن الحكم برفعه إلى النبي ﷺ إلا بقيد، وهو أن يكون من رواه لا يعرف بالأخذ عن بني إسرائيل، فهنا لا نستطيع أن نحكم برفعه، فالله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم -وَلّدت عامة أهل دارنا: أرسل رسول الله ﷺ إلى عثمان بن طلحة -وقالت مَرة: إنها سألت عثمان: لم دعاك النبي ﷺ؟ قال: قال: إني كنتُ رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمِّرَهما، فَخَمِّرْهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي، قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت، فاحترقا[2].

وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل ، فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فُدي به إبراهيم خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل، إلى أن بعث الله رسوله ﷺ.

هذا الدليل سبقت الإشارة إليه في الكلام على هذه المسألة في تحديد الذبيح وأن هذا أوضح دليل في أن الذبيح هو إسماعيل -عليه الصلاة والسلام، وليس لقائل أن يقول: إن قريشاً قد تكون توارثت شيئاً لا حقيقة له، وإنهم نسبوا ذلك إلى ذلك الذِّبح الذي فدى الله به إسماعيل ﷺ، فقد أقر به هذا الحديث الثابت الصحيح، فدل على أنه إسماعيل وأنه لا يعرف أن إسحاق قد قدم إلى مكة، ولم يكن هناك إلا إسماعيل مع أمه، وذكر هنا جملة من الآثار.

قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، وعطاء، وغير واحد، عن ابن عباس: هو إسماعيل .

وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: المفدى إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود.

عن ابن عمر قال: الذبيح إسماعيل.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو إسماعيل. وكذا قال يوسف بن مهران.

وقال الشعبي: هو إسماعيل، وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة.

وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، وعمرو بن عبيد، عن الحسن البصري: أنه كان لا يشك في ذلك: أن الذي أُمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل.

قال ابن إسحاق: وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول: إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله، وذلك أن الله حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، يقول الله تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، يقول: بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله الموعد بما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.

وقال ابن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك -قال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز- فقال له عمر: أيُّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لكون إسحاق أبوهم، والله أعلم أيهما كان، وكلٌّ قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله: سألت أبي عن الذبيح، من هو؟ إسماعيل أو إسحاق؟ فقال: إسماعيل، ذكره في كتاب الزهد.

وقال ابن أبي حاتم: وسمعت أبي يقول: الصحيح أن الذبيح إسماعيل ، قال: وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح أنهم قالوا: الذبيح إسماعيل.

وقال البغوي في تفسيره: وإليه ذهب عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، والسدي، والحسن البصري، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وهو رواية عن ابن عباس، وحكاه أيضا عن أبي عمرو بن العلاء.

وقد روى ابن جرير عن الصنابحي قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح: إسماعيل أو إسحاق؟ فقال على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله ﷺ، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، عُدّ علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فضحك رسول الله ﷺ، فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أُمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها عليه، ليذبحن أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا: افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، وإسماعيل الثاني.

هذا الحديث لا يصح، ولو صح لكان نصاً في هذا الموضوع، وهكذا في قوله: ابن الذبيحين! لا يصح، لا يصح شيء في هذا، والله تعالى أعلم.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (6/ 317-318): " اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَنَامِ بِذَبْحِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ لَمَّا بَاشَرَ عَمَلَ ذَبْحِهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، فَدَاهُ اللَّهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، هَلْ هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ؟ وَقَدْ وَعَدْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، بِأَنَّا نُوَضِّحُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَهَذَا وَقْتُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ.

اعْلَمْ، وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ، أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدْ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاق، أَحَدِهِمَا فِي الصَّافَّاتِ، وَالثَّانِي فِي هُودٍ.

