الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[37] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 144 إلى قوله تعالى: { فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} الآية 149.
تاريخ النشر: ١٥ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 2642
مرات الإستماع: 2046

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ۝ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ۝ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [سورة النساء:144-147].

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] أي: يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، ولهذا قال هاهنا: أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:144] أي: حجة عليكم في عقوبته إياكم.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قوله: سُلْطَانًا مُّبِينًا كل سلطان في القرآن حجة، وهذا إسناد صحيح، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبي، ومحمد بن كعب القُرَظي والضحاك والسدي والنضر بن عَرَبي.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، أما بعد:

فهذه الأمور التي ذكرها الحافظ بن كثير -رحمه الله- في الموالاة من المناصحة والمصادقة والمصاحبة وإسرار المودة هي بعض أنواع المولاة، ولكن ذلك لا يختص بها ولا يقتصر عليها، بل تكون المولاة أحيانًا بالقلب ولو لم يصدر قول ولا عمل، فتارة يميل إليهم بقلبه ويحبهم ويقدمهم على المسلمين مثلًا، أو يتمنى ظهورهم ونصرهم وعلوهم وما إلى ذلك من الأمور، وتارة تكون الموالاة بالقول إلا ألا تكون على وجه المصانعة كما في قوله -تبارك وتعالى: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [سورة آل عمران:28] يعني إذا احتاج إلى المداراة فلا بأس.

وأحيانًا تكون الموالاة بالفعل كالذي يعينهم على المسلمين وما أشبه ذلك من صور الموالاة، وهذه الصورة الأخيرة هي من أقبح الصور.

ومفهوم المخالفة في قوله تعالى: مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ لا يحتج به في هذا الموضع، فهذا أحد المواضع التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، وقد ذكرنا مرارًا أن مفهوم المخالفة حجة عند الجمهور، وقلنا: إن الكلام ينقسم إلى: منطوق ومفهوم، والمنطوق: هو ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق، والمسكوت: هو ما دلَّ عليه لا في محل النطق بل من جهة السكوت، وهو ينقسم إلى: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، وكلاهما حجة أي: يُحتج بهما في الأحكام، ومعنى مفهوم المخالفة أن يكون حكم المسكوت عنه مخالفًا لحكم المنطوق به.

ومن الأمثلة البسيطة على مفهوم المخالفة أنك إذا قلت لإنسان: أعط هذه الصدقة للفقراء فكأنك قلت له: لا تعطها للأغنياء مع أنك لم تتلفظ بذلك، لكنه عُرف من جهة مفهوم المخالفة وهو المعنى المسكوت عنه.

ومع أن مفهوم المخالفة حجة إلا أنه غير معتبر هنا؛ لأن مفهوم المخالفة حجة إلا في حالات مستثناة ومنها:

أن يكون اللفظ المنطوق به روعي فيه الحال الغالبة في الوقوع بمعنى أنه خرج مخرج الغالب، أي: أن الحكم جيء به مراعىً فيه حال كثيرة الوقوع، أو نزل في واقعة معينة ومنها هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:144]. 

فلو قال قائل: أنا أريد أن أتخذ الكافرين أولياء مع المؤمنين فإن ذلك لا يجوز بحال لا من دون المؤمنين ولا مع المؤمنين، لكن هذا الآية جاءت بهذا السياق لأنها نزلت على واقع معين، حيث إن مجموعة من الناس اتخذوا بعض الكافرين أولياء من دون المؤمنين فجاء النهي عن ذلك، وإلا فالموالاة منهي عنها بإطلاق، كما قال الله : وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة النــور:33] فهذه الآية نزلت؛ لأن عبد الله بن أبي كان يكره جاريتين عنده على الزنا بأجرة وكنَّ يأبين ذلك فأنزل الله هذه الآية، فلو أن الجواري كنَّ يردن الزنا فلا يعني ذلك أنه يجوز له أن يمكنهن من ذلك، لذلك فقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا نزلت تحكي واقعًا معينًا، فهو أحد المواضع التي لا يحتج بمفهوم المخالفة فيه كما قال في المراقي:

كذا دليل للخطاب انضافا ودع إذا الساكت عنه خافا
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهلِ والتأكيد عند السامع

وهذا الموضع من سورة النساء هو من وفاق الواقع أي أن هذا الخطاب جاء وفق واقعٍ معين، لذلك لا يجوز لأحد أن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ولا مع المؤمنين.

يقول تعالى: أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:144] قال ابن كثير: "أي: حجة عليكم في عقوبته إياكم" وذكر الأثر عن ابن عباس أنه قال: "كل سلطان في القرآن حجة" وهذا هو الذي يقال له الكليات في القرآن، أعني الأشياء المبدوءة بـ"كل" يقال: كل كذا في القرآن فهو كذا، وهذه قضايا تحتاج إلى استقراء، يعني لو حتى صح عن الواحد من السلف مثل هذا فلا يعني أنه مسلَّم في كل المواضع، لأنك لو نظرت وتتبعت لفظة سلطان في القرآن ونظرت إلى أقوال السلف فيها تجدهم يختلفون في بعضها. 

