الثلاثاء 28 / شوّال / 1445 - 07 / مايو 2024
[38] من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ} الآية 150 إلى قوله تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} الآية 159.
تاريخ النشر: ١٦ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 2848
مرات الإستماع: 2054

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ۝ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:150-152].

توعد -تبارك وتعالى- الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى حيث فَرّقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية.

فاليهود -عليهم لعائن الله- آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمدًا -عليهما الصلاة والسلام- والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد ﷺ والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال: إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له: زرادشت ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم، والله أعلم.

والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء؛ فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض فمن ردَّ نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًّا إنما هو عن غرض وهوى وعصبية، ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ [سورة النساء:150] فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ [سورة النساء:150] أي في الإيمان وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [سورة النساء:150] أي: طريقًا ومسلكًا.

ثم أخبر تعالى عنهم فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [سورة النساء:151] أي: كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيًّا، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلًا وأقوى برهانًا منه أو نظروا حق النظر في نبوته.

وقوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء:151] أي: كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله ﷺ حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ [سورة البقرة:61] في الدنيا والآخرة.

وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ [سورة النساء:152] يعني بذلك أمة محمد ﷺ فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ الآية [سورة البقرة:285].

ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل فقال: أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [سورة النساء:152] على ما آمنوا بالله ورسله وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا أي: لذنوبهم، أي إن كان لبعضهم ذنوب.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الكلام الذي ذكره الحافظ –رحمه الله- لا يحتاج إلى كثير تعليق فهو واضح وليس فيه ما يشكل، إلا أن قوله: إن الفرس بعث إليهم نبي يقال له زرادشت فهذا لم يثبت ولذلك لا نثبت نبوته.

ومن المعروف في تاريخ الفرس أن من مذاهبهم في بعض مراحل دولتهم الفارسية مذهبًا معروفًا يذكر في الملل والنِّحل والفِرَق والأهواء يقال له: زرادشتيه، فالله تعالى أعلم.

وما يذكرونه في بوذا أيضًا لا يثبت؛ لأننا لا نثبت إلا ما ثبت من طريق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في الكتاب والسنة وما عدا ذلك فإننا نتوقف فيه، فالله تعالى أعلم.

وفي قوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء:151] ذكر الحافظ ابن كثير –رحمه الله- نوعي الكفر، كفر الإعراض وكفر الجحود، فالكفر لا يقتصر على الجحود فحسب بل الكفر أنواع منه ما يكون كفر جحود ومنه ما يكون كفر إعراض، ومنه ما يكون كفر شك، وما أشبه ذلك، فالذين يربطون الكفر دائمًا أو يفسرونه بالجحود فقط هؤلاء أخطئوا، وقد جاء في خبر عرض النبي ﷺ نفسه على قبائل العرب لما قال له الرجل الذي ينتسب إلى بني عبد ياليل، فقال له: إن كنت نبيًا فأنت أعظم من أن أكلمك وإن لم تكن نبيًا فأنت أدنى من أن أرد عليك، ثم ذهب وتركه، فهذا يسمى كفر إعراض وليس كفر جحود؛ لأنه قد بلغته دعوة النبي ﷺ فأعرض عن ذلك -ولم يؤمن- بهذه الدعوى الساقطة التي ذكرها.

وقوله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء:151] هذا جاء تعقيبًا على ما وصف الله من المفرقين بين الله ورسله من اليهود والنصارى، وهذا كثير في القرآن، فالله يذكر بعض الذنوب والجرائم أو بعض الأعمال الطيبة ثم يأتي بالحكم عامًا ليشمل هؤلاء وغيرهم.

والشيخ/ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في كتابه القواعد الحسان ذكر لهذا نظائر وأمثلة كثيرة مفيدة، وذلك أن الذين أعد الله لهم العذاب المهين ليسوا هؤلاء فقط الذين يفرقون بين الله ورسله ويكفرون بالله ورسله ويريدون أن يتخذوا سبيلًا يسلكونه في هذا، فلما كان العذاب المهين لكل الكافرين جاء بالحكم عاما فقال: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء:151] ولم يقل: وأعتدنا لهم عذابًا مهينًا؛ لئلا يُفهم أن العذاب مختص بهؤلاء، وكذلك عند الكلام على المؤمنين قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ثم أتى بحكم عام فقال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:146] ونحو هذا موجود في كتاب الله تعالى.

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ۝ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا [سورة النساء:153، 154].

