بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، وبعد:
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة النور قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [سورة النور:41، 42].
يخبر تعالى أنه يُسَبِّحه من في السموات والأرض، أي: من الملائكة والأناسي، والجان والحيوان، حتى الجماد، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ... الآية [سورة الإسراء: 44].
وقوله: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي: في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة؛ ولهذا قال: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي: كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، .
ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء؛ ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ.
ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض، فهو الحاكم المتصرف، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا معقب لحكمه، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي: يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء؛ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا... الآية [سورة النجم:31]، فهو الخالق المالك، ألا له الحكم في الدنيا والأخرى، وله الحمد في الأولى والآخرة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ بمعنى ألم تعلم، وليس المراد -والله تعالى أعلم- أن الرؤية هنا بصرية؛ لأن ذلك لا يُبصَر، والتسبيح على ظاهره تسبيح حقيقي، ولكن كما قال الله -تبارك وتعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44]، فهذه الآية نص في بيان المراد: لا نفقه هذا التسبيح.
والنبي ﷺ كما في الصحيح قال: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث[1]، والله قال في حق داود -عليه الصلاة والسلام: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سورة سبأ:10]، يعني تردد معه، وكذلك الطير، وسليمان ﷺ قال: عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [سورة النمل:16]، ولمّا خرج -عليه الصلاة والسلام: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [سورة النمل:18].
وهكذا ما جاء عن النبي ﷺ: خرج نبي من الأنبياء يستسقي فوجد نملة[2] الحديث، كل هذا يدل على أن هذه المخلوقات من الجمادات والحيوان تسبح لله، وأنها تعرف ربها، وأيضاً ما جاء في الحديث من تسبيح الطعام، وتسبيح الحصى.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ، وذكر هنا الفعل المضارع في التسبيح، ومعلوم أن الفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث فهذا يتكرر منها، وفي المواضع التي ذكر فيها الفعل الماضي سَبَّحَ لِلَّهِ [سورة الحديد:1]، والأمر في قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى:1] كل ذلك يدل على أن الله مستحق للتسبيح في الأزمنة الثلاثة الماضي، والحاضر والمستقبل، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ [سورة الإسراء:44].
وقوله: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ عقِب أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مع أنه يشمل الطير، والتعبير بمَن التي تستعمل في من يعلم، أو بعضهم يعبر أو يقول: العاقل، باعتبار أنه الأشرف مثلاً، أو أنه محل التكليف، وهنا خص الطير بعد ذكر العموم وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وإنما يكون هذا -يعني ذكر الخاص بعد العام- بمعنى كقوله -تبارك وتعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [سورة البقرة:98]، فخصهما لمنزلتهما عند الله -تبارك وتعالى.
وهنا الطير وذكر هذه الصفة لها، هذه الحال صَافَّاتٍ بعض أهل العلم يقول: ذكر الطير لحالها العجيبة، فهي تطير في الهواء، وتمشي أيضاً على رجلين، وهكذا قول من قال: إنها ليست في السماوات وليست على الأرض، وإنما في الهواء، والمقصود أن الله -تبارك وتعالى- ذكر الطير وهي داخلة في العموم السابق، يعني على هذا القول الأخير ليست داخلة لا تكون داخلة في العموم قبله، ولكنها داخلة -والله تعالى أعلم.
وهذا هو الأقرب، وأنه خصها لما لها من الأحوال العجيبة من الطيران لاسيما في هذه الصفة التي ذكرها الله "صافات"، بمعنى أنها تصفّ أجنحتها في الهواء كما قال الله : صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [سورة الملك:19] يعني تقبض أجنحتها، وهذا من أدل الدلائل على قدرة الله -تبارك وتعالى، ولهذا قال الله في الموضع الآخر: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ وليس معناه أنه ما يقبضها ويأخذها إلا الرحمن، وإنما المعنى ما يقيمها بهذه الحال بحيث لا تسقط ولا تقع، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا [سورة فاطر:41] فالطير ما يمسكها في الهواء فيقيمها فيه لا تسقط مع وجود الجاذبية إلا الله .
قال: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي: في حال طيرانها تسبح ربها بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي: كل أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله -تبارك وتعالى، قوله: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ "علم" الفاعل هنا مستتر، فهو ضمير لكن هل يعود على الله ، أو يعود على هذه الأشياء المسبحة، يُحتمل الاثنان يحتمل أن يكون عائداً إلى الله -تبارك وتعالى- كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، أي الله، والقرينة الدالة على هذا هي قوله بعد ذلك وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ.
ومن أهل العلم من يقول: إنه يعود على المسبحِ، كُلٌّ قَدْ عَلِمَ أي هو صلاة نفسه وتسبيحه، يعني أن الله قد علمها وألهمها وأرشدها إلى ما تسبح به ربها كُلٌّ قَدْ عَلِمَ من هذه المخلوقات المسبحة من الطير وغيرها كل قد علم صلاته، صلاة نفسه وتسبيحه، وصاحب هذا القول يحتج بأمرين:
الأمر الأول: أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافـَّاتٍ فأقرب مذكور من في السموات والأرض والطير.
