بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند تفسير قوله تعالى:
لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة النور:63].
قال الضحاك، عن ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك، إعظامًا لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه- قال: فقالوا: يا رسول الله، يا نبي الله، وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير.
وقال قتادة: أمر الله أن يُهاب نبيه ﷺ، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يُسوَّد.
وقال مقاتل في قوله: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا يقول: لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه: يا محمد، ولا تقولوا: يا ابن عبد الله، ولكن شَرّفوه فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله.
والقول الثاني في ذلك: أن المعنى في: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًاأي: لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا، حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العَوفي، والله أعلم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا "دعاء" مصدر وهو مضاف إلى الرسول ﷺ، ويحتمل أن يكون ذلك من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، ويحتمل أن يكون من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول.
والمعنى على كل تقدير هكذا لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ المعنى الأول الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- يصير هكذا "لا تجعلوا دعاءكم الرسول" الرسول على هذا المعنى مفعول به، هو المدعو، دعاءكم الرسول لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ حينما تدعونه لا ينبغي أن يكون ذلك كدعاء بعضكم لبعض، فلا يقال: يا محمد، يا ابن عبد الله، يا أبا القاسم، عظِّمه وقل: يا رسول الله ﷺ.
ويدخل في هذا المعنى ما ذكره بعض أهل العلم من أن المراد لا تجعلوا دعاء الرسول يعني حينما تدعونه كدعاء بعضكم لبعض في رفع الصوت وعدم التأدب معه، كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [سورة الحجرات:2] يعني خشية أن تحبط، كراهة أن تحبط أعمالكم وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [سورة الحجرات:2، 3].
فعلى هذا المعنى هو من قبيل الإضافة إلى المفعول، ويكون المقصود التأدب معه ﷺ بألا يسمَّى باسمه إذا دعاه أحد، وإنما يقول: يا رسول الله، وأن لا يجهر له بالقول.
وقوله: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ يعني إذا كنت تتحدث معه فلا ينبغي أن يكون صوتك أعلى من صوته، وإن لم تكن تتحدث معه ليس هناك حوار مع النبي ﷺ لا يتكلم لكن أنت تناديه إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [سورة الحجرات:4] يجهر له بالقول يا محمد اخرج لنا، لا يليق هذا، ولو دخل إنسان على مديره في المكتب أو مدير مؤسسة أو مدير مدرسة أو نحو ذلك ومن خارج المكتب يناديه يا فلان! طالب ينادي المدير من خارج المكتب يا فلان فهذا ليس من الأدب في شيء أبداً، وإذا تكلم معه أو تكلم مع أستاذه أو تكلم مع أبيه وصوته أعلى من صوت أستاذه أو أبيه هذا ليس من الأدب في شيء.
فعلى هذا المعنى أنه من قبيل إضافة المصدر -المصدر دعاء- إلى المفعول يكون المعنى هكذا لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ حينما تدعونه فيكون الرسول مدعوا -عليه الصلاة والسلام- فتأدبوا معه في الخطاب فلا ينادَى باسمه وكنيته كما ينادي بعضكم بعضاً، يا زيد، يا أبا فلان، ولا ترفع الصوت فتجهر له بالقول، ولا ترفع صوتك فوق صوته وأنت تتحدث معه إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتـَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى المتأدب في الخطاب والذي يخفض صوته مع من خاطبه، وهذا أمر معلوم لا يخفى.
والمعنى الثاني: أن يكون من قبيل الإضافة إلى الفاعل، إضافة المصدر إلى الفاعل،لا تجعلوا دعاء الرسول، إذا دعاكم الرسول فيكون في هذا الاعتبار فاعلاً، لا تجعلوا دعاء الرسول إذا دعاكم كدعاء بعضكم بعضاً، فإذا دعاك سواء إلى طاعة أو بر أو معروف أو عمل صالح أو نحو ذلك هذا ليس كما لو دعاك غيره، فتجيب، فلو دعاك يا فلان، هذا يقال له دعاء ناداك فإنه يجب عليك أن تجيبه ولا تؤخر ذلك ولا تتساهل؛ ولهذا عبر بعضهم بهذه العبارة قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا أي: لا تتساهلوا في إجابته، فيكون هذا داخلاً في المعنى الثاني أنه من قبيل الإضافة إلى الفاعل، إذا دعاك: ناداك أو دعاك إلى بر أو معروف أو طاعة فعليك أن تبادر وتجيب.