قال محمد بن كعب القرظي والسدي وقتادة: سأل اليهود رسولَ الله ﷺ أن ينزل عليهم كتابًا من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة.

قال ابن جُرَيج: سألوه أن ينزل عليهم صحفًا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به، وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد كما سأل كفارُ قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة "سبحان": وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا الآيات [سورة الإسراء:90] ولهذا قال تعالى: فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [سورة النساء:153] أي: بطغيانهم وبغيهم وعتوهم وعنادهم، وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:55، 56].

قوله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء اليهود: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء [سورة النساء:153] ذكر فيه المعنيين، الأول: أن ينزل عليهم كتابًا جملة كالتوراة؛ لأن القرآن نزل على غير المعهود في نزول الكتب التي قبله وذلك أنه نزل منجمًا، وهذا أقرب المعنيين في تفسير الآية.

والمعنى الثاني: أن يؤتى لكل واحد منهم كتاب، وهذا المعنى وإن كانت تحتمله الآية إلا أن الأقرب -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول.

وقوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ [سورة النساء:153] أي أنهم طلبوا رؤية الله كما قال سبحانه: فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً [سورة النساء:153] حيث طمعوا في ذلك لما ذهبوا مع موسى -عليه الصلاة والسلام- إلى الطور وسمعوا موسى يناجي ربه فأرادوا رؤية الله فأخذتهم الصاعقة.

والصاعقة سبق في سورة البقرة أن بعض أهل العلم يفسرها بأنها نار محرقة مع صوت مزعج، وهي معروفة إذ إنها تكون مع الصوت الذي يعرف بالرعد ويكون معها إحراق، ويفسرها أهل العصر الحديث أو أهل العلوم الحديثة بأنها شحنة كهربائية قوية جدًا بسببها يحصل الإحراق، وهذا لا ينافي ما ذُكر، إذ ليس معنى الصاعقة أن نارًا تنزل من السماء فيراها الناس وإنما يرون ما يحصل من آثارها من تفحم مَن أصابته أو موته أو نحو ذلك بحسب ما يصيبه منها، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [سورة النساء:153] أي: من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليمّ فما جاوزوه إلا يسيرًا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف:138] الآيتين.

ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة الأعراف وفي سورة طه بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله ثم لما رجع وكان ما كان جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه أن يقتُلَ من لم يعبد العجل منهم من عبده، فجعل يقتل بعضهم بعضًا ثم أحياهم الله وقال الله تعالى: فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:153].

ثم قال تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [سورة النساء:154] وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى ورفع الله على رءوسهم جبلًا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا وجعلوا ينظرون إلى فوق رءوسهم خشية أن يسقط عليهم كما قال تعالى: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ الآية [سورة الأعراف:171].

وقوله تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [سورة النساء:154] يمكن أن يفسر –والله أعلم- بما أعطوا الله من الميثاق والعهد، أي لنعملنّ بالتوراة ثم حصل منهم الإباء فرفع الله فوقهم الطور.

وصفة السجود التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بأنهم جعلوا ينظرون إلى الطور خشية أن يقع وهم سجّدٌ هي الصفة التي تذكر عند قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:63] كما أشرنا إلى ذلك في تفسير سورة البقرة، حيث يقال: إن سجود بني إسرائيل على أحد طرفي الوجه ورفع الطرف الآخر كان هو السجود الذي حصل تحت الطور ثم صار سنة لهم بعدُ، والله أعلم.

وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا [سورة النساء:154] أي: فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدًا وهم يقولون: حطة أي: اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة.

أمرهم الله بقوله: ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا [سورة النساء:154] أي في حال الركوع، يعني ادخلوا راكعين، فهم أمروا بقول وأمروا بفعل يدل على الإخبات والشكر لله بنعمة الدخول والنصر، فالفعل بأن يدخلوا في هيئة معينة وهي هيئة الركوع، يعني أن يدخل الواحد منهم وهو راكع، وقلنا: "راكعين" مع أن الآية تقول: ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا [سورة النساء:154]؛ لأن السجود يطلق ويقصد به الهيئة المعروفة ويقصد به الركوع لكن لما كان الساجد على الأرض لا يستطيع المشي كان المقصود به هنا الركوع، والله تعالى أعلم.

