بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [سورة النبأ:17]، إن يوم القيامة الذي يفصل الله فيه بين الخلق، يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ويفصل بين الظالم والمظلوم، ويجازي كل واحد على عمله.
كَانَ مِيقَاتًا مؤقتاً بوقت حدده الله لا يتقدم ولا يتأخر، ذلك الوقت هو نهاية الدنيا، وابتداء الآخرة، يبتدئ ذلك بالنفخ في الصور حيث يموت من على الأرض من الأحياء إلا من شاء الله -تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك ينفخ النفخة الثانية فيقومون أحياء، وذلك قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [سورة النبأ:18]، يُنفخ في القرن، ينفخ فيه الملك فيقومون من قبورهم، ويأتون جماعات تلو جماعات، كل جماعة يتقدمهم نبيهم.
وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا [سورة النبأ:19] تتغير أحوال هذا العالم العلوي والسفلي، فتتشقق السماء وتتصدع وتنفطر فتبدو للناظر تلك الصدوع والشقوق على أنها أبواب.
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [سورة النبأ:20] تدك الجبال حتى تصير كالعهن المنفوش، ثم بعد ذلك ينسفها الله -تبارك وتعالى- فتصير هباءً، فتكون خبراً بعد عين، لا أثر لها، وإنما تصير كالسراب الذي لا حقيقة له.
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [سورة النبأ:21]، جهنم: اسم من أسماء النار، إما لسوادها وظلمتها، أو لغير ذلك، كَانَتْ مِرْصَادًا تترقب من يلقى فيها، قد هُيئت وأعدت للكافرين، فهي موجودة، خلقها الله -تبارك وتعالى- تنتظر هؤلاء الكفار وتترقب مجيئهم، كما أن الله -تبارك وتعالى- جعل طريق الناس عليها في الجسر الذي يضرب على النار، فتترقب هؤلاء الذين يمرون، فمِن ناجٍ ومِن هاوٍ ومُكَرْدَس، كما أن هؤلاء الملائكة الغلاظ الشداد الذين جعلهم الله خزنة للنار يرصدونها، ويرصدون من فيها من هؤلاء الكافرين.
لِلْطَّاغِينَ مَآبًا [سورة النبأ:22]، هي مرجع ومصير لهؤلاء الذين جاوزوا الحد، وتعدوا على حقوق الله وطاعته، وصاروا محادين له.
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [سورة النبأ:23] يبقون فيها الدهور الطويلة المتتابعة التي لا انقضاء لها.
لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا [سورة النبأ:24] لا يجدون ما يخفف عنهم حرها مما يبرد الأجسام في ظاهرها من الهواء ونحوه، ولا يجدون أيضاً شراباً يبرد بواطنهم، إنما يجدون الحميم والغساق، فالحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [سورة الحـج:20] يصب على ظواهرهم، ويشربونه ويتجرعونه فيصهر أجوافهم، كما يعذبون بالنوع الآخر من العذاب المتناهي في برده، المتناهي في نتنه، مما لا تستسيغه النفوس بحال من الأحوال مما يسيل من عصارة أهل النار.
جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26] هذا كله ليس بظلم من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء، إنما هو جزاء يوافق ما جنوا، وما قارفوا، وما كانوا عليه في دنياهم من العمل.
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا [سورة النبأ:27] كانوا لا يخافون الحساب، ولا يرتقبون الجزاء، ولا ينتظرون ثواب الله -تبارك وتعالى- لأهل طاعته، فهم على أسوأ الأحوال في أعمالهم وأحوالهم.