ولهذا معلوم أن النبي ﷺ إذا دعا أحداً ناداه يا فلان أنه يجب عليه أن يجيبه ولو كان في الصلاة، والنبي ﷺ أنكر على من لم يجب، لمّا دعا رجلاً ولم يجبه واعتذر أنه يصلي فاحتج عليه النبي ﷺ وقال: ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24][1]، مع أن أصل الآية إذا دعاكم إلى الإيمان، ولكن عموم اللفظ، إذاً دعاء مطلق حتى لو قال: يا زيد، فهذا كله داخل في هذا المعنى الثاني من قبيل الإضافة للفاعل.
ويدخل فيه أيضاً قول من قال: إن المراد بـ لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ إذا دعا على أحدكم فإن دعاءه يستجاب، فيكون هنا الدعاءُ دعاءَ الرسول، يعني على أحد من الناس، والقول مع ما فيه من بعد فيما يبدو -والله تعالى أعلم- إلا أنه اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، هذا القول الأخير أن المقصود الدعاء عليه، لا تتساهلوا، قال: والقرينة -احتج بما قبله- على صحة هذا القول عنده أن الله -تبارك وتعالى- قال قبله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [سورة النور:62]، فهو يقول: المعنى "لا تتعرضوا لدعائه عليكم فيستجاب له فيكم"، لا تتعرضوا لذلك بمخالفة أمره من سوء الأدب معه والخروج من غير استئذان وانصراف، ينصرف من غير أن يستأذن وهم معه على أمر جامع فيدعو على أحدكم فيهلك.
لكن هذا القول فيه بعد ويوجد في الآية قرينة تدل على ضعفه: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا القرينة "بعضكم بعضاً"، لو كان المقصود هذا المعنى الذي ذكره ابن جرير -رحمه الله- لقال: كدعاء بعضكم على بعض، لكن حينما يقول: كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا فمعناه كنداء بعضكم بعضاً، أو كما يطلب وينادي ويدعو أحدكم صاحبه فهذا هو الأقرب.
والمعنى الأخير هذا إذا استبعدناه، يعني الدعاء عليه أي لا تتعرضوا بسوء صنيعكم إلى دعائه على أحدكم فيهلك، فيكون المعنى الأول هو الأقرب لظاهر القرآن، وأن المراد لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا فتأدبوا معه بترك الجهر له بالقول، هذا يدل عليه القرآن، آيات الحجرات، لا تنادوه باسمه كما فعل الأعراب، يا محمد! اخرج إلينا، فكل هذا خلاف الأدب، فابن كثير رجح الأول الذي أذكره، وهنا لم يصرح بذلك، وهذا قصور في الاختصار يفترض إذا صرح ابن كثير بترجيح قول أن يصرح به هنا ولا يذكر القولين ويسكت.
وابن كثير -رحمه الله- قال على القول الأول: وهذا هو الأرجح.
المعنى الثاني: إذا استبعدنا منه الدعاء على أحدهم أنه قال: كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا يبقى بعض المعاني التي قيلت فيه مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24] فإذا دعا أحدَكم فلا تجعلوا دعاءه ونداءه كما إذا دعا آحادُ الناس غيرَه، فقد يستجاب له وقد لا يستجاب، سواء دعاكم لأمور تتصل بالإيمان أو دعاكم لأمر آخر كأن يقول مثلاً: يا فلان أقبل، يا فلان اجلس، يا فلان انصرف، يدعوه يا فلان.
ويمكن أن يقال: إن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل، وتارة يضاف إلى المفعول فتكون هذه الآية محتملة لهذه المعاني جميعاً، وهي معانٍ صحيحة إلا ما دلت القرينة على ضعفه، ويقال: هذه الآية فيها تعليم للأدب مع رسول الله ﷺ إذا خاطبه أحد من الناس أن يتأدب في هذا الخطاب فلا يناديه باسمه ولا بكنيته، وإنما يُعظم ويُجل وإذا حادثه فلا يرفع صوته فوق صوته، وإذا ناداه فلا يجهر له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض.
