الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} الآية:6
تاريخ النشر: ٠٤ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 8860
مرات الإستماع: 10412

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسورة النازعات -ويقال: الساهرة والطامة- تتحدث عن البعث والنشور في مجملها، وقد صدرها الله بهذه الأقسام الخمسة التي تتصل بهذا الموضوع اتصالاً وثيقاً، فأقسم بالنازعات وهي الملائكة التي تنزع أرواح الكفار بشدة وغلظة، أو أنها أحق ما يصدق عليه هذا الوصف.

كما أقسم بعد ذلك بالناشطات وهي الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين فتستخرجها بلين وسهولة ورفق، ثم أقسم أيضاً بالسابحات وهي الملائكة التي تسبح في الفضاء محقِّقة ومنفذة ومنقادة ومستجيبة لما أمرها الله به، ثم أقسم -تبارك وتعالى- بالسابقات وهي الملائكة تسبق إلى الوصول إلى ما أُمرت بفعله امتثالاً لأمر الله .

ثم أقسم بالملائكة التي تدبر ما وكل الله إليها تدبيراً، فتقوم بذلك طواعية، منقادة طائعة بلا تباطؤ ولا تأخر، هذه خمسة أقسام كلها في الملائكة بوظائفها المتنوعة سواء قلنا ذلك على سبيل الحصر -يعني أن ذلك يراد به الملائكة فحسب- أو قلنا ذلك باعتبار أن الملائكة أحق ما يصدق عليه هذا الوصف، ويدخل في مجمله أمور أخرى لكنها دون ما ذُكر.

أقسم بهذه الأقسام الخمسة على البعث والنشور، وأنه أمر حاصل وواقع ومتحقق سواء قلنا: إن هذا الجواب -جواب القسم- مقدر، أو قلنا: إنه اكتفي بما ذكر من هذه الأقسام حيث إن ذلك يُشعر به ويدل عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [سورة النازعات:5] قال علي ومجاهد وعطاء والحسن والربيع بن أنس والسدي: هي الملائكة، زاد الحسن: تدبر الأمر من السماء إلى الأرض يعني بأمر ربها ، ولم يختلفوا في هذا، ولم يقطع ابن جرير بالمراد في شيء من ذلك إلا أنه حكى في المدبرات أنها الملائكة ولا أثبتَ ولا نفى.

هذه الزيادة من الأصل تركها المختصر وهي مهمة لابد من إضافتها.

وقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ۝ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [سورة النازعات:6، 7] قال ابن عباس: هما النفختان الأولى والثانية، وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغير واحد، وعن مجاهد: أما الأولى وهي قوله -جل وعلا: "يوم ترجف الراجفة" فكقوله -جلت عظمته: "يوم ترجف الأرض والجبال"، والثانية وهي الرادفة فهي كقوله: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [سورة الحاقة:14].

قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ الرجفان يعني الاضطراب، يوم ترجف الراجفة المضطربة يعني الصيحة العظيمة التي تتردد أو فيها تردد واضطراب كالرعد، ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة المقصود بها النفخة الأولى، والرادفة؛ لأنها أردفتها، في قوله -تبارك وتعالى: أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9] مردفين يعني أن بعضهم يردف بعضاً، يعني يتبع بعضاً، فالألف يكون بعدهم مدد إلى ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف؛ ولهذا قال: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ [سورة آل عمران:125]، بهذه القيود يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا على أحد القولين يعني: يأتيكم مدد الكفار الذين وعُدوا بهم، الكفار وُعدوا بمدد فخاف المسلمون فقال: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ أيضاً يأتيكم مدد آخر من الملائكة ألف يتبعهم آلاف إلى ثلاثة إلى خمسة، هذا على أحد القولين المشهورين في الآية.

فهذه ردفت النفخة الأولى فقيل لها: الرادفة، هنا يقول ابن كثير -رحمه الله: قال ابن عباس: هما النفختان الأولى والثانية وهكذا قال مجاهد إلى آخره، وعن مجاهد: أما الأولى وهي قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ فكقوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ [سورة المزمل:14]، والثانية هي الرادفة، "وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة"، لكن هذا على خلاف قول عامة أهل العلم، بل إنه خلاف المتبادر، فالنفختان: الأولى هي الراجفة، والثانية هي الرادفة.

وقوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ هذا الظرف "يوم ترجف الراجفة" إما أنه متعلق بجواب القسم المقدر، باعتبار أنه مقدر يعني لتبعثن يوم ترجف الراجفة، فيكون منصوباً بجواب القسم المقدر، أو أن ذلك المتعلق فعل مقدر محذوف، أي واذكر يوم ترجف الراجفة، وهذا كثير قبل الظرف.