أَمَّا دَلَالَةُ آيَاتِ الصَّافَّاتِ عَلَى ذَلِكَ، فَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ۝ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ۝ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ۝ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۝ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ۝ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۝ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ۝ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ۝ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [سورة الصافات:99-110]، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَاطِفًا عَلَى الْبِشَارَةِ الْأُولَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ [سورة الصافات:112]، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ الْأُولَى شَيْءٌ غَيْرُ الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَاءِ قِصَّةِ ذَبْحِهِ يَقُولُ أَيْضًا: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ، فَهُوَ تَكْرَارٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ أَوَّلًا الَّذِي فُدِيَ بِالذَّبْحِ الْعَظِيمِ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا مُسْتَقِلَّةً بَعْدَ ذَلِكَ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [سورة النحل:97]، أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنْ النَّصَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، إِذَا احْتَمَلَ التَّأْسِيسَ وَالتَّأْكِيدَ مَعًا وَجَبَ حَمَلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ". ا.هـ.

التأسيس كلام في المعنى، يعني هنا الآن ذكر في هذين الموضعين في الموضع الأول كما ترون: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ۝ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ۝ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وما أمر به من ذبحه ثم بعد ذلك قال: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ فلا تكون البشارةُ الأولى البشارةَ الثانية وأن ذلك من قبيل التوكيد؛ لأن التأسيس لمعنى جديد مقدم على التوكيد.

وقال -رحمه الله- في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/ 318): "وَمَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَآيَةُ الصَّافَّاتِ هَذِهِ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِلْمُنْصِفِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا إِسْحَاقُ يَقِينًا عُبِّرَ عَنْهُ فِي كُلِّهَا بِالْعِلْمِ لَا الْحِلْمِ، وَهَذَا الْغُلَامُ الذَّبِيحُ وَصَفَهُ بِالْحِلْمِ لَا الْعِلْمِ.

وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ: فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [سورة هود:71]؛ لِأَنَّ رُسُلَ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَشَّرَتْهَا بِإِسْحَاقَ، وَأَنَّ إِسْحَاقَ يَلِدُ يَعْقُوبَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُؤْمَرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَهُوَ عِنْدَهُ عِلْمٌ يَقِينٌ بِأَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَلِدَ يَعْقُوبَ؟!

فَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُنْصِفِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى". ا.هـ.

وقوله: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، لما تقدمت البشارة بالذبيح -وهو إسماعيل- عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق، وقد ذكرت في سورتي هود والحجر.

وقوله: نَبِيًّا حال مقدرة، أي: سيصير منه نبي من الصالحين.

وهذا يستدل به من يقول: إن الذبيح إسماعيل، فهنا بشره بإسحاق نبياً فلو أمر بذبحه فإن ذلك لا يتفق مع ما بشر به من كونه نبياً فيكون ذلك بعدما يكبر ويكون ذلك عند ولادته، يعني لا تكون نبوته عند ولادته، وإنما هذا يدل على أنه سيعيش حتى يُنبَّأ.

وقوله: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ، كقوله تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة هود:48].

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ۝ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ۝ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ۝ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ۝ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ۝ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ۝ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [سورة الصافات:114-122].

يذكر تعالى ما أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه، وما كان يعتمده في حقهم من الإساءة العظيمة، من قتل الأبناء واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس الأشياء، ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم، وأقر أعينهم منهم، فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم.

قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ قال الحافظ -رحمه الله: من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه، وما كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة من قتل الأبناء، وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فالكرب عند بعض المفسرين هو ما كان يقع عليهم، علي بني إسرائيل من الإذلال والمهانة والعذاب الذي يوقعه فرعون على بني إسرائيل، أن هذا هو الكرب يستحيي نساءهم ويذبح أبناءهم.

وبعضهم يقول: إن المراد بذلك الْكَرْبِ الْعَظِيمِ هو النجاة حينما أغرق الله فرعون وقومه فبنو إسرائيل جاوزوا البحر، وأغرق الله فرعون ومن معه، والله -تبارك وتعالى- لم يحدد معنى بعينه، وإنما أخبر أنه نجاهم من الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، ولهذا فإن بعض المحققين من المفسرين كابن جرير ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع- يحمل ذلك على هذه المعاني، فيفسرون الكرب العظيم الذي نجاهم الله منه بالأمرين، نجاهم من الغرق، حيث أغرق فرعون ومن معه، ونجاهم من الظلم والتسلط الذي كان يوقعه فرعون عليهم، نجاهم من هذا كله، وهذا كله من قبيل: الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فهو يصدق على هذه الأشياء التي حصلت ووقعت في ذلك الحين، يعني انظر ما بعده وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ يصدق على كون الله -تبارك وتعالى- أغرق فرعون ونجى بني إسرائيل، ويصدق أيضاً على أنه نصرهم عليه بعدما كان يستضعفهم وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [سورة القصص:5].