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا [سورة النبأ:28]، كذبوا بآيات الله -تبارك وتعالى- المتلوة والمشاهدة، مما أظهره الله على أيدي الرسل -عليهم الصلاة والسلام، الذين جاءوا لدعوتهم بالمعجزات الباهرة، والبراهين الساطعة، فكذبوا بذلك جميعاً، وكذبوا بالقرآن، وبكتب الله ، كما كذبوا أيضاً بما ظهر على أيدي الرسل مصدقاً لهم ولدعواهم النبوة من البراهين الساطعة التي لا تدع في الحق لبساً.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [سورة النبأ:29]، كل شيء قد أثبته الله وكتبه في اللوح المحفوظ، ويدخل في ذلك أعمال العباد، كما أن الله جعل عليهم الحفظة الكاتبين، الذين يكتبون الدقيق والجليل، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18].
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً [سورة النبأ:31- 36].
يقول تعالى مخبراً عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم فقال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا [سورة النبأ:31] قال ابن عباس والضحاك: متنزها، وقال مجاهد وقتادة: فازوا فنجوا من النار، والأظهر هاهنا قولُ ابن عباس؛ لأنه قال بعده: حَدَائِقَ، والحدائق البساتين من النخيل وغيرها.
قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا هذا على عادة القرآن في الجمع بين ما يوجب الخوف والرجاء، فإذا ذكر العذاب وحال أهل النار ذكر معه الجزاء لأهل الطاعة والإيمان، ذكر ما يرغب بطاعته، فيكون العبد في حال بين الخوف والرجاء، وهما كالجناحين للطائر، لا يطير إلا بهما، فقال هنا: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا، قال ابن عباس والضحاك: متنزهاً، والمفاز ليس معناه في اللغة المتنزه، ولكن معناه الحقيقي أنه مصدر، فاز مفازاً وفوزاً بمعنى الفوز، مفازاً بمعنى الفوز، والفوز في حقيقته هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب، تقول: فلان فاز، الفائز هو فلان، كالفلاح فإن الفلاح هو تحصيل المطلوب والنجاة من المرهوب، تقول: المفلحون، فلان مفلح، أفلح فلان، بمعنى حصّل مطلوبه، ونجا مما يخاف ويحاذر.
فالمفاز: هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب، كما يقول أبو جعفر بن جرير -رحمه الله، وهذا معناه في الأصل، ويمكن أن يكون كما يقول بعضهم: مكاناً للفوز، وهو الجنة التي ذكر الله صفة بعض النعيم الذي يكون فيها، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا [سورة النبأ:32]، فالحدائق التي ذكرها الله والأعناب تفسير لهذا المفاز، ولهذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما- والضحاك: متنزهاً، وهذا تفسير بالمعنى، ولم يفسر على اللفظ، والتفسير يأتي على المعنى، ويأتي على اللفظ، ولا إشكال في هذا، وابن عباس -رضي الله عنهما- والضحاك هم أهل لغة، ويفهمون معنى المفاز والفوز، ولكنه يطوي لك المعنى الظاهر ليوصلك إلى المعنى المراد مباشرة.
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا، فالحدائق والأعناب هذا هو المتنزه، تكون بهجة للنفوس، تطرب لرؤيتها والنظر فيها، فتنفسح النفس، وينشرح الصدر، كما هو معلوم، فالناس إذا أرادوا الترويح فإنهم يذهبون للمتنزهات، الأماكن التي يكون فيها من الجمال والخضرة، والمياه السارحة وما إلى ذلك، فهذه أشياء تجلب النفوس كما هو معلوم، والناس إذا تسامعوا بها قصدوها من أقاصي الدنيا، مع أنها لا تساوي شيئاً بالنسبة لما أعد الله لأهل النعيم، فقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب[1]، وقال ﷺ: إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المُضمَّر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها[2]، فالجنة شيء لا يُقادَر في عظمته وسعته وبهجته.
فقوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً، الحدائق بدل من المفاز، أي بدل اشتمال باعتبار أن هذا المفاز مشتمل على أشياء منها الحدائق والأعناب، ويمكن أن يكون بدل كل من كل على سبيل المبالغة، وإلا فلا شك أن الجنة ليست فقط حدائق وأعناباً وإنما فيها أشياء أخرى من الأنهار والقصور والحور والولدان، وما لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى، فإذا قلنا: إن ذلك من قبيل بدل الكل من الكل فيكون ذلك على سبيل المبالغة، يعني بجعل نفس هذه الأشياء مفازاً.