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ [سورة آل عمران:124]، أي: واذكر إذ تقول، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [سورة آل عمران:121]، واذكر إذ غدوت من أهلك تبوئ، فإما أن يربط بما قبله من مذكور، أو محذوف مقدر، أو يقال: إنه معمول لفعل مقدر محذوف، وهذا هو الغالب وهو أسهل، واذكر كذا.

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ اذكر يوم ترجف الراجفة، يعني ذات الصوت الهائل العظيم الذي فيه اضطراب لا يُقادَر قدره في تردد صوت هائل لا يطيق الناس سماعه ولا يحتملونه، فهذه هي النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق، ثم تكون الرادفة عند البعث قد ردفت التي قبلها.

وسميت بهذا -والله تعالى أعلم، وهذا قول عامة أهل العلم وإن قال بعضهم خلاف ذلك، كقول ابن زيد: الراجفة هي الأرض، والرادفة هي الساعة، يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ الأرض تضطرب وتهتز، تتبعها الرادفة يعني تتبعها الساعة، تتبعها القيامة، تضطرب الأرض فتقوم القيامة، "إذا زلزلت الأرض زلزالها"، فجعل الرجفان للأرض، ويتبع ذلك قيام الساعة، وهكذا ما جاء عن مجاهد من أن الراجفة هي الزلزلة تتبعها الرادفة يعني الصيحة، ابن زيد قال: القيامة، وهذا قال: الصيحة، وهما بمعنى واحد، فإن القيامة تقوم بالصيحة، بالنفخ في الصور.

وبعضهم يقول: الراجفة اضطراب الأرض والرادفة الزلزلة، وكأن ذلك يرجع إلى معنى واحد في قول هذا القائل، يعني الراجفة ترجف الأرض تتبعها الرادفة يعني الزلزلة، والرجْف هو بمعنى الزلزلة والاضطراب.

والمشهور أن المقصود بالراجفة النفخة الأولى، والرادفة النفخة الثانية، في الأولى يموتون، وفي الثانية يبعثون.

وقوله تعالى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [سورة النازعات:8] قال ابن عباس: يعني خائفة، وكذا قال مجاهد وقتادة.

قوله تعالى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌيعني خائفة، وجَفَ قلبه بمعنى خاف واضطرب، فالقلوب الواجفة هي المضطربة القلقة الخائفة لما عاينت من أهوال القيامة، هذا قول الجمهور.

والأقوال الأخرى التي قالها السلف هي في الواقع ترجع إلى هذا المعنى ولا تخالفه وإن اختلفت عباراتهم كقول السدي مثلاً: زائلة عن أماكنها، ما الذي أزالها عن أماكنها؟ شدة الخوف، فإن الله قال عن المؤمنين في يوم الأحزاب: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ على المعنيين اللذين ذكرناهما هناك، إما أن الرئة تنتفخ كما يقال: انتفخ سحره أي رئته من شدة الخوف، فالعرب تقول: إن الرئة تنتفخ من شدة الخوف ولا أعرف هل هي الرئة التي تنتفخ أو ما يسميه الأطباء اليوم القولون يضغط على الحاجز فيضغط على القلب؛ لذلك بعض الناس قد يتألم ويظن أن ذلك لوجع في قلبه والواقع أنه يعاني من القولون فيضغط على الحاجز، أنا لا أعرف هل العرب تقصد هذا المعنى أو لا؟ لكن العرب يقولون: إذا خاف الإنسان وتعاظم خوفه انتفخ سحره، يعني رئته، فيرتفع معها القلب إلى أعلى بحيث لا يكون القلب في حال طبيعية.

وبعضهم يقول: هذا كناية عن شدة الخوف، كأن القلوب أرادت أن تخرج ولم يمكنها ذلك فبقيت، بلغت الحناجر كأنها من شدة الخوف ستخرج من أماكنها، فالقلب من شدة الخوف يحصل له مثل هذا.

وهنا قال السدي: زائلة عن أماكنها، هذا يرجع إلى شدة الخوف، فهو لا ينافي ما سبق، وهكذا قول من قال كالمُؤرِّج: قلقة مستوفزة، يعني خائفة خوفا شديداً تترقب، وقول المبرد: يعني مضطربة، هذا كله يرجع إلى شيء واحد.

هذه القلوب في غاية الخوف والاضطراب والقلق الذي يكاد أن يقلبها، أو أن يزيلها من أماكنها.

أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [سورة النازعات:9]، أي أبصار أصحابها، وإنما أضيفت إليها للملابسة، فهي ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال.

البصر في حال الشدة والخوف الشديد يكون في حال من الضعف بحيث لا يستطيع صاحبه أن يتحكم به، فيشخص البصر تارة فيوصف بذلك، فالأبصار شاخصة بمعنى أنها تزيغ وتميل من شدة الخوف، "وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر" هذا في يوم الأحزاب، الزيغ هو الميل، مالت بمعنى أن النظر لم يعد صاحبه يستطيع التحكم به، أي أن الإنسان يصوب نظره بطريقة غير إرادية إلى جهة ما، فهنا لم يعد صاحبه قادراً على تصويب النظر إلى حيث شاء.

