بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقبل الشروع في تفسير سورة عبس نسمع الآيات من سورة النازعات، عبد الرحمن خُذ المصحف.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَإِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [سورة النازعات].
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
يقول الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المكذبين بالبعث: فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [سورة النازعات:34]، إذا جاءت الداهية العظمى التي تطم على سائر الدواهي والوقائع العظام، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى [سورة النازعات:35] عندها يعلم الإنسان ما كان عليه من العمل، ويتذكر تقصيره وتفريطه، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى [سورة النازعات:36] أُظهرت حتى صارت بادية للعيان يراها كل أحد.
فَأَمَّا مَن طَغَى [سورة النازعات:37] جاوز حده في الطغيان فكذب الرسل، وكفر بالله ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَاقدمها، واشتغل بلذاتها وشهواتها، وأعرض عن الإيمان والعمل الذي ينفعه ويرفعه، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:39] فإن مصيره الذي يصير إليه هو النار.
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [سورة النازعات:40]، خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ أي: مستحضراً رقابته ونظره إليه، وقيامه عليه، يُحصي عليه أعماله، ولا يفوته شيء من أحواله وأقواله، أو خاف قيامه بين يدي الله للحساب، ونهى نفسه عن هواها، وحملها على طاعة مولاها، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:41]، فإن مصيره إلى الجنة، هذه هي المعادلة، وهذا هو الذي يترتب عليه الفوز أو الهلاك، بهذا الإيثار إيثار الهوى، أو إيثار الإيمان وطاعة الله .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [سورة النازعات:42]، يتساءل هؤلاء، منهم من يسأل سؤال مكذب مستبعد لوقوعها، ومنهم من يسأل سؤال مستفسر يطلب معرفة وقت الساعة، فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا [سورة النازعات:43]، ما أنت والساعة؟ ما أنت وذكر الساعة؟ وما أنت وعلم وقت وقوع الساعة؟ فذلك لا يرجع إليك، فلا تشتغل به، ومثل هذا السؤال لا يعلم جوابه إلا الله -تبارك وتعالى.
إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [سورة النازعات:44] فإن علمها إنما ينتهي إلى الله -تبارك وتعالى- دون ما سواه، إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا [سورة النازعات:45] ما عليك إلا الإنذار والبلاغ، فهذه مهمتك، لا أن تخبر عن وقت مجيئها.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [سورة النازعات:46] هذه التي يستبعدها هؤلاء من بعض أصحاب هذه السؤالات، أو الذين يستطيلون هذا البقاء في هذه الحياة الدنيا أو يتساءلون متى تقع الساعة، ليعرفوا ذلك: كل ذلك إذا نُظر إليه باعتبار قصر الحياة الدنيا فإن ذلك يقتضي أن الساعة قريبة، هي في غاية القرب، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا، فلا يستطيل الإنسان مدة هذه الحياة، أو يستبعد قيام الساعة، أو يفرط في العمل الصالح، هذه الحياة قصيرة في غاية القصر.
بعد ذلك نبدأ بسورة عبس، وهذه السورة افتتحت بمعاتبة للنبي ﷺ في واقعة حصلت، وصح ذلك في عدد من المرويات، وحاصله يرجع إلى أن ابن أم مكتوم ، وهو قرشي من أهل مكة، ابن خال خديجة -رضي الله تعالى عنها، وكان رجلاً قد كف بصره، فجاء إلى النبي ﷺ يسترشد، وكان عند النبي ﷺ بعض الكبراء من قريش.
في بعض الروايات الصحيحة أبي بن خلف، وفي بعضها عتبة بن ربيعة، وأبو جهل، وفي بعضها على الإبهام، فالمقصود أن النبي ﷺ كان حينها مشتغلاً بهؤلاء في دعوتهم رجاء أن يسلموا فيكون ذلك سبباً لإسلام قومهم، فجاء ابن أم مكتوم في هذه اللحظات، فالنبي ﷺ عبس في وجهه -وهو لا يرى النبي ﷺ وأعرض عنه فلم يجبه، وأقبل على هؤلاء يدعوهم، فعاتبه الله في صدر هذه السورة عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [سورة عبس:1، 2] إلى آخر الآيات.
