الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
[34] من قول الله تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} الآية 131 إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} الآية 135.
تاريخ النشر: ١١ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 3086
مرات الإستماع: 2039

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ۝ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا ۝ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ۝ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [سورة النساء:131-134].

يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض وأنه الحاكم فيهما؛ ولهذا قال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أي: وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى الله، بعبادته وحده لا شريك له.

ثم قال: وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الآية [سورة النساء:132] كما قال تعالى إخبارًا عن موسى أنه قال لقومه: إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم:8] وقال: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة التغابن:6] أي: غنيٌّ عن عباده، حَمِيدٌ أي: محمود في جميع ما يقدره ويشرعه.

قوله: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا [سورة النساء:132] أي هو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب الشهيد على كل شيء.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الآيات مرتبطة بقوله -تبارك وتعالى- قبلها: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلًا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [سورة النساء:130] أي أنه إذا لم يحصل الوفاق بين الزوجين فإن ملك الله واسع يغني كل واحد من فضله، وبذلك تطمئن النفوس في حال الفراق وتعلم أن أرزاقها بيد الله وتتوجه إليه في طلب رغباتها وحاجاتها، فهذه المرأة إذا طلقت لن تضيع وإنما الأرزاق والخزائن بيد الله فقال: وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ [سورة النساء:131] ثم قال بعد ذلك: وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [سورة النساء:131] كما قال الله : إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7] وكما قال سبحانه: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [سورة محمد:38] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على غنى الله عن الخلق، ولذلك فإن ابن جرير -رحمه الله- يذكر وجه إعادة هذه الجملة: وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مرتين فيقول: إن الأولى في بيان غنى الله عن الخلق وحاجة الخلق لربهم وبارئهم -تبارك وتعالى.

وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [سورة النساء:131] أي أنه المحمود في كل حال وهو محمود في غناه؛ ومعلوم أن الغنى بالنسبة للإنسان مظنة البطر والطغيان كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6-7] أما الله -تبارك وتعالى- فهو محمود في غناه.

ثم قال في الآية الثانية: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا [سورة النساء:132] وهذه على قول أبي جعفر بن جرير –رحمه الله: إنها في بيان تدبير الله للخلق وحفظه لهم وإقامته إياهم، فهذا هو الفرق بينهما ولذلك كرر هاتين الجملتين، فالأولى في بيان حاجة الخلق إلى بارئه وأنه لا يستغني عنه والثانية في أن الله -تبارك وتعالى- يحفظ هذا الكون وهذا الخلق ويعلم به ويدبره.

وقوله: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [سورة النساء:133] أي: هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، وكما قال: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [سورة محمد:38].

يقول تعالى: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [سورة النساء:133] هذه الآية عامة كما هو ظاهرها، وابن جرير -رحمه الله- يربط هذه الآية وآيات بعدها بما سبق من الكلام عن قصة بني أبيرق والتي فيها قوله تعالى: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ [سورة النساء:113].

وهذه القصة جاءت فيها روايات كثيرة لا تخلو من ضعف، ومن أهل العلم من حسنها في الطعام وفي الدرعين حيث سرقا، ثم حصل ما حصل بعد ذلك مما ذكرناه سابقًا، فابن جرير -رحمه الله- يرى أن هذا الخطاب موجه إلى هؤلاء، وأنها زجر وردع لهم ولمن شاكلهم من المنافقين، والأقرب -والله أعلم- حمل الآية على العموم، وهذا له نظائر في القرآن.

وقوله: مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة النساء:134] أي: يا من ليس هَمُّه إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه وهذه أغناك وأعطاك وأقناك.

يقول: "أغناك وأعطاك وأقناك" أقنى بمعنى أرضى بما أعطى، ومعنى أغنى معروف.

وابن جرير لا يزال يرى أن هذه الآيات فيمن دخل في أمر أولئك الذين حصلت منهم تلك الخيانة من بني أبيرق ممن كلموا النبي ﷺ- في شأنهم ووقفوا معهم ودافعوا عنهم، ولذلك يرى ابن جرير أن قوله تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا أي: ثواب الدنيا بالنسبة إليهم –أي المنافقين- هو ما يحصل لهم من المغنم وحقن الدماء وإحراز الأموال وأن ثواب الآخرة لهم النار.

وإذا حملنا الآية على العموم قلنا: هذا لا يختص بهم بل هو خطاب عام، ومن كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، فثواب الدنيا ما يحصل فيها من الأمور السارة من غنيمة وغنى وسعة ورغد عيش، وما يحصل فيها أيضًا من عافية في الأبدان أو ما يمنحها الله فيها من العطايا والأولاد إلى غير ذلك، وثواب الآخرة هو ما يحصل من الجنة والنعيم المقيم الأبدي السرمدي، هذا كله من الله -تبارك وتعالى- والمقصود أن توحد الرغبة فيُتوجه إليه -- ويطلب ذلك منه فالخير وخزائنه بيده، هذا هو المقصود والله تعالى أعلم.

كما قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ۝ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ الآية [سورة البقرة:200-202] وقال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الآية [سورة الشورى:20] وقال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [سورة الإسراء:18] إلى قوله: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ الآية [سورة الإسراء:21] ولهذا قال: وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [سورة النساء:134].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:135].

الكلام السابق الذي ذكرته في تفسير قوله تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة النساء:134] والقول بأنها عامة هو ما يراه ابن كثير وهو مخالف لقول ابن جرير -رحمهما الله تعالى.

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي: بالعدل.

الكلام في هذه الآية عام أيضًا، فهو نداء للمؤمنين أن يكونوا قوامين بالعدل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ لكن ابن جرير -رحمه الله- يرى أن الكلام لا يزال في الذين دخلوا في أمر بني أبيرق، وأن الله يأمرهم بالقيام بالقسط ويأمرهم ألا يكونوا مدافعين لهؤلاء باعتبار أن هذا فقير أو مسكين -حيث قيل ذلك في بشير- فهذا ليس مبررًا للوقوف مع من خان وسرق أو قارف ما لا يليق.

فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالًا ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه.

وقوله: شُهَدَاء لِلّهِ كَمَا قَالَ: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [سورة الطلاق:2] أي ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقًا خالية من التحريف والتبديل والكتمان.

هذه الآية كقوله تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ [سورة المائدة:8].

 ولفظة "قوامين" في الآيتين تدل على الكثرة أي أن قيامكم يكون كثيرًا لله -تبارك وتعالى- وهو القيام بالحق والعدل.

وهاتان الآيتان فيهما دعوة للمؤمنين أن يكون العدل من شأنهم وديدنهم وعادتهم لا أن يكون ذلك منهم في الأحيان التي توافق أهواءهم، ولهذا فإن القيام بأداء الشهادة يجب أن يكون لله -تبارك وتعالى- ورجاء ما عنده، لا أن يكون الإنسان قائمًا بالشهادة؛ لأن ذلك يوافق هواه، أو لأنه يريد أن يؤيد هذا فيشهد، أو يريد أن ينتقم من الآخر فيشهد شهادة يتضرر بها ولو كان محقًا، ومن فعل ذلك فإنما صار قيامه بالشهادة لحظّ النفس والهوى والشيطان وهذا لا يجوز، بل يجب أن تكون الشهادة لله -تبارك وتعالى- وحده.

وقد أورد ابن القيم –رحمه الله- عبارات جيدة في الكلام على القيام بالقسط، ومما ذكر من العبارات في هذا المعنى قوله: وأعظم ذلك يكون في الحكم على الطوائف والمذاهب والآراء.

ويقول: وكثير من الناس ميزانه الذي يزن به الناس إنما هو ما وافق نحلته ومذهبه ورأيه، فما وافق ذلك فهو الحق وما خالفه فهو الباطل.

وإذا كان كل طائفة من طوائف الأمة تزن بهذا الميزان فهذا ميزان جور، وعليه فكل طائفة ستخالف غيرها وستضلل الطوائف الأخرى ومن هنا ترى أن ما هي عليه هو الحق وما عداه هو باطل وضلال، لذلك نقول: إن هذا الميزان باطل وهذه الطريقة هي من أعظم آفات التعصب التي لا يجوز الاعتماد عليها.

وهذا النوع من الميزان يوجد في متعصبة المذاهب الفقهية وفي طوائف أهل الأهواء وربما وُجد في بعض من ينتسب إلى السنة حيث تجده يتعصب لرأيه وقوله واجتهاده أو مذهبه أو مقدمه أو إمامه أو شيخه ويرى أن كل ما قاله هو فهو الحق، والله المستعان.

التمذهب والتعصب:

يقال –على سبيل المثال: مذهب أهل الكوفة ومذهب البصريين يعني في النحو، ويقال أيضًا: مدرسة الرأي في الكوفة ومدرسة الحديث في الحجاز، فلو تأملت كيف صار لهؤلاء مذهب ولأولئك مذهب تجد أن السبب في ذلك أن أهل هذه البلد أو تلك يدرسون عند إمام من الأئمة أو عالِمَيْن أو ثلاثة ويتلقون عنهم منذ نعومة أظفارهم، فيسمعون الحجج والأدلة، وكما هو معلوم أن هؤلاء العلماء لا يتكلمون بأهوائهم وإنما يتكلمون عن اجتهاد فهم حذاق وأذكياء وأئمة، فينبهر بهم التلاميذ، وهذا الانبهار من التلاميذ ليس غريبًا فهو يقع منهم أحيانًا من خلال نظرتهم إلى من هم طلاب فوقهم وكأنهم أناس كبار، فكيف بمن هو عالم كبير، فالمقصود أن هؤلاء الطلاب يعظمون هذا العالم وذاك غاية التعظيم، ولما كانت النفوس من طبعها أنها قابلة للانجذاب والتأثر والمحاكاة تجد هؤلاء يتأثرون بهذا العالم تأثرًا يسيطر عليهم إلى درجة أنهم يتأثرون به حتى في حركاته وفي طريقة كلامه بل حتى لو كان به علة أحيانًا في البصر يجعله يحرك عينه أو العينين بطريقة معينة فإنهم يحركون أعينهم مثله، وكذا لو كان كلامه غير واضح فإنهم يبدءون يحاكون طريقة كلامه، ولو كان خطه غير جيد فإنهم يحاكونه في الخط ولو كان يلبس بشتًا بطريقة معينة فوق رأسه فإنهم يلبسون البشت فوق رأسهم محاكاة تامة له لشدة محبتهم لهذا الإمام، فإذا كانت محاكاتهم للعالم بأعماله الظاهرة تصل إلى هذه الدرجة فكيف بآرائه.

إن مثل هؤلاء الطلاب عندما يقرر لهم العالم المسائل فإنها ترسخ عندهم فيبدءون من خلال هذه القناعات ينطلقون في دراستهم، فكلما وجدوا شيئًا يؤيد هذا القول أخذوا به وردوا على من خالفه، وبعض هؤلاء الطلاب قد يكونون من أهل السنة فيتعصبون لعلمائهم بهذه الطريقة، وهذا مرفوض؛ لأن كونهم من أهل السنة يعني أن كل جزئية أو كل تصرف منهم يعتبر صحيحًا.

وهكذا نجد مثل هذه الصور في مسائل الفقه أو النحو أو التفسير أو غير هذا فتصير مدرسة متناغمة منسجمة وتجد كل هؤلاء أو عامتهم صبة واحدة إلا في جزئيات لا تؤثر.

كما أن كل الطوائف تسير بهذه الطريقة إلا ما شاء الله فينشئون بهذه الطريقة فتكون تلك مدرسة لهم، وقد لا يتلقون من الشيخ مباشرة لكن من كتبه فهم يقرءون هذه الكتب والأدلة التي فيها ويرون أنها واضحة كالشمس مع أنه لا يعني أن كل فهم لهذا الشيخ يكون صحيحًا، لكنهم يعجبون بتقرير الأدلة وبقوة الحجة منذ نعومة أظفارهم ويسمعون من زملائهم وأقرانهم ومن سبقوهم أن هذا تقرير قوي جدًا وأن هذا الكتاب براهينه قوية وساطعة وربما ما قرءوه لكنهم يرددون مثل هذا الكلام عشرات السنين ولو أن الإنسان درس كل مسألة دراسة مستقلة من البداية لما صار يوافق في كل هذا المسائل التي قررها ذلك الشيخ.

فالإنسان ينبغي أن يعدل فيكون قيامه بالقسط وشهادته لله لا لهوى النفس، ولا على طريقة من شب على شيء شاب عليه.

وعلى كل حال فالكلام السابق كله حول المسائل الاجتهادية، أما الثوابت العقدية -عقيدة أهل السنة- التي قد دلت عليها النصوص الشرعية فهي غير قابلة للمناقشة وليست مقصودة هنا.

كما أن الكلام السابق لا يعني مطالبة صغار الطلبة بأن يجتهدوا وإنما المطلوب منهم التجرد وعدم التعصب للشيخ الفلاني أو المذهب الفلاني، ولذلك فإن تعديد الشيوخ في الدراسة وتلقي العلم مفيد جدًا؛ لأن الطالب إذا كان لا يتلقى إلا من شيخ واحد فإنه لا يعرف إلا قوله، والله المستعان.

ولهذا قال: وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [سورة النساء:135] أي: اشهد الحق ولو عاد ضرره عليك، وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مَضرته عليك؛ فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا من كل أمر يضيق عليه.

بعض أهل العلم يفسر قوله تعالى: وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ بتفسير فيه بُعد، وكأنهم لم يتصوروا شهادة الإنسان على نفسه فقالوا: يعني أن يشهد على غيره شهادة تضره هو -تضر الشاهد- فيكون كأنه شهد على نفسه، وهذا بعيد وهو خلاف ظاهر القرآن، وإنما المراد أن يشهد الإنسان على نفسه أنه أخطأ أو أنه وقع في تقصير وذنب وارتكاب محظور.

وهذا الأمر في غاية الصعوبة؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يحيد ولا يقر ويصعب عليه غاية الصعوبة أن يقر بالخطأ والتقصير بل يحاول أن يبرر ذلك الفعل الذي ارتكبه أو يدفعه عن نفسه قدر الإمكان وإذا ما استطاع أن يصوب رأيه في التبرير فإنه يدفع عن نفسه التهمه.

 وقوله: أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [سورة النساء:135] أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تُراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم؛ فإن الحق حاكم على كل أحد وهو مقدم على كل أحد.

علاقة الابن بالوالدين أنه يعظمهما ويبرهما، وعلاقته بالأقربين أنه يتعصب لهم ويحسن إليهم، فبيَّن الله تعالى أن من تعظمه ومن تتعصب معه بحكم قربك منه وبحكم ما له من الحق عليك لا يجوز أن تشهد معه على الباطل، وإنما يجب عليك أن تقوم لله بالحق والقسط وتكون شهادتك على وجه الحق وإن تضرروا بذلك.

وقوله: إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا [سورة النساء:135] أي: لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما.

وقوله: فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ [سورة النساء:135] أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضُ الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشئونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8].

لفظ "تعدلوا" في قوله تعالى: فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ [سورة النساء:135] يحتمل معنيين، الأول: أن يكون من العدل الذي هو القسط وضده الظلم والجور، ويمكن أن يكون من العدول كما يقال: عدل عن كذا أي مال عنه، فعلى الأول يكون المعنى فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا، يعني لا تتبعوا أهواءكم كراهة منكم للعدل، وهذا المعنى هو المتبادر، وهو الذي عليه البصريون من النحاة، وهو الذي اختاره كثير من المحققين وعليه عامة المفسرين، وهو اختيار الحافظ ابن القيم أيضًا، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

وعلى الثاني أنه من العدول عن الشيء والميل عنه، ويكون المعنى لا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق وتحيدوا عنه، أي أنه نهاهم عن اتِّباع الهوى مخافة العدول والانصراف عن الحق، وهذا فيه بعد، والله أعلم.

ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي ﷺ- يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا: "بهذا قامت السماوات والأرض" وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

وقوله: وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ [سورة النساء:135] قال مجاهد وغير واحد من السلف: تَلْوُواْ أي: تحرفوا الشهادة وتغيروها.

واللّي هو التحريف وتعمد الكذب، قال تعالى وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ الآية [سورة آل عمران:78].

قوله تعالى: وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ [سورة النساء:135] في قراءة ابن عامر والكوفيين (وإن تلوا)، وبعض أهل العلم مثل ابن جرير -رحمه الله- يرى أن القراءتين بمعنى واحد، وكثير من المفسرين يرون الفرق بينهما فيقولون: وَإِن تَلْوُواْ من اللي وهو هنا بمعنى التبديل والتحريف والتغيير.

وقوله: أَوْ تُعْرِضُواْ بمعنى أن تمسكوا عن الشهادة وأن تعرضوا عن إقامتها وأن تتركوها، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "فإن الحق إذا ظهرت حجته ولم يجد من يروم دفْعَها طريقًا إلى دفْعِها أعرض عنها وأمسك عن ذكرها.. وتارة يلويها ويحرفها"[1].

واللي هو التحريف، وهو نوعان: ليٌّ في اللفظ وليٌّ في المعنى، والله ذكر اللي في غير هذا الموضع فقال: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [سورة آل عمران:78] فاللي يكون بتحريف الألفاظ ويكون بتحريف المعاني، ومنه سلام اليهود على النبي ﷺ كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8] فهذا من اللي حيث كانوا يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليك وهم يقولون: السام عليك، يعنون الدعاء بالموت على النبي ﷺ.

وقوله تعالى: وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ [سورة النساء:135] تَلْوُواْ يعني تحرفوا وتُعْرِضُواْ يعني بترك إقامة الشهادة.

وعلى القراءة الثانية (تلوا) من الولاية بمعنى أنكم تلوا الشهادة أي تتحملوها لكن تتركون القيام بما وجب عليكم فيها، أَوْ تُعْرِضُواْ يعني عن توليها، والله أعلم.

والإعراض هو كتمان الشهادة وتركها، قال الله تعالى: وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [سورة البقرة:283] وقال النبي ﷺ: خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها[2] ولهذا توعدهم الله بقوله: فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:135] أي: وسيجازيكم بذلك.
  1. الرسالة التبوكية لابن القيم –رحمه الله- (ج 9 / ص 15).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1719) (ج 3 / ص 1344).

مواد ذات صلة