وتوصف أيضاً بالذل والخشوع؛ لأن من معاني الخشوع الذل، الخشوع صفة مركبة من مجموع أوصاف منها الذل فتكون هذه الأبصار خاشعة، هنا قال: أي أبصار أصحابها، هم تشخص أبصارهم فتكون تلك النفوس -أولائك الناس- في حال من الذل بسبب ما عاينوا من الأهوال والأوجال؛ لأنه أضاف الأبصار هنا إلى القلوب، والقلب له البصيرة وليس له البصر، البصر للعين وبصيرته لا توصف بالخشوع فقال: أَبْصَارُهَا، إذاً ليس المقصود بصر القلب هنا، وإنما المقصود أبصار أصحابها.

فلما كان الكلام على الخوف الشديد والذي موضعه القلب؛ لأن الخوف منشؤه ومنبعه وموضعه ومستقره ابتداء وانتهاءً القلب، فيظهر أثره على الجوارح مثل باقي الأوصاف الأخرى القلبية كالفرح واللذة والسرور والرجاء والمحبة كل ذلك موضعه القلب، فهو مستقر هذه الأمور، فهنا أبصارها يعني أبصار هؤلاء الذين عاينوا هذه الأهوال خاشعة في حال من الذل.

وقوله تعالى: يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ [سورة النازعات:10] يعني مشركي قريش ومن قال بقولهم في إنكار المعاد يستبعدون وقوع البعث بعد المصير إلى الحافرة وهي القبور قاله مجاهد، وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونُخورها.

الحافرة يقول: وهي القبور قاله مجاهد، أصل الحافرة أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أصل ذلك من قولهم: رجع فلان إلى حافرته، بمعنى رجع إلى حاله الأولى التي كان عليها، كما يقولون: عادت حليمة إلى عادتها القديمة، يعني عاد إلى ما كان عليه.

ويقال: غلب الطبع التطبع، فهنا أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ رجع فلان إلى حافرته يعني إلى حاله الأولى، ويمكن أن يقال هذا في الأمور الحسية، رجع في حافرته أي الموضع الذي جاء منه، فالحافرة عند العرب اسم لأول الشيء، وابتداء الأمر، هذا أصله إذاً أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ يكون بهذا الاعتبار، والقرآن جاء بلغة العرب، وهم يعبرون بهذا، كأنه يتبع حفر قدميه في الأرض، هذا الذي رجع من حيث أتى، فهنا جاءت لفظة الحفر من ابن جرير -رحمه الله، ومن ثَمّ لا حاجة إلى القول بأنه القبر –الحفرة، هذا الذي رجع من حيث جاء قيل: رجع في حافرته، رجع من حيث أتى كأنه يتبع حفر قدميه، الحافرة.

يعني نعود إلى ما كنا عليه، يعني أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ أحياء بعد موتنا وتفرق أبعاضنا وأجسامنا في التراب؟ هل نرجع من جديد إلى الحياة؟ هذا معناه، وهذا الذي قاله ابن جرير، وقال به كثير من أهل العلم من السلف ومن بعدهم.

وبعضهم نظر إلى لفظ الحفر فقال -كما جاء عن مجاهد: نرجع يعني إلى القبور أحياء في قبورنا، وبعضهم يقول: لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ يعني الأرض، و قيل لها: حافرة؛ قيل: لأنها تُحفر بها قبورهم، سميت حافرة بهذا الاعتبار، يعني نرجع في قبورنا أحياء بعدما تفتتت وتفرقت أجزاؤنا في التراب، وفارقنا الحياة، ليس المقصود أنه يبقى حيًّا وهو في القبر، لا يقصدون ترجع إلينا الحياة وقد صرنا إلى تلك الحال في القبور، فهم أين هم حتى ترجع إليهم الحياة، فيقولون: هل ترجع لنا الحياة في قبورنا بعد أن صرنا رميما أو رماداً؟ هذا مقصود من قال: ترجع لنا في القبور، لا يقصدون حياة برزخية، وإنما يقصدون الحياة التي يحصل بها الجزاء والحساب، الحياة الأخروية يعني البعث، هذا مرادهم.

وهذا يرجع للمعنى الأول، يعني قول مجاهد: ترجع لنا الحياة في القبور، بهذا الاعتبار، وهذا قال به آخرون من أصحاب المعاني، قال به الخليل بن أحمد، وقال به الفراء في معاني القرآن، كل هذا نظروا فيه باعتبار الحافرة، الحفر يعني الحفرة التي دُفِنّا بها، القبور التي انْمَاعت أجسامنا وتحللت أبعاضنا وأجزاؤنا فيها فصرنا تراباً، هل ترجع لنا الحياة بعد هذه الحال فنقوم من قبورنا أحياء؟ إذاً يرجع إلى المعنى السابق.