هذا صدر السورة، وباقي السورة يتحدث عن قدرة الله ، ودلائل القدرة على البعث والنشور، وأن هذا الذي بهذه الصفة هو الذي يستحق العبادة وحده دون ما سواه.
وبين الله -تبارك وتعالى- أن الذين استغنوا عن الإيمان والتوحيد والهدى من كبراء المشركين كان أولهم نطفة، وآخرهم جيفة، ثم بعد ذلك الله يبعثهم الله ، ويحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم، وهم فيما بين ذلك يتقلبون بنعمه وأفضاله حيث ذكر لهم انصباب الماء من السماء، وانصداع الأرض وانشقاقها بالنبات، وما يخرج فيها من ألوان الثمار والزروع والنباتات لهم ولأنعامهم، فهذا الذي بهذه الصفة وهو القادر على هذه الأمور أحق أن يعبد ويوحد، وأن تصرف العبادة له وحده دون ما سواه، وأيضاً هو القادر على إعادة الأجسام من جديد.
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:1-16].
ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله ﷺ كان يوماً يخاطبُ بعض عظماء قريش وقد طَمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم مكتوم -وكان ممن أسلم قديماً- فجعل يسأل رسول الله ﷺ عن شيء ويلح عليه، وودّ النبي ﷺ أنْ لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعاً ورغبة في هدايته، وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؟ أي: يحصل له زكاة وطهارة في نفسه.
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أي: يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي: أما الغنِيّ فأنت تتعرض له لعله يهتدي، وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى أي: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة.
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى أي: يقصدك ويؤمك ليهتدى بما تقول له، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي: تتشاغل، ومن هاهنا أمر الله رسوله ﷺ ألا يخص بالإنذار أحداً، بل يساوى فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
وروى أبو يعلى وابن جرير عن عائشة قالت: أنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى إلى رسول الله ﷺ فجعل يقول: أرشدني، قالت: وكان عند رسول الله ﷺ رجل من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبي ﷺ يُعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقول بأسا؟[1]، فيقول: لا، ففي هذا أنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى وقد روى الترمذي هذا الحديث، ولم يذكر فيه عن عائشة، قلت: كذلك هو في الموطأ.
هذه السورة سورة عبس، هذا هو الاسم المشهور لها، وبعضهم ذكر لها أسماء أخرى، بعضهم قال: سورة الأعمى، وبعضهم قال: سورة ابن أم مكتوم، وبعضهم قال: سورة الصاخة، وبعضهم يقول: سورة السَّفَرة.
قوله -تبارك وتعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، لاحظ أنه جاء بهذا بصيغة الغائب، ما قال: عبستَ وتوليتَ، ولهذا بعض أهل العلم يشير هنا إلى معنىً يتصل بالأدب في الخطاب، يعني: أنه ما وجه ذلك إلى النبي ﷺ؛ لأن في مثل هذه الألفاظ ثقلاً على السامع، فما واجهه بها، وإنما قال: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى.
وهذا كقوله -تبارك وتعالى- في سورة الكهف، لما ذكر خبر موسى ﷺ مع الخضر، قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [سورة الكهف:79]، نسب العيب إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الله، ما قال: فأراد ربك عيبها، وإنما قال: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا، ولما ذكر الغلام الذي قتله قال: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [سورة الكهف:80، 81]، ثم لما ذكر الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة الكهف:82]، وفي العيب نسبه إلى نفسه، هذا من الأدب في المخاطبة.
مثل قول إبراهيم ﷺ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء:80] فنسب المرض إلى نفسه، وأضاف الشفاء إلى الله ، وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [سورة الضحى:1، 3]، فلم يقل وما قلاك؛ لأنها ثقيلة، فالأدب بالخطاب مطلوب، ولذلك لا يحسن بالمحاضر أو الخطيب أن يواجه الناس بعبارات تثقل على أسماعهم، لكن يمكن أن يتكلم بطريقة أخرى، كأن يقول: نحن، فلا يقول: أنتم تفعلون كذا، وتفعلون كذا، وتفعلون كذا.
