بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُم ْلَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة النور:58-60].
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدَّم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم وأطفالُهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال: الأول من قبل صلاة الغداة؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي: في وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ لأنه وقت النوم، فيُؤمَرُ الخدمُ والأطفال ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يُخشى من أن يكون الرجل على أهله، ونحو ذلك من الأعمال.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: هذه الآيات اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أول السورة، يعني لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [سورة النور:27]، ومضى الكلام على قوله: تَسْتَأْنِسُوا وأن الكثيرين من أهل العلم قالوا: إن معناه تستأذنوا، وتدل على الاستئذان قطعاً، فللأجانب استئذان وكذلك الأقارب، حتى الرجل على أهل بيته على امرأته وأمه ومحارمه، قال عطاء بن يسار لما سئل عن الرجل هل يستأذن الرجل على أمه؟ قال: نعم، فلما أعيد عليه السؤال، قال هل تحب أن تراها عريانة؟ إلى غير ذلك من الآثار المنقولة عنه في هذا المعنى.
واستئذان الأقارب ينتظم صوراً متعددة، استئذان الرجل، هل يستأذن إذا دخل بيته؟ قلت: إن لم يكن فيه أحد سواه لا يستأذن، وإن كان فيه من غير محارمه فإنه يستأذن عند الدخول على المحال التي يكونون فيها، وإن استئذان المحارم حينما يقال: ليستأذن عليهم من الدخول بمعنى أنه يكفي أن يُشعرهم، كما جاء عن ابن مسعود أن يشعرهم بدخوله حتى يتهيئوا لذلك، وأنه يفرق بين دخول الدار بأكملها وبين دخول المكان الذي يختص به منه، يعني دخول غرفته الخاصة فهذا يختلف.
ويقول: هذه اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، قال: فأمر الله تعالى أن يستأذنهم خدمُهم مما ملكت أيمانهم وأطفالُهم الذين لم يبلغوا الحلم، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ يعني الأحرار، والمقصود ببلوغ الحلم هو البلوغ هذا في الاستئذان، ولا يعني هذا أن المرأة تكشف للصبي الغلام ما لم يبلغ، فالآية ليست في كشف المرأة لغير المحارم، إنما هذه الآية كما سبق في قول ابن كثير: هي في المحارم، وهي في أمر الاستئذان هنا، وليست في ما يحل كشفه وما لا يحل.
أما ما يتعلق بالكشف فإن الآية التي تدل عليه هي الآية السابقة، وهي قوله -تبارك وتعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:31]، يعني الأطفال الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء، والظهور يحتمل معنيين: المعنى الأول: الظهور بمعنى الغلبة يعني لا يطيق الجماع والمعاشرة لصغره.
والمعنى الثاني: لَمْ يَظْهَرُوا أي: الذي لا يتفطن لمفاتن النساء وهذا هو الأقرب، وهو الحد الذي عنده تحتجب المرأة من الصبي أو لا تحتجب، وذلك لا يُربط بموضوع البلوغ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء هنا في الاستئذان، ولابد من التفريق بين الآيتين فلا يُشكل هذا، قال في ثلاثة أحوال، الله -تبارك وتعالى- قال: ثَلاثَ مَرَّاتٍ، عُبر بالمرات ما قال بثلاثة أوقات مثلاً قال: ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
يمكن أن يقال: إنه عبر بالمرات باعتبار أن الأوقات غير مقصودة لذاتها، ولكن لِمَا اقترن بها من مرور هؤلاء عليهم فهم من الطوافين الذين يطوفون عليهم، ويدخلون عليهم في كل حين، الخدم هؤلاء من المماليك، والصغار قال: ثَلاثَ مَرَّاتٍ ولم يقل: ثلاثة أوقات، قال هنا: الأول من قبل صلاة الغداة؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرشهم.
ويمكن أن يقال غير هذا، يعني يمكن أن يكون الناس نياماً في فرشهم، ويمكن أن يكون هذا الوقت لتغيير اللباس فلا يدخل عليهم فيفاجئهم بهذا الدخول، ويطلع على ما يكرهون أن يطلع عليه الناس، وهو وقت وحال خاص لابد للداخل فيه من أن يستأذن.
والاستئذان هنا إذا كان هؤلاء من المماليك والخدم والصغار المقصود به أنه يستأذن حينما يكون للغرف أبواب، لا شك أنه يستأذن عندما يدخل الغرفة، وليس المقصود أنه يستأذن إذا أراد أن يدخل البيت معه المفتاح أو الباب مفتوح فهم يدخلون ويخرجون لكن العلة؛ من أجل الستر وعدم الإطلاع على العورات.
قال: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ [سورة النور:58] أي: في وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، وقد يضع ثيابه أيضاً من غير ذلك، المقصود أن الناس يتخففون ويلقون عنهم الكلف في بيوتهم أصلاً، وفيما يخصهم من هذه البيوت من غرف ونحو ذلك.
وإذا كان الإنسان يتطلع كل حين وفي كل لحظة إلى هجوم داخل يتوقع من يَفجؤه فإنه يبقى دائماً متحفزاً ما يبقى مستريحاً، فلو أراد شخص أن ينام في مسجد الاعتكاف مثلاً، وهناك آخرون يدخلون ويخرجون يشاركونه في هذا المكان، ولا يختص به، ولا يحتاج الواحد منهم أن يستأذن لكثرتهم، فلا يكون بقاؤه في هذا المكان ونومه فيه وما يتصل باللباس إلى آخره كما يكون الإنسان في بيته، وكذلك المسجد يختلف عن البيت.