ابن جرير -رحمه الله- يقول: كأنه قيل: إن للمتقين ظفراً بما طلبوا من حدائق وأعناب، باعتبار أنه فسر المفاز بالظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً يقول ابن كثير: البساتين من النخيل وغيرها، وليس كل بستان يقال له: حديقة، إنما البستان الذي عليه حائط يحدق به، لإحداق الحيطان بها يقال لها: حديقة، البستان لا يلزم أن يكون عليه حائط، والحديقة لابد من وجود ما يحيط بها، فلهذه الإحاطة سميت حديقة.
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا، وذكر الأعناب وهي من جملة الحدائق؛ لأنها من أطيب الثمار والأشجار، وأنفعها وأحسنها، وإلا ففي الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والله يقول -كما مضى في سورة البقرة: كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [سورة البقرة:25] على القولين: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً يشبه بعضه بعضاً، وبعضهم يقول: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً يشبه الثمر الذي في الدنيا من حيث الهيئة، لا الحجم ولا الطعم ولا الحقيقة، يعني: يعرف أن هذه رمانة، وأن هذا عنب، لكن لا تكون بحال من الأحوال بحجم التي في الدنيا، فالتي في الدنيا لا شيء.
والحدائق والأعناب تعتبر بعض نعيم أهل الجنة، ولهذا لا تجد في القرآن تكراراً، نعيم الجنة ذكره الله في مواضع كثيرة من القرآن، ولكنه في كل موضع يذكر طرفاً منه مما يناسب المقام، فذكر الطلح المنضود، والماء المسكوب، والفاكهة الكثيرة التي لا يحصل لها انقطاع، لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [سورة الواقعة:33]، فليس لها مواسم معينة فيقال: هذا بالصيف، وهذا بالشتاء، وهذا النوع انتهى، ولا يُمنع منهم شيء من هذا النعيم، ولهذا قال الله : وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الزخرف:71]، كل ما تشتهيه النفوس، ولهم فيها أيضاً أكثر من هذا، كما في الآية الأخرى لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ [سورة يــس:57]، كلما ادعى شيئاً فهو له، وبعضهم يقول: كل ما يطلبون يأتيهم.
وَكَوَاعِبَ نواهد، يعني أن ثُدِيَّهن نواهد لم يتدلين، هذا أيضاً الذي قاله ابن جرير، يقال امرأة كَعَاب يعني قد تَفلّك ثديها، وصار ذلك كالكعب في صدرها، والعرب تشبه ذلك كثيراً بالكعب، كما تشبهه أيضاً بأمور أخرى يذكرونها كثيراً في أشعارهم، وذلك من أبلغ الأوصاف في الجمال عند العرب والعجم، والضحاك فسر الكواعب بالعذارى، وليس ذلك من قبيل التفسير على اللفظ، والعذارى مظنة لذلك ففسره به، ولكن المعنى وَكَوَاعِبَ أي: قد تَفلّك ثديها، هذا هو المراد، والله تعالى أعلم.
أَتْرَابًا يعني: في سن واحدة متقاربة، أو في سن واحدة من الشباب، ليست مترهلة كبيرة قد ذبلت، وترهلت، حتى صارت في هيئة وحال لا تنجذب إليها النفوس وهي في هذا السن، هن في هذا السن المتقارب وذلك أبلغ بالنعيم؛ لأن التفاوت في السن لا شك أنه يظهر شيئاً من النقص، فالتي أصغر تكون النفوس إليها أكثر جاذبية، وتلك التي هي أكبر لربما أيضاً تتأذى بذلك، ويكون نقيصة في حقها، المرأة في الدنيا تعد الأيام -وإن كانت غير متزوجة الناس يعدون لها الأيام- وتتمنى أن لا تتجاوز الثامنة والعشرين بحال من الأحوال على أقصى وأسوأ الاحتمالات، ولكن الشمس لا تتوقف.