وقد أعطاني أحد الفضلاء مرة محاضرة قبل أن ينشرها مسجلة عن تربية الأطفال، فقال: ما رأيك فيها؟ وهو رجل من أهل العلم، ولكن لفت نظري أن عبارة تتكرر كثيراً، يخاطب الموجودين بعبارة خطاب، يقول لهم كثيراً، وسمعت آخر يخطب ويقول: أنتم شابهتم النصارى، واتبعتم سبيلهم، فاحتفلوا بالمسيح واحتفلتم بالمولد النبوي، وذكر أشياء من وجوه المشابهة للنصارى، يخاطبهم بها، ويقررهم بها، كان الأولى أن يقال: وقع بعض الناس، بعض المسلمين، أو يقول: نحن نفعل كذا، نحن وقعنا في كذا، نحن في كذا، ما يكون بأسلوب يخاطب الناس بطريقة تزعج.
ففي قوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى لم يقل: عبستَ وتوليتَ، وعبس: بمعنى كلح وقطَّب وجهه، والعبوس معروف: قبض وجهه تكرهاً، يعني: لما جاءه الأعمى في هذا التوقيت تغيرت معالم وجهه ﷺ، قطّب.
والأعمى لم يكن يراه فلا يتأثر بذلك، ومع ذلك عاتبه الله ، فكيف لو كان يراه فيتأذى به؟! فإن مثل هذا التصرف لا يوجه لمن يأتي طالباً للهدى، ولو كان التوقيت غير مناسب، ولو كنت منشغلاً في غاية الأهمية، فهذا تعليم من الله ، إذا كان يعاتب أفضل الخلق، ويقول له: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى.
فالمشاعر الجيدة تجاه الآخرين والتعامل معهم بالأسلوب الأمثل والأرقى حتى لو كان ذلك لا يشعرون به هو المطلوب من المسلم، فهذا تعليم من الله بأمرين:
الأول: الإقبال على من ينتفع، وعلى من يحرص على العلم، فالعلم يُبذل لمن يرغب فيه، ويطلبه، ولا يبذل لمن يكون زاهداً فيه، ومن مساوئ التعليم الإجباري أنك تلقي العلم لقوم هم أزهد الخلق فيه، إلا من رحم الله ، فهذا من أصعب الأشياء، يموت الإنسان مراراً وهو يرى صرعى لا يرفعون رأساً بالعلم، ولا يحفلون به، وإذا غاب عنهم من يعلّمهم فذلك عيد، وإذا أعطاهم من العلم وفاض عليهم من الفوائد والمسائل ضاقوا ذرعاً بذلك، وهذه مشكلة كبيرة، وبلاء عظيم، أن يبذل العلم لمن يزهد فيه، فهو من أصعب الأشياء على النفس.
الأمر الثاني: هو أن هؤلاء الذين يطلبون العلم أو يسألون عنه، أو يستفتون أو نحو ذلك قد لا يوفقون، إما في اختيار الوقت المناسب، أو في الطريقة، في طريقة السؤال عن العلم، قد يبادرك بمجرد ما تسلّم من الصلاة، ويأتيك مباشرة يريد أن يسأل، أو يكون بطريقة غير مناسبة، فأحياناً يسأل بمقدمة استفزازية، كأن يقول: "أنت فاضي"؟ فمقدمة السؤال بهذه الطريقة تستفز النفس، "كيف فاضي"؟! فالمؤمن في شغل شاغل، لكن هذا من الشغل، فلو أنه تلطف بالسؤال وقال: هل أستطيع أن أسأل الآن؟ هل الآن الوقت مناسب؟
وأحياناً يبدأ بطريقة: جاوِبْ، ضروري الآن، وهذا الأسلوب ممكن أن يستخدم مع واحد من أصغر أولادك، أو واحد يشتغل عندك، لكن تأتي وتخاطب الناس بهذه الطريقة، أو أخرى ترفع صوتها غاضبة: اتقوا الله، أو تكتب رسالة: أنتم تأخذون رواتب، وجالسون في بيوتكم، ما تردون على أسئلتنا، وثالث يقول: أنت لماذا تنشر رقمك إذا كنت لا ترد؟ فهؤلاء تصدر منهم تصرفات تحتاج إلى صبر وتحمل، فالنبي ﷺ وهو قدوتنا ومعلم الناس يأتيه من يقول له: أعطني فإنك لا تعطي من مال أبيك ولا مال أمك، يخاطب النبي ﷺ بهذا، فكل ذلك ينبغي أن يكون موطّناً للنفوس على الصبر.