ومن هنا شرع الاستئذان في الدخول على البيوت، فقال: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ لأنه وقت النوم فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله، ونحو ذلك من الأعمال، في أوقات الراحة التي يخلد فيها الإنسان إلى راحته، ويكون في حال لا يحب أن يطلع الآخرون عليها، سواء كان في حال نوم أو يقظة، هذه الأوقات الثلاثة، وذلك هو الغالب في حياة الناس إلى يومنا هذا، يعني من أزمان لا يمكن أن نحصيها في القدم اعتاد الناس على هذا، والله جعل الليل سكنا والنهار هو وقت المعاش، ووقت القيلولة هو وقت الراحة عند الناس، وأما الأوقات الأخرى التي قد يستريح فيها الإنسان أو يخلو مع أهله أو نحو ذلك فهي عارضة، والأمور العارضة لا عبرة بها.
في قوله: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ على هذه القراءة بالرفع ثَلاثُ عَوْرَاتٍ على تقدير مبتدأ محذوف أي هن ثلاث عورات، أو هذه الخصال ثَلاثُ عَوْرَاتٍ ويحتمل أن يكون مبتدأ، وما بعده خبر ثَلاثُ عَوْرَاتٍ، وقال: لأنه يغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم، فالنبي ﷺ سُئل عن الهرة، فقال: (إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات[1]، مع أنها قد تكون أكلت نجاسة وتأكل الفأرة، ومع ذلك يغتفر فيها ذلك، وذكر الفقهاء أن لعابها يطهّر فمها، فلا يمكن التحرز من مثل هذا، وهكذا تكلموا عن الكلّابين، والحمّارين، يعني الذي يلابس الكلاب كثيراً بالصيد مثلاً، أو كلاب الحراسة أنه يغتفر في حقه ما لا يغتفر في حق غيره؛ لأنه لابد أن يحصل له شيء من الملابسة وهو علوق النجاسات، وهكذا الذي يركب الحمار أو نحو هذا قد يحصل له من نجاسته، مما يصعب التحرز منه.
هذه الآية من أهل العلم من قال: إنها منسوخة وهو منقول عن سعيد بن المسيب -رحمه الله، والذي حمله على ذلك ربما ترك العمل بها كما جاء عن ابن عباس أن الناس تركوا العمل بثلاث آيات، يعني تساهلوا فيها، هذا الذي قصده ابن عباس ، وهذا القول بأنها منسوخة فيه نظر؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
ومن أهل العلم من قال: إن ذلك للندب وهو منقول عن سعيد بن جبير -رحمه الله، وهذا لا نعلم له صارفا إذا قلنا بأن أصل الأمر للوجوب إلا لصارف، وهو قول الجمهور.
ولكن يمكن أن يخرج على قول من يقول إن الأصل في الأمر الندب باعتبار أنه القدر المتيقن؛ لأن المأمور به مطلوب للشارع، والأمر به يدل على المشروعية والقدر الذي يتحقق به ذلك: الندب، والوجوب مرتبة أعلى منه فقالوا: نقف على القدر المعلوم، أو القدر المتيقن مع أن الجمهور كما سبق يقولون: إن الأمر للوجوب وهذا هو الراجح والأدلة على هذا كثيرة، فالله لعن إبليس وطرده من رحمته حينما أمره بالسجود فأبى، ألا تسجد إذ أمرتك [سورة الأعراف:12]، وموسى ﷺ حينما قال لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح [سورة الأعراف:142]، وبعد ذلك أفعصيت أمري؟ [سورة طه:93]، وأخذ برأسه وبلحيته، فدل على أن الأمر للوجوب، والآيات التي جاء فيها الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ كثيرة جدا تدل على هذا المعنى.
والجمهور يقولون: إن الآية محكمة، ونقل عن ابن عباس أن ذلك حينما لم يكن للبيوت ستور، بمعنى ليست هناك أبواب ولا ستور فيحتاج أن يستأذن؛ لئلا يقع بصره على شيء يكرهونه، والله حينما وسع على الناس وصار للبيوت ستور إلى آخره.
فعلى هذا القول ليس هناك نسخ؛ لأنه لا يمكن أن تنسخ الآية بعد وفاة النبي ﷺ، وإنما محمل هذا القول أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدما، فيكون الأمر على حاله، ولكن حينما انتفت العلة لم يكن للاستئذان محل، ولهذا قال بعض السلف بأنه حينما صار للبيوت أبواب فالبيوت فيها أهلها إذا خرجوا أغلقوها، فعندئذ تكون العلة منتفية كما هو الحال؛ لأن الإنسان إذا كان في خلوته يمكن أن يغلق الباب، يقفل الباب وحتى لو لم يقفل الباب فإنه يُستأذن عليه في مكانه ومحله الخاص، لكن إذا كان المكان مشتركاً ولا يوجد في البيت نساء فهل يجب الاستئذان في هذه الحالة؟
أما إن كان ذلك المكان يخصه فإنه يستأذن عليه؛ لأنه قد يتخفف من الثياب، والناس تتفاوت عاداتهم من هذا، فبعض الناس عندهم عوائد قبيحة ولا زال معمولاً بها إلى اليوم، وبعض هذه العادات انتقلت من الكفار، فالروس مثلاً إلى اليوم يتجردون من اللباس إذا ناموا، وانتقل ذلك إلى من جاورهم كالجمهوريات الإسلامية بل أقبح من هذا أنه قد ينام اثنان على سرير واحد سرير صغير، ويوجد هذا في بلاد أفريقيا بجنوبها، جنوبُها يعني غير بلاد شمال أفريقيا السوداء، كثير من تلك الأمم وأهل تلك البلاد يفعلون هذا لفقرهم؛ لئلا تَبلى الثياب، فإذا نام الواحد منهم تجرد من ملابسه وجمع ثيابه بجواره، فهنا الاستئذان متعين.
لكن إذا كان المكان مشتركاً كغرفة يسكن فيها مجموعة فهنا يقال ما يقال في الدخول على المحارم بأنه ينبغي أن ُيُشعرهم، قد يكون في هيئة أو بحال لا يحب أن يطلع عليه آخرون، ولو كان هذا الذي يسكن معه يشعر بدخوله ولا يحتاج أن يجاب وأن يقول له: ادخل مثلاً، إذا كان يشاركه في هذا المكان الطلاب، الآن في الجامعة الاثنان يسكنان في غرفة واحدة، ولا يحتاج كلما جاء أن يستأذن يطرق الباب حتى يقول: ادخل، وإنما يشعره بدخوله ثم يدخل، أما الآخرون فلا يدخلون إلا باستئذان.