ثم أنزل الله على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين، وهو التوراة، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً [سورة الأنبياء:48].

هنا وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ۝ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ۝ وَنَصَرْنَاهُمْ جاء الضمير بصيغة الجمع فذلك هل يرجع إلى موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- ويقال: إن أقل الجمع اثنان، كما في أشهر الحج مثلاً يقال: أشهر الحج وهي شهران وعشرة أيام، ويقال عنها: أشهر الحج الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197]، فعبر بالجمع، وفي قوله تعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11]، ويكون هذا النوع من الحجب -الذي هو حجب النقصان- باثنين من الإخوة فما فوق، ولهذا قال في المراقي:

أقلُّ معنى الجمعِ في المشتهرِ اثنان عند الإمام الحميري

يعني عند الإمام مالك -رحمه الله- وهذا لا يختص بالإمام مالك، بل قال به جمع حتى من أهل اللغة، فيمكن أن يكون ذُكرت باعتبار أقل الجمع، أو يكون للتعظيم وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ فيكون النصر قد حصل لهم لموسى وهارون -عليهما السلام- ولقومهم.

وقال هاهنا: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: في الأقوال والأفعال.

فالكتاب المستبين هو التوراة.

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ أي: أبقينا لهما من بعدهما ذكرا جميلا وثناء حسنا، ثم فسره بقوله: سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ۝ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.

تقدم الكلام على قوله: سَلامٌ وتقدير ذلك، وهل هو مفسِّرٌ ما قبله الذي تركه الله عليهم سَلامٌ بينهما ملازمة، وأن ذلك جميعاً مما تركه الله عليهم.

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ۝ أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ۝ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ۝ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ۝ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ۝ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ۝ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ۝ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [سورة الصافات:123-132].

قال قتادة، ومحمد بن إسحاق، يقال: إلياس هو إدريس، وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود ، قال: إلياس هو إدريس. وكذا قال الضحاك.

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ القول بأنه إدريس تؤيده قراءة مروية عن ابن مسعود والأعمش وإن إدريس يعني هذا الذي حملهم على القول بأن "إِليَاسَ" هو إدريس، وإلا فإن الاسم يختلف، فإلياس غير إدريس، لكن جاء في هذه القراءة {وإن إدريس} ففسروه بهذا.

وقال وَهْب بن منَبِّه: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.

يعني هو من نسل هارون من أنبياء بني إسرائيل وأنه غير إدريس ، وإدريس كان قبلُ، قبلَ موسى وهارون، بل وقبل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، وبعض المؤرخين يقولون: كان قبل نوح ﷺ والعلم عند الله ، وقيل بأن الأهرام الموجودة في مصر الذي بناها إدريس -عليه الصلاة والسلام، وأنه كان قبل نوح وكانت قبل الطوفان، وأنها لو كانت بعد الطوفان لعرف من بناها، وعرف تاريخها بالبعثة الفرنسية، أو حملة نابليون كان معهم ١٤٦ من علماء الآثار جاءوا في سفينة، وهؤلاء هم الذين أظهروا مثل هذه الثقافة، ونبشوا عن الأشياء ونقبوا عنها ثم أخرجوا للناس هذه الأقاويل والدعاوى الكثيرة وهذا كذا وهذا الفراعنة، وأهل العلم ذكروا أنهم فتحوا بعض الأهرام ورأوا التوابيت ورأوا ما في داخلها.