أَن جَاءهُ الْأَعْمَى [سورة عبس:2] أي: لأجل أن جاءه الأعمى يسأل في هذا الوقت الذي كان النبي ﷺ فيه مشغولاً.
قال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [سورة عبس:3] وما يشعرك لعله يحصل له زكاة وطهارة في نفسه؟ فإن كان ابن أم مكتوم في ذلك الوقت لم يسلم بعد فيكون المراد يَزَّكَّى يعني: يدخل في الإسلام، يحصل له الزكاء بالإيمان، وبعض أهل العلم كابن العربي يقول: لا يُعلم بالتحديد متى كان وقت دخول ابن أم مكتوم في الإسلام، لَعَلَّهُ يَزَّكَّى فإن النفوس تتزكى بالإيمان والعمل الصالح، وشرائع الإيمان هي إيمان، فإذا كان قد دخل في الإسلام فيحصل له تزكية بهذا العلم.
ابن زيد يقول في قوله: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [سورة عبس:3] أي: ينتفع، لكن من أهل العلم من قال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يعني: الكافر، يعني لا ينتفع، وأنت مقبل عليه، قال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يحصل له زكاة وطهارة في نفسه وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يحصل له اتعاظ أو انزجار عن المحارم، بمعنى أنه بين أمرين: إما أن يحصل له تزكية، إن كان لم يسلم بعد فيدخل في الإسلام، أو يحصل له ذكرى فينتفع بها في يوم من الدهر، وإن كان قد أسلم فإنه إما أن يزكى يتعلم من شرائع الإيمان أشياء جديدة تحصل له بها تزكية، أو يحصل له بذلك اتعاظ وتذكر واعتبار فينتفع وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات:55]، هذا الذي ينبغي الإقبال عليه.
قال: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [سورة عبس:5، 6]، استغنى عن الإيمان، استغنى عن دعوتك، عما تخاطبه به، ويحتمل أن يكون اسْتَغْنَى يعني: صار ذا غنى، من هؤلاء الكبراء، كانوا من الأغنياء، وكما يقول ابن جرير: استغنى بماله، يعني: هؤلاء الذين استغنوا عن دعوتك وعن الإيمان بما صار لهم من المال والجاه والقوة والولد وما إلى ذلك، فهؤلاء ليسوا أصحاب أولوية في توجيه الخطاب إليهم على حساب من يحرص على هذا الإيمان وهذا العلم، لكن أن يسوي بين الناس، أو يقدم هؤلاء أهل الحرص، وهم في الغالب الضعفاء والفقراء.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [سورة عبس:5، 6]، ابن كثير يقول: أما الغنيّ فأنت تتعرض له لعله يهتدي، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى التصدي يقال للإقبال على الشيء والإصغاء، فأنت له تصدى، هذا تُعرض عنه وهذا تصغي إليه وتقبل عليه.
يقول: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [سورة عبس:7] ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة؛ وهذا يدل على أن المراد والمقصود بقوله: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الأعمى، وهنا وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى يعني: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة، فهنا "ما" على قول ابن كثير نافية، يعني: أن هذا لا يضرك، لن تحاسب على هذا، لن تلحقك تبعة لكون هذا الإنسان أعرض وكفر، فإن كفره يرجع عليه، وابن جرير يقول: أي شيء عليك ألا يتطهر من كفره فيسلم، يعني: لا شيء عليك، هذا بمعنى قول ابن كثير: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة.
ومن أهل العلم من يقول: إن "ما" استفهامية، وكلام ابن جرير يحتمل هذا، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، ما يضرك إذا لم يتزكَّ؟ ما الذي يلحقك في ذلك؟
وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى [سورة عبس:8، 9] أي يقصدك ويؤمك، والتزكية -كما قلنا في السابق- بالإيمان والعمل الصالح، والسعي، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى [سورة عبس:8] هل المقصود به السعي المعروف وهو الإسراع في المشي أو المقصود به الناحية العملية الانتفاع والاهتداء وما إلى ذلك؟ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى.