الأمر الثاني: أنّ علم الله -تبارك وتعالى- مذكور بعده وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ والقاعدة أن التأسيس مقدم على التوكيد، وإظهار الكلام بين التأسيس أو التوكيد فالمقدم هو التأسيس؛ لأنه يُنشئ معنى جديداً لا يكون تكراراً، وهذا أولى، وهذا الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا حيث قال: وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة، هذا تلخيص المعنى يعني كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ أي صلاة نفسه بما أرشده الله وعلّمه، ثم ذكر عِلمه -تبارك وتعالى- بأحوالها، كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، والمراد هنا بالصلاة والتسبيح: الصلاة في اللغة: بمعنى الدعاء.
والتسبيح: بمعنى التنزيه.
ومن هنا قال بعض أهل العلم: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ أي دعاءه فهي تدعو ربها: وتسبيحه: يعني تنزيهه، ومن أهل العلم من يقول: هما بمعنى واحد، كل قد علم صلاته وتسبيحه، فالصلاة يقال لها: تسبيح، لو كنت مسبحاً لأتممت[3]، ولكن التأسيس مقدم على التوكيد، ومن أهل العلم من يقول: الصلاة هنا على ظاهرها هي تصلي لكن بطريقة تختص بها، وتسبح ربها -تبارك وتعالى- كما علمها، وهذا قال به بعض أهل العلم كالشنقيطي -رحمة الله عليه- إجراءً على ظاهره، وقول من قال: إن المقصود الدعاء هو إجراء له أيضا على الظاهر، لكن غاية ما هنالك أن يقال: إنه حمل -أعني الشنقيطي رحمه الله- عمل الصلاة على المعنى الشرعي، وذاك حمله على المعنى اللغوي، والله تعالى أعلم.
والأمر يحتمل، وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:189]، والآيات التي جاء فيها سجود المخلوقات جميعا لربها وخالقها بعضهم يقول: السجود بمعنى الخضوع، ومنهم من يقول: سجود الظلال، ولا مانع من حمله على ظاهره، ولكن سجودها يختص بها، ولا يحتاج أن يقال: إن السجود في كل الحالات هو وضع الجبهة على الأرض، إنما لكل شيء سجود يختص به، فإذا قلنا هناك: إن لها سجوداً يليق بها، فيمكن أن نقول هنا -أيضا: إن لها صلاة تليق بها فالأمر محتمل، لكن القدر الذي لابد منه هو أن يقال: إن هذه المخلوقات معظمة لربها مقدسة له.
لكن يبقى خلاف في التفاصيل التي وراء ذلك، وليس لأحد أن يكذب بما جاء في القرآن، ويقول: هذه لا تفقه ولا تفهم، وليس لها إدراك ومن ثَم فهي لا تعرف التسبيح، ولا تعرف العبادة لله ، وقد حن الجذع لفراق النبي ﷺ، قال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ يعني هذه المذكورات قبلُ عليم بعبادتها بصلاتها وبتسبيحها، لا يخفى عليه من ذلك شيء ثم قال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. وسفيان الثوري يقول: إن الطير لها صلاة لا ركوع فيها ولا سجود، وهذا مرفوع إلى النبي ﷺ، كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ باعتبار أن الصلاة للبعض والتسبيح للبعض، يعني الأصل أن ذلك يرجع إلى الجميع.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ [سورة النور:43، 44].
يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة، وهو الإزجاء.
الإزجاء هو السوق شيئًا فشيئًا، ومعنى يزجي سحابا أي يسوقه شيئًا فشيئًا، وهذا مشاهد.
خلله يعني من فُتوقه فتوق السحاب، والودق هو المطر، فإذا تراكم هذا السحاب وتكثف عند ذلك يخرج من فتوقه هذا المطر.
قال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المثيرة فَتَقُمّ الأرض قماً، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير -رحمهما الله.
وقوله: وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ قال بعض النحاة: "مِن" الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: للتبعيض، والثالثة: لبيان الجنس، وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله: مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍمعناه: أن في السماء جبالَ بَرَد ينزل الله منها البرد، وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب، فإن "من" الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا، لكنها بَدَل من الأولى، والله أعلم.
الرياح المثيرة هي التي تسبق المطر، تثير التراب قبل أن يأتي المطر بلحظات، وأحياناً تأتي رياح وتحمل معها، تقمّ الأرض.
يعني الآن مِن الأولى هي بالاتفاق لابتداء الغاية، ينزل من السماء الذي هو السحاب، فمن لابتداء الغاية وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ، هذه الثانية مِنْ جِبَالٍ، والثالثة مِنْ بَرَدٍ، فالخلاف في الثانية والثالثة، خلاف كثير، الأولى لابتداء الغاية الماء ينزل هذا المطر ينزل من السماء، والسماء يقال: لكل ما علا وارتفع، فيقال ذلك للسحاب، ويقال للسقف المعروف، مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فمِنْ هذه الثانية يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: الثانية للتبعيض، وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ بمعنى أن السماء ليس السحاب، من جبال في السماء بمعنى أن المطر ينزل من السماء التي هي السماء المعروفة فيها جبال فينزل منها هذه الجبال، فيها من برد؛ لأن الله قال: وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ ما ينزل كل الجبال، وإنما ينزل منها فهي للتبعيض.