فمثلًا قوله تعالى: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33] فما معنى السلطان في الآية؟ كثير من أهل العلم يقولون: السلطان هنا هو القصاص، والقرينة المرجحة لهذا المعنى موجودة في الآية وهي قوله: فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33] لكن الأقرب من هذا أن يقال: إن المراد بالسلطان أنه مخيَّرٌ بإحدى ثلاث: إما القصاص، أو الدية أو العفو مجانًا، فإن اختار القصاص فقد أرشده الله بقوله: فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33].

وإذا أردنا أن نفسر الآية تفسيرًا يجمع ذلك كله فيمكن أن نقول: إن الله جعل لولي الدم تسلطًا على القاتل بأن جعل له إليه سبيلًا وحجة إن شاء أن يقتص وإن شاء أن يأخذ الدية وإن شاء أن يعفوَ مجانًا، بهذه الطريقة يمكن الجمع بين الأقوال وإن كان هذا لا يقول به كل أهل العلم، وعلى كل حال فقول ابن عباس –ا: كل سلطان في القرآن حجة يحتاج إلى استقراء ونظر في كل المواضع مع ما قال أهل العلم ي ذلك، والله أعلم.

ثم أخبر تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145] أي: يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ.

قال الوالبي عن ابن عباس -ا: فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145] أي: في أسفل النار، وقال غيره: النار دركات كما أن الجنة درجات.

وروى ابن جرير عن عبد الله يعني ابن مسعود إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145] قال: في توابيت من نار تطبق عليهم، أي: مغلقة مقفلة لا يُهتدى لمكان فتحها.

النار دركات والمنافقون في السفلى منها -أعاذنا الله وإياكم من النار- وهذا لا ينافي ما ذكر الله عن أصحاب المائدة عندما قال: فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:115] ولا ينافي قوله تعالى عن فرعون: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] فالدرك الأسفل من النار يكون فيه أهل النفاق، ولا يمنع ذلك أن يوجد فيه أيضًا غيرهم، فالآية ليس فيها حصر للمنافقين بدخولهم الدرك الأسفل من النار فقد يوجد غيرهم معهم. 

ثم إن أشد العذاب قد يكون في الدرك الأسفل من النار ويعذب بعذاب هو غاية في الإيلام والإهانة ولكن ذلك يكون لغيره أيضًا؛ لأن أفعل التفضيل كما ذكرنا بمناسبات سابقة تمنع أن يزيد أحد طرفين أو الأطراف على الآخر ولكنها لا تمنع التساوي، كما ذكرنا ذلك عند قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114]. 

فالمقصود أن أفعل التفضيل تدل على أن اثنان اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر فيها فتقول: زيد أعلم من عمرو، فهذان اشتركا في صفة العلم وزاد زيد في ذلك عن عمرو، والدرك الأسفل من النار لا يمنع أن يوجد فيه غير المنافقين كفرعون وقومه؛ لأنه يمكن أن يشترك معهم في هذه المرتبة آخرون.

ويستفاد من قوله تعالى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:115] أنه يمكن أن يكون لهم صنوف من العذاب لا توجد لغيرهم؛ لأن عذاب النار متنوع، فلا تعارض بين هذه الآيات إطلاقًا.

روى ابن أبي حاتم: أن ابن مسعود سئل عن المنافقين، فقال: يجعلون في توابيت من نار، تطبق عليهم في أسفل درك من النار.

وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [سورة النساء:145] أي: ينقذهم مما هم فيه، ويخرجهم من أليم العذاب.

مثل هذا الذي جاء عن ابن مسعود لا يقال جاء من جهة الرأي فهو إن لم يكن قد عرف من جهة بني إسرائيل فإنه يكون له حكم الرفع إن صحَّ سنده، وابن مسعود ما عُرف بالأخذ عن بني إسرائيل خلافًا لابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص -ا- فالله تعالى أعلم.

ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا تاب عليه وقَبِلَ ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله واعتصم بربه في جميع أمره فقال تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ [سورة النساء:146] أي: بَدَّلوا الرياء بالإخلاص، فينفعهم العمل الصالح وإن قلَّ.

قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ أي: تابوا من النفاق وأصلحوا أنفسهم وأصلحوا ما أفسدوه بنفاقهم هذا؛ لأن من كان له فساد متعدٍ لا تكفي توبته بالندم والإقلاع بل لابد من إصلاح ما أفسد.

يقول تعالى: وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ الاعتصام أصل معناه التمسك، تقول: أعتصم بالشيء يعني تمسك به وتعلق به، واعتصموا بالله يعني تمسكوا بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه وما أشبه ذلك من العبارات، وقد ذكر هذا المعنى كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:146] أي: في زمرتهم يوم القيامة وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:146].

ثم قال تعالى مخبرًا عن غناه عما سواه وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم فقال تعالى: مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ [سورة النساء:147] أي: أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [سورة النساء:147] أي: من شكر شكر له ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء.

لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ۝ إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [سورة النساء:148، 149].

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس –ا- في الآية لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلومًا فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله: إِلاَّ مَن ظُلِمَ [سورة النساء:148] وإن صبر فهو خير له.