فهذا جاء يسعى وهو يخشى، جاء يسعى إلى النبي ﷺ فيكون ذلك بالسير إليه سيراً حثيثاً، وأيضاً فإن ذلك منه عملٌ وجِدٌّ على طلب الهداية.
قال: يقصدك ويؤمك ليهتدي بما تقول له، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى [سورة عبس:10] أي: تتشاغل، ومن هنا أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن لا يخص بالإنذار أحداً بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف إلى آخره.
وإقبال النبي ﷺ على هؤلاء الكبراء لم يكن من أجل دنياهم، ففعلُ النبي ﷺ لا غضاضة فيه من جهة حرصه ﷺ على اهتداء هؤلاء؛ لأن هؤلاء سيهتدي مَن وراءهم، من هذا المنطلق، لكن ذلك يكون مذموماً إذا كان على حساب الضعفاء الطالبين للهداية، الراغبين فيها، ويكون الذم فيه أعظم إذا كان ذلك على سبيل المصانعة والمحاباة لهم، ويكون ذلك أعظم في الذم إذا كان من أجل الملق والتقرب إليهم لنيل دنياهم والحظوة عندهم وما إلى ذلك، هذه مراتب.
يعني: من الناس من يقبل عليهم لعلهم يهتدون فينفع الله بهم، ومن الناس من يقبل عليهم مجاملة لهم ومصانعة لهم؛ لأنهم لهم منزلة في المجتمع ولهم.. إلى آخره، فهو يداريهم ويجاريهم، ومنهم من يفعل ذلك من باب الملق، وطلب دنياهم أو حصول الجاه عندهم وما أشبه ذلك، هذا أعظم في الذم وأقبح، ولا يليق بطالب العلم أن يصير بهذه المنزلة؛ ولهذا قالوا عن الفقيه الذي يتردد على أبواب الأغنياء: لص، فإذا رأيت الفقيه يتردد على أبواب الأغنياء فمعنى ذلك أنه لص، يعني هو لماذا يتردد على أبوابهم؟ من أجل دنياهم، لماذا لا يتردد على أبواب الضعفاء والفقراء؟ فهذا أسوأ الحالات.
ودونه أن يكون من أجل أن الله ينفع بهم، لكن لا يكون على حساب المحتاجين للعلم، وإلى آخره، فقد تجد أحياناً طالب العلم لربما يكثر من مجالسة هؤلاء الذين هم أزهد ما يكونون بالعلم الذي عنده، ويكون الحديث كله أحياناً في قضايا بعيدة عن العلم، أو يتقصد أن يأتي لهم بأشياء من المُلح مما يطيب لهم من الشهوتين، لعلهم يعجبهم كلامه ويضحكون ويأنسون، ويأتي لهم بنوادر ولطائف وحكايات وأشياء جميلة، سواءً من كتب الأدب أو من غيرها فيطربون لذلك ويأنسون به، ويعجبون به وبمجالسه، ويبحثون عنه في أوقات سمرهم، فإن المجلس لا يطيب ولا يعلو الضحك إلا إذا حضر، فإنه يأتيهم بأشياء ما عرفوها ولا اطلعوا عليها من بطون الكتب، وهذا قبيح، لا يليق أبداً بطالب العلم، قد يكون طالب العلم يعتذر من طلاب العلم، لا يجلس لهم ولا بأدنى ما يمكن بأن يقدم ساعة في الأسبوع، بينما الأوقات مصروفة لغيرهم من أمثال هؤلاء أهل الدنيا في كل يوم، كل يوم مجلس لا يتحدث فيه عن العلم، وإنما يتحدث فيه عن أمور أخرى، ولا يخرج فيه الإنسان إلا بقلب قاسٍ ونفس مظلمة.
هذا غير صحيح، العلم يبذل لمن يحرص عليه، ومن يرغب فيه، وعظم الرغبة يكون سبباً للمزيد منه، وإنما يقدم الإنسان لنفسه، وينبغي أن يعلم الناس لا سيما هؤلاء الذين في المدارس، والجامعات وما أشبه ذلك أنهم هم الصورة التي تنعكس على من يعلمهم، فإذا لم ير فيهم الرغبة فإن نفسه تنقبض من بذل شيء يذكر؛ لأنه لا يرى المحل القابل.