والكثير من المشاكل تقع بين طلاب الجامعات والشحناء والخصومات بسبب أن بعض الفضوليين يهجم على الناس هكذا، يدفع الباب ويدخل وهذا خطأ وغير صحيح لا يقر عليه، وهذه الآية هنا يقول: محكمة ولم تنسخ بشيء، وقيل: إنها منسوخة، والصحيح أنها محكمة، قال: وكان عمل الناس بها قليلاً جداً، وهذا لربما يحمل عليه ما سبق أو يوجه قول من قال: إنها منسوخة أو أن الأمر للندب، فيكون الصارف في نظره غير معلوم بالتحديد ولكن لم يعمل الناس به فما تركوا ذلك إلا لأمر علموه، يعني علمه الصحابة أو بعضهم وإن خفي على من بعدهم.
وروى أبو داود عن ابن عباس -ا- قال: لم يؤمن بها أكثر الناس -آية الإذن- وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي.
قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء، عن ابن عباس يأمر به.
هذا ثابت عن ابن عباس ومعنى قوله: لم يؤمن بها أكثر الناس يعني أنهم لم يعملوا بمقتضاها، والإيمان قول وعمل، وكما أن الصلاة إيمان، والتصديق إيمان، والإقرار والانقياد فكذلك أيضاً الاستئذان، فهو إيمان، فحينما تركوا العمل بها كان ذلك تركاً لأمر من الإيمان، ولهذا قالت عائشة -ا- لما دخلت عليها امرأةٌ عروس عليها ثياب رقيقة: "لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا"، ليس معنى ذلك أنها كافرة بسورة النور، ولو كفرت بحرف واحد من القرآن لخرجت من الدين، إنما المقصود ترك العمل بمثل هذا، وهو ترك للإيمان باعتبار أن الإيمان قول وعمل.
وقال الثوري، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، قال: لم تنسخ، قلت: فإن الناس لا يعملون بها، فقال: الله المستعان.
يعني تساهلوا.
ثم قال تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
وقوله: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ قال سعيد بن جُبَيْر، ومُقَاتل بن حَيَّان، وقتادة، والضحاك: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد، اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًاأي: لم يبق لهن تَشوُّف إلى التزوج.
نقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن جماعة من السلف في قوله: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ أنهن: اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد، يعني بعضهم يقول: وَالْقَوَاعِدُ يعني اللاتي قعدن عن الحيض، انقطع حيضهن، لكن المرأة قد ينقطع حيضها ولا زالت النفوس تميل إليها وتتعلق بها، وتكون محلا للاستمتاع، والنساء يتفاوتن في انقطاع الحيض، وغالباً ينقطع إذا بلغت الخمسين، وقد تكون في حال لربما كأنها بنت عشرين أو ثلاثين، وأحياناً هذا يعني في صورتها و هيئتها لاسيما إن كانت لم تلد، فالقضية ليست بانقطاع الحيض.
وكذلك أيضاً قال: ويئسن من الولد إذا انقطع الحيض يئست من الولد لكن هل هذا هو المعتبر هذا هو الضابط؟ الله -تبارك وتعالى- قال: اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا هذا هو الضابط، بمعنى أنها لا تتشوف للنكاح ولا رغبة للرجال فيها، الرجال لا يتطلعون فيها، امرأة كبيرة بنت خمسين بلغت الخمسين، وقد انقطع حيضها ويئست من الولد، هذه ليست من القواعد من النساء، وإنما اللاتي لا يرجون نكاحاً، والآن قد تبلغ المرأة الخمسين وهي لم تتزوج بسبب أمور الحياة الجديدة تريد أن تكمل دراستها وتريد أن تتخرج وتريد أن تتوظف و..، و..، و..، إلى أن تصل إلى سبع وعشرين وثمان وعشرين، ويمضي العمر.
المقصود بالثياب التي تضعها جلبابها، فهي تضع العباءة "غير متبرجات بزينة" بمعنى أنها لا تستعمل شيئاً من المكياج أو الحناء أو غير ذلك مما تظهره للناس إذا وضعت العباءة، لا يعني ذلك أن تكشف وجهها، وليس معناها أن تكشف وجهها، وإنما تتخفف فيما يصل للتستر فيرخص لها بترك عباءتها، وأن تبقي عليها ذلك خير لها، وإن لم ترجُ نكاحاً؛ لأن ذلك أستر.
ومن جهة أخرى فإنه قد تَعلق بها نفس أحد، قد يوجد، لذلك تسمع عن بعض النساء تزوجت وعمرها سبعون وثمانون، وأعرف بعض الحالات التي حصل فيها التزوج لربما بعد الثمانين مع العشق الشديد، كان رجل يقع في المجالس بأبيه، رجل جاوز السبعين في المجالس، فقلت له مرة سمعته يتكلم على أبيه بغضب -وأبوه رجل أعمى وكبير: هذا أبوك ولا يجوز أن تتكلم فيه، فكان يذكر أنه حينما تزوج بتلك المرأة العجوز أنها تحولت إلى مراهقة فكانت تلبس لباس خيوط يعري الكتفين، وليس له أكمام، وحينما تأتي إلينا بهذه الطريقة، وبهذا اللباس نحن نتكلم عليها ولا نصبر، ولا نستطيع أن نتحمل هذا، وهي في هذا السن، امرأة عمياء أنا رأيته يأخذ بيدها ويمشون، استأجر غرفتين مقابل بيت ولده وتراه يخرج هو وإياها، ويخرجون إلى بيت ولده، ويرجعون، عشق زواج بعد الثمانين! أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [سورة النور:60] كما يقال: لكل ساقطة لاقطة.