لكن منهم من قال كابن زيد: الحافرة هي النار، أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ وهذا خلاف قول عامة أهل العلم، وفيه بُعد.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش إذا قيل لهم: إنكم مبعوثون بعد الموت يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ إلى حالنا الأولى قبل الممات فراجعون أحياء قبل مماتنا، وقبل هلاكنا؟ هذا هو المعنى الظاهر -والله تعالى أعلم- وهو مروي عن ابن عباس وقتادة والسدي، ولا يخالفه من قال: القبور، فهذا كله بمعنى واحد.

إذاً أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ يعني نرجع أحياء كما كنا بعد أن صرنا إلى تلك الحال من الموت والفناء؟

ولهذا قالوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً وقرئ ناخرة، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: أي بالية، قال ابن عباس: وهو العظم إذا بلي ودخلت الريح فيه.

هم يستبعدون البعث من جديد أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ۝ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قال هنا: قرئ ناخرة قراءة الجمهور ناخرة، والقراءة الأخرى أيضا متواترة سبعية لحمزة والكسائي، وأيضا لأبي بكر عن عاصم هاتان القراءتان الآن أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً وناخرة، وبعض أهل العلم يقول: هما بمعنى واحد، نخرة وناخرة يعني بالية، وبعضهم يفرق بينهما في المعنى فيقول: إن معنى نخرة يعني بالية أصابها البِلاء فتفتتت وتلاشت، هذا معنى نخرة عندهم.

والناخرة: قالوا هي المجوفة التي تنخر الرياح في جوفها إذا مرت بها، أنتم تعرفون عوامل التعرية كيف تؤثر في الصخور فإذا جاء الهواء صار لها أصوات وصفير، العظام بعد مدة طويلة إذا ألقيت في الفلاة مثلا صارت مُخرّقة.

فهنا يقولون: ناخرة يعني مجوفة تنخر فيها الرياح، نخرة في جوفها، وهذا هو الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله: نخرة بالية، ناخرة يعني قد نخرتها أو مجوفة تنخر الرياح في جوفها، وبعضهم يقول: إن الناخرة التي لم تُنخر بعد، ناخرة يعني سيكون لها ذلك، ستصير إلى ذلك، لم يحصل لها البِلاء بعد، ولكنها في الطريق، هذه الناخرة.

وأما النخرة فهي التي قد بليت، هذا قاله أبو عمرو بن العلاء، وبعض أهل العلم يقول: هما بمعنى واحد نخرة وناخرة.

وأما قولهم تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [سورة النازعات:12] فقال محمد بن كعب: قالت قريش: لئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن.

قبل هذا قالوا: تلك إذاً كرة خاسرة يعني إذا رجعنا من جديد أحياء بعد أن نموت لنخسرن، هذا يقوله الكفار المكذبون بالبعث، يعني تلك الرجعة إن حصلت فالخسارة بها متحققة، يعني هي رجعة خاسرة، أي ذات خسران؛ لأن مصيرهم سيكون البوار والهلاك.

ولهذا يقول ابن جرير: خاسرة أي غابنة، وغابنة بمعنى خاسرة؛ لأن الخسران والغبن هو الذي يكون في البيع والتجارة، والله سمى المعاملة معه تجارة وبيعاً وشراء؛ ولهذا سمى يوم القيامة بيوم التغابن لما يحصل فيه من الغبن الشديد والتفاوت العظيم بين الناس، فهذا يأتي بأعماله، وهذا يأتي بأعماله، هذا قد استغرق الأنفاس والليالي والأيام حيث اشترى بذلك منزلاً في النار، ولم يكن الأمر على ذلك فحسب بل ورث منزل ذاك الذي في الجنة من النار، وهذا قد استغل الأوقات والأنفاس في مرضات الله ، وجاء بالأرباح والأعمال الطيبة الزاكية فأورثه ذلك دار النعيم المقيم، وليس ذلك فحسب بل إنه ورث منزل ذاك الذي في النار من الجنة.

هذا غبْن، هذا يرث منزله في النار وذاك يرث منزله في الجنة، هذا غبْن عظيم جداً، فهذا من معاني التغابن الواقع في ذلك اليوم، والمعنى أن هؤلاء الكفار يقولون: إنْ رُددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا مما يقوله محمد من الجزاء والجنة والنار والحساب... الخ، صفقتنا ستكون خاسرة، هذا هو المعنى المشهور الذي عليه أهل العلم.

وبعضهم فسر خاسرة يعني كاذبة، قال: إن ذلك قالوه إمعاناً في التكذيب "تلك إذاً كرة خاسرة" قالوا: كاذبة لا وقوع لها بحال من الأحوال، وهو منقول عن الحسن، وبعضهم يقول: "تلك إذاً كرة خاسرة" يعني على من كذب بها، وهذا يرجع إلى المعنى الأول الذي ذكرناه.