وكذلك أيضاً إذا دعاه النبي ﷺ دعا أحداً من الناس فينبغي أن يبادر، والنبي ﷺ انتقل إلى ربه فيبقى ما يتصل بذلك اليوم هو أن يتأدب الإنسان مع حديث رسول الله ﷺ والشرع الذي جاء به مع سنته، فإذا ذكر له الحديث أن النبي ﷺ أمر بكذا لا يعترض ولا يرد ذلك متأولاً برأيه، وإنما يبادر إلى القبول والاستجابة، أعودعلى التي في الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة الحجرات:1]، لا تقدم بين يديه باقتراح ولا برأي أو غير ذلك فهذا أدب معه ﷺ بعد وفاته، وإذا ذكرناه نذكره ﷺ بوصف الرسالة ونصلي عليه -عليه الصلاة والسلام.
وقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا قال مقاتل بن حَيَّان: هم المنافقون، كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة -ويعني بالحديث الخطبة- فيلوذون ببعض الصحابة أصحاب محمد ﷺ حتى يخرجوا من المسجد، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبيّ ﷺ في يوم الجمعة، بعدما يأخذ في الخطبة، وكان إذا أراد أحدهم الخروجَ أشارَ بإصبعه إلى النبي ﷺ، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل؛ لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي ﷺ يخطب، بطلتْ جُمعته.
قال السُّدِّي: كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض، حتى يتغيبوا عنه، فلا يراهم.
قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا هذا يؤيد بعض ما قيل في تفسير قوله -تبارك وتعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا وذلك في أن إجابته ﷺ متعينة على أهل الإيمان، فإذا دعاهم إلى شيء وجب عليهم أن يمتثلوا وأن يطيعوا وأن يذعنوا، كل ذلك يتعلق بالأدب معه -عليه الصلاة والسلام.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ هنا "قد" دخلت على الفعل المضارع، وبعض أهل اللغة يقول: إنها إذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق، قد قدم زيد، وإذا دخلت على الفعل المضارع يقولون: تفيد التقليل، يقولون: قد يفلح الكسول، وقد يجود البخيل، وقد يخفق المجتهد، هذا للتقليل، ولكن هذا ليس على إطلاقه، وليس محل اتفاق بين أهل اللغة، والمعلوم المتيقن كما هي القاعدة أن (قد) إذا دخلت على الفعل المضارع المتعلق بفعل من أفعال الله فإنها للتحقيق، قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64]، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، يعني قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا قد علم ذلك، وليست للتقليل.
وعلْم الله محيط لا يفوته شيء، والنصوص الدالة على هذا كثيرة كما قال الله -تبارك وتعالى: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة هود:5]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر:19]، والآيات في ذلك معلومة فعلمه -تبارك وتعالى- محيط بكل الأمور الدقيق منها والجليل.
فقوله -تبارك وتعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا التسلل هو الخروج بخفية، فإذا كان في المجلس وخرج دون أن يراه أحد يسمى تسللاً، خرج متسللاً يعني بخفاء، و لازالت هذه اللفظة مستعملة إلى اليوم بنفس المعنى، وقد تستعمل -إذا دلت القرينة أو السياق- في الدخول بخفية، لكن هنا لما كانت القضية بالخروج قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ قيل: هو الخروج بخفية، لكن إذا دخل بخفية، دخل البلد أو دخل بلداً أو نحو ذلك فإن ذلك يقال له: تسلل.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا اللواذ بمعنى أنه يلوذ بعضهم ببعض، ولهذا يمكن أن يكون من جهة الإعراب حالاً، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا أي: يتسللون متلاوذين، أي يلوذ بعضهم ببعض في حال كونهم متلاوذين، الإنسان لا يراه، والنبي ﷺ على المنبر، مثلاً ينظر هناك أحد داخل أو واقف أو نحو ذلك أو قريب من الباب هو ينسل يزحف قليلاً قليلاً، فإذا اقترب من الباب ورأى من يدخل فإنه ينصرف من وراء هؤلاء الناس دون أن يراه النبي ﷺ، ويمكن أن يكون منصوباً على المصدرية بفعل محذوف قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا أي: يلوذون لواذًا.
وقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي: عن أمر رسول الله ﷺ، سبيله هو ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مَرْدُود على قائله وفاعله، كائنا ما كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن رسول الله ﷺ أنه قال: من عمل عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ[2].
أي: فليحذر وليخْشَ من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: في الدنيا، بقتل، أو حَدٍّ، أو حبس، أو نحو ذلك.
كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللاتي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبْنه ويتقحَّمن فيها، قال: فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجزِكم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها[3]، أخرجاه.
قوله -تبارك وتعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبـَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، الذي قبل: لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
من اللطائف التي تذكر لهذا وهي من الأمثلة النادرة أو القليلة جداً المقبولة في التفسير الإشاري وعامة ما يذكر فيه لا يصح، بل بعضه كفر وزندقة، لكن توجد بعض الأمثلة اللطيفة من باب الشيء بالشيء يذكر، أو من باب الاعتبار: فإذا كان التسلل والخروج من مجلسه ﷺ من غير إذنه أمراً مذموماً شرعاً فالخروج عن سنته وشريعته من باب أولى، فإذا نهى الله عن الخروج والتسلل من مجلسه فكذا الخروج من هديه وسنته وطلب الهدى من غيره، نظريات غربية، وحكم أفلاطون، وأرسطو وأمثال هؤلاء من الفلاسفة فضلاً عن المخالفات الصريحة لأمره -عليه الصلاة والسلام.
لهذا قال بعده: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ولم يقل: يخالفون أمرَه مع أنه يتعدى بنفسه، وإنما قال: عن أمره، فبعض أئمة اللغة كالخليل بن أحمد وسيبويه يقولون: إن عن هنا بمعنى بعد، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي بعد أمره، يعني بعدما أمر تقع منهم المخالفة، فهذا أمر مذموم متوعَّد صاحبه بالعقوبة.
وبعضهم يقول -كما سبق في مناسبات عدة: إن الفعل قد ضُمن معنى فعل آخر تصح تعديته بعن، وتكلمت عن مسألة التضمين وأن هذا أبلغ من القول بأن الحرف استعمل بمعنى حرف آخر؛ لأن هذا ليس فيه زيادة في المعنى لكن إذا قيل إن الفعل قد ضُمن معنى فعل آخر فهذا فيه تكثير للمعاني، مثل: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [سورة الإنسان:6] العين يشرب بها أم يشرب منها؟ الكأس يشرب به، ولكن العين يشرب منها، فبعضهم يقول: إن الباء هنا بمعنى مِن، وانتهى، ما فيه زيادة معنى، لكن حينما نقول: الفعل يشرب مضمن معنى فعل آخر وهو يرتوي أو يلتذ فإن يرتوي يتعدى بالباء يرتوي بها أو يلتذ بها فصار عندنا المعنى زائداً، صار عندنا هذه اللفظة القصيرة يشرب بها تدل على الشرب والارتواء والالتذاذ؛ لأن الإنسان قد يشرب ولا يرتوي، وقد يشرب ولا يلتذ، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا أي: يلتذ مع إثبات الشرب -الفعل الأصلي، أو يرتوي بها.
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ يمكن أن نقول: إن فعل المخالفة "يخالفون" مضمن معنى الصد أو الإعراض يعرضون عن أمره أو يصدون عن أمره، فالفعل صد يمكن أن يتعدى بعن، والفعل أعرض يعدى بعن أعرض عن كذا، فيكون في جوف هذا الفعل الذي هو يخالفون معنى فعل آخر تصح تعديته بعن، وتكون هنا المخالفة "فليحذر الذين يخالفون" مضمنة معنى الإعراض، يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ يخالفون يصدون عن أمره -عليه الصلاة والسلام.
وهنا أيضاً "أن تصيبهم فتنة" قال: أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يعني في الدنيا أو في الآخرة، والفتنة في الأصل تطلق على الاختبار وعلى نتيجة الاختبار سواء كانت حسنة أو سيئة.