وانظر إلى أجمل نساء الدنيا قبل قرن من الزمان، إما أنها -وهو الغالب- تحت التراب، قد تفسخ عظامها من لحمها، وتلاشت واضمحلت، أو أنها في حال من الهرم والشيخوخة لا يمكن أن تُقبل عليها النفوس أو أن تنجذب إليها، هذه هي الحياة، ولهذا الله -تبارك وتعالى- ذكر القواعد من النساء، هؤلاء لم يكنّ كذلك في مقتبل العمر، وإنما صرن إليه، فهي قعدت عن النكاح وعن الولادة والحمل، فهي لا ترجو نكاحاً، ولا ينظر إليها أحد من هذه الجهة، فهذه رفع الله عنها الحرج أن تضع ثيابها غير متبرجة بزينة، يعني: تلبس ثياباً واسعة، ولا يلزم أن تلبس العباءة أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [سورة النور:60]؛ لأن النفوس لا تلتفت ولا تتطلع إلى نكاحها.
قال ابن القيم –رحمه الله: "قوله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً، الكواعب: جمع كاعب وهي الناهد، قال قتادة ومجاهد والمفسرون: قال الكلبي: هن الفلِكات اللواتي تكعب ثُدِيُّهن وتفلكْنَ، وأصل اللفظة من الاستدارة، والمراد أن ثُدِيَّهن نواهد كالرمان، ليست متدلية إلى أسفل ويسميْن نواهد وكواعب"[3].
لا تحتاج عمليات تجميل، ولا شيء، دائماً في سن الشباب وفي سن النضارة، فهذا هو النعيم الذي ينبغي أن تسمو الهمم لطلبه، ويجدّ العاملون في تحصيله، لا متاع الحياة الدنيا وحطامها، ولو تأملت سعي الناس عامة الناس في هذه الدنيا من الدراسة من أولها إلى آخرها، والعمل، وسألتهم: لماذا تعملون؟ لا يذكرون سوى شيئين، الأول: أن يعيش ويأكل، الثاني: يتزوج. يعني: بين البطن والفرج، كل هذا الذي ترون من الأعمال والمصانع والورش والعمال والدارسة إلا من رحم الله ، وقليل ما هم.
الحياة لم توجد من أجل هذا، وإنما وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56]، لا أن تتهافت النفوس ويكون الهدف والغاية هو تحصيل هذين الأمرين الفانيين المتكدرين المتغيرين، وهما أسرع الأشياء تغيراً وتكدراً، ولو تأمل العاقل في هذا لعرف حقيقة ذلك، قضاء الأرب يتلاشى ويضمحل بلحظات، والطعام إنما يستسيغه بلحظات، حينما يأكل، يمضغه فقط، وقت المضغ، ثم لا يجد له بعد ذلك طعماً إذا أكله، أنتم لا تجدون الآن لذة مما أكلتم في البارحة، أو تسحرتم عليه، أصحاب أعظم اللذات من هذه اللذات الفانية لا يجدون منها الآن شيئاً.
تفنى اللذاذةُ ممن نال صفوتَها | من الحرام ويبقى الإثمُ والعارُ |
تبقى عواقبُ سوء من مغبّتها | لا خيرَ في لذة من بعدها النارُ |
تفنى اللذات من المطعوم والمشروب والمنكوح والملبوس، وكل شيء، ويبقى العمل.
هذا من ألوان النعيم: حدائق وبساتين في غاية النضارة والحسن، بأحسن رونق، وأجمل صورة، وزوجات في غاية الجمال، كواعب في سن متقاربة، وكأس صافية متتابعة مملوءة، هذه الكأس وصفها هنا بقوله: دِهَاقًا.