وعلى كل حال فإنهم أمروا بقول وفعل يدل على الإخبات والشكر لله تعالى على نعمة النصر، فالفعل بأن يدخلوا راكعين، والقول أن يقولوا: حطة، يعني مسألتنا وأمرنا وحاجتنا أن تحط عنا خطايانا، وهي كقوله تعالى: قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [سورة الأعراف:164] يعني الذين نصحوا معذرة قالوا: إن نصحنا لهم معذرة، وهنا قولوا حطة أي مسألتنا أن تحط عنا خطايانا.

لكنهم حرفوا الفعل فدخلوا على أستاههم -عكس الهيئة التي أمروا بها- وحرفوا القول الذي أمروا به فقالوا: حبة في شعرة، أو حنطة في شعرة، بدلًا من قول حطة، والله أعلم.

وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ [سورة النساء:154] أي: وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرّم الله عليهم، ما دام مشروعًا لهم وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا [سورة النساء:154] أي: شديدًا فخالفوا وعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [سورة الأعراف:163] الآيات.

معلوم أنهم كان يحرم عليهم العمل في يوم السبت فوقع منهم الاحتيال في العمل على صيد الأسماك بوضع الشباك في يوم الجمعة وأخذها في يوم الأحد، والله المستعان.

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا ۝ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:155-159].

وهذه من الذنوب التي ارتكبوها مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أُخذت عليهم وكفرهم بآيات الله أي حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على أيدي الأنبياء -عليهم السلام.

في قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ الآية [سورة النساء:155] أين جواب هذا الكلام؟

من أهل العلم من يقول: إن الباء في قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم متعلقة بمحذوف أي: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم، يعني فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [سورة النساء:156] -إلى آخر ما ذكر الله من مخازيهم- لعناهم، يعني بسبب هذه الأفعال وقع عليهم لعن الله -تبارك وتعالى.

وبعضهم يقول: إنه متعلق بما قبله، أي أنه تفسير لما سبق في الآية السابقة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [سورة النساء:153].. وما هذا الظلم؟ فسره بما بعده وهو اتخاذ العجل وكذلك ما حصل منهم من الاعتداء في السبت، ونقض الميثاق وكفرهم بآيات الله وما أشبه ذلك، فهذا تفسير لهذا الظلم، وهذا تحتمله الآية احتمالًا ليس بالقوي.

ولكن ذكره بعض أئمة اللغة كالكسائي، مع أن كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- رد هذا القول واستبعده نظرًا لما ورد في ثنايا هذه الآيات؛ لأن الله  ذكر فيها قتلهم الأنبياء وذكر بهتانهم لمريم وقولهم على عيسى -عليه الصلاة والسلام- ما ينزه عنه، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله إلى آخر ما ذكر، وهذه الأمور وقعت بعد الصاعقة؛ لأن الصاعقة كانت في زمن موسى ﷺ، ورميهم لمريم بالبهتان وقولهم عن عيسى ﷺ ما قالوا كان هذا بعده بمدة طويلة، فليس هو سبب أخذ الصاعقة، ومن يقول بهذا القول لا يخفى عليه مثل هذا الإيراد، ولكنهم يقولون ذكر الله أن الصاعقة أخذتهم بظلمهم وذكر الاعتداء في السبت ونقض الميثاق وما أشبه ذلك مما وقع في زمن موسى ﷺ ثم ذكر الباقي على سبيل الاستطراد في ذكر صفاتهم السيئة، وهذا احتمال تحتمله الآية، والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: إن الجزاء أنه حرم عليهم طيبات أحلت لهم هكذا فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء [سورة النساء:155] إلى آخر ما ذكر ثم قال: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء:160] يعني بسبب ما وقع منهم من نقض الميثاق -إلى آخر ما ذكر- حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبعضهم يقول: فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم، وبعضهم يقول: فبما نقضهم ميثاقهم -إلى آخر ما ذكر- لا يؤمنون إلا قليلًا حيث ختم الآية بقوله: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا [سورة النساء:155] فيقولون: إن الفاء مقحمة في قوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا وإن المراد أن هذا هو الجزاء الذي رتبه على هذا أفعالهم السيئة التي ذكرها.

وعلى كل حال فالعرب تحذف مثل هذا في الكلام وثوقًا بفهم المخاطب، أي أن الله عاقبهم بما عاقبهم به من ألوان العقوبات من لعن وختم على قلوبهم وما أشبه ذلك بسبب هذه الجرائم العظام، فيذهب ذهن السامع في مثل هذا إلى عقوبة الله التي ذكرها في ثنايا هذه الآيات وفي غيرها وكل ذلك عدلٌ منه فالله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة