بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
يقول الله -تبارك وتعالى- معاتباً نبيه ﷺ حينما جاءه ابن أم مكتوم وهو مشتغل بدعوة كبراء قريش إلى الإسلام: عَبَسَ وَتَوَلَّى [سورة عبس:1] كلح وقطّب بوجهه وأعرض عن الأعمى، أَن جَاءهُ الْأَعْمَى [سورة عبس:2]، فعل ذلك لأنْ جاءه الأعمى وهو في هذه الحال وبهذا الاشتغال، وَمَا يُدْرِيكَ [سورة عبس:3] وما يشعرك، وما يعلمك لعله ينتفع، وتحصل له تزكية بالإيمان والعمل الصالح، أو تحصل له ذكرى فيتعظ ويعتبر.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [سورة عبس:5] استغنى بما في يده من المال، واستغنى بجاهه، واستغنى عن دعوتك، واستغنى عن الهدى الذي تحمله وتدعو الناس إليه، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [سورة عبس:6] تقبل عليه وتصغي إليه وهو زاهد فيما عندك.
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [سورة عبس:7] وما يلحقك وما يضيرك؟ أيّ شيء عليك ألا يسلم وألا يهتدي؟ وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى [سورة عبس:8] جاء وهو مُجد مجتهد في غاية الحرص يريد أن ينتفع ويستمع، وَهُوَ يَخْشَى [سورة عبس:9] والخشية هي خوف مع علم بالمخوف منه، فهي خوف خاص، وهذا كله يشعر بأن ابن أم مكتوم في ذلك الوقت كان مسلماً، وصفه بأنه من أهل الخشية.
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى [سورة عبس:10] تتشاغل عنه، تنصرف عنه، كَلَّا ليس الأمر كما صنعت، إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [سورة عبس:11] هذه الآيات، هذه السورة تذكرة، فَمَن شَاء ذَكَرَهُ [سورة عبس:12] فمن شاء تذكر واعتبر وانتفع بمضامينها، أو من شاء تذكر ربه -تبارك وتعالى- فخافه ورجاه، وأقبل عليه.
فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ [سورة عبس:13] هذه السورة، وهذه الآيات ولا شك أنها في اللوح المحفوظ، والصحف المكرمة هنا يمكن أن تكون أيضاً الصحف التي في أيدي الملائكة، هذه الصحف مكرمة لا ينالها رجس ولا دنس، ولهذا وصفها بأنها: مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ [سورة عبس:14]، فهي لا تنالها أيدي العابثين، ولا تصل إليها الشياطين، مرفوعة، وهي أيضاً مطهرة من كل دنس.
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ [سورة عبس:15] وهم هؤلاء الملائكة السفراء بين الله -تبارك وتعالى- ورسله -عليهم الصلاة والسلام، كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:16] هم متصفون بذلك، والكريم هو كل شريف من جنسه، وهم أيضاً بررة، يعني أنهم في صفاتهم في غاية الطهارة والكمال والبر.
قال – تبارك وتعالى : قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [سورة عبس:17-32].
يقول تعالى ذامًّا لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم: قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ قال الضحاك عن ابن عباس: قُتِلَ الإنْسَانُ لعن الإنسان، وكذا قال أبو مالك، وهذا لجنس الإنسان المكذب؛ لكثرة تكذيبه بلا مستند، بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم.
يعني هنا أمران، الأمر الأول: وهو المراد بقوله: قُتِلَ، والأمر الثاني: المراد بالإنسان، فقوله: قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ نقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما: لعن الإنسان.
وظاهر لفظ قُتِلَ أنه دعاء عليه بالقتل، وتفسيره باللعن كأنه تفسير بالمعنى، يعني بمعنى أنه إذا دُعي عليه بمثل هذا فهذا يقتضي طرده وإبعاده من رحمة الله -تبارك وتعالى-؛ لأن اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، ففسر بـ "لُعن" باعتبار أن هذا من لازمه، هذا معنى "قُتل".
والإنسان هنا هو جنس الإنسان المكذب بالبعث، وهذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله.
وأما الآيات الأخرى كقوله -تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى [سورة العلق:6]، إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [سورة المعارج:19]، وما أشبه ذلك فهذا في جنس الإنسان، فإذا هُذبت نفسه بالتقوى والإيمان ارتفع ذلك بحسب ما لابسه من الإيمان والتقوى، فيحصل له التهذيب بحسب حاله وإيمانه، لكن جنس الإنسان من طبيعته أنه يطغى إذا حصل له الغنى، جنس الإنسان أنه بهذه الصفة، إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [سورة المعارج:19، 21]، ولهذا قال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:22].
إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [سورة العصر:2]، هذا في جنس الإنسان إلا من استثني إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
قال ابن جريج مَا أَكْفَرَهُ ما أشد كفره.
وقال قتادة: مَا أَكْفَرَهُ ما ألعنه.
"ما" يحتمل أن تكون استفهامية، والمعنى يتغير، ما الذي جعله كذلك وقد أحسن الله إليه؟ ما الذي حمله على ذلك وقد أعطاه الله وأولاه؟ ويحتمل أن تكون تعجبية، يعني: ما أشد كفره، ما أعظم كفره!.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، يعني: يتكبر ويتعاظم على أي شيء؟
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ قدَّر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد، وهذا المعنى صحيح يدل عليه حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- لما ذكر بعْثَ الملَك إليه إذا كان له أربعة أشهر، فيؤمر بأربع كلمات[1]، فهذا من جملة التقدير، وبعضهم يقول: فَقَدَّرَهُ أي: فسواه وهيأه لمصالح نفسه، وهذا داخل في جملة التقدير، فخلق له اليدين، والرجلين، والعينين، وما أشبه ذلك، وبعضهم يقول: المقصود بالتقدير خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ يعني: أطواراً، وكل هذا داخل في التقدير، فالله -تبارك وتعالى- أطلق في هذا الموضع، خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، قدّر كل ما يتعلق به، هيئته وصورته وأطواره وأجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد.
والخلق يأتي بمعنى التقدير كما مضى عند تفسير قوله تعالى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [سورة الحشر:24]، الخلق بمعنى الإيجاد، لكن يأتي بمعنى التقدير، فالخالق في سورة الحشر يعني: المقدِّر؛ لأنه ذكر بعده البارئ، فالبارئ هو الموجد من العدم، والمصور أعطاه هيئة وصورة تليق به، فهذه ثلاثة معانٍ كلها داخلة في الخلق، ولكن لما ذكر الله هذه الأسماء الثلاثة من أجل أن لا يكون ذلك من قبيل التكرار في المعنى صار لكل منها معنى، فالخالق بمعنى المقدر، والبارئ الموجد من العدم، والمصور أعطاه الصورة الظاهرة، والتصوير يأتي بمعنى الخلق، كقوله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [سورة المائدة:110].
والله يقول: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [سورة الانفطار:7، 8]، فهذا كله داخل في الخلق.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه؛ لأن السياق من أوله يذكر خلق الإنسان، فحينما يكون الإنسان نطفة يكون خروجه سهلاً، فالمرأة لا تشعر بخروج النطفة، بل إن ذلك يخرج منها عادة بعد الجماع، وإنما يبقى ما يحصل به تلقيح البويضة، وكذلك لما يكون علقة، لكن حينما يُنشئه الله خلقاً آخر -وقد يكون أكثر من ولد- إذا حان موعد خروجه انقلب بإذن الله، فصار رأسه إلى أسفل، ويتهيأ للخروج، ثم يخرج بعد ذلك بالطريقة التي يسرها الله .
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، فجاء بالفاء في التقدير، والفاء للتعقيب المباشر، وفي قوله: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ جاء بـ "ثم" التي تدل على التعقيب مع التراخي، فالجنين يجلس تسعة أشهر في بطن أمه.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ كقوله: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10]، وقوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً وهذا هو القول الثاني، فالسبيل -تذكر وتؤنث- بمعنى الطريق، طريق الهداية أو طريق الغواية، بيّن له الخير والشر، أرسل له الرسل، وأنزل عليه الكتب، فبعدما خلقه وقدره قال: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ بيّن له طريق الهدى، وطريق الغواية، فهذه بمعنى هداية الإرشاد، وفي بعض المواضع قد يراد بها هداية التوفيق، يعني ما يتصل بخلق الإنسان وهدايته.
هذا كلام العرب، ذكره الفرّاء وذكره ابن جرير -رحمه الله، كثيراً ما ينقل عن الفرّاء، قد يسميه وقد لا يسميه، كما ينقل البخاري -رحمه الله- في تراجم الأبواب كثيراً معاني الغريب هذه، غير مرويات علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
يعني هنا الفرق بين قبَره وأقبره، ومعنى وأقبره: جعله ذا قبر، وليس معناه قبره، تقول العرب: قبرتُ الرجل إذا وَلِيَ ذلك منه، يعني: إذا قام هو بدفنه بقبره، وأقبره الله: يعني جعله ذا قبر.
أعضبتُ قرنه يعني: كسرت قرنه، وأعضبه جعله أعضباً، وبترتُ ذنب البعير وأبتره الله، يعني: جعله أبترَ.