الكأس بعض أهل العلم يقول: لا يقال لها: كأس إلا إذا كان فيها الشراب، وبعضهم يقيده يقول: إنما يقال لها: كأس هكذا إذا كان فيها شراب الخمر، يقال: على أهل الكئوس أن يأمر بعضهم بعضاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول:
وكأسٍ شربتُ على لذّة | وأخرى تداويتُ منها بها |
يقصد كأساً من الخمر، فالكأس إذا أطلقت عند العرب فالغالب أنهم يقصدون بها الخمر؛ ولهذا فسره بعض السلف بالخمر.
دِهَاقًا، عن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد: مَلأى مُتْرعة، وقال ابن عباس: مملوءة متتابعة.
ونقل عن عكرمة هنا وقال به زيد بن أسلم: صافية، وإن كان التفسير بهذا ليس من معنى دِهَاقًا، ولكن كأنه ذكره من جملة الأوصاف التي تكون معلومة في خمر الجنة، وإلا فليس هذا معنى دِهَاقًا، إنما معنى "دهاقاً" مملوءة متتابعة، بهذين الوصفين.
الضمير في: لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا الأرجح أنه يعود إلى الجنة، وبعضهم يقول: يعود إلى الخمر؛ لأن مجالس الخمر في الدنيا –نسأل الله العافية- مليئة باللغو والسب والشتم والهذيان؛ لأن العقول تذهب، وذكرتُ قديماً في بعض المناسبات كيف أن بعض أهل الجاهلية حرم على نفسه الخمر لهذه الآثار، وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة: 90] رجلا كان يسكر، ثم صار يتوضأ ببوله، يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، ثم قال: الحمد لله الذي جعل الصلاة نوراً والماء طهوراً.
وآخر أفاق وهو ساقط واقع على الأرض فسأل أهله: ما الذي أوقعني هنا؟ قالوا: طول الليل وأنت تقفز تريد أن تمسك القمر، فتعب ثم سقط، فلما أفاق عرف حاله.
فهذه آثار الخمر، وحمزة تعرفون لما سكر ونحر الجزور وشق كُلاها وتركها للناس يأخذون من لحمها، وكانت لعلي ، وقال للنبي ﷺ ولعلي : هل أنتم إلا أعبد لأبي؟ وهو في حال السكر.
وفي عصرنا هذا أحد الذين تابوا من شرب الخمر صوّرته امرأته وهو يستفرغ، بعدما شرب الخمر، ويلعق -أعزكم الله- هذا الأذى، فلما رآه تاب وعرف أن هذه لا تجر إلى خير.
فقوله: لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا [سورة النبأ:35]، بعضهم يقول: في الخمر، يعني في مجالسها عند شربها. والأرجح: أنهم لا يسمعون في الجنة، وهذا أعم من الذي قبله، ويتضمنه، يعني: لا يسمعون في اللجنة لغواً، لا في مجالس الخمر، ولا في غيرها، هم لا يسمعون فيها اللغو؛ لأن الجنة بعيدة عن اللغو، وهذا ذكره الله في سياق ذكر نعيم الجنة، فدل على أن اللغو خلاف النعيم، وأن مجالس اللغو من الشقاء، ينبغي للعاقل أن يحترز منها، وأن يتجنبها، وأن يتجنب أهلها.
واللغو هو الكلام الباطل، فكل كلام باطل فهو لغو، فالجنة لا تسمع فيها إلا أطايب الكلام، فمن أراد السعادة والراحة والنعيم في الدنيا فإن من موجبات هذا النعيم أن يراعي ويلاحظ المجالس التي يجلس فيها، والمجلس إذا طال كان للشيطان نصيب فيه؛ ولهذا لا داعي للمجالس الطويلة، أو المجالس الكثيرة التي يجتمع فيها الناس، لربما بعضهم يجتمعون كل ليلة، ويفتخرون أنهم منذ خمس وعشرين سنة وهم يجتمعون كل ليلة.