وهذا فيه زيادة بيان فقط، أنها ليست خاسرة على الجميع وإنما خاسرة على المكذبين، وهذا أمر بيّن لا خفاء فيه، هذه عبارة الربيع بن أنس، وعبارات السلف في هذا متقاربة.

يعني قول من قال: لئن رجعنا بعد الموت لنخسرن بالنار يرجع إلى المعنى الأول، وهذا منقول عن قتادة ومحمد بن كعب القرظي.

فإنما هي زجرة يعني الأمر يسير ما هي إلا زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة، وبعضهم يقول: فإنما هي زجرة واحدة هذا يرجع إلى الرادفة التي هي النفخة الثانية، بمجرد زجرة واحدة صيحة واحدة نفخة واحدة يرجع الناس إلى الحياة من جديد.

قال الله تعالى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ۝ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ [سورة النازعات:13، 14] أي: فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد فإذا الناس قيام ينظرون، وهو أن يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث فإذا الأولون والآخرون قيام بين يدي الرب ينظرون كما قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:25]، وقال تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50]، وقال تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [سورة النحل:77].

هذه الآيات تفسر "فإنما هي زجرة واحدة".

القارئ: قوله تعالى: فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ قال ابن عباس: الساهرة الأرض كلها، وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وأبو صالح، وقال عكرمة والحسن والضحاك وابن زيد: الساهرة وجه الأرض، وقال مجاهد: كانوا بأسفلها فأُخرجوا إلى أعلاها، قال: والساهرة المكان المستوي.

هذا كله يرجع إلى معنى واحد فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ۝ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ يعني: إذا هم على وجه الأرض أحياء، وظهر الأرض تسميه العرب الساهرة، وسبب هذه التسمية بعض أهل العلم يقول: لأنه يكون عليها السهر والنوم، فعُبر بأحدهما، الساهرة يعني الأرض يكون عليها السهر، ساهرة فيها نوم الحيوان وسهره، الحيوان يعني كل الأحياء ينامون ويسهرون، فسميت بالساهرة فوصفت بصفة مَن عليها من الأحياء، بأحد أوصافهم.

وبعضهم يقيد ذلك بما يتصل بالسهر، يقولون: إن ساهرة هنا -كقول من قال بأنها الأرض المستوية- المراد بها الأرض الفلاة الواسعة، يقال لها: ساهرة قالوا: لأن العين تسهر فيها ترقباً وخوفاً، يكون الإنسان خائفاً، فلاة ما حوله أحد، فلاة واسعة تحتاج إلى مدة حتى يقطعها، فعادة من يمر بهذه الأماكن الخالية القفر أنه يكون في حال من الترقب والخوف، فإذا جاء الليل ازداد خوفه فيسهر يخاف من العوارض والآفات، ولهذا تجدون كثيراً في كلام الشعراء يمدحون أنفسهم بالشجاعة، فيذكرون أنهم يقطعون الفلاة الشاسعة الواسعة التي لا يقطعها إلا الأبطال أصحاب القلوب القوية الثابتة، كثيراً ما يمدحون أنفسهم بقطع الفلوات الواسعة، ومن هذا ما ذكرته في عدد من المناسبات وهو البيت الذي يقوله صاحبه عن تلك الفلاة في وصفها:

بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

يقول: تنقطع فيها الدواب من طولها وسعتها، أو من بُعد المسافة يحصل للدواب انقطاع –كلال- من طول السير فتُترك فتموت فتتفسخ الجلود عن عظام بيضاء في هذه الصحراء، الجلد يكون يابساً كأنه من المعادن، كأنه قطعة حديد أو خشب أو نحو ذلك.

بعضهم يقول: الساهرة قيل لها ذلك باعتبار أن الأرض المستوية الواسعة الفلاة تَسهر فيها العين مترقبة لِمَا ألمّ بالقلب من الخوف، لكن الذي عليه عامة أهل العلم أن الساهرة: وجه الأرض، ابن جرير يقول: لنوم الحيوان وسهره عليها فوصفت بصفة مَن عليها، فإذا هم بالساهرة: إذا هم على وجه الأرض الأعلى.

وقال الربيع بن أنس: "فإذا هم بالساهرة" يقول الله : يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة إبراهيم:48]، ويقول تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ۝ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ۝ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [سورة طه:105-107]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [سورة الكهف:47] وبَرَزت الأرض التي عليها الجبال، وهي لا تعد من هذه الأرض، وهي أرض لم يُعمل عليها خطيئة، ولم يهرق عليها دم.