هذا الفرق بين قبره وأقبره، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ يعني: جعله ذا قبر، المراد الامتنان عليه بأن الله تصرف في خلقه بهذه الأطوار، وأيضاً إكراماً له بعد الموت جعله ذا قبر، فدفن الميت لا شك أنه إكرام له، تصور لو أن الناس إذا ماتوا أُخذ الواحد ورُمي في المزبلة، فهذا فيه غاية الامتهان، وفيه أذى له ولأهله، لو كان هكذا ما في دفن -قبر، لكن يؤخذ ويغسل ويكفن ويصلى عليه، ويذهب معه الناس يشيعونه، ولهم أعظم الأجور في ذلك، في صلاتهم وفي تشييعهم، ثم بعد ذلك يتسارعون في دفنه، وهم أيضاً يؤجرون على هذا، ويقفون على القبر يستغفرون له، فهذا في غاية الإكرام، لكن لو أن الإنسان يؤخذ ويرمى إذا مات فهذا خلاف الإكرام، والله -تبارك وتعالى- قد أنعم على هذا الإنسان بهذه النعم المتوالية ابتداءً وانتهاءً، فعلى أي شيء يكفر؟ ما الموجب للكفر؟ لماذا يتمرد على ربه -تبارك وتعالى، ويعرض عن الإيمان؟
وقوله تعالى: ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ أي: بعثه بعد موته، ومنه يقال: البعث والنشور، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [سورة الروم: 20]، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً [سورة البقرة:259].
في الصحيحين من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: كل ابن آدم يَبْلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خُلق وفيه يُركَّب[2].
عجبُ الذَّنب معروف هو آخر ما يكون في العمود الفقري، في آخره.
وقوله تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ قال ابن جرير: يقول -جل ثناؤه: كلا، ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله، لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ يقول: لم يُؤدِ ما فُرض عليه من الفرائض لربه .
والذي يقع لي في معنى ذلك -والله أعلم- أن المعنى: ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ أي: بعثه، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ أي: لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدَر من بني آدم ممن كتب الله أن سيوجدُ منهم ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كوناً وقدراً، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.
هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- في قوله: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ يعني: أن الله -تبارك وتعالى- لن يبعثه الآن، ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ بعثه من قبره، لكن يقول: لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب الله أنه سيوجد، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ، لم يحصل، لم يتحقق بعد ما قدّره الله مما سيكون ويقع، فلابد من استتمام ذلك، هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى الإنسان، وبعضهم يقول: إن ذلك للعموم.
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ يعني: فعل الله به هذه النعم، وأولاه، وخلقه، وحباه، وأعطاه، وأكرمه، ولم يفِ بحق الله عليه، ولم يأتِ بالعبودية على الوجه الأكمل، وإنما هو ذو تقصير، هذا إذا حُمل على جنس الإنسان المؤمن والكافر، وإذا قيل: هذا في الكافر، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ لم يحقق أمر الله، ولم يمتثل لإيمان فبقي على الكفر، والمعنى الذي ذكره ابن كثير يختلف عن هذا.
هذه دلائل للبعث، فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، وما قبله كذلك: الذي خلقه من نطفه، ثم صار بهذه الهيئة، هذا الإنسان الذي يتصف بهذه الأوصاف من العلم والعقل، ويمشي ويتحرك ويذهب، هذا كله دليل قدرة الله على البعث.
الذي خلقه من نطفه، ثم صار بهذه الهيئة، هذا الإنسان الذي يتصف بهذه الأوصاف من العلم والعقل، ويمشي ويتحرك ويذهب، هذا كله دليل قدرة الله -عز وجل- على البعث.
قال: فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا، فيكون هذا كأنه بدل من الذي قبله، بدل من الطعام، فلينظر الإنسان إلى طعامه، فالمطر ينزل، ثم تنشق الأرض عن النبات، ثم ينبت هذا النبات حتى يستتم، ثم بعد ذلك يكون منه الحب أو نحو ذلك، أو الثمر، حتى يصل إلى الإنسان بهذه العملية المركبة..
انظر حينما يكون النبات داخل الأرض، قال تعالى: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [سورة فصلت:39] فالنبات في البداية يكون داخل الأرض، ثم بعد ذلك تنتفخ الأرض بالنبات، ثم تنشق الأرض عن مسمار النبات، ضئيلاً ضعيفاً ثم ما يلبث أن يستتم، حتى بعد ذلك يصير منه الحب، سواء فيما يضعه الإنسان من البذور أو كان ذلك مما أودعه الله في التربة.
