بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله : ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [سورة النجم:8]، لم يتعرض لها المفسر هنا، ومَن المراد بذلك ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، هل هو جبريل -عليه الصلاة والسلام- دنا من النبي ﷺ فَتَدَلَّى فازداد دنواً، أو أن ذلك يرجع إلى الله -تبارك وتعالى- دنا من النبي ﷺ ليلة المعراج، أو أن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ مثلاً، أو يرجع إلى من؟
عامة أهل العلم يقولون: إنه يرجع إلى جبريل -عليه الصلاة والسلام، هذا قول الجمهور، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، يعني: جبريل من النبي ﷺ، فالضمير يرجع إلى جبريل، وقد نقل عليه الإمام الدارمي -رحمه الله- الإجماع -وهذا الإجماع قد لا يصح؛ لأنه يوجد من خالف في هذا- وهو قول عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً، فهو المراد بقوله: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى في القرب، واستدل على ذلك الحافظ ابن القيم -رحمه الله- من ستة عشر وجهاً.
ومعنى دنا يعني اقترب، ومعنى تدلى يعني ازداد في القرب، ومن أهل العلم من يقول: إن فيه تقديماً وتأخيراً، تدلى فدنا، وهو خلاف الأصل، فالأصل في الكلام الترتيب، ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح مرتباً فهو أولى من دعوى التقديم والتأخير.
وهنا فيما يتعلق بالضمير دَنَا أي: جبريل -عليه الصلاة والسلام- يمكن أن يرجح هذا بقاعدة أشرت إليها في بعض المناسبات، أو لعلها تكررت في هذه الدروس قبل ذلك مراراً، وهي أن من طرق الترجيح في التفسير أن توحيد مصدر الضمائر أولى من تفريقها، وذكرنا على هذا أمثلة كقوله -تبارك وتعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ [سورة الفتح:9] أي: الله، وَتُوَقِّرُوهُ أي: الله، وَتُسَبِّحُوهُ أي: الله، وأن هذا مما يرجح هذا القول على قول من قال: وَتُعَزِّرُوهُ أي: النبي ﷺ، وَتُوَقِّرُوهُ أي: النبي -عليه الصلاة والسلام، وَتُسَبِّحُوهُ أي: الله، وهما قولان معروفان في تفسير الآية، وله أمثلة كثيرة.
فهنا قوله: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [سورة النجم:2] يعني: النبي ﷺ، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [سورة النجم:3] يعني: النبي ﷺ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ [سورة النجم:4، 5] أي: النبي ﷺ، ثم بدأ يتحدث عن جبريل -عليه الصلاة والسلام، شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [سورة النجم:5، 6] يعني جبريل -عليه الصلاة والسلام، وَهُوَ جبريل، بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا [سورة النجم:7، 8] جبريل -عليه الصلاة والسلام، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [سورة النجم:9] جبريل -عليه الصلاة والسلام، فَأَوْحَى [سورة النجم:10] جبريل كذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
هذا يذكر لبيان القرب، وإن اختلفت العبارات في توصيفه، لكنه يدل على القرب، فمن قائل: قَابَ قَوْسَيْنِ، فيما يتعلق أولاً بالقاب: يقصد به القدر، القاب هو القدر، فقاب قوسين يعني: قدر قوسين، لكن ما تحديد ذلك؟ هل هو من مقبض القوس والوتر؟ فالقوس مقوس ثم فيه الوتر، فكبد القوس أو المقبض ما بينه وبين الوتر هذه المسافة هل هي المقصودة بالقاب، أو أن المقصود بالقاب يعني ما بين كبد القوس مثلاً إلى الطرف، يعني نصف قوس يقال له: قاب؟ من أهل العلم من يقول هذا، ومنهم من يقول هذا.
وبعضهم يقول: يعني قابَيْ قوس، قابَ قوسين أي قابَيْ قوس، باعتبار أنه إذا قلنا: إن قاب القوس من الكبد -كبد القوس- إلى الطرف فقابي قوس يعني القوس كاملاً، فهذا يقال له: قاب قوس، قَابَ قَوْسَيْنِ من كبده إلى طرفه، فقابَيْ قوس يعني من مقدار بُعد ما بين طرفي القوس، هكذا يقول بعض أهل العلم.
وكذلك يحتمل أن يكون قَابَ قَوْسَيْنِ يعني: بمقدار قوسين، وأياً كان هذا فهو يدل على شدة القرب، هل هو طول قوس، أو طول قوسين كاملين؟ يعني هذا أبعد ما قدر به، أقصر تقدير أنه ما بين كبد القوس إلى الوتر، وأبعد تقدير أنه بطول قوسين، وأوسط تقدير أنه بقدر قوس؛ لأن قاب القوس من كبده إلى طرفه، وهذا لا يؤثر كثيراً.