فمن الجبال تبعيضية، ينزل منها، ما يقول: يُنزِّل جبالاً من السماء، وإنما يُنزل بعض هذه الجبال جزءاً منها، بعضاً منها، هذا احتمال الآن قال: وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ قال: والثالثة لبيان الجنس، هذا الذي ينزل من الجبال فيها من برد، لبيان الجنس هذا معنى، ويقول هنا: وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله: مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد.
وأما من جعل الجبال هنا كناية عن السحاب فإن (مِنْ) الثانية عند هذا لابتداء الغاية، فتكون من قبيل البدل، وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ الذي هو السحاب، مِنْ جِبَالٍ فالجبال هي السحاب، فِيهَا مِنْ بَرَدٍ تكون الثانية بدلاً من الأولى، وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ قال: لابتداء الغاية أيضاً لكنها بدل من الأولى -والله أعلم، هذا أحد الأقوال في (مِن) الثانية.
وهناك من يقول: إنها زائدة ينزل من السماء جبالاً، يعني زائدة إعراباً، وإلا فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ أي: ينزل من السماء جبالاً فيها من برد، ولم يقل ينزلها جميعاً، فقول من قال: إنها تبعيضية أوضح من قول من قال: إنها زائدة.
والأقوال في الثالثة كثيرة فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فيها الأقوال الثلاثة الموجودة في الثانية: التبعيض، أو أنها زائدة، أو أنها لبيان الجنس، وزيادةٌ من الأقوال على هذا، ولا أرى حاجة للتوسع في هذه الإعرابات، فليس المقصود هو التوسع في الأعاريب، أو استخراج المعاني التي تخرجنا عن منهج المؤلف يعني الإغراق في استنباط الأحكام الفقهية، أو القضايا التربوية، وإنما المقصود مناقشة النص الذي أمامنا من أجل أن نفهم ونوجه الأقوال وما أشبه ذلك.
وقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يحتمل أن يكون المراد بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ أي: بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرَد فيكون قوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ رحمة لهم، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ أي: يؤخر عنهم الغيث.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ أي: بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم. ويصرفه عمن يشاء أي: رحمة بهم.
قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ المطر، ثم قال: وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ إذا أرجعناه إلى الأخير فهو البرد، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ فيتلف زروعه، ويحصل له ما يحصل من الضرر وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ، أو أن يكون المقصود مجموع ما ذكر مما يحصل من إزجاء السحاب، وما يكون من جراء ذلك من نزول المطر ونزول البرد فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ وهذا أعم في المعنى كما هو ظاهر.
وقوله: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِأي: يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
وقوله: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أي: يتصرف فيهما، فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا، فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلا.
قوله: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الحافظ ابن كثير قال: يتصرف فيهما، قال: فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدل إلى آخره يعني يُقَلِّبُ اللَّهُ بمعني يصرّف الليل والنهار في الطول والقصر.
ومن أهل العلم من يقول: بالتعاقب يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يأتي الليل ويعقبه النهار وهكذا، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [سورة يس:40].
ومن أهل العلم من يقول: يقلب الله الليل والنهار بما يجري فيهما من الحوادث والأقدار، وهذا أبعد هذه المعاني، ولو قال قائل: إن قوله -تبارك وتعالى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بالطول والقصر، والتعاقب فإن ذلك كله من التقليب، داخل في هذا التقليب، يطول هذا ويقصر هذا، وهذا يأتي بعد هذا وهكذا.
والقرآن يعبر بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، واللفظ أو الجملة أو الآية إذا احتملت أكثر من معنى ولم يوجد مانع من حملها على هذه المعاني فإنها تحمل عليها، فكل هذا داخل في التقليب لكن قول من قال: إن المقصود ما يجري فيهما من الحوادث والأقدار ليس هذا هو الظاهر في القرآن، وإنما يحمل الكلام على ظاهره المتبادر إلا لدليل، ولا حاجة هنا إلى الحمل على هذه المعاني.
والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ أي: لدليلا على عظمته تعالى، كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ [سورة آل عمران:190]، وما بعدها من الآيات الكريمات.
بمعنى عبرة: آية يعتبرون بها، وأصل ذلك كما سبق في بعض المناسبات أن العبرة فيها معنى الانتقال، فحينما تقول: صار فلان عبرة بغيره فهم ينظرون إلى ما حصل له وحلَّ به ثم يرجعون إلى أنفسهم فيعتبرون ويقولون: العاقل من وُعظ بغيره يعني من اعتبر بغيره، والشقي من وُعظ بنفسه، هذا أصل العبرة من العبور ولهذا يقال: معبر، وعبّارة، فيجتاز من شيء إلى آخر، هذا ينتقل من حال هذا إلى حال نفسه، فيقول: لو كنت أنا لكان، ولهذا قالوا: العِبرة، ويقال لها: عَبرة؛ لأن العبرة مقدمة البكاء استعبر فبكى؛ لأن فيها معنى العبور، والعبرة تنتقل من الخد إلى العين أو العكس إذا استعبر بكى، وقالوا: في العبرة الارتباط بين العين وبين الخد أو الشفة أو نحو ذلك، استعبر، والصغير حينما يقال له شيء يبدأ يستعبر فأحيانا تدركه قبل أن يبكي وتنهي المشكلة، ولا ينزل الدمع ولا يحصل البكاء، يعني قد تأخذ شيئاً منه مثلا فتتغير الملامح، إن تركته قليلا عقّبه بالبكاء، وقد لا تفلح في إسكاته بسهولة لكن العبرة هذه يمكن أن تستدرك فهي مقدمة.