ولهذا قال بعضهم كما جاء عن سفيان الثوري -رحمه الله: إن الساهرة هي الأرض التي بُدلت، التي حصل عليها التغيير والتبديل، يعني سفيان الثوري يقول: فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ أرض مخصوصة هي الشام أرض المحشر، وإن كان هو ما قال: أرض المحشر، لكن هو قال: الشام والشام هي أرض المحشر، وبعضهم عبارته مغايرة لهذا يقول: ليست كل الأرض يقال لها: الساهرة، وإنما الساهرة هي الأرض التي بدلت فينتقلون بعد ذلك إلى هذه الأرض المبدلة فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ، فالله أعلم.

الساهرة هي وجه الأرض، وتقييد ذلك بالشام كأنه أخذه باعتبار آخر هو أن الشام هي أرض المحشر وإلا فالأصل أن الساهرة هي وجه الأرض، فالله يتحدث ليس عن مكان محشرهم وإنما يتحدث عن إحيائهم بعد موتهم، يعني يقومون أحياء على وجه الأرض ينظرون.

هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ۝ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ۝ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ۝ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ۝ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ۝ فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى ۝ فَكَذَّبَ وَعَصَى ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ۝ فَحَشَرَ فَنَادَى ۝ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ۝ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ۝ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [سورة النازعات:15-26]، يخبر تعالى رسوله محمداً ﷺ عن عبده ورسوله موسى أنه ابتعثه إلى فرعون وأيده الله بالمعجزات، ومع هذا استمر بطغيانه وكفره حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به، ولهذا قال في آخر القصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى.

إذاً هنا يشير إلى المناسبة التي ذكرتها من قبل على موضوع السورة قلنا: إن السورة تتحدث عن الحشر والنشور والبعث فما مناسبة ذكر قصة موسى؟ هؤلاء الذين يكابرون ويكذبون مُتوعَّدون بعقوبة وعذاب ينزل بهم كما أنزل الله بأسه على إمام المكذبين وكبير العتاة وهو فرعون، بهذا الاعتبار.

يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى، ذلك: يعني ما ذكر من أخبار القيامة وذكْر موسى وفرعون، أو أن ذلك يرجع إلى ما ذكر مما جرى لفرعون وحل به فيكون ذلك عبرة للمكذبين، يعني إما أن يرجع لكل ما سبق مما ذكر، أو يكون ذلك بقصة موسى مع فرعون.

فقوله تعالى: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى أي: هل سمعت بخبره؟

بأسلوب الاستفهام وذلك للتشويق، وفيه أن المعلّم هو الله -تبارك وتعالى- وعلمك ما لم تكن تعلم، وأن أحداً لا يعلم الغيب وإنما الذي يعلمه هو الله -تبارك وتعالى، فالله يخاطب نبيه ﷺ، وهذا الخطاب أيضاً يتوجه إلى أمته، فإنما سيق ذلك من أجل الاعتبار.

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ أي: كلمه نداء.

النداء يكون أخص من مطلق الخطاب أو الكلام، يعني النداء يكون بصوت يُسمع، يسمعه المنادَى.

بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ أي: المطهر.

الوادي المقدس: المطهر المبارك كما يقول ابن جرير، فإن التقديس يعني التطهير، ومن أسماء الله القدوس، فسر بالطاهر من كل عيب السالم من كل نقص؛ لهذا قال: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ [سورة الحشر:23] فهنا القدوس فسر بالطاهر، والسلام السالم من كل عيب ونقص.

وبعضهم جعل ذلك في أزمان وأوقات قال: القدوس المطهر في الزمن الماضي السالم من كل عيب ونقص، والسلام هو السالم في الحاضر والمستقبل.

طُوًىوهو اسم الوادي على الصحيح كما تقدم في سورة طه.

اسم الوادي ولا حاجة للأقاويل الأخرى وهي أقوال بعيدة وضعيفة لكن هو اسم الوادي، والفراء يقول: هذا الوادي بين المدينة ومصر بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ولا حاجة للاشتغال بالتعيين والتحديد ونحو ذلك، فهذا ليس عليه دليل بيّن، ولا فائدة من ذلك.

والقول بأنه الوادي هذا قول الجمهور.

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىأي: تجبر وتكبر وعتا.

يعني الله -تبارك وتعالى- يقول: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ۝ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ۝ اذْهَبْ فيكون هذا على تقدير: أن اذهب إلى فرعون إنه طغى، أو على تقدير القول أي: ناداه ربه بالواد المقدس طوى قال: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، أو أن هذا تفسير للنداء ناداه اذهب، الذي يؤيد تقدير أن اذهب قراءة غير متواترة عن ابن مسعود "إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى أن اذهب إلى فرعون".

فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى [سورة النازعات:18]، أي: قل له: هل لك إلى أن تجيب إلى طريقة ومسلك تزكى به أي تسلم وتطيع؟

يعني قل له: هل لديك رغبة، هل لك إلى أن تزكى، هل ترغب في التزكية؟ وأصل هذه المادة "الزكو" يدل على تطهير، ويدل على نماء، ولذلك الزكاة تطهر النفس والمال وفيها نماء للمال، "ما نقص مال من صدقة"، فهذا أصلها، وتزكية النفوس تكون على شقين:

الأول: الذي يسمى بالتخلية.