المقصود أنه اقترب منه جداً، يعني جبريل -عليه الصلاة والسلام، وهنا هذه في الرؤية الأولى للملك، ليس ذلك في ليلة المعراج، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى بالأفق الأعلى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى أي: جبريل ﷺ حينما نزل عليه أول مرة، وليس الكلام في ليلة المعراج أصلاً حتى يتوهم أن المراد بذلك الله ، أو أن النبي ﷺ اقترب من الله.
وقد قيل: إن المراد بذلك بُعدُ ما بين وتر القوس إلى كبدها.
وقوله تعالى: أَوْ أَدْنَى قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه.
"أو" هذه كما سبق هل هي للتردد والشك مثلما سبق في قوله تعالى: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147]، كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74]، لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44]، فهذه إذا قالها الإنسان فقد يكون ذلك نتيجة لتردده، عنده شيء من التردد، شاك في العدد ما يعرف بالضبط كم يقول لك عددهم، عشرة أو يزيدون، مائة أو يزيدون، ألف أو يزيدون، وهكذا للمتردد، لكن الله يعلم ذلك علماً تاماً، فما المراد بذلك؟
فهذا الذي يذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جواب على هذا الإشكال، وخلاصة هذا الجواب الذي ذكره -وهو الذي اعتمده ابن القيم أيضاً- هو أن ذلك يقال لتحقيق -كما يقول هنا- المخبر عنه وإثباته، ونفي ما زاد عليه، هنا يقول: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، يعني: ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها أو تزيد عليها.
يقول: وقد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه، ونفي ما زاد عليه؛ لتحقيق المخبر أنهم لا يقلون عن هذا، كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ليسوا بأقل قساوة من الحجارة، مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ليسوا بأقل من مائة ألف، وهنا فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، هنا في هذا الموضع ليس بأزيد -ليس بأكثر- من القوسين، فهي لتحقيق هذا الخبر أنه اقترب منه جداً حتى صار بقدر قوسين أو أقرب من ذلك فقط، وليس للشك، وإنما يستعملها العرب لتحقيق الخبر، هذا جواب.
وذكرنا جواباً آخر من قبل، قلنا: إن هذا مُراعًى فيه حال المخاطب، فالخطاب قد يرد بناءً على حال المخاطب، بالنظر إلى حال المخاطب، يعني أن الناظر إلى هؤلاء يقول: مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، الناظر إلى قربه يقول: بقدر قوسين أو أقل من ذلك، يعني بحسب نظركم، وذكرنا له أمثلة على هذا وهو كيف يرد الخطاب بالقرآن بحسب نظر المخاطبين، وقيل غير ذلك من الأجوبة، يعني قيل: إن "أو" هذه ليست للشك، ومنهم من قال: إنها بمعنى الواو مثلاً.
أو بمعنى "بل"، بل يزيدون، وبل أقرب.
ممتنع؛ لأنه من كلام علام الغيوب، هذا يرد في كلام الآدميين لنقص علمهم.
وهكذا هذه الآية: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد ﷺ إنما هو جبريل هو قول أم المؤمنين عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهم، كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله.
وقال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في هذه الآية: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى قال: قال رسول الله ﷺ: رأيت جبريل له ستمائة جناح[1].
وروى البخاري عن طلق بن غنام عن زائدة عن الشيباني قال: سألت زرّاً عن قوله: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى قال: حدثنا عبد الله أن محمداً ﷺ رأى جبريل له ستمائة جناح.
قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [سورة النجم:10] معناه: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ﷺ ما أوحى، أو: فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح، وقد ذُكر عن سعيد بن جبير في قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى قال: أوحى إليه: "ألم أجدك يتيما" وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [سورة الشرح:4].
وقال غيره: أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
لا دليل على تخصيص شيء من ذلك، وهذا الإبهام أسلوب معروف في القرآن، وهو يفيد التفخيم، تفخيم الموحى به، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، فأبهمه للتفخيم -والله تعالى أعلم، وهذان القولان في قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ أوحى الله إلى عبده، أو أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ﷺ بينهما ملازمة، فإن ما يوحيه جبريل إلى النبي ﷺ إنما هو من وحي الله.