بعثه الله في بني إسرائيل بعد حزقيل -عليهما السلام، وكانوا قد عبدوا صنما يقال له: "بعل"، فدعاهم إلى الله، ونهاهم عن عبادة ما سواه، وكان قد آمن به ملكهم ثم ارتد، واستمروا على ضلالتهم، ولم يؤمن به منهم أحد، فدعا الله عليهم، فحبس عنهم القطر ثلاث سنين، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم، ووعدوه الإيمان به إن هم أصابهم المطر، فدعا الله لهم، فجاءهم الغيث فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر، فسأل الله أن يقبضه إليه، وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب ، فأُمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا، فمهما جاءه فليركبْه ولا يهبه، فجاءته فرس من نار فركب، وألبسه الله النور وكساه الريش، وكان يطير مع الملائكة ملكا إنسيا سماويا أرضيا، هكذا حكاه وهب عن أهل الكتاب، والله أعلم بصحته.

مثل هذا لا يعول عليه.

إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أي: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟.

أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي: بَعْلا يعني: ربا.

قال قتادة وعكرمة: وهي لغة أهل اليمن، وفي رواية عن قتادة قال: هي لغة أزد شنوءة.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها: "بعلبك"، غربي دمشق.

وقال الضحاك: هو صنم كانوا يعبدونه.

قوله: أَتَدْعُونَ بَعْلا بعضهم يقول: إن هذا صنم، وبعضهم يقول: امرأة، وبعضهم يقول غير ذلك، والقول بأنه صنم أو أنه بمعنى الرب كما في لغة أهل اليمن بينهما ملازمة كما قال النحاس: فإن هذا المعبود من دون الله -تبارك وتعالى- جعلوه رباً فهذا الصنم الذي عبدوه أَتَدْعُونَ بَعْلا جعلوه رباً فصرفوا له العبادة فمن قال: إنه الرب ومن قال: إنه صنم فإن بين القولين ملازمة، وابن جرير -رحمه الله- ذكر أن العرب تقول للرب: بعلاً، تسميه بعلاً، ومن هنا يقولون للزوج: بعل، هذا بعل المرأة يعني أنه سيدها وربها، الرب بمعنى السيد، عرفنا في الأسماء الحسنى أن الرب يأتي لمعانٍ منها السيد، وهكذا يقولون: بعل الدار يعني رب الدار، ولا زال الناس إلى اليوم يقولون للزرع الذي يستقل بالمطر من غير سقي: بعل، كما في الشام ونجد، فيزرعون القمح مثلاً على المطر في الأماكن التي -في وقت نزول المطر- يتوقعون فيها نزول الأمطار فيزرعون القمح فيخرج من غير سقي، وإنما يكون ذلك على المطر فيقولون له: بعل، يقصدون العَثَرِيّ من الزرع.

وقوله: أَتَدْعُونَ بَعْلا أي: أتعبدون صنما؟ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ أي: هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له.

قال الله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي للعذاب يوم الحساب.

قوله: وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ القراءة بنصب لفظ الجلالة على أنه بدل أو عطف بيان اللهَ أو أنه نصب على المدح، وفي القراءة الأخرى المتواترة وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع وعاصم بالرفع اللهُ فيكون مبتدأ أو خبراً لمبتدأ مرفوع مقدر محذوف أي هو الله.

إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي: الموحدين منهم، وهذا استثناء منقطع من مثبت.

هنا قوله -تبارك وتعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ۝ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ۝ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ يعني أي للعذاب يوم الحساب، والإحضار إذا ذكر على سبيل الإطلاق فإن ذلك يكون مخصوصاًَ بالشر يعني أنهم محضرون للعذاب.

وقوله: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ۝ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ، الْمُخْلِصِينَ قال: أي الموحدين منهم، هو فيه قراءتان متواترتان، فتح اللام، وكسر اللام، قال: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ۝ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يكون الاستثناء منقطعاً، إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ وبين القراءتين ملازمة فإن إخلاصهم سبب لخلاصهم، وقد مضى هذا في مواضع قوله -تبارك وتعالى- عن يوسف ﷺ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [سورة يوسف:24]، والْمُخْلِصِينَ قراءتان متواترتان، فالإخلاص سبب للخلاص في الدنيا والآخرة.