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [سورة البروج:10]، يعني هنا بمعنى أحرقوهم بالنار، ولهذا يقال في عرض المعادن في النار من أجل تخليصها من الشوائب ونحو ذلك: إنه فتنٌ لها، ولهذا كانت الفتنة فيها تمحيص، الابتلاء والاختبار، وتطلق على نتيجته أيضاً؛ ولهذا قيل للكفر إنه فتنة، كما أن صد الناس عن الدين يقال له: فتنة سواء كان ذلك بطريق مباشر أو كان بطريق غير مباشر، كما قال الله معلماً لأهل الإيمان أن يقولوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الممتحنة:5].
فهنا يمكن أن يكون مصدراً بمعنى الفاعل، ويمكن أن يكون بمعنى المفعول، لا تجعلنا فاتنين للذين كفروا بأن تسلطهم علينا فيُفتنوا ويقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما كانوا ضعفاء مستذلين تحت قهرنا وتصرفنا وسيطرتنا، أو لا تجعلنا فاتنين لهم بسوء فعلنا فنفتن الناس عن دين الله ، ويكون بمعنى المفعول أيضاً رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً يعني مفتونين، أن تسلطهم علينا فيقهرونا ويفتنونا عن ديننا.
أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ، الفتنة قال: كفر أو بدعة إلى آخره، بمعنى أن الله قد يطمس على قلوبهم فلا يحصل لهم استجابة، ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [سورة الأنفال:24، 25]، فهنا إذا حيل بين القلب والإيمان فهذه فتنة.
وهذا الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله: أن تصيبهم بدعة أو كفر أو نحو ذلك جزاء وفاقا، ولهذا في كثير من المواضع في القرآن تجد أن الله يعلل أحيانا عدم الهداية والتوفيق لبعض الأقوام يقول: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] يعني لما كفروا أول مرة كان ذلك سببا للطبع على القلوب، ولذلك يقال: إن من ترك وأعرض عما هو بصدده وما هو نافع له مما دعاه الله إليه أو رسوله ﷺ من الإيمان والعمل الصالح فتحت له أبوابه ثم أعرض عنه فإنه يبتلى بالاشتغال بغيره.
ولهذا قال الله عن اليهود: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّن َالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:101]، كانت النتيجة وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102] تركوا ما جاء به الوحي وما جاء به موسى ، وما جاء به محمد العمل بالتوراة وكانت النتيجة هي اتباع أسوأ الأشياء وأقبحها وأرذلها وهو السحر، تركوا الوحي وأقبلوا على السحر.
وهكذا من أعرض عن علوم الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح الكلام الذي عليه نور يُبتلى بقراءة الروايات، والأمور التي تعلّم الجريمة، أو يقرأ في كتب الشُّبه، أو يقرأ في فلسفات فيها الغث والسمين والحق والباطل ولا يميز من ذلك شيئاً، فيبتلى بهذا، ولهذا تجد في بعض من حصل له مثل ذلك إعراضاً بعد أن اشتغل بالعلوم الشرعية ثم صار يشتغل بكلام هؤلاء الفلاسفة القدماء والمعاصرين من الغربيين أصبح يشتغل بقراءة كتبهم، ورسائله التي يرسلها للآخرين كلها قال فلان، وقال فلان من حكماء الغرب.
وكان طالب علم أرسلت لأحدهم رسالة لما أرسل لي مثل هذا قلت له: هذا الذي ناقصنا تقول لي: قال فلان وقال فلان، فرد وقال: الحكمة ضالة المؤمن، كلام يرسله موجود في كلام الله وكلام رسوله هذا في الصواب الذي يقولونه، لذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إنه ما من صواب عند غير المسلمين إلا وهو موجود في الكتاب والسنة بصورة أوفي وأكمل، ولكن مشكلة من لا يعلم ومن لا يعرف هذه الأشياء، يكون كما قيل:
أتاني هواها قبلَ أن أعرفَ الهوى | فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّنا |
وقع على هذه الأشياء واستحسنها، وأما من عرف العلوم الشرعية ثم انصرف إلى هذه الأمور واشتغل بها فهذا داخل في هذا المعنى أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ -نسأل الله العافية.