ومثل هذا -والله أعلم- لا يحتاج إلى ترجيح، فإذا كان بين القولين ملازمة فإن ذلك يدخل جميعاً ضمن تفسير الآية، فأوحى الله إلى عبده محمد ﷺ أو أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ﷺ، فإذا قلت: جبريل أوحى فإنما ذلك بوحي الله، وإذا قلت: إن الله أوحى فإن ذلك بواسطة جبريل ﷺ في هذه القضية حينما نزل وقال له: اقْرَأْ [سورة العلق:1].
فقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أي: فؤاد محمد مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، ابن جرير -رحمه الله- يقول: ما كذب فؤاد محمدٍ محمداً، يعني: ما كذبه فؤاده، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، يعني: أن فؤاده صدّقه بما رأى، صدّقه بذلك ووافقه، بمعنى أنه تواطأ في هذه الرؤية التي رآها النبي ﷺ القلب مع العين، بمعنى أن نظر العين وافق نظر القلب، يعنى أن الإنسان قد يرى شيئاً ولا يصدقه فؤاده، يعني قد يتهم الإنسان بصره، يقول: لا، أنا واهم، أنا أتخيل، لعل البصر زاغ، لعل..، يرى شيئاً لا يصدقه قلبه، البصيرة تخالف العين، البصيرة نظر القلب تخالف نظر العين البصر، فلا يتوافق نظر القلب مع نظر العين، فالنبي ﷺ صحيح البصر صحيح البصيرة، فوافق قلبه عينه فيما رأته، وما حصل لقلبه تكذيب لمَا رأى مع أنه رأى أموراً عظيمة جداً، حيث رأى من آيات ربه الكبرى، فهذا هو المراد -والله تعالى أعلم.
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، وفي قراءة أخرى بتشديد الذال ما كذّب الفؤاد ما رأى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ماذا رأى النبي ﷺ؟ يمكن أن يفسر بما جاء في الصحيح في البخاري عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه: (رأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق[3].
يقول: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى قال: رآه بفؤاده مرتين، هذا رواه مسلم عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، رآه بفؤاده مرتين، وابن عباس رويت عنه في هذا روايات كثيرة، منها الصحيح ومنها الضعيف، منها ما مفاده أنه رآه بعينه مرتين، ومنها ما مفاده أنه رآه مرة بعينه ومرة بقلبه، ومعنى أنه رآه بفؤاده -بقلبه- مرتين من أهل العلم من يفسر هذا بالرؤيا المنامية، رآه بقلبه: يعني ليس حقيقة بعينه، وإنما بقلبه يعني في نومه، ورؤيا الأنبياء حق، والسياق هنا في أول مرة نزل فيها جبريل على النبي ﷺ والأحاديث التي تدل على رؤية النبي ﷺ للملك على صورته كثيرة، وهذا أولى ما تفسر به الآية، فقد رآه بعينه حقيقة، حينما عرج به، رأى جبريل ﷺ، ولو كانت رؤية بالقلب لما حصل منهم المماراة للنبي ﷺ، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، تجادلونه تنكرون، تدفعون قوله، تريدون إبطاله؟
هو الكلام على الأول حينما رآه أول مرة قد سد الأفق، ليس بعدما عرج به.
وقال مسروق: دخلتُ على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيء قَفَّ له شعري، فقلت: رُوَيدًا، ثم قرأتُ: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فقالت: أين يُذهَبُ بك؟ إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمداً رأى ربه، أو كتم شيئاً مما أُمرَ به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ [سورة لقمان:34]، فقد أعظم الفرية، ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم: هل رأيتَ ربك؟ فقال: نورٌ أنّى أراه[4]، وفي رواية: رأيت نوراً[5].
في قوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى يعني: جبريل ﷺ، يعني فؤاد النبي ﷺ صدّق عينه فيما رأى، وبعض أهل العلم يحمل هذا على ليلة المعراج، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى من المماراة وهي المجادلة، والملاحاة، وفي قراءة حمزة والكسائي أفتمورونه يعني: تجحدونه، عَلَى مَا يَرَى، بعض أهل العلم قال: إن "على" هنا بمعنى "عن"، ولا حاجة لمثل هذا، تبقى على بابها عَلَى مَا يَرَى؛ لأن ذلك مفسر بمعنى الجحد.
أَفَتُمَارُونَهُ يعني: أتجادلونه، فهي مجادلة يراد بها الدفع والإبطال والجحد، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وإنما فعلوا ذلك مكابرة، فهي مجادلة يطلبون بها دفعه عما علمه وشاهده، كما قال الله : يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ [سورة الأنفال:6] يعني: في يوم بدر، فهم جمعوا بين المجادلة والجحد والإنكار، فـ "على" هذه تفيد معنى المكابرة، قراءة الألف: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى تجمع المعنيين، و"على" تشير بذلك.