وقوله: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ أي: ثناء جميلا.

سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ كما يقال في إسماعيل: إسماعين.

هنا "ثناءً جميلاً"، والسلام كما سبق تَركَ َ والثناءَ الجميل، وفي قوله: سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ قراءة أخرى لنافع وابن عامر.

ويقال: ميكال، وميكائيل، وميكائين، وإبراهيم وإبراهام، وإسرائيل وإسرائين، وطور سيناء، وطور سينين، وهو موضع واحد، وكل هذا سائغ.

يعني هذا بمعنى أن وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ، فإلياس هو إلياسين وأن العرب تتصرف بهذه الأشياء الأعجمية ويقولون هنا: القرآن نزل على معهودهم في الخطاب كما في إبراهام، وإبراهيم وما ذكر معه، فالشاهد أن هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- أن إلياس هو إلياسين.

ومما يدل على هذا أن الله -تبارك وتعالى- بعد الأنبياء الذين ذُكروا قبله كان يسلم عليهم في الآخر سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:79] سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وهكذا قالوا: هذا كالذي قبله سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ هو نفس النبي المذكور قبل ذلك، يذكر الله خبره ثم بعد ذلك يذكر التسليم عليه وليس إِلْ يَاسِينَ غير إلياس، فهذا فيه هاتان القراءتان المتواترتان، وكل ذلك يراد به إلياس وأنه هو الذي وقع عليه التسليم لكنه اسم أعجمي، والعرب كما يقول بعض أهل العلم: تتصرف في الأسماء الأعجمية، ولهذا قال صاحب كتاب "الصاحبي" وغيره : "أعجمي فالعب به". 

اللفظ الأعجمي من الأسماء أنهم يتصرفون بها وأن العرب حينما تتكلم بالأسماء الأعجمية فإنها تتصرف بها بما يتفق مع فطرتها اللغوية ولا يلوون ألسنتهم بالأعجمية كما يفعل بعض المتكلمين اليوم الذين يظنون أن ذلك اليوم هو الكمال والحكمة والحذق، وإنما كان يثقل على ألسنة العرب النطق بالأعجمي ولا يبالون بالتصرف به، وذكرت لكم حينها في تلك المناسبات بعض الأمثلة المتنوعة، وبعض ذلك مما يمكن أن يعبر به اليوم عن أسماء الأشياء والآلات وما إلى ذلك، وبعض الناس يتبسم إذا سمع مثل هذا قد غير بعض الشيء، ويظن أن هذا من الجهل وما علم أن الجهل هو أهله وأولى به؛ حيث يلوي لسانه بالعجمة حتى يصير أكثر عجمة من الأعجمي.

فالقاعدة عند العرب: أعجمي فالعب به، فيغيرون فيها ويتلاعبون فيها، ذكرها جمع من علماء اللغة، وكما ذكرتُ صاحب "الصاحبي" وابن جني وغير هؤلاء فيتلاعبون بهذه الأسماء، وإلياس وإلياسين بعضهم يقول: كل هذا شيء واحد، وبعضهم يقول: إن إلياسين سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ  أراد به قومه، ولهذا فإن بعض أهل اللغة يقول: إن ذلك يراد به القوم وإنهم يسمون ويُنسَبون إلى الرجل العظيم منهم وإن لم يكونوا من نسله، فإنهم ينسبون إلى العظيم كما يقول الأخفش وإن لم يكونوا من نسله، ينسبون إلى الواحد المعظم عند العرب فينسب إليه القوم وإن لم يكونوا من ذريته ونسله، وهذا معروف عند العرب، فيقولون مثلاً: المهالبة نسبة إلى المهلب، المهالبة وإن لم يكونوا من نسل المهلب -والله المستعان، فيقولون هنا: إنه سمي كل رجل منهم بإل ياسين، وإن لم يكن من نسله -عليه الصلاة والسلام- سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ.

وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم قال: يرجع إليه وأراد أن يدخل قومه معه، فدخلوا في اسمه، وبعضهم يقول: إن هذا أصله إلياسيين نسبة إلى إلياس في أنه حذفت الياء كما حذفت في الأشعرين ونحو ذلك، وكما سبق -والله تعالى أعلم- سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ أنه إلياس وأن التسليم في أواخر الآيات السابقة كان يقع على النبي المذكور فهذا كذلك -والله تعالى أعلم، ويحتمل أنه يرجع إليه وإلى أتباعه.

وأما قول من قال: إن المراد النبي ﷺ آل ياسين، آل محمد -عليه الصلاة والسلام- فهذا بعيد، فإن النبي ﷺ لم يرد له ذكر بهذه الآيات كما ترون، وابن القيم -رحمه الله- له تفصيل في هذا، وذكر ضابطاً جيداً مفيداً يمكن الرجوع إليه فقال -رحمه الله: "وأما قوله تعالى: سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ فهذه فيها قراءتان إحداهما إلياسين بوزن إسماعيل وفيه وجهان:

 أحدهما: أنه اسم ثانٍ للنبي إلياس وإلياسين كميكال وميكائيل.

والوجه الثاني: أنه جمع وفيه وجهان:

أحدهما: أنه جمع إلياس وأصله إلياسيين بياءين كعبرانيين ثم خففت إحدى الياءين فقيل إلياسين، والمراد أتباعه كما حكى سيبويه: الأشعرون ومثله الأعجمون.

والثاني: أنه جمع إلياس محذوف الياء.

والقراءة الثانية سلام على آل ياسين وفيه أوجه:

أحدها: أن ياسين اسم لأبيه فأضيف إليه الآل كما يقال: آل إبراهيم.

والثاني: أن آل ياسين هو إلياس نفسه فيكون آل مضافة إلى ياسين والمراد بالآل ياسين نفسه كما ذكر الأولون.

والثالث: أنه على حذف ياء النسب فيقال ياسين وأصله ياسيين كما تقدم، وآلهُم أتباعهم على دينهم

والرابع: أن ياسين هو القرآن وآله هم أهل القرآن.

والخامس: أنه النبي وآله أقاربه وأتباعه كما سيأتي.

وهذه الأقوال كلها ضعيفة، والذي حمل قائلها عليها استشكالهم إضافة آل إلى ياسين واسمه إلياس، وإلياسين، ورأوها في المصحف مفصولة، وقد قرأها بعض القراء آل ياسين فقال طائفة منهم: له أسماء ياسين وإلياسين وإلياس، وقالت طائفة: ياسين اسم لغيره ثم اختلفوا فقال الكلبي: ياسين محمد، سلم الله على آله، وقالت طائفة: هو القرآن، وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه.

والصواب -والله أعلم- في ذلك أن أصل الكلمة آل إلياسين كآل إبراهيم فحذفت الألف واللام من أوله لاجتماع الأمثال، ودلالة الاسم على موضع المحذوف، وهذا كثير في كلامهم إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها فحذفوا منها ما لا إلباس في حذفه، وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال، ولهذا لا يحذفون النون من إني وأني وكأني ولكني ولا يحذفونها من ليتني ولما كانت اللام في لعل شبيهة بالنون حذفوا النون معها ولاسيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي وتغييرها له، فيقولون مرة إلياسين ومرة إلياس ومرة ياسين وربما قالوا ياس، ويكون على إحدى القراءتين قد وقع على المسلم عليه، وعلى القراءة الأخرى على آله، وعلى هذا ففصل النزاع بين أصحاب القولين في الآل: أن الآل إن أفرد دخل فيه المضاف إليه، كقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] ولا ريب في دخوله في آله هنا وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ [سورة الأعراف:130] ونظائره.