والثاني: الذي يسمى بالتحلية، فالنفوس بحاجة إلى إزالة ما يعلق بها من الأكدار، وهي بحاجة إلى بناء بالمعاني الطيبة والكمالات، فالتزكية تقوم على هذين الفصلين، وهنا هل لك إلى أن تزكى؟ فهنا يدخل فيه التطهر من الشرك والمعاصي، والتحلي بالإيمان والعمل الصالح، فالتزكية تشمل الأمرين: تتطهر من الشرك والمعاصي والكفر، وتتحلى بالإيمان والعمل الصالح.

وهنا قراءة الجمهور هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وفي قراءة نافع وابن كثير "تزْكَى" والذي يظهر -والله أعلم- أن معنى القراءتين واحد، كل ذلك من التزكية، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، إلا أن بعضهم كأبي عمرو بن العلاء وهو من أئمة اللغة يقول: إن قراءة التخفيف تكون بمعنى تزكية النفس، والتشديد "تزَكّى" تكون بمعنى الصدقة، لكن هذا فيه بُعد؛ لأن موسى ﷺ ما ذهب إليه يقول له: تصدق، وإنما يقول له: آمِنْ بالله وتخلَّ عن الإشراك والكفر ومحادة الله وادعاء الربوبية والإلهية أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24]، ومَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38].

ما ترك شيئاً فيقول له: هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى والتزكية في القرآن يعني غير الزكاة، فالزكاة معروفة وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43] هي المال المقدر الذي أوجبه الله في الأموال الخ... لكن "قد أفلح من تزكى" وأشباه ذلك في القرآن المراد بها تزكية النفوس قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [سورة الشمس:9، 10] كل ذلك يراد به تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح والتخلي عن أضداد ذلك، هذا هو المراد، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [سورة الجمعة:2]، يعني يطهرهم بالإيمان ويبني نفوسهم بالعمل الصالح ويخلصهم من الشرك وأدناسه، هذا المراد في جميع المواضع إلا أن من المواضع ما اختلف فيه أهل العلم اختلافاً لربما له ما يبرره وله وجه من النظر، وإلا فالأصل أن التزكية تكون بهذا المعنى.

وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [سورة النازعات:19] أي: أدلك إلى عبادة ربك، فَتَخْشَى أي: فيصير قلبك خاضعاً له خاشعاً مطيعاً بعدما كان قاسياً خبيثاً بعيداً من الخير، فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى [سورة النازعات:20]، يعني فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجةً قوية ودليلاً واضحا على صدق ما جاءه به من عند الله.

فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى هل هي العصا؟ أو يقال -وهو الذي عليه عامة أهل العلم: العصا واليد وهي من أكبر الآيات وهي التي ابتدأ الله بها حينما أمره بذلك؟

قال الله : وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [سورة القصص:31] هذه الأولى لما خاطبه الله وأوحى إليه، وقال: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ۝ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [سورة طه:22، 23]، فهنا فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى [سورة النازعات:20] أراه الآية تكون الآية بهذا الاعتبار جنساً، ليست مفردة، فتكون العصا واليد هي أكبر الآيات؛ أن يضع يده في جيبه هذه آية لموسى، من الرهب يضع تحت عضده مثلاً هذه آية لموسى، لكن هناك آيات لآل فرعون كالجراد والقمّل والضفادع والدم، لكن إذا قرنت هذه بالعصا فهذه بيده تلوح لكن تلك قد يقولون: هذه طبيعية هذه بسبب رياح قادمة من جهة الشرق غرب المحيط الأطلنطي كما يقولون اليوم، ويحصل زلزال فيقولون: هذا فيه انصهار تحت الطبقة الصلبة من المنطقة المنصهرة فأوجد حركة واضطراباً وهذا شيء طبيعي وليس ذلك بسبب عذاب الله وسخطه ولا آية من آياته ولا شيء.

هكذا يقال اليوم، مهما تأتِ الآيات فهذه أشياء طبيعية، فهذه الجراد والقمل والضفادع والدم والطوفان الفراعنة -وهم الفراعنة- ما قالوا هذا الكلام! وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ [سورة الزخرف:49] مباشرة ذهبوا إلى موسى، وعرفوا أن ذلك عقوبة من الله -تبارك وتعالى، فكفْر الكافرين اليوم قد يكون أغلظ من كفر آل فرعون من بعض الوجوه، فهنا فأراه الآية الكبرى إذا قلنا: الآيات التسع فيكون المقصود الجنس، وإذا قلنا: العصا واليد وهذا هو الأقرب لعامة أهل العلم يكون المقصود الجنس، ليست مفردة.