يقول عن ابن عباس وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ قال: فنسخ واستثنى من ذلك وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ لا يعني هذا أنها منسوخة، وإنما يعني خصّص، والسلف كانوا يطلقون النسخ على التخصيص وعلى كل ما يعرض للنص من تقييد إطلاق، تخصيص عموم، بيان إجمال، إضافة إلى المعنى الرابع الذي صار في اصطلاح المتأخرين يقال للنسخ، وهو الرفع رفع الحكم الشرعي، فهنا حينما قال: نسخ واستثنى من ذلك يعني خصّص وهذا موجود في عدد من النصوص المنقولة عنهم كقوله -تبارك وتعالى- مثلاً: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [سورة النساء:95]، وهذا يوجد في بعض عبارات السلف كابن عباس مثلاً يقول: "هذه ناسخة لما قبلها"، لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [سورة النساء:95] بمعنى أنها مخصصة.
يقول: الجلباب أو الرداء، ولم يقل: الخمار، فدل على أنها لا تكشف وجهها.
وقال سعيد بن جبير: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب؛ ليُرى ما عليهن من الزينة.
وقوله: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي: وترك وضعهن لثيابهن -وإن كان جائزًا- خير وأفضل لهن، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة النور:61].
المراد هاهنا أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى؛ لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات، فربما سبقه غيره إلى ذلك، ولا مع الأعرج؛ لأنه لا يتمكن من الجلوس، فيفتات عليه جليسُه، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك، وهذا قول سعيد بن جبير، ومِقْسَم.
قوله -تبارك وتعالى- هنا: لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ الآية، قال: المراد هاهنا أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى؛ لأنه ما يرى الطعام وما فيه من الطيبات، فربما سبقه غيره إلى ذلك، لكن هذا المعنى -وإن قال به بعض السلف- هل يتجه مع ظاهر الخطاب؟
ظاهر الآية قال: لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ولم يقل: ليس عليكم حرج، فالحرج في الظاهر مرفوع عن الأعمى، وظاهر هذا القول أن الحرج مرتفع عنهم هم؛ لأنهم تحرجوا من الأكل مع الأعمى باعتبار أنه لا يرى الطعام فيكون حظ المبصر أوفر من حظ الأعمى من هذا الطعام، وكذلك المريض لا يأكل كما يأكل المبصر، والأعرج قالوا: لأنه لا يستطيع أن يمشي، ويسبق ويزاحم فيُسبق وقد لا يحصل له شيء يذكر من الطعام.
الآن لربما لا نفهم هذا المعنى لكن إلى عهد قريب كان الناس يتسابقون على الطعام بمعنى أنهم إذا سمعوا أحداً من الناس عنده شيء، عنده وليمة أو زواج اجتمع خلق لا يحصيهم إلا الله يتشوفون إلى هذا الطعام، فيجتمع أعداد أضعاف مضاعفة فلربما أن المدعوين يعني ومن وجه إليهم الدعوة ووضع لهم الطعام إن كان الواحد منهم يستحي لا يستطيع أن يسرع، ولا يستطيع أن يزاحم فإن الناس يدفعون الباب ويدخلون ويبقى هذا لا يأكل شيئاً، هذا كان موجوداً يفعله الكثير من أعراب البادية وغيرهم من شدة سبب الفقر، شدة الفقر.
فالحرج الآن في ظاهر هذا القول أنه مرفوع عن الأصحاء الأسوياء مع أن ظاهر الآية أنه رفع عن هؤلاء الزَّمْنى، رفع الحرج عنهم، والحرج هو الإثم، وبناء على ذلك هذا القول لا يخلو من إشكال، لكن يمكن أن يوجه فيما إذا كان الطعام مشتركاً بينهما، بمعنى أن هذا يأتي بطعام، وهذا يأتي بطعام فيأكلان فيكون نصيب هذا أوفر من نصيبه أو يكون هذا يدفع بعض الثمن، وهذا يدفع بعض الثمن، يشتركون في الطعام فيؤتى به بمعنى أن طعامهم إنما كان عن شراكة هذا يدفع مائة وهذا يدفع مائة ويشترون ما يحتاجون من الطعام؛ ليصنعوا طعامهم، فيكون نصيب المبصر والصحيح أوفر من نصيب المريض.
ولهذا صح عن ابن عباس -ا- في سبب النزول إذا صحت رواية في سبب النزول فإن ذلك يتضح فيه المعنى ويزول به الإشكال إن وجد، فابن عباس -ا- صح عنه في هذا المعنى سبب النزول بأن الله -تبارك وتعالى- حينما أنزل: لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [سورة النساء:29] فقالوا: إن أطيب أموالنا الطعام، فصاروا يتحرجون من الأكل مع الأعمى والأعرج إلى آخره؛ لئلا يبخس من حقه شيئاً، فأنزل الله هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ....
لكن كيف يوجه هذا القول إذا كان قِرًى منهم فيكون تفضلًا فلا ظلم لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ يعني لا يأكل بعضكم مال بعض، هذا لا يتوجه لو كان قِرى من الصحيح للأعمى فليس هناك أكل لأموال الباطل، ولو كان قِرى من الأعمى والأعرج للصحيح لم يكن هناك أكل لأنه رخص له الأكل منه، لكن يكون هذا حينما يكون عن شراكة فيمكن أن يوجه القول، هذا القول كيف نوجهه بهذه الطريقة؟
الرواية التي صحت عن ابن عباس هي ما ذكرته آنفاً، وأوضح من هذا هو ما صح عن عائشة -ا- من أنهم كانوا إذا خرجوا للغزو دفعوا مفاتيح البيوت لهؤلاء الزَّمْنى؛ لأن الله قد وضع عنهم الجهاد، وأذن لهم بأن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يقولون: إنهم قد أذنوا من غير طيب نفس، فيتحرجون من الأكل فنزلت الآية وفاقاً للواقع، يعني لو كانوا أصحاء ما خرجوا للجهاد باعتبار أنه ليس بواجب عليهم بعدما قال الله مثلاً: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً [سورة التوبة:122]، أو في السرايا التي لا يؤمر بالنفير العام فيها، فعندئذ لو كان صحيحاً فالحكم هو نفسه أنه ليس عليه حرج أن يأكل من بيت هذا الذي أعطاه المفتاح ورخص له أن يأكل.