والمشكلة أن القضية: فلان الذي تعرفه باشتغاله وطلبه للعلم ومحاورته ومناقشاته وما إلى ذلك ما عاد هو فلان الذي تعرفه، النظارة تغيرت، أصبح يلبس نظارة سوداء مثلاً، هو يرى الأشياء على غير ما تراها أنت أصلاً، فحينما تناقش تناقش إنساناً بعيداً تحتاج أن ترجع معه إلى أصول ومبادئ تتفق معه عليها ثم بعد ذلك تنطلق إلى التفاصيل، وهم بين مقل في هذا ومكثر، فإذا أبعد تماماً صار أسود مثل اللبراليين، وإذا كان بين وبين صار رمادياً مثل السمّاعين لهم، تشاهدون هذا، وتجد هؤلاء ينتصرون بهؤلاء، وهؤلاء ينتصرون بهؤلاء، وهؤلاء يزينون عمل هؤلاء، وهؤلاء يزينون عمل هؤلاء، فهؤلاء مِن هؤلاء المنافقين العكاز الذي يتوكئون عليه، هو كلام هؤلاء الرماديين هم الذين يبررون لهم، هم الذين يعطونهم المستندات والحجج والفتاوى الرخوة، تشاهدون هذا وهي فتنة عارمة هذه الأيام.
ولذلك تجد أولائك الذين لا يعرفون أصلاً دين الله يحتجون بأحاديث، يحتج بأشياء أحياناً تستغرب كيف وقف عليها، ويحتج بقضايا يعرفها أهل العلم في قضايا تتعلق باختلاف الفتوى أو مسائل من هذا القبيل يوردها في كلامه وفي مقالته وفي عموده وهو أغبر أسود منافق مَرَد على النفاق، عرف هذه الأشياء من السماعين لهم، من الرماديين الذين يسميهم أعداء الإسلام بالمعتدلين، وهم يقصدون هؤلاء تارة ويقصدون المنافقين الخلص تارة، هذا مشاهد، والله المستعان.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة النور:64].
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنه عالم غيب السموات والأرض، وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم، فقال: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ و"قد" للتحقيق، كما قال قبلها: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا، وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ الآية [سورة الأحزاب:18].
وقال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا الآية [سورة المجادلة:1].
وقال: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [سورة الأنعام:33]، وقال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144].
فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بـ"قد"، كما يقول المؤذن تحقيقًا وثبوتًا: "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" فقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي: هو عالم به، مشاهد له، لا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ... إلى قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة الشعراء:217-220].
وقال: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة يونس:61].
وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الرعد:33] أي: هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر، وقال تعالى: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة هود:5].
وقال تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ الآية [سورة الرعد:10]، وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمـُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة هود:6]، وقال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام:59]، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.
وقوله: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ أي: ويوم تَرْجِعُ الخلائق إلى الله -وهو يوم القيامة- فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أي: يخبرهم بما فعلوا في الدنيا، مِنْ جليل وحقير، وصغير وكبير، كما قال تعالى: يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [سورة القيامة:13].
وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49]، ولهذا قال هاهنا: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ والحمد لله رب العالمين، ونسأله التمام.
آخر تفسير سورة النور ولله الحمد والمنة.
قوله: فَيُنَبِّئُهُمْ قال: أي يخبرهم بما فعلوا هو النبأ كما سبق في بعض المناسبات أنه ليس بمعنى الخبر من كل وجه، وإنما هو خبر خاص، فالنبأ هو الخبر الذي له شأن، وليس كل خبر يكون نبأ، وإنما الخبر الذي له شأن يقال له: نبأ، يقول: جاءنا نبأ الحرب، جاءنا نبأ الزلزال، ولا تقول: جاءنا نبأ حمار الحجام؛ لأن هذا لا شأن له.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، برقم (4204)، وبرقم (4426)، باب تفسير سورة الحجر.
- رواه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718).
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، برقم (6118)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب شفقته ﷺ على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، برقم (2284).