 وقول النبي: اللهم صل على آل أبي أوفى[3]، ولا ريب في دخول أبي أوفى نفسه في ذلك وقوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم[4]، هذه أكثر روايات البخاري، وإبراهيم هنا داخل في آله، ولعل هذا مراد من قال: آل الرجل نفسه

 وأما إن ذكر الرجل ثم ذكر آله لم يدخل فيهم، ففرق بين المجرد، والمقرون، فإذا قلت أعطِ لزيد وآل زيد لم يكن زيد هنا داخلا في آله، وإذا قلت أعطه لآل زيد تناول زيداً وآله، وهذا له نظائر كثيرة قد ذكرناها في غير هذا الموضع وهي أن اللفظ تختلف دلالته بالتجريد والاقتران كالفقير والمسكين هما صنفان إذا قرن بينهما، وصنف واحد إذا أفرد كل منهما؛ ولهذا كانا في الزكاة صنفين وفي الكفارات صنف واحد، وكالإيمان والإسلام، والبر والتقوى، والفحشاء والمنكر، والفسوق والعصيان، ونظائر ذلك كثيرة ولاسيما في القرآن"[5].

وقوله: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قد تقدم تفسيره.

وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ۝ إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ۝ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ۝ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ۝ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة الصافات:133-138].

يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط أنه بعثه إلى قومه.

فكذبوه، فنجاه الله من بين أظهرهم هو وأهله.

إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها.

فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات، وجعل محلّتهم من الأرض بُحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلا ونهارا؛ ولهذا قال: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ۝ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها؟

قوله -تبارك وتعالى- هنا: إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ فإن هذا اللفظ من الأضداد من جهة المعنى، وذلك أنه يقال للذاهبين والباقين، وبعضهم قال: إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ أي الباقين في العذاب، وبعضهم قال: إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ أي: الهالكين الذاهبين.

ويمكن الحمل على المعنيين في مثل هذا المقام، وأن المقصود بذلك -والله تعالى أعلم- أنها ذاهبة وباقية يعني أنها بقيت في العذاب، وهلكت وذهبت في جملة من ذهب، وأن هذا كقوله -تبارك وتعالى: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [سورة القلم:20]، يعني سوداء محترقة أو بيضاء لا شيء فيها، وهذا كله لا إشكال فيه أنه قد ذهب منها ما كان فيها من الزرع لم يبقَ منه شيء، فمن قال: إنها بيضاء يعني ليس فيها زرع ومن قال: سوداء يقصد أنها احترقت، فكان ذلك يرجع إلى شيء أو إلى معنى واحد -والله أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ [سورة الحجر:76] مضى الكلام على هذا وأن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يشير بذلك إلى البحر الميت، وهي البحيرة المنتنة، وبعض المؤرخين والمفسرين يقول: هذا كان موضع قرى قوم لوط تحولت إلى هذه البحيرة المنتنة، وهذا لا يثبت بدليل قطعي فيما أعلم، وإنما يذكره بعض المؤرخين، وذلك لو صح فإنه يمكن أن يقال معه بأنه لا يصح أن ينتفع بشيء من منتجات البحر الميت، وقد كثرت في هذه السنوات، بل الاستشفاء هناك وتقام وحدات ومنتجعات وعيادات يزعمون أنهم يتداوون بذلك من أنواع العلل، فإذا كان هذا موضع قرى قوم لوط فإنه لا يصح قصد ذلك والتداوي به أو تعاطي هذه المنتجات سواء كان بأكل أو غيره، لكن هذا يحتاج إلى إثبات، والله أعلم.

  1. رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (2707)، وقال محققوه: "رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي عاصم الغنوي، فقد روى له أبو داود، وقال أبو حاتم: لا أعرف اسمه ولا أعرفه، ولا حدّث عنه سوى حماد بن سلمة، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول. قلنا: ولمعظم هذا الحديث طرق وشواهد يتقوى بها، سريج: هو ابن النعمان، ويونس: هو ابن محمد المؤدب"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (337).
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (16637)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير مسافع: وهو ابن عبد الله الحجبي، فمن رجال مسلم، وهو ثقة، سفيان: هو ابن عيينة".
  3. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، برقم (1426)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة، برقم (1078).
  4. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب {يزفون} النَّسَلانُ في المشي، برقم (3190)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي ﷺ بعد التشهد، برقم (405).
  5. جلاء الأفهام، لابن القيم  (207-209).

مواد ذات صلة