فالمجلس يكون بقدر الحاجة، ثم بعد ذلك يتفرقون، وإلا بعد ذلك يبدأ يحضر الشيطان، فيبحثون عن شيء يقولونه لا يجدون، فيبدأ بعضهم يعلق على بعض ليقضي الوقت، ويتكلم بكلام لا حقيقة له، أو يبحث عن أمور لا تعنيه فيتكلم بها، ومن ثَمّ فإن اللغو سواءً كان مكتوباً، يعني كان مقروءاً أو كان مسموعاً لا شك أن هذا من المنغصات، وينبغي على المؤمن أن يحترز من ذلك جميعاً.
ونحن في كثير من الأحيان نجني على أنفسنا، بحيث إن الإنسان أحياناً يعمد إلى بؤر اللغو فيذهب إليها، يقول: أريد أن أعرف، إما أنه يرغب بسماع كلامهم، أو يقول: لأعرف ماذا يقولون، ثم يتنغص ويتكدر، يعني هذه الأماكن أو هؤلاء الذين يكتبون -لا سيما اللغو الذي يكون بأسوأ صوره وأشكاله- ممن يقدحون في الدين، في ثوابته وبأهل الإيمان، هذه جيفة منتنة، فيعمد إلى صفحة هذا أو يضيفه عنده، فيكون كالجيفة التي يُقلّبها، ويزداد النتن.
وَلَا كِذَّابًا [سورة النبأ:35]، يعني لا يُكذّب بعضهم بعضاً كما يقول ابن جرير، يعني: لا يسمعون تكذيباً، وليس في الجنة إلا الصدق والحسن بجميع صوره وأشكاله، مما يتصل بالمسموع أو المرئي أو المطعوم أو المشموم، أو غير ذلك من أنواع الحسن والكمال واللذة والنعيم والسرور والحبور والسعادة.
إذا كان الإنسان في مجلس كلما قال شيئاً كُذِّب وشُكك في كلامه، أو كلما كتب تغريدة تصدى له سفيه وقذفه بحجر، وكلما قدم لهم نفيسة من هذه النفائس، وفائدة من هذه الفوائد، ونصيحة من هذه النصائح تصدى له السفهاء، فما الحاجة لمثل هذا كله، وهذا العناء لقوم بهذه المثابة؟ أرح نفسك، وأقبل على ما ينفعك، فهنا في الجنة لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا [سورة النبأ:35] ما في أحد يشكك في كلامه، أو أحد يكذبه، وهذا لا شك من أعظم النعيم.
وقوله: جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا [سورة النبأ:36] أي: هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه بفضله ومَنِّه وإحسانه ورحمته؛ عَطَاءً حِسَاباً أي: كافياً وافياً شاملاً كثيراً؛ تقول العرب: "أعطاني فأحسبني" أي: كفاني، ومنه "حسبي الله"، أي: الله كافيّ.
ابن كثير -رحمه الله- جمع المعاني التي يذكرها أهل العلم في تفسير حِسَاباً، قال: هذا النعيم الذي أعطاهم إياه جزاءً منه على أعمالهم، وهو أيضاً كما قال الله: عَطَاء حِسَابًا أعطاهموه بفضله، ومنّه، وإحسانه، ورحمته، لن يدخل أحدكم الجنة بعمله[4]، فالعمل مجرد سبب، وإلا فإن رحمة الله هي الأصل في ذلك، فإن الأعمال لا تؤهل لدخول الجنة بمجردها، ولكن مع رحمة الله تعالى.
قال: عَطَاء حِسَابًا أي: كافياً وافياً شاملاً كثيراً، فكرر الكفاية، وذكر الكثرة، ولهذا تجد أن بعضهم كابن قتيبة فسره بالكثرة عطاءً حساباً أي: كثيراً، وابن جرير يقول: عطاءً حساباً أي: محاسبة لهم على أعمالهم.
فأعطاهم الله هذا العطاء الكثير الذي كفاهم به، أعطاهم عطاءً كثيراً فكفاهم وأرضاهم، رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [سورة المائدة:119].