فالتربة تحتفظ بالبذور مثل النباتات الصحراوية، فإذا ما نزل المطر خرجت النباتات والأزهار.
فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا جميع أنواع الحبوب، البر والشعير والأرز وغيره، "حبا"، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، القضب: الفِصفِصة -بالكسر- التي تأكلها الدواب رطبة، ويقال لها: القت أيضاً، ويقال: إنه يقال لها ذلك إذا يبست، وبعضهم يقول: القت هو الرطب، "قضباً" يقضب مرة بعد مرة، فسمي بالقضب الذي هو القطع، فكأنه لتكرر قطعه يقضب، فقيل له: قضب، كأن نفس القضب القطع، سُمي قضبا.
وهو نوع من النبات الذي تأكله البهائم؛ لأنه يُقضب مرة بعد مرة، يعني يُحصد أو يُحَش، ثم يظهر مرة ثانية، ويقال له: القت في نجد وهي لغة عربية فصحى، ويقال له في الحجاز: القضب، هذا يصدق على البرسيم، وهي من أنواع النبات كلما قُضب –قطع- يرجع من جديد، يجلس سنوات، فيكون علفاً لهذه الدواب.
يعني أن الخليل الفراهيدي يقول: يقال لها القت إذا كانت يابسة، الفِصفِصة رطبة، والقت يابس.
هذا تفسير له بالمعنى، أصل القضب القطع فأطلق على هذا النوع من النبات الذي يُقطع مرة بعد مرة ثم يرجع.
يعني يستفاد من زيته في إيقاد السُّرُج، زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [سورة النــور:35].
الرُّب: عصارة التمر المطبوخة، يقال لها: رُب، فالتمر يعمل منه أشياء كثيرة جداً، أو ثمر النخيل على اختلاف مراحله يعمل منه أشياء كثيرة جداً من العصير وغير ذلك من الأشياء التي يعرفها الناس، وتوجد كتب خاصة في هذا فيما يمكن أن يستخرج من هذا الثمر ويعمل منه، والآن تعمل أشياء كثيرة تركب من هذا الثمر، مما يكون من قبيل الحلوى أو غير ذلك.
وَحَدَائِقَ الحدائق هي البساتين التي عليها سور أو حائط يحدق بها، قال الحسن وقتادة: غُلْباً نخل غلاظ كرام، هذا ذكره جماعة من السلف، وأصل هذه المادة يدل على الشدة والغِلَظ، يقال: فلان أغلب الرقبة، يعني: أن رقبته عريضة، فهنا قال: نخل غلاظ كرام، كأنه من قبيل التفسير بالمثال؛ لأن الله قال: وَحَدَائِقَ والحدائق تضم أنواع الأشجار بما فيها النخيل، فهذه النخيل الغلاظ الكرام أدل على العظمة ولا شك أن هذا يعتبر أجود وأكمل في حال النخل إذا كان الجذع غليظاً، بخلاف الجذع الدقيق، فإن هذا يكون لضعف النخلة غالباً، أما الجذع الغليظ فهذا إذا كانت تُسمد بصورة منتظمة، وتسقى بصورة منتظمة، فإن جذوعها تكون عريضة، هذه كرام النخل.
وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: "غلبا" كل ما التف واجتمع، وروي عن ابن عباس أنه قال: طوالاً، والله تعالى يقول: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ [سورة ق:10]، فذكر لها ثلاثة أوصاف، وقال: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] يعني: قريبة، لا تحتاج إلى تسلق حتى يجنى منها الثمر، ويبحث عن أحد يصعد، ولربما فسد فيها التمر في أعلاها، والعالية يكون ثمرها أضعف من الدانية؛ لأن الماء لا يصل إليها مثل ما يصل إلى الدانية، فالامتنان بالدانية أعظم، لكن في المقام الآخر في سورة (ق) قال: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ، فلكل مقام مقال، ففي مقام الامتنان على العباد امتن عليهم بالقريبة، يجنونها من غير تعب، الطفل يجنيها وهو جالس، وفي مقام العظمة -عظمة الخلق- ذكر الطوال، فأخرج الله بهذا المطر هذه النخيل التي تراها باسقة طويلة.
ورواية ابن عباس غُلْباً أي: طوالاً يكمن أن يجمع بينها وبين كلام أهل العلم، وهي أنها عريضة الأصول طويلة، وهذا أوقع في نفس السامع، والله أعلم.
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (4/ 111)، رقم: (3208)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2038)، رقم: (2646).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا [سورةالنبأ:18]: زمرا (6/ 165)، رقم (4935)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين (4/ 2270)، رقم (2955).