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة النور:45].
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها، وحركاتها وسكناتها، من ماء واحد.
في قوله: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ "كل" هذه أقوى صيغة من صيغ العموم، كُلَّ دَابَّةٍ والأصل أن الدابة هي: ما يدب على الأرض، وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ الجمهور من أهل العلم -المفسرين- يقولون: المقصود في ذلك هو النطفة، وهذا الذي اختاره أيضاً ابن جرير -رحمه الله: النطفة، لكنه يرِد على هذا أن من هذه الدواب أو المخلوقات ما لم يخلق من النطفة سواء كان من الآدميين مثل: آدم وحواء وعيسى ﷺ، أو كان من غير الآدميين مثل الحية التي صارت لموسى، وناقة صالح، والكبش الذي أنزله الله فداء لإسماعيل يؤتى للموت، وهناك أشياء من المخلوقات من الدواب قد لا تخلق من النطفة.
والجمهور يقولون: المقصود من ماء أي من النطفة، وقالوا عن الأشياء الخارجة عن هذا: المقصود الغالب أن الله خلق كل دابة من ماء.
ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود بذلك ابتداء خلق الإنسان حيث إن الله خلق آدم -عليه الصلاة والسلام- من الطين الذي بل بالماء فصار طينا إلى آخره، ولكن هنا الله يقول: كُلَّ دَابَّةٍ فهذا لا يختص بآدم -عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما ذكره الله في الآية الأخرى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30] خلق كل دابة من ماء، أن لا يكون المراد ابتداء الخلق من الماء، وإنما المقصود أن قوامها على الماء، خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.
لكن قوله -تبارك وتعالى: خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ يشعر بأن أصل الخلق من الماء، و"كل" هذا نص، والأصوليون يقولون: إن العموم قد يخصصه الحس، وقد يخصصه العقل، وقد يخصصه النقل، وأما على طريقة الشاطبي -وهي أحسن- فإنه يعبر عن ذلك بالعموم الاستعمالي، بمعنى أنه يصدق على ما يصلح له، وأن العرب تفهم ذلك عمن خاطبها بحسب المقام والسياق.
وطريقة الشاطبي هذه جيدة فقوله -تبارك وتعالى- مثلاً عن المسجد الحرام أو عن الحرم يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57] فـ "كل" نص في العموم، يقول الأصوليون: هنا الذي خصصه هو الحس؛ لأنه بالحس ما نشاهد كل الثمرات في الدنيا تأتي للحرم، ولكن على طريقة الشاطبي يقول: هذا العموم الاستعمالي بمعنى أن العرب تفهم مثل هذا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ يعني مما جرت العادة يجبى إليه أو إلى مثله، ولهذا لم يعترض المشركون ولم يقولوا: هناك ثمرات في كوريا وفي الأرجنتين وفي إندونيسيا لم يؤت بها إلى الحرم، وهكذا في قوله عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23] يقولون: ما أوتيت ملك سليمان -عليه الصلاة والسلام، وإنما المقصود كما يقول الشاطبي: إنها أوتيت من كل شيء مما يقوم به مُلكها ويصلح لمثلها، وأولائك يقولون: خصصها الحس.
وهكذا في قوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25]، الريح أرسلها الله على عاد، تدمر كل شيء، قالوا: ما دمرت السماوات ولا الأرض بل ولا المساكن، "فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم" قالوا: تدمر كل شيء مما جاءت لتدميره، ولا حاجة أن نقول: خصصها الحس، باعتبار أن السماوات والأرض المشاهَد أنها لم تدمر، وبعضهم يعتبر أن بعض هذه الأمثلة من قبيل تخصيص العقل، ولا حاجة لهذا كله حينما يقال: هذا العموم الاستعمالي، فـخَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ على قول الجمهور باعتبار الأغلب والعموم، والله أعلم.
بدأ بالذي يمشي على بطنه، وهذا أدل على القدرة، ليس له رجلين يمشي عليهما، ثم الذي يمشي على رجلين، ثم الذي يمشي على أربع، ثم إن الله -تبارك وتعالى- هنا ذكر هذه الثلاثة ولم يذكر الزيادة على الأربع كالعناكب وبعض الديدان، وبعض المخلوقات في البحر، فيقال: إن هذه الآية ليس فيها حصر، ولا يمنع من وجود صور أخرى، ثم قال بعده: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء فيدخل فيه ما زاد على ذلك، ومن أهل العلم من قال: إن التي تمشي على أربع الواقع أن التي تعتمد عليها هي أربع، والباقي زائدة، لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأن بعض الديدان الطويلة كأم أربع وأربعين ولربما أكثر توجد في بلاد شرق أسيا، وفي بعض البلدان بهذا الحجم تقريباً والأرجل المتساوية، فالآية ليس فيها حصر أصلاً، ولا إشكال يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.