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [سورة النبأ:37- 40].
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله، وأنه رب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء.
قوله: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يعود إلى قوله: جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا، فالأولى مجرورة، وجاءت الثانية تابعة لها، وهذا العطاء والجزاء هو من معاني الربوبية.
لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا قال: لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه، وهذا هو المتبادر، وبعضهم يقول: لا يملكون أن يسألوا إلا فيما أذن لهم الله -تبارك وتعالى، وحمله الكسائي على الشفاعة، لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا لا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه، وهذا كله صحيح، فالله -تبارك وتعالى- يقول: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255] يعني: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وكذلك أيضاً لا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال الله : يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [سورة هود: 105].
وابن جرير -رحمه الله- قال بهذا الذي قال به ابن كثير: لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه، وهذا يشمل الشفاعة والسؤال، وغير ذلك مما ذكر.
على كل حال الأقوال في الروح كثيرة، بعضهم ذكر فيه ثمانية أقوال، وابن كثير هنا مضى على أن المقصود بالروح هو جبريل ﷺ، وهو هنا مذكور مع الملائكة، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ، فيكون باعتبار أن جبريل ﷺ هو واحد من الملائكة، وهو الأشرف، فيكون من قبيل عطف العام على الخاص، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ، فإفراد جبريل ﷺ لكونه الأشرف من الملائكة -عليهم السلام، وهذا يدل على عظمة هذا اليوم، فهؤلاء الملائكة الذين لا يذنبون ولا يعصون الله ما أمرهم، وهم من القرب من الله بتلك المثابة فكيف بأهل الذنوب؟!
وإذا كان الملائكة العظام وهم بهذه القوة لا يستطيعون الكلام فكيف بغيرهم؟!، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: أُذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام[5]، فهذا ملك واحد، ومع ذلك لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، والله المستعان.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ كقوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ [سورة هود: 105] وكما ثبت في الصحيح: ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل[6].
وقوله تعالى: وَقَالَ صَوَابًا أي: حقاً، ومن الحق: "لا إله إلا الله"، كما قاله أبو صالح، وعكرمة.
السلف يفسرون بالمثال، تجدون في كتب التفسير، وَقَالَ صَوَابًا قال: لا إله إلا الله، يعني: قال حقاً، ومن هذا الحق (لا إله إلا الله)، لكن هل المقصود أنه قاله في الآخرة، أذن له وقال صواباً، أو المقصود في الدنيا، يعني أنه يأذن لأهل الإيمان، وأما الكفار فيقول لهم: اخْسَئُُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108]؟
يحتمل أن يكون من يؤذن لهم هم أهل لا إله إلا الله وأهل الإيمان بهذا الاعتبار، وليس المقصود أنه قال صواباً يعني قال يوم القيامة: لا إله إلا الله، ولهذا قال: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء:28]، فلا يشفع للكافر، وهذا كأنه أقرب إلى السياق -والله أعلم، فلا يجترئ أحد على الكلام لا الملائكة ولا غير الملائكة، ولا يتكلم أحد عنده إلا بما يكون حقاً وصواباً، ويرضاه الله ، وهذا كله يدل على عظمة الله ، ويدل على عظمة ذلك اليوم، وشدة ما فيه من الأهوال والأوجال.
هذا يوم ثابت، حق، واقع لا محالة، فليختر الإنسان لنفسه، فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا، جمع الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بين المعنيين، فبعضهم يقول: مَآبًا، أي: مرجعاً؛ لأن الأوب بمعنى الرجوع، وبعضهم يقول: طريقاً إلى الله، يسلكه ليصل إلى ربه -تبارك وتعالى، فجمع الحافظ بين هذين المعنيين، وهما متلازمان على كل حال.
إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا، قتادة يقول: عذاب الدنيا، ومقاتل يقول: يوم بدر؛ لأنه ذكر القرب، وابن كثير يقول: يوم القيامة؛ لأن كل ما هو آتٍ قريب، وهذا هو الأقرب؛ ولهذا قال بعده -وهي القرينة التي ترجح هذا القول: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ بعضهم يقول: الكافر، وبعضهم يقول: كل أحد، وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا.