وذكر الأعمى والأعرج والمريض؛ لأن هذه الآية نزلت على وفاق الواقع أن هؤلاء هم الذين كانوا يتخلفون عن الجهاد؛ لأن الله قد وضع عنهم ذلك، فيضع الغزاة مفاتيح البيوت عند هؤلاء يتعاهدونها ويرخصون لهم بالأكل منها فكانوا يتحرجون، ولو كانوا أصحاء في البيوت فنفس الحكم، ولكنها نزلت على وفاق الواقع، وما نزل على وفاق الواقع لا مفهوم له.
وإذا صحت أكثر من رواية في سبب النزول فلا تعارض بين هذه الروايات، فتكون الآية نزلت بسبب تحرج بعضهم أن يأكل مع من لا يكافئه لعلة أو زمانة، أو كان ذلك بسبب تحرج من تحرج من الزمنى أن يأكل من بيت أحد الغزاة الذين جعلوهم أمنا على بيوتهم، فتكون الآية نزلت في هؤلاء، وذكر الأعمى والأعرج والمريض على سبيل الخصوص باعتبار أن الملابسة قد وقعت لهؤلاء.
وكثير من أهل العلم استشكل ظاهر الآية لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ، وسبب النزول المروي عن عائشة -ا- من أن ذلك في الغزاة والأمناء الزمنى هذا ظاهر وواضح لا إشكال فيه، والقول المنقول عن ابن عباس في سبب النزول ذكرت توجيهه ومن ثم يتضح المراد.
والقول أنها في الزَّمْنى الأمناء على بيوت الغزاة هذا الذي استحسنه أو رجحه كبير المفسرين ابن جرير، واستحسنه النحاس واعتبره أحسن الأقوال في الآية.
هذا القول للضحاك قد لا يكون وجهه ظاهراً أو واضحاً والمراد به أنهم كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذراً وتقززاً؛ ولئلا يتفضلوا عليهم، الآية قالت: لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ رفع الحرج عن الأعمى ولم يقل: "ليس عليكم حرج"، هذا القول كيف نفهمه والحرج مرفوع عن الزمنى وليس عن الذين يأنفون لما كان هؤلاء يتقذرون أو يأنفون أو يستنكفون من مؤاكلتهم باعتبار أن الأعرج يجلس بجلسة غير مستقيمة، ولربما يحتاج أن يمد رجله، والأعمى يأكل بطريقة لربما لا ترتاح إليها بعض النفوس، فربما طاشت يده هنا وهنا، وربما تناثر الطعام، والمريض لمرضه، فهم يتنزهون عن ذلك، فرفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض وليس عنهم هم، باعتبار أن هؤلاء يحصل لهم انقباض.
يقول ما دام هؤلاء الناس لربما يتقذرون لربما يأنفون إذاً نحن لا نضايقهم، فهذا ليس بأيديكم، ولكم أن تأكلوا مع إخوانكم ولا إشكال في هذا، فهذا توجيه لقول الضحاك، -والله تعالى أعلم.
يعني هؤلاء كانوا يخافون أن يتأذى الآخرون بهم فصاروا يتحرجون فرفع الله الحرج عنهم، وبعضهم ذهب بها إلى مذاهب بعيدة، بعضهم قال: لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ في ترك الغزو من أجل أن يخرج من الإشكال، وترك الغزو لا علاقة له في مخالطة الناس، وهذا بعيد، فالآيات ليست في الغزو والجهاد وإنما في الآداب، ما يتعلق بدخول البيوت والأكل.
وبعضهم يقول: ليس على الأعمى حرج فيما يعجز عنه من التكاليف التي تختص به، ما يسقط عنه بسبب ذهاب البصر والأعرج كذلك لما يعجز عنه في التكاليف التي تختص به، وهكذا بالنسبة للمريض، فكل واحد ليس عليه حرج فيما يتعلق بالتكاليف التي يعجز عنها، وهذا أيضاً بعيد.
لكن ما الذي حملهم على هذه الأقوال؟ هو ما ذكرت لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ فهذا فيه شيء من الإبهام الذي حصل بسبب الإجمال في الآية، لكن نحن إذا وجدنا أسباب نزول صحيحة في الآية اتضح الإشكال، فعندنا روايتان مع كثرة الروايات الواردة في هذا، وأوضح هذه الأقوال هو قضية الغزو وأن هؤلاء الزمْنى أمناء على البيوت ويتحرجون من الأكل من بيوت الغزاة.
وروى عبد الرزاق عن مجاهد في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ الآية قال: "كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه، أو بيت أخته، أو بيت عمته، أو بيت خالته، فكان الزَّمنى يتحرجون من ذلك، يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصةً لهم".
هذا القول لا يصح، قال: عن مجاهد في قوله وهذا يكون من قبيل المرسل، وردت مراسيل كثيرة بهذا، بمعنى يذهب به إلى غير بيته إلى بيت قرابته لربما ذهب إلى بيته، ولم يجد شيئاً فيذهب به إلى بيت أبيه أو بيت....، فيتحرج ذاك ويقول: ليس لنا أن نأكل هؤلاء استضافونا وذهبوا بنا إلى بيت آخر، لكن الرواية لا تصح في هذا.
إذا دخل في بيت أبيه أو بيت أخيه أو نحو ذلك فهذا لا يختص بالأعرج والأعمى والمريض فإذا أعطته امرأته شيئاً فلا فرق بينه وبين الأصحاء.
وقوله تعالى: وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ، إنما ذَكَر هذا -وهو معلوم- ليعطفَ عليه غيره في اللفظ، وليساوي به ما بعده في الحكم، وتضمن هذا بيوت الأبناء؛ لأنه لم ينص عليهم، ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أنَّ مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن، من غير وجه، عن رسول الله ﷺ أنه قال: (أنت ومالك لأبيك[2].
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر هذا الكلام جواباً على سؤال بدهي وهو أن الإنسان يأكل في بيته ولا حرج عليه وأن هذه القضية لا تحتاج إلى بيان هي معلومة لكل أحد وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ فابن كثير -رحمه الله- يقول: إنما ذكر هذا ليعطف عليه غيره في اللفظ وليساوي به ما بعده في الحكم، أنه يساويه في الحكم كما تأكل في بيتك يحل لك هذا ويحل لك الأكل في بيت أبيك وأمك، وصديقك... إلى آخره، هذا تعليل لذكر القضية التي لا تخفى على أحد، "أو بيوتكم"، فإذا لم يأكل في بيته فأين سيأكل؟
فابن كثير يقول: ليعطف عليه غيره في اللفظ وليساوي به ما بعده في الحكم.
وبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يقول: إن قوله مِنْ بُيُوتِكُمْ جاء بصيغة الخطاب، والعرب إذا جمعت بين المخاطب وغيره غلبت المخاطب، قال: مِنْ بُيُوتِكُمْ، تأكلون من بيوتكم، ظاهر كلام ابن جرير -رحمه الله- وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أنه جمع بينهم وبين هؤلاء المذكورين غلب صيغة الخطاب، وقال: مِنْ بُيُوتِكُمْ تأكلوا من بيوتكم، لكن ابن كثير قد يكون كلامه أوضح -والله تعالى أعلم.
وهنا يقول: وتضمن هذا بيوت الأبناء، لأنه لم ينص عليه قال الأبناء ولم يقل: البنات؛ لأن النبي ﷺ قال: (أنت ومالك لأبيك) بالنسبة للولد، لكن البنت إذا كانت متزوجة فمالها لزوجها، فالأبناء هنا قال: مِنْ بُيُوتِكُمْ يقول: هذا يصدق على بيوت الأبناء.
وبعض أهل العلم يقول: إن الله ذكر بيوت الآباء، والآباء في القرب من حيث الدرجة مثل الأبناء هؤلاء أصول وهؤلاء فروع فاكتفى بذكر أحد الطرفين ليدل على الآخر، ولما ذكر الآباء دل ذلك على الأبناء، وابن كثير -رحمه الله- يقول: لا، لم يذكر الأبناء على اعتبار أنهم في حكم أنفسهم (أنت ومالك لأبيك) إذا أكل في بيت ولده فكأنما أكل في بيته هو، بيت نفسه، وهذا مثل ما ذكر الله في المحارم وما سبق من قوله -تبارك وتعالى: أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ [سورة النور:31] ولم يذكر العم والخال فمن أهل العلم من السلف من قال: إن هؤلاء لا تظهر لهم الزينة الباطنة؛ لأنهم يصفونها لأولادهم وهذا غير صحيح.
ومن أهل العلم من يقول: إنه لم يذكر العم والخال باعتبار أنه ذكر ابن الأخ وابن الأخت، فالآن العم والخال هم أخوان، الخال أخ للأم، والعم أخ للأب، وابن الأخ وابن الأخت هذا ابن أخ وهذا ابن أخت بنفس المنزلة لكن هؤلاء من أسفل، وهؤلاء من أعلى، فقال: اكتفى بهؤلاء، ذكر ابن الأخ وابن الأخت فدل ذلك على العم والخال.
باعتبار أنه لا حرج عليه أن يأكل من ماله، ونزّله منزلة مال نفسه فإذا احتاج أنفق عليه، لكن هذا لا إشكال فيه؛ لأنه قال: أَوْ صَدِيقِكُمْ فهل يجب عليه النفقة على الصديق مع أنه يجوز أن يأكل في بيته من طعامه ولو بغير إذنه؟، بغير إذنه يعني المعين، وإن كان يعلم أنه يأذن كما سيأتي.
وأما قوله: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ فقال سعيد بن جُبَير، والسُّدِّي: هو خادم الرجل من عبد وقَهْرَمان، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف.
القهرمان بمنزلة الوكيل، وهي باللغة الفارسية الوكيل الذي يتصرف بأمواله التي يقوم عليها مثل الخازن والأمين.
هذه الرواية التي ذكرت آنفاً سبب النزول.
قال: أي بيوت أصدقائكم، والصديق هنا مفرد مضاف إلى معرفة وهو الضمير كاف الخطاب، وهذا يكون بمعنى العموم صَدِيقِكُمْ يعني أو أصدقائكم، فكلمة صديق هذه بمفردها ولو لم تضف فإنها تصدق على الواحد والجمع؛ لأنها جنس مثل العدو يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [سورة الممتحنة:1]، يعني أعدائي وأعداءكم، فهنا أو بيوت أصدقائكم وأصحابكم فلا جناح عليكم إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك، بمعنى لو أنك دخلت في بيت صاحبك -وخرج لحاجة- فوجدت شيئاً يؤكل فأكلت منه فلا عليك حرج في هذا إلا إذا علمتَ أنه يكره ذلك.
وبعض أهل العلم قال: إلا إذا كان قد أحرزه يعني حفظه في مكان خاص لم يكن موضوعاً في المجلس مثلاً أو في المكان الذي أنت فيه فعندئذ لا تأكل منه، لكن لو أنه علم منه أنه لا يأذن فإنه لا يأكل، كذلك لو أنه علم بخصوص هذا الطعام أنه لا يأذن فيه، وأنه قد أعده لضيف آخر أو أعده للبيع فإنه لا يأكل منه، والمقام أحياناً يدل على هذا، فلو جئت ليلة العيد مثلاً ووجدته قد جاء بكيكة وضعها ودخل لحاجة فجئت أنت وأخذت الكيكة فأكلتها هل هذا في هذا المقام يسوغ للإنسان؛ لأن الله قال: أَوْ صَدِيقِكُمْ تحتج عليه بالآية؟
الجواب لا، فالحال والمقام أحياناً يدل على الحكم وأنه لا يأذن في هذا، ولو جئت في يوم العيد وهو تأخر أو دخل لحاجة أو نحو ذلك أو انشغل عنك بالهاتف فوجدت في مجلسه أشياء مما تؤكل وجلست تأكل فلا إشكال.