هنا قوله: خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشـِي عَلَى رِجْلَيْنِ ... ومَن تستعمل لمن يعلم أو يعقل، والذين يعبرون بيعلم يقولون: تستعمل للعالم؛ ليدخل فيها الملائكة، والملائكة يقال: توصف بالعلم، وعبر بمَن وهي تستعمل لمن يعقل ويعلم من أهل العلم من يقول: عبر بالأشرف من هذه وهو من يعقل، فجيء بمن في هذه المخلوقات، منهم من يمشي على كذا وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء، وفي القراءة الأخرى: {خالق كل دابة من ماء}، يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ هو تقرير للمعنى -والله أعلم- باعتبار أن "والله خلق" إخبار عن الخلق السابق، خلق كل دابة فمنهم كذا، ومنهم كذا، ومنهم كذا، ثم قال: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ فهو يقرر تفرده بالخلق.
لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسـْتَقِيمٍ [سورة النور:46].
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والأمثال البينة المحكمة كثيرًا جدًا، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قوله: لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ أي أنها موضحة للحق مجلية له لا تترك فيه لبساً، لكن قد تعمى عنها أعين الخفافيش:
خفافيشُ أعشاها النهار بضوْئهِ | ووافقها قِطعٌ من الليل مظلمُ |
فالنهار لا يخفى على ذي عينين، ولكن يُعشي أعينَ الخفافيش ضوءُ النهار، وهذه الآيات مع وضوحها وبيانها إلا أنها تعمى عنها بعض النفوس، فعُمي البصائر لا ينتفعون بها، ولا يهتدون إلى الحق.
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُم ْمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّه ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن ْيَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سمعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة النور:47-52].
يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولا بألسنتهم: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أي: يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
وقوله: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي: إذا طُلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه، وهذه كقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ... إلى قوله: رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [سورة النساء:60، 61].
وقوله: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أي: وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم، جاءوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله: مُذْعِنِينَوإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق، وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي ﷺ ليروج باطله ثَمّ، فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق، بل لأنه موافق لهواه؛ ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره؛ ولهذا قال تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني: لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مَرَض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم، وأيّا ما كان فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم، وما هو عليه منطوٍ من هذه الصفات.
يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ يعني في غاية الانقياد والخضوع والاستجابة.
وقوله: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الذي هو النفاق، ويكون ذلك سببَ الانصراف والإعراض أَمِ ارْتَابُوا أي: عرض لهم ارتياب لأمر ما، أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يخافون أن يحصل لهم ظلم بحكم الله -تبارك وتعالى، الحيف هو الظلم والجور.
ارْتَابُوا يعني حصل لهم شك، والريب هو الشك المقلق، أي شك مع قلق، شك خاص حصل لهم ريب، عرض لهم ريب في أنفسهم يعني قد يكون ذلك أمراً متجذراً وهو مرض القلوب بالنفاق، فذلك دعاهم إلى الإعراض أو يكون قد عرض لهم شيء من الريب حينها فأعرضوا.
وقوله: بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: بل هم الظالمون الفاجرون، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور، تعالى الله ورسوله عن ذلك.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الذين لا يبغون دينًا سوى كتاب الله وسنة رسوله، فقال: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أي: سمعًا وطاعة؛ ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح، وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب، فقال: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وقال قتادة في هذه الآية: أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ذُكر لنا أن عُبَادة بن الصامت -وكان عَقَبيًّا بدريا، أحد نقباء الأنصار- أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك؟ قال: بلى، قال: فإن عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومَنْشَطك ومكرهك، وأثرةً عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمرَ أهله، إلا أن يأمروك بمعصية الله بَوَاحا، فما أُمرت به من شيء يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة: وَذُكر لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله، وللخليفة وللمؤمنين عامة.
قال: وقد ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب ، كان يقول: عُروة الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم، والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنة رسوله، وللخلفاء الراشدين، والأئمة إذا أمروا بطاعة الله كثيرة جدًا، أكثر من أن تحصر في هذا المكان.
وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه، وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من ذنوبه، وَيَتَقِهِفيما يستقبل.
وقوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يعني: الذين فازوا بكل خير، وأمِنُوا من كل شر في الدنيا والآخرة.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [سورة النور:53، 54].
يقول تعالى مخبرا عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول ﷺ لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ يعني جاهدين في أيمانهم، مجتهدين في أيمانهم يعني بذلوا في ذلك غاية الوسع، اجتهدوا في هذه الأيمان واشتطوا بها، وهذا الذي عليه كثير من المفسرين، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم يقول غير هذا، لكن هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم.
ومَن نُقل عنه من السلف أن جهد اليمين هو أن يحلف بالله ولا يزيد، يعني لا يحلف بغيره فهو لا يخالف ما سبق، مجتهدين في أيمانهم بمعنى أن الإنسان إذا اجتهد واشتط في اليمين فإن ذلك لا يسوغ له أن يحلف بغيره، وإنما الحلف بالله هو أعظم شيء يحلف به ولا يسوغ لأحد أن يتجاوز ذلك.