وإذا قلنا: المقصود بها العصا مثلا تكون مفردة، لكن الله بم أمره حين يأتي إلى فرعون؟ وماذا فعل هو حينما جاء بالعصا؟ ألقاها فإذا هي ثعبان، وأيضاً أراهم يده بيضاء، فهذا هو المقصود، والله أعلم.

فَكَذَّبَ وَعَصَى [سورة النازعات:21] أي: فكذب بالحق وخالف ما أمر به من الطاعة، وحاصله أنه كفر قلبه فلم ينفعل لموسى بباطنه ولا بظاهره، وعلْمُه بأن ما جاء به حق لا يلزم منه أنه مؤمن به؛ لأن المعرفة علم القلب والإيمان عمله وهو الانقياد للحق والخضوع له.

هذا القدر وهو قوله -تبارك وتعالى: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ۝ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ۝ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ۝ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى هذا الخطاب بهذه الطريقة بهذا الرفق يؤخذ منه الرفق في الدعوة لا سيما في مخاطبة الكبراء، وذلك يكون أدعى للقبول، مع أن الله علم أن فرعون لن يستجيب، والله قال: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44] لعله يتذكر فدل ذلك على أن القول اللين يكون علة للانقياد والاستجابة والقبول، ومن ثَمّ فإنه لابد من تحديد المراد والهدف ابتداء في الدعوة والخطاب فيمن تخاطبه، هل تريد هدايته أن يستجيب وينقاد؟

فلابد من اختيار العبارة والأسلوب والطريقة المناسبة هذا سواء كان في كتابة مقال في تغريدة كما يقال، أو في رد في كتاب أو في قناة فضائية لابد من تحديد هدف، هذا الهدف يتوجه لمن؟ وما الهدف منه؟ هل هو كسر العظام؟ إذاً شرد بهم من خلفهم وهات أوحش العبارات وأوحش أسلوب.

وإذا كنت تقول: لا، المقصود هو دعوة هؤلاء الناس وهداية هؤلاء الناس واستمالة قلوب هؤلاء المخاطبين إذا لا داعي للعبارات الموحشة، لا داعي لاستعمال بعض الألفاظ والكلمات المنفرة، فإذا كنت تخاطب إنساناً أو تنشئ قناة فضائية وتخاطب طائفة من الناس، ولو كانت ضالة إذا كان المقصود هداية هؤلاء الناس لابد أن يكون بالأسلوب الذي يقبلونه لا أن تصكهم صك الجندل، وتنشقهم الخردل، وتقول: استجيبوا راغمين، لا، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا.

فهنا علمه القول اللين، هل لك؟ أسلوب العرض والاستفهام، ثم أضاف ذلك إليه "لك" الاختيار بيدك، أنت صاحب القرار، إلى أن تزكى ما قال أزكيك، قال: تَزكى أنت، اختر لنفسك، تتطهر ثم قال: وَأَهْدِيَكَ؛ لأن موسى هو الهادي والرسول ولم يقل: وأهديك إليّ، أو: أهديك إلى الحق الذي لا تعرفه، قال: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فهو سيدك وخالقك أدلك عليه تحصل لك الخشية إذا عرفته بأسمائه وصفاته، فهذا الأسلوب ينبغي أن يراعى فيمن نخاطبه فيمن ندعوه لكن النفس أحيانا لربما يحصل لها نوع انفعال وانبعاث بسبب الغيرة فيتصرف الإنسان تصرفات لو نوقش فيها وروجع فيها لقال: لم يكن لي أن أفعل هذا الفعل، إن كان عاقلاً.

لكن يقول: في لحظة انفعال في لحظة غيرة تكلمت بهذه الطريقة، أو كتبت بهذا الأسلوب، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يكتب وهو منفعل، لا تكتب مناصحة لا تكتب احتسابا لا تتصل بأحد وأنت منفعل؛ لأنك ستتكلم بطريقة في الغالب لن تكون هي الأدعى للقبول، قد تتحول القضية إلى نوع من التحدي.

من أنت حتى تخاطبني بهذه الطريقة؟ من أنت حتى تكتب لي بهذا الأسلوب؟ لكن لو أنه تكلم بكلام جيد بكلام طيب أقل ما هنالك أنه يقول: أشكرك على هذه النصيحة، لكن الإنسان أحياناً ينسى، وأحياناً تختلط عليه الأوراق بمعنى أن الإنسان أحياناً -والله المستعان- يظن أن هذا فيه من الحق والثبات وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم، لكن إذا كان المقصود القبول والاستجابة والإذعان وتكثير الخير وتقليل الشر إذاً عليك أن تبحث عن أفضل الأساليب.

فموسى الله يأمره بهذا، ويعلمه كيف يقول: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى بعض الناس يظن أن هذا نوع من الضعف والخنوع، ويأنف من ذلك، وقد تختلط أحياناً حظوظ النفس بدعوة الخلق.

مواد ذات صلة