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49]، فهذا اليوم ينبأ فيه الإنسان بكل شيء، يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [سورة القيامة:13]، أعماله التي عملها في الماضي، والأعمال التي تركها بعد موته يُستنّ بها، أو مما كان يريد أن يعملها.
يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [سورة النبأ:40] أي: يعرض عليه جميع أعماله، خيرها وشرها، قديمها وحديثها، كقوله تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً[سورة الكهف:49]، وكقوله تعالى: يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [سورة القيامة:13].
وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا أي: يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا تراباً، ولم يكن خُلِقَ، ولا خرج إلى الوجود، وذلك حين عاين عذاب الله، ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سُطَّرت عليه بأيدي الملائكة السَّفَرة الكرام البَرَرة، وقيل: إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا، فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور، حتى إنه ليقتص للشاة الجمَّاء من القرناء، فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني تراباً، فتصير تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً أي: كنت حيواناً فأرجع إلى التراب، وقد ورد معنى هذا في حديث الصُّور المشهور، وورد فيه آثار عن أبي هُرَيرة، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما.
يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا، هنا العلماء ذكروا فيها أقوالاً ثلاثة، بعضهم يقول: حينما ينظر إلى الحيوانات بعدما يقتص بعضها من بعض، فيقول الله لها: كوني تراباً، فيتمنى لو أنه يصير إلى هذه الحال، وهذا هو الأرجح الذي دل عليه الحديث، والقرآن يفسر بالسنة، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
وبعضهم يقول: هذا في البرزخ، يعني: يتمنى لو كان تراباً في قبره ولم يبعث، وهذا لا يخلو من بعد.
وبعضٌ يقول: يتمنى لو أنه بقي على أصله؛ لأن أصل الإنسان من تراب، يعني: أني لم أخلق أصلاً، الله خلق بني آدم من تراب، فيقول: يا ليتني كنت تراباً.
فهنا أسوأ حالات الكافر حينما يتمنى أنه كان تراباً، لو كان بمنزلة هذه الحيوانات التي تصير تراباً، فتنقشع عنه تلك الحجب، وتترحل عنه تلك السكرة التي كان فيها في الدنيا، قد كان في حال من البغي والعتو على الله ، والتمتع بأنواع اللذات، والأذى لأهل الإيمان، عند ذلك يتمنى لو كان تراباً، هذه أمور يقصها الله ، ويصفها بأوصاف دقيقة، في غاية الدقة، يبين فيها ما يصير إليه الناس، وماذا يقولون.
فحري بالعاقل أن يتبصر ويتأمل، ويقف عندها، وينظر ويعرض نفسه على هذه الأوصاف، فهذا حقيقة التدبر للقرآن، وليس من لازم التدبر أن الإنسان يبحث عن معانٍ غريبة يرفع الناس إليها أبصارهم، ويستنتج استنتاجات، فليس التدبر محصوراً في هذا كما يظنه بعض الناس، فيتتبعون ويبحثون عن أشياء غريبة، ثم أحياناً يأتون بأشياء غير صحيحة، متكلفة لا يحتملها اللفظ، بل التدبر أن يقرأ الإنسان هذا، ويعرض نفسه على هذه الأمور، كيف سيكون حاله، ماذا يتمنى في الآخرة، على أي وصف سيكون قدومه على الله .
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صفة شجر الجنة (4/ 671)، برقم: (2525)، وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (8/ 114)، رقم: (6552)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها (4/ 2176)، رقم: (2828).
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 228)
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (8/ 98)، رقم: (6464).
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في الجهمية (4/ 232)، رقم (4727).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [سورة القيامة:23] (9/ 128)، رقم (7437)، وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (1/ 163)، رقم: (182).