قال الله تعالى: قُلْ لا تُقْسِمُوا أي: لا تحلفوا.
وقوله: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌقيل: معناه طاعتكم طاعة معروفة، أي: قد عُلمت طاعتكم، إنما هي قول لا فعل معه.
قوله: قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ يعني طاعتكم طاعة معروفة، أي: أنها غير حقيقية، أنها كاذبة، فطاعتكم معلومة، وهي كاذبة، لا حقيقة لها، وأنها مجرد دعوى فلا يحتاج للحلف، نعرف الطاعة هذه التي يتكلمون عليها، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله: طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ والآيات تحتمل غير هذا، تحتمل أن يكون قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ يعني طاعة معروفة أولى بكم، فالمعنى انتقل تماماً، فالأول على سبيل التكذيب، والثاني طاعة معروفة أولى بكم، أو ليكون أمركم طاعة معروفة يعني من غير حلف، كما يطيع أهل الإيمان.
فالمنافقون كما حكى الله عنهم: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [سورة المنافقون:1] كلما دخلوا، "إذا جاءك" فهنا يتكرر بتكرر مقام الشرط، كلما دخلوا قالوا هذا، أهل الإيمان لا يحتاجون ذلك، لكن هم كلما دخلوا قالوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وهذا بمنزلة الحلف، ولهذا كذبهم الله ، ورد عليهم بنفس الصيغة التي استعملوها، وبعضهم يقول: التقدير لتكن منكم طاعة، أو لتوجد منكم طاعة معروفة، أو أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة، لكن كل هذه التقديرات غير المعنى الأول تماماً، والآية تحتمل هذا وهذا، والله أعلم.
يعني حتى فيما يختارونه، فهم الذي ابتدءوا هذا، ما فُرض عليهم بخلاف الطاعة فإنها واجبة ومفروضة عليهم، لكن هذه مبادرة منهم في نصرة اليهود ومع ذلك لم يصدقوا.
ثم قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي: اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله.
وقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ أي: إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ أي: من ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه.
يعني عليه ما حمل من البلاغ، وعليكم ما حملتم من العمل، والتنفيذ والاستجابة، كأنه فيه تهديد لهم ووعيد وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ الحمل الثقيل وستحاسبون على ذلك.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ [سورة الشورى:53].
وقوله: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، كقوله: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40]، وقوله فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [سورة الغاشية:21، 22].
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الرسول هنا يحتمل أن تكون "ال" للجنس يعني جنس الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ويحتمل أن يكون المراد بذلك النبي ﷺ باعتبار أن الآيات تتحدث عن المنافقين، ما على الرسول ﷺ إلا البلاغ المبين، وتكون عهدية، الرسول الذي أرسل إليكم هو محمد -عليه الصلاة والسلام.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة النور:55].
هذا وعد من الله لرسوله ﷺ بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمةَ الناس والولاةَ عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنّهم بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل -تبارك وتعالى- ذلك، وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت رسول الله ﷺ حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية -وهو المقوقس- وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تَملَّك بعد أصْحَمة -رحمه الله وأكرمه.
قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ مِن هذه تحتمل أن تكون بيانية فيكون ذلك شاملاً للجميع، ويحتمل أن تكون تبعيضية، الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والأقرب أنها بيانية، وهذا الخلاف أيضاً هو في قوله -تبارك وتعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [سورة آل عمران:104] هذه بيانية، تقول: أريد منكم طلبة علم نجباء، نريد منكم يعني ليست تبعيضية، ويحتمل أن يكون ذلك للتبعيض يعني نريد منكم يعني بعضكم، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ، اللام هذه يمكن أن تكون للقسم، فهنا قسم محذوف يدل عليه الوعد وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ وجاء التأكيد أيضاً بالنون الثقيلة ليستخلفنهم، ويحتمل غير هذا.
كسره وأهانه، ما قال: قضى على ملكه؛ لأن ذلك تم في عهد عمر ، أراد أن يأتي بعبارة موافقة للاسم كسرى، قال: كسره، وقَصَر قيصر.
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس، وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سَبْتَة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقُتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق، وخراسان، والأهواز، وقَتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدًا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن.
ولهذا ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها[4] فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ونسأل الله الإيمان به، وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
وقال الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا الآية، قال: كان النبي ﷺ وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًا وهم خائفون، لا يؤمرون بالقتال، حتى أُمروا بعدُ بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يُمْسُون في السلاح ويصبحون في السلاح، فغَيّروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من أصحابه قال: يا رسول الله، أبدَ الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا فيه السلاح؟ فقال رسول الله ﷺ: لن تَغْبَروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليست فيهم حديدة[5]، وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمِنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله ، قبض نبيه ﷺ فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا، فأدخل الله عليهم الخوف فاتخذوا الحَجَزَةَ والشُّرَط وغَيّروا، فَغُيَّر بهم.
وقال بعض السلف: خلافة أبي بكر وعمر -ا- حق في كتابه، ثم تلا هذه الآية.
وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الآية، ونحن في خوف شديد.
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ... الآية [سورة الأنفال:26].