وفي مجالس العلم في المساجد قد يأتي من الراغبين لكن قد تبدو بعض المظاهر التي تدل أحياناً على انصراف، مكالمة في الجوال أثناء الدرس، أو النوم، وما أشبه ذلك، فكأن الإنسان جالس يتحدث لمن؟ هذا الكلام يصرف لمن؟ هذه الأنفاس تصرف لمن؟ فينبغي أن يكون الإنسان في غاية الحرص والإقبال والاستفادة، ولا يظهر منه شيء يدل على انشغاله أو زهده أو انصرافه فيكون ذلك سبباً لانتفاعه من الجهتين، يصغي لما يسمع، ويكون ذلك باعثاً للإفادة، والله المستعان.
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [سورة عبس:11] أي: هذه السورة، أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم من شريفهم ووضيعهم.
وقال قتادة والسدي: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ يعني: القرآن.
قوله: كَلَّا يعني: ما الأمر كما تفعل، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، إِنَّهَا الضمير يرجع إلى ماذا؟ بعضهم يقول: إلى الآيات المذكورة هذه، وبعضهم يقول: السورة، كما يقوله ابن جرير -رحمه الله، يقول: أو الوصية بالمساواة بين الناس، يعني: مضمون الآيات.
وقول قتادة والسدي: يعني القرآن، لا شك أن القرآن كله تذكرة وموعظة، لكن هنا الإشارة إلى شيء مذكور كأنه قريب العهد، فهذا الذي ذكر في هذه السورة أو في هذه الآيات تذكرة، يحصل بها التذكير والتذكر.
فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي ذكر ربه، ذكر الله.
ولهذا ابن جرير -رحمه الله- يقول: فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي: ذكر تنزيل الله ووحيه، وبعضهم يقول: هذه تذكرة فمن رغب فيها اتعظ بها وعمل بموجبها، فَمَن شَاء ذَكَرَهُ، اتعظ بمضامينه وهداياته، واعتبر بما فيه من العبر، فإن هذا القرآن ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، فَمَن شَاء ذَكَرَهُ [سورة عبس:12]، من شاء اتعظ واعتبر بما فيه وانتفع.
هذه التذكرة في صحف مكرمة؛ ولهذا قال: هذه السورة أو العظة، وهما متلازمان، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي: معظمة، والكريم هو الشريف من جنسه، يقال له كريم، تقول: هذا نبات كريم، وهذا كلام وقول كريم، وهذا جوهر كريم، وهذا رجل كريم، وهذا شهر كريم.
فهذه الصحف معظمة، مرفوعة، عالية القدر، الرفع هنا يشمل الأمرين يعني قال: عالية القدر والذكر مَّرْفُوعَةٍ [سورة عبس:14]، لا تصل إليها الشياطين، ولا تتنزل بها.
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ابن جرير يقول: اللوح المحفوظ، وبعضهم يقول: الصحف التي في أيدي الملائكة؛ لأنه قال: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ [سورة عبس:13- 15]، والسفرة: هم الرسل السفراء بين الله وخلقه، حملة الرسالات، اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحـج:75]، فالملائكة فيهم رسل، ولهم مهام متنوعة، من هؤلاء الملائكة من يكونون سفراء، قال ﷺ: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة[2]، فلما كان مشتغلاً بالوحي ماهراً به صار مع هؤلاء مرافقاً، وصارت مرتبته عالية، وهو أعظم وأرفع من ذاك الذي يتتعتع فيه فله أجران، لكن المزية لا تقتضي الأفضلية، ذاك مرتبته أعلى وأعظم.
ابن جرير يقول: اللوح المحفوظ، والله أخبر عن القرآن بأنه في لوح محفوظ، لا شك أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، ولكن القرآن أيضاً له تنزلات أخرى، نزل في اللوح المحفوظ، ونزل في بيت العزة من سماء الدنيا، وهو صحف بأيدي الملائكة، كأن الآية هنا تشير إلى ذلك، مع أنه يحتمل أن يكون اللوح المحفوظ، لكن لما قال الله : بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:15، 16] دل على أن المقصود الصحف التي بأيدي الرسل الذين ينزلون بالوحي ويبلغون رسالات الله إلى من شاء من البشر، جبريل ﷺ.
فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ [سورة عبس:13] ليس المقصود به أنه هذا المصحف الذي بأيدينا، وكذلك في قوله: فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:78، 79]، هناك الكتاب المكنون المقصود به اللوح المحفوظ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:79] يعني: الملائكة، لكن يؤخذ من هذا الموضع، يؤخذ من هذه الآية أنه إذا كان في صحف مكرمة فينبغي أن يكرم هذا القرآن الذي بين أيدينا، فلا يوضع في مقام، أو في مكان يمتهن فيه، ولا يكون التعامل معه بحيث يصير إلى حال من الامتهان، فبعض الناس يجعل المصحف مثلاً صندوقاً أو بوقاً، بوقاً كأنْ يثنيه إذا كان جزءاً، يجعله كالبوق، أو يجعله صندوقاً يضع فيه أشياء، أوراقاً، يضع فيه ملفاًّ، يضع فيه أشياء، هذا خطأ، أو يضع المصحف حيث يمتهن، وللأسف هذا كثير اليوم.
انظر عندما تذهب لتصلي في الحرم مثلاً، تجد بعض الناس أحياناً يضع نعليه فوق بعض ويضع المصحف فوقها، أو يضع المصحف على الأرض وهو يعلم أن المارة كثير، هذا يضربه برجله، وهذا يطؤه دون أن يشعر، وهذا يقفز فوقه، ويعلم أن الذين يمرون كثير وأنه سيكون عرضة لكل ذلك، بل رأيت بعض من يدخل مستعجلاً في بعض المساجد حتى يدرك الدرس، ويضع كتبه بما فيها التفسير في دروج الأحذية، هكذا يتعامل مع العلم وكتب العلم، عند الأقدام، هذا ما يليق، فإذا كان هذا القرآن الله سماه كريماً وعزيزاً وصفه بالعزيز والكريم، فينبغي أن يكون التعامل معه بإكرام.
وإذا كان الذي في السماء لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:79]، فينبغي أن يكون هذا الذي بين أيدينا لا يمسه أيضا إلا المطهرون، وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وذكره ابن القيم، وسيأتي -إن شاء الله- في تطبيقات التدبر، في قسم منه اسمه التفسير الإشاري، في الأنواع الصحيحة من التفسير الإشاري وهي قليلة جداً، هذا منها، ما ذكره العلماء هنا لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ الذين فسروا الكتاب المكنون باللوح المحفوظ قالوا: ويؤخذ منه إذا كان الذي في السماء، إذا كان اللوح المحفوظ، إذا كان لا يسمه إلا المطهرون فينبغي أن يكون هذا أيضاً كذلك، هذا اسمه التفسير الإشاري، يعني: من باب أن الشيء بالشيء يذكر، أو من باب الاعتبار، أو أشبه ما يكون بالقياس أو نحو ذلك، يعني لا يخضع لقاعدة من قواعد الاستنباط المعروفة بطرق الاستدلال.
وإذا كان القرآن فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:13- 16]، فينبغي لحملة القرآن أن يكونوا كراماً بررة، هذا وصف الذين في السماء، فينبغي أن يكون حملة القرآن، وأن يكون المشتغلون بالقرآن، وأن يكون الحفاظ والقراء، والمعلمون كذلك، أن يتخلقوا بهذه الأخلاق، والآجري -رحمه الله- تكلم بكلام شديد على الذين يكونون من حملة القرآن، ولكنهم لهم ممارسات وسلوكيات لا تتفق مع ما يحملون، فذكر الإقبال على إقراء الأغنياء، والكبراء، والإعراض عن الفقراء، وكيف إذا جاءه ضعيف فقير زجره ونهره، وإذا جاء غني أكرمه، وذكر التكسب بالدنيا، وطلب الدنيا بالقرآن، وما أشبه ذلك، هذه الأشياء يعني ينبغي أن تكون حاضرة، حامل القرآن من أعز الناس نفساً، لا يمد يده.