فهاتان الروايتان صحيحتان في سبب النزول.
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا يعني أن بعضهم في الجاهلية لربما يتحرج أن يأكل وحده حتى يأتي ضيف يشاركه في هذا، و يرى أن هذا من العيب أن يأكل وحده، أو أن يأكل مع أهله، ولابد من ضيف يشاركه في طعامه فنفى عنهم الحرج لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا كُلوا مجتمعين أو متفرقين.
الذوْد يعني من الإبل، الحفّل يعني باللبن أي أن هذه الذود مليئة باللبن وبعد ذلك هو جائع ويتحرج من أن يأكل أو يشرب وحده حتى يجد من يشاركه.
حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا.
فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده، ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك، كما رواه الإمام أحمد عن وَحْشيّ بن حَرْب، عن أبيه، عن جده؛ أنّ رجلا قال للنبيّ ﷺ: إنا نأكلُ ولا نشبَع. قال: فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يُبَاركْ لكم فيه[3].
ورواه أبو داود وابن ماجه، وقد رَوَى ابن ماجه أيضًا عن سالم، عن أبيه، عن عمر، عن رسول الله ﷺ أنه قال: كلوا جميعًا ولا تَفَرّقُوا؛ فإن البركة مع الجماعة[4].
هذه الأحاديث ثابتة وأسانيدها حسنة، السند الأول العراقي والألباني، وقوله: (كلوا جميعاً ولا تفرقوا) الألباني يقول: إن هذه الجملة ثابتة، وقوله: (فإن البركة مع الجماعة) الحديث ضعيف جداً لكن أوله ثابت[5]، وفي بعض كتبه حكم عليه بأنه حسن بإطلاق، وأكل الناس مجتمعين أو متفرقين لا حرج عليهم فيه، (لعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه) ويتحقق هذا بأن يجتمعوا فكانوا لربما وسعهم البساط، لو جلسوا على بساط واحد لوسعهم لتقاربهم، وتفرُّقُهم من الشيطان، كانوا يتفرقون بالشعاب والأودية، فتفرق الأبدان يؤثر في تفرق النفوس للملازمة للظاهر والباطن.
لكن لو اجتمع الناس على طعام وصار كل واحد يغترف ما يحتاج إليه فيما يخصه من إناء هذا لا يعتبر من تفرق الطعام وإنما اجتماع على الطعام، وليس المقصود بالتفرق أن كل إنسان يأكل من إناء يخصه مع اجتماعهم في مكان، وعلى طعام واحد، وهذا بمنزلة الآنية يصب فيها الماء وشبهه، فكذلك هذا الطعام يأخذ كل إنسان القدر الذي يحتاج إليه وهم يجلسون على طعام واحد يجتمعون فهذا يتحقق فيه ما ذكر (يبارك لكم فيه) لا كما يظنه بعض الناس أن ذلك لابد أن تكون الأيدي جميعاً في صحن أو في إناء واحد ليس ذلك بالضرورة، والله تعالى أعلم.
والذي اشتكى منه الصحابة قال: "إنا نأكل ولا نشبع" كانوا يتفرقون يذهب هذا تحت شجرة، وهذا في شعب وهذا في كذا إذا نزلوا في أسفارهم ونحو ذلك، فعلّمهم فصاروا يجتمعون حتى يسعهم البساط الواحد، ولا يلزم للاجتماع أن تكون الأيدي جميعاً على قصعة واحدة وإناء واحد، لكن لو أن كل واحد منهم أخذ قدراً وهو جالس معهم في نفس المكان مجتمعين على الطعام وجعل يأكل منه فلا إشكال لاسيما مع وفرة الطعام، ينتفع بما بقي، وما ورد من النهي عن أن يقرن الإنسان في الأكل بين تمرتين أو نحو ذلك هذا حيث القلة؛ لئلا يكون نصيبه من الطعام أكثر من غيره، فيأكل بين التمرتين في وقت الجوع والحاجة وقلة الطعام، بعضهم يتعمد هذا ليأكل أكبر قدر من الطعام، لا يأكل تمرة واحدة وإنما يأكل على اثنتين أو ثلاث.
وقوله: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْقال سعيد بن جبير، والحسن البصري، وقتادة، والزهري: فليسلم بعضكم على بعض.
وقال ابن جُرَيْج: حدثنا أبو الزبير: سمعتُ جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلتَ على أهلك، فسَلِّمْ عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة، قال: ما رأيته إلا يوجبه.
قال ابن جريج: وأخبرني زياد، عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخلَ أحدكم بيته فليسلم.
وقال مجاهد: إذا دخلتَ المسجد فقل: السلام على رسول الله، وإذا دخلت على أهلك فسلِّمْ عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك، وحُدّثنا أن الملائكة ترد عليه.
قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا هذه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط للعموم فإذا دخلتم بيوتاً فيصدق هذا على بيوت الله –المساجد- فيسلم الإنسان، وإذا دخل بيته فإنه يسلم على أهله فإن لم يجد أحداً سلم لعموم قوله: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ
وقوله -تبارك وتعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ يعني يسلم بعضكم على بعض سلموا على إخوانكم، سلموا على من فيها فإن النفوس المجتمعة على ملة أو دين أو نحو ذلك تنزل منزلة النفس الواحدة ولهذا قال الله : وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة النساء:29] يعني لا يقتل بعضكم بعضاً ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85]، يعني يقتل بعضكم بعضاً.
فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ يعني سلموا على من فيها، سلموا على إخوانكم، سلموا على أهلكم فإذا دخل المسجد سلم، وإذا دخل على آخرين سلم، وإذا دخل بيته سلم على أهله وإن كان لا يوجد أحد، لو لم يكن في البيت أحد يسلم لعموم قول الله : فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ يسلم، هنا قال مجاهد: إذا دخلتَ المسجد، فقل: السلام على رسول الله، والأصل أن الأذكار الخاصة يوقف فيها على ما ورد، ولدخول المسجد دعاء خاص.
وقوله: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَلما ذكر تعالى ما في السورة الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة، نَبَّه تعالى على أنه يُبَيّن لعباده الآيات بيانًا شافيًا، ليتدبروها ويتعقلوها، لعلهم يعقلون.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النور:62].
وهذا أيضًا أدب أرشد الله عبادَه المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول -صلوات الله وسلامه عليه، من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة، أو اجتماع لمشورة ونحو ذلك، أمرهم الله تعالى ألا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته، وإن من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين.
ثم أمر رسولَه -صلوات الله وسلامه عليه- إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له، إن شاء؛ ولهذا قال: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ... الآية.
وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم، فليست الأولى بأحق من الآخرة[6].
وهكذا رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن.
قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ الأمر الجامع يصدق على الاجتماع للصلاة، وكذلك إذا كان في الغزو، وكذلك إذا كان في أمر مشورة أو نحو ذلك أو أمرَهم بالاجتماع، قال لهم مثلاً: الصلاة جامعة فاجتمعوا فخطبهم، فإذا أراد أحد أن ينصرف يستأذن، فهذا من الأدب وجعله الله من الإيمان إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ.
فهذه الآداب هي من الإيمان لاسيما أن ذلك يكون فيه مخالفة لحال المنافقين -كما سيأتي- الذين كانوا يتسللون لواذاً، ينسل الواحد منهم من المجلس دون أن يشعر به النبي ﷺ، وينسل من مقام الرباط في سبيل الله كما حصل في غزوة الخندق، فالنبي ﷺ يرابط على الخندق وأصحاب النبي ﷺ من المؤمنين الصادقين كان الواحد منهم إذا عرضت له حاجة استأذن النبي ﷺ وانصرف، وأما أهل النفاق فكانوا يتسللون ويرجعون بحجج واهية، فهذا من الآداب التي أدبهم الله بها كما سيأتي.
لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا [سورة النور:63] يدخل فيه -كما سيأتي- رفع الصوت للمخاطبة، هذا مع رسول الله ﷺ، لكن إذا تقرر أنه من الأدب فكذلك ينبغي أن يقال فيما كان من هذا القبيل من مجامع الناس، ناس اجتمعوا ليتشاوروا بأمر فإذا أراد الواحد منهم أن ينصرف، ينبغي أن يستأذن من صاحب الشأن في اجتماع، في مجلس، مؤسسة، شركة، مجلس جامعة، مجلس كلية، مجلس قسم، وليس كلما عرضت له حاجة قام وانصرف فليس هذا من الأدب، الأدب أن يستأذن من أراد أن يخرج إذا كان هذا من الآداب فينبغي أن يتحلى به الإنسان، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.
الناس الآن في الأمور الرسمية ربما تضبطهم بعض الأشياء، فالطالب في قاعة الدرس قد يضطر إلى هذا؛ لئلا يُحسب غائباً، ولكن إن لم يكن ذلك فإنه من الأدب أن يستأذن إذا أراد أن يذهب، وكذلك الناس، مثلاً لو كان في كتيبة في جيش قد لا يستطيع أن يذهب من غير استئذان، يعاقب، لكن لو لم يكن هناك عقاب فإن هذا أدب ينبغي أن يتحلى به، لا يذهب حتى يستأذن وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا [سورة النور:62] إذا كان هذا من الآداب التي ربى الله عليها أصحاب النبي ﷺ في تعاملهم معه فكذلك لا يرفع صوته على أبيه أو على أستاذه أو على من هو أكبر منه يعني الشخص المطاع المقدم، أو رئيس القبيلة أو نحو هذا كل ذلك من الأدب، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة النور:62]، يعني ما مناسبة هذا في استئذانهم وإذن النبي ﷺ لمن شاء؟ من أهل العلم من يقول: لما كان خروجهم هذا قد يكون ملابساً لنوع خلل أو تفريط أو نحو ذلك أمره أن يستغفر لهم لما يفوتهم بهذا الخروج مثلاً، ومن أهل العلم من حمل ذلك على أنه مما أمر به النبي ﷺ؛ لأنه رحمة لهؤلاء، للأمة جميعاً وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:107]، من صور هذه الرحمة أنه يستغفر لهم الله، لمن شاء، والله تعالى أعلم.
- رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، برقم (75)، والنسائي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، برقم (68)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في سؤر الهرة، برقم (92)، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، برقم (367)، وأحمد في المسند، برقم (22528)، وقال محققوه: حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2437).
- رواه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب مال الرجل من مال ولده، برقم (2291)، وأحمد في المسند، برقم (6902)، وقال محققوه: "حسن لغيره، ونصْر بن باب، وحجاج -وهو ابن أرطاة، وإنا كانا ضعيفين، قد توبعا"، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (2395).
- رواه ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الاجتماع على الطعام، برقم (3286)، وقال الألباني: حسن لغيره، برقم (664).
- رواه ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الاجتماع على الطعام، برقم (3287)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4500).
- في السلسلة الصحيحة، (6/ 429)، رقم الحديث (2691).
- رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في السلام إذا قام من المجلس، برقم (5208)، والترمذي، كتاب الاستئذان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في التسليم عند القيام وعند القعود، برقم (2706)، وأحمد في المسند، برقم (9664)، وقال محققوه: إسناده قوي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (183).