وقوله: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما قال تعالى عن موسى ، أنه قال لقومه: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ [سورة الأعراف:129]، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ... الآيتين [سورة القصص:5، 6].
كثير من المفسرين ومنهم ابن جرير -رحمه الله- على أن المقصود بقوله:كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بنو إسرائيل ويحتجون بمثل هذه الآيات وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا [سورة الأعراف:137]، وبقول موسى ﷺ: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ [سورة الأعراف:129] وغير ذلك، والآية ليس فيها ما يدل على التخصيص ببني إسرائيل وإنما كل من مكن الله لهم في الأرض لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ، يعني يجعلهم مستخلَفين فيها.
قوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ الأولى دلت على الاستخلاف جاءهم الخلفاء، والثانية التمكين وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، هذا الدين يكون قد جاوز القنطرة، وهذا ما حصل، وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة:32] "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون" كل هذا دال على التمكين.
ومن أهل العلم من يقول: إن قوله: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يدل على أن هذا الاستخلاف الذي وعدوا به لا يكون لهم فقط، وإنما يكون لهم ولمن بعدهم، فهو ليس باستخلاف طارئ ثم يزول، وإنما هو شيء ثابت راسخ، يحصل لهم التمكين مع هذا الاستخلاف.
ولكن ظاهر الآية يدل على أن الاستخلاف يكون قد وعد الله به من كانوا بهذه الصفة، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ [سورة النمل:62]، ووعدهم بوعد آخر وهو أن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، فلا يمكن لأحد أن يطمس معالمهم وأن يغيرهم، وكل المحاولات التي جرت في التاريخ لتبديل الدين وتغيير الدين جهود كبيرة جداً إما بطمسه بمحاولة إزالته أصلاً من الوجود كما جاءت الحروب والحملات من التتار والصليبيين وغير ذلك، ثم جاء الاستعمار، أو كان هذا بمحاولة دس أو ما ظهر من الفِرق أو المذاهب المنحرفة والجهود التي تبذل اليوم لتغيير معالم الدين، وإفساد حقائقه فكل هذا ينتهي ويبوء بالفشل، وابن القيم -رحمه الله- يقول:
واللهِ لولا اللهُ حافظُ دينِهِ | لتهدمت منه قُوى الأركانِ |
هكذا أراد الجهودَ التي بُذلت، ولكن تتلاشى، وإذا نظرت إلى كثير من عبارات المستعمرين قبل قرن من الزمان وأكثر وعبارات رواد الاستعمار ومن هم طليعة له، أعني المنصرين وما لهم من محاولات من تغطية المرأة بحجاب تضليل الأمة، وما أشبه ذلك، كل هؤلاء ينقشعون ويبقى دين الله ظاهراً.
وقوله: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا روى الإمام أحمد عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا أنا رديف رسول الله ﷺ ليس بيني وبينه إلا آخرة الرَّحْل، قال: "يا معاذ"، قلت: لبيك يا رسول الله وسَعْديك، قال: ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك"، قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال: ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم[6]، أخرجاه في الصحيحين.
وقوله: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي: فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك، فقد فَسَقَ عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبًا عظيما، فالصحابة ، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي ﷺ بأوامر الله ، وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم، وأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيدهم تأييدًا عظيما، وتحكموا في سائر العباد والبلاد، ولما قَصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر، نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين، من غير وجه، عن رسول الله ﷺ أنه قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة[7]، وفي رواية: حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك[8]، وفي رواية: حتى يقاتلوا الدجال[9] وفي رواية: حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون[10]، وكل هذه الروايات صحيحة، ولا تعارض بينها.
يعني قول ابن كثير -رحمه الله- هنا كان نصرهم بحسبهم بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخـْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ هذا بمعنى القاعدة التي ذكرتها في عدد من المناسبات وهي: أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، الوصف: الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والحكم المرتب عليه: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ فالاستخلاف والتمكين هذا الحكم المعلق على وصف هو الإيمان والعمل الصالح، فعلى قدر الإيمان والعمل الصالح يكون الاستخلاف والتمكين، مثل: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [سورة الحج:40] فعلى قدر نصرنا لله -تبارك وتعالى- يكون النصر.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، فهذا الوصف آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ، الحكم المرتب عليه أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ، فعلى قدر ما يتحقق من الوصف على قدر ما ينتج عن ذلك ويحصل من الحكم.
وقوله -تبارك وتعالى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [سورة النور:55] فيه قراءتان متواترتان وَلَيُبَدِّلَنَّهُم (وليبدِلنهم) من غير تشديد، من أهل العلم من يقول: هما بمعنى واحد، وزيادة المبنى لزيادة المعنى، بمعنى (ليبدلن لهم) أن هذا فيه تجذير وتعميق، وفي معنى التبديل وبعضهم يفرق كثعلب، والنحاس يقول: إن بدّله يبدّلنه غير أبدَله، فالله -تبارك وتعالى- يجعل لهم مكان الخوف أمناً هذا بدّل، وأما أبدل فيقولون بمعنى أنه أزال عنهم أسباب الخوف، ولكن الجمهور على خلاف هذا، يقولون: في أصل المعنى واحد.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة النور:56، 57].
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بإقام الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة، وهي: الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين للرسول ﷺ، أي: سالكين وراءه فيما به أمرَهم، وتاركين ما عنه زجرهم، لعل الله يرحمهم بذلك، ولا شك أن من فعل ذلك أن الله سيرحمهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى: أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [سورة التوبة:71].
وقوله: لا تَحْسَبَنَّ أي: لا تظن يا محمد الَّذِينَ كَفَرُوا أي: خالفوك وكذبوك، مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ أي: لا يعجزون الله، بل الله قادر عليهم، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب؛ ولهذا قال: وَمَأْوَاهُمُ أي: في الدار الآخرة النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُأي: بئس المآل مآلُ الكافرين، وبئس القرار وبئس المهاد.
في قوله -تبارك وتعالى: وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، ابن كثير -رحمه الله- يقول: فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، ومن أهل العلم من قال: إن أصل الكفر هنا منقول عن بعض السلف: كفر النعمة، يعني وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم كذا، فمن كفر بهذه النعمة فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ هم الخارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فإن الفسق هو مطلق الخروج وكأن الذي حمل على هذا هو الوصف بالفسق فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
ولا مانع، والله أعلم- في حمل الآية على الكفر المعروف وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لم يؤمن، لم يعمل الصالحات فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ والفسق يصدق على الفسق الأصغر والفسق الأكبر، والخروج عن طاعة الله ، يقال له: فسق أيًّا كان هذا الخروج، وهذا له نظائر في كتاب الله -تبارك وتعالى.
والأصوليون في الكلام على مفهوم الموافقة الأعلى الظني يقولون: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ [سورة الحجرات:6] فإن جاءكم كافر هذا من باب أولى، ولكن ذلك ليس بقطعي؛ لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه هو لا يكذب، يعني يحرم عليه الكذب هل نتثبت أو لا؟ فكون أنه الكفر من باب أولى نتثبت لأن هذا ليس بقطعي، وإن كان يفهم بدلالة الموافقة، وذكرت هناك في درس الأصول أن هذا الذي يتتابع كثير من الأصوليين على التمثل به ولا يكاد يخلو منه كتاب أنه غير دقيق، وأن الفسق جَاءكُمْ فَاسِقٌ يشمل الفسق الأصغر والأكبر، وليس فقط العاصي من المسلمين حتى نقول الكافر من باب أولى فالكافر فاسق، والله يقول: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة:47]، بعدما قال: هم الكافرون، هم الظالمون، فكون ذلك هنا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ يحمل على كفر النعمة باعتبار ذكر الفسق ليس بلازم.
وهنا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ قالوا: إيتاء الزكاة هو الإحسان إلى المخلوقين من ضعفائهم وفقرائهم، يعني هذا لا يبين حقيقة الزكاة لكن كأنها لما كانت معروفة اكتفوا بهذا، وإلا فالإحسان يكون بالصدقة وغير ذلك، وإنما هو القدر الواجب في المال المخرَج منه الأصناف المخصوصة.
قال: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إذا قلنا: إن لعل للتعليل في كل موضع في كتاب الله إلا في موضع واحد، وهو قوله: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129]، أي: كأنكم تخلدون فيكون هنا لعل أي من أجل أن تفلحوا، من أجل أن ترحموا فتكون طاعة الله وطاعة الرسول ﷺ علة للفلاح وعلى تفسيرها أنها للترجي لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي: على رجائكم فإنما يكون الترجي إذا كان ذلك مما يحصل به الرجاء فهو سبب للرحمة.
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ في القراءة الأخرى المتواترة لَا يَحْسَبَنَّ ويكون هذا الفعل حسب له مفعولان كما هو معروف تعدى إلى مفعولين يكون التقدير عند جماعة من أهل العلم، المفعول الأول {أنفسهم}، والثاني مُعْجِزِينَ، وهذا توجيه لا تكلف فيه، وبعضهم يقول غير هذا، وبعضهم يقول: لَا تَحْسَبَنَّ يا محمد، وهنا يقول: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لا يحسبن محمدٌ ﷺ، لا يحسبن المسلمون الذين كفروا معجزين، المفعول الأول الَّذِينَ كَفَرُوا وهذا قد لا يكون الظاهر المتبادر، ومعجزين بمعنى أنهم يفوتون الله -تبارك وتعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ [سورة العنكبوت:4]، وقال: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ [سورة الجاثية:21]، وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء [سورة العنكبوت:22]، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [سورة فاطر:44] بمعنى أنهم لا يفوتون الله ولا يعجزونه أن يأخذهم، ويعاقبهم وينتقم منهم مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
- رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
- رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (29487)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل، برقم (670).
- رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689).
- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، برقم (2889).
- الدر المنثور، للإمام السيوطي (6 / 215).
- رواه البخاري، كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، برقم (5622)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، برقم (30).
- لم أجده بهذا اللفظ، وهو عند مسلم بلفظ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، برقم (1920)، وروى بلفظ آخر في نفس الكتاب والباب: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس، برقم (1037).
- رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، برقم (1920).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (19895)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1584).
- رواه بنحوه البيهقي -رحمه الله- في السنن الكبرى، برقم (19083).