رأيت مرة رجلاً يحمل مؤهلاً من أعلى المؤهلات، ويقول: أنا متفرغ لتعليم القرآن في بلدي، فقلت له: وأين تعمل؟ قال: ما أعمل، ويحمل دكتوراه، يقول: أنا فقط متفرغ لتدريس القرآن، قلت: ومن أين تكتسب؟ قال: الطلاب بعدما يخرجون من الحلقة يذهبون في الطرقات ويسألون الناس، ثم يعطونني، قلت: يعني أنت تأخذ أوساخ الأوساخ، كيف تأخذ هذا الذي يسألونه ويعطونك إياه؟! قال: نعم، من أين نأكل؟ قلت: تعمل بيدك وتشتغل، قال: هكذا أدركنا الناس منذ قرون في بلدنا، قلت: بئس ما أدركتموهم عليه، تربون هؤلاء حملة القرآن على الشحاذة، والسؤال، ثم يعطونك هذا؟ فهذا لا يورث إلا المهانة والذل.
ولذلك المفترض أن حامل القرآن يكون من أعز الناس وله هيبة، وتجد الوجه المشرق، وتجد أنوار القرآن عليه، لكن لماذا هذه المهانة أحياناً تحصل لدى بعض الناس ممن يحمل القرآن، مع أنه كتاب عزيز؟ السبب هو هذه الممارسات.
ومن قديم كان في بعض البلدان قراء كبار أحياناً تجدهم يذهبون للمآتم وغيرها يقرءون من أجل أن يأخذوا الأموال، ويحضرون في حفلات وفي مجالس كبراء وكذا، يقرءون ويأخذون الأموال، ورأيتهم في المسجد الحرام قبل حوالي ثلاثين سنة، يصفّون صفوفاً، عُميان ويقرءون قراءة من أجمل ما يكون، يقرءون قراءة مع بعض، كل واحد يقرأ لوحده، جالسون وكل واحد مادٌّ يده عند مداخل الصحن، هكذا يكون القرآن!
والموضة الجديدة الآن لدى بعض القراء يسميها استضافات، يذهب دول غنية، عند هؤلاء خمسة أيام، وعند هؤلاء ثلاثة أيام، وعند هؤلاء أسبوع، وهذا يعطيه كذا، وهؤلاء يعطونه كذا، وهؤلاء يعطونه كذا، وهو مشغول طول الشهر، والآن أيضاً أثناء السنة، أربعاء وخميس وجمعة، أنا أرى أن لا يُصلى خلف هؤلاء، أنا لا أصلي خلفهم؛ لأن هذا متكسب بالقرآن، يتكلف ويتصنع من أجل الدنيا، وطلب المال، سواء حدّد أو لم يحدد، هو ما جاء إلا من أجل هذا، نسأل الله العافية والهداية للجميع.
انتهى الوقت.
السفرة جمع سافر؛ لأنهم يُسفِرون ويَسفرون بالوحي، هكذا يقول أهل اللغة، وذكر هذا ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم قال كمجاهد: هم الملائكة الكاتبون لأعمال العباد، لكن هذا يتعلق بالوحي فهذا فيه بُعد، وقال البخاري: سفرة: الملائكة، يقال: سفرتْ يعني: أصلحتْ بينهم، جُعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تعالى وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم، والسفراء هم الواسطة بين هؤلاء وهؤلاء، الذي يصلح بين الناس ونحو ذلك يقال له سفير، فهؤلاء سفرة يسفرون بالوحي، الملائكة -عليهم الصلاة والسلام.
وقال البخاري: سَفَرةٌ: الملائكة، سَفرتْ: أصلحتْ بينهم، وجُعلت الملائكةُ إذا نزلت بوَحْي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم.
وقوله تعالى: كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:16] أي: خُلقهم كريم حَسَنٌ شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة، ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
روى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران[3]. أخرجه الجماعة.
- أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة عبس (5/432)، رقم: (3331).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواج االنبأ: 18: زمرا (6/166)، رقم (4937)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر في القرآن، والذي يتتعتع فيه (1/549)، رقم (798).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا [سورة النبأ:18]: زمرا (6/166)، رقم: (4937)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر في القرآن، والذي يتتعتع فيه (1/549)، رقم (798).