وقال الحسن البصري: لا يدعو عليه وليقل: اللهم أعني عليه واستخرج حقي منه، وفي رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه.

قوله تعالى: لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [سورة النساء:148] فسر بالدعاء عليه لكن يشكل على هذا المعنى أن الدعاء قد لا يكون من الجهر بالسوء وذلك أنه قد يدعو عليه فيما بينه وبين الله -تبارك وتعالى- ولا يكون جاهرًا بذلك، ولذلك فسره بعض أهل العلم -ولعله تفسيرُ قريب- بأن يتكلم المظلوم فيقول: فلان ظلمني كما قال النبي ﷺ: لي الواجد يحل عرضه وعقوبته[1] طيعًا إلا أن يكون والدًا فليس له ذلك؛ لقول النبي ﷺ: أنت ومالك لأبيك[2] والله تعالى أعلم.

ومعنى يُحل عرضه أي بأن يقول: فلان مطلني، ويؤيد ذلك أن النبي ﷺ أرشد الرجل الذي كان يؤذيه جاره بأن يُخرج متاعه إلى الشارع فكان كلما مرَّ به أحد قال له: جاري ظلمني وأساء في جواري فكان الناس يدعون عليه، فجاءه جاره وطلب منه أن يرجع إلى بيته.

فالمقصود أن مثل هذا الأمر يجوز في حق الإنسان المظلوم لكن ليس له أن يتوسع في عرضه بل يتكلم بقدر مظلمته فقط، وليس معنى ذلك أنه يتكلم عليه ويقول مثلًا: وإنه ليتخلف عن صلاة الفجر، وله مواقف ريب فقد رأيته في السوق يفعل كذا، وأحيانًا يدخل عليه نساء، ونحو ذلك فهذا لا يجوز أن يتكلم به عليه؛ لأن هذه الأمور ليست لها علاقة بالظلم الواقع به، فليتكلم بالقدر الذي حصل فيه الظلم؛ لأن الأعراض محرمة فالأصل فيها التحريم كما قال النبي ﷺ: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام[3].

يقول الحسن -رحمه الله: "لا يدعو عليه وليقل: اللهم أعني عليه واستخرج حقي منه" يعني يكتفي بهذا مخافة أن يظلمه في الدعاء، لكن لا بأس أن يدعو عليه بقدر المظلمة، ومن أسلم ذلك أن يقول: اللهم جازه بما يستحق أو وجازه على عمله هذا، أو نحو ذلك؛ لأن الإنسان -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قد يدعو على ظالمه فيكون ظالمًا بهذا الدعاء وذلك بأن يدعو عليه بأكثر من المظلمة، وذلك أن بعضهم إذا سُرق عليه جوال -مثلًا- وجدته يدعو على السارق بتيتيم أطفاله وترميل نسائه وأن يأخذ سمعه وبصره وأن يشل أركانه ويجعله يتمنى الموت ولا يجده، ودعا الله أن يُجمِّد الدم في عروقه وأن يلعنه لعنًا يدخل معه إلى قبره!! فهذا لا يجوز لأنه ظلم واعتداء في الدعاء، وإنما يقول: اللهم خذ حقي منه أو اللهم جازه بما يستحق على ظلمه لي أو نحو ذلك.

وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفترِ عليه؛ لقوله: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ [سورة الشورى:41].

وروى أبو داود عن أبي هريرة؛ أن رسول الله ﷺ قال: المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم[4].

والخلاصة أن من أهل العلم من يقول: هو الدعاء، ومنهم من يقول: أن يذكره بهذا الظلم عند الناس، وحمله ابن جرير -رحمه الله- على الدعاء وعلى أن يذكره به عند الناس، وبهذا يكون قد جمع بين المعنيين، وهذا جيد، لكن إذا دعا عليه فلا يزيد على قدر المظلمة وإذا تكلم عند الناس فلا يتكلم إلا بما وقع له من ظلم دون التعرض لما فيه من المعايب التي لا صلة لها بالظلم الواقع عليه كما سبق، والله أعلم.

وقوله: إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [سورة النساء:149] أي: إن تظهروا -أيها الناس- خيرًا أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم ولهذا قال: فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [سورة النساء:149] ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك، وفي الحديث الصحيح: ما نقص مال من صدقة ولا زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا ومن تواضع لله رفعه الله[5].
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية - باب في الحبس في الدين وغيره (3630) (ج 3 / ص 349) والنسائي في كتاب البيوع – باب مطل الغني (4689) (ج 7 / ص 316) وابن ماجه في كتاب الصدقات - باب الحبس في الدين والملازمة (2427) (ج 2 / ص 811) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2919).
  2. أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات - باب ما للرجل من مال ولده (2291) (ج 2 / ص 769) وصححه الألباني في الإرواء برقم (838).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب الخطبة أيام منى (1652) (ج 2 / ص 619) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).
  4. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب- باب النهي عن السباب (2587) (ج 4 / ص 2000).
  5. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب استحباب العفو والتواضع (2588) (ج 4 / ص 2001).

مواد ذات صلة