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، قيل: النزلة يعني المرة من النزول، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى أي: مرة أخرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وسدرة المنتهى: جاءت الأحاديث في سدرة المنتهى في بعضها كما في الصحيح أنها في السماء السادسة، وجاء في بعض الروايات أنها في السماء السابعة، والمنتهى يعني مكان الانتهاء، من باب إضافة الشيء إلى مكانه، سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، مكان الانتهاء، ومن الناس من فسره بانتهاء علم الخلائق، ينتهي عندها، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها، وأحسن ما يفسر به -والله تعالى أعلم- ما جاء في بعض الأحاديث من أنه ينتهي إليها ما يعرج به من الأرض، وما ينزل من السماء، والله أعلم.
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، المأوى: المكان الذي يأوي إليه من يأوي، يقال له: مأوى، تقول: هذا مأوى زيد، هذا مأوى للناس، ولماذا قيل لها: جنة المأوى؟ من أهل العلم من يقول: لأن آدم -عليه الصلاة والسلام- قد أوى إليها، وهذا لا دليل عليه، وبعضهم يقول: لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين، أو أرواح الشهداء، وكثير من السلف قرأه بالفعل الماضي
عِنْدَهَا جَنَّهُ الْمَأْوَى جنَّهُ فعل ماضٍ، ما هو بجنة –اسم، وإنما عندها جنَّهُ المأوى، يعني ستره عِنْدَهَا جَنَّهُ الْمَأْوَىيعني: كأنه ضمه المبيت أو ستره إيواء الله له، أو أدركه، جنَّهُ المأوى أدركه المأوى، ربما، وبعضهم يقول: جَنَّةُ الْمَأْوَى تأوي إليها الشهداء أو أرواح الشهداء، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا أن الجنة هي المأوى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:40، 41]، يعني: مأواه، وابن القيم -رحمه الله- يفسر ذلك جَنَّةُ الْمَأْوَى بأنه اسم من أسماء الجنة.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في هذه الآية: وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، قال: قال رسول الله ﷺ: رأيت جبريل وله ستمائة جناح، ينتثر من ريشه التهاويل: الدرّ والياقوت[6]، وهذا إسناد جيد قوي.
وروى أحمد أيضاً عن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: "رأى رسول الله ﷺ جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم"[7]، إسناده حسن أيضاً.
كذلك أيضاً ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة : رأى جبريلَ ، فهذا الذي يفسر به، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، لم يرَ النبي ﷺ ربه قط بعينه، وإنما رأى جبريلَ -عليه الصلاة والسلام.
وروى الإمام أحمد أيضاً عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول: قال رسول الله ﷺ: رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح، سألت عاصماً عن الأجنحة فأبى أن يخبرني، قال: فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب[8]. وهذا أيضا إسناد جيد.
وروى أحمد عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول: قال رسول الله ﷺ: أتاني جبريل في خُضر معلق به الدر[9]، إسناده جيد أيضاً.
في خضر: فسرها بعضهم بأنها ثياب، يعني في ثياب خضر.
وروى أحمد عن عامر قال: أتى مسروقُ عائشة فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ﷺ ربه ؟ قالت: "سبحان الله لقد قَفّ شعري لما قلت، أين أنت من ثلاث مَن حَدّثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت:لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ [سورة الأنعام:103]، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [سورة الشورى:51]، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ الآية [سورة لقمان:34]، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب، ثم قرأت: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [سورة المائدة:67]، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين"[10].
وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق قال: "كنت عند عائشة فقلت: أليس الله يقول: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ [سورة التكوير:23]، وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله ﷺ عنها، فقال: إنما ذاك جبريل، لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض، سادًّا عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض"[11].
أخرجاه في الصحيحين من حديث الشعبي به.
وقوله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3232)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، برقم (174).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ برقم (176).
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى [سورة النجم:18]، برقم (4858).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله : نور أني أراه، وفي قوله: رأيت نورا، برقم (178).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله : نور أني أراه، وفي قوله: رأيت نورا، برقم (178).
- رواه أحمد في المسند، برقم (4396)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (8/ 45): "وهذا إسناد جيد قوي؛ كما قال ابن كثير".
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (3748)، وقال محققوه: " إسناده ضعيف لضعف شريك -وهو ابن عبد الله النخعي، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير عاصم -وهو ابن أبي النجود- فقد أخرج له البخاري ومسلم في المتابعات، وهو حسن الحديث".
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (3862)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل عاصم بن بهدلة، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح"، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3485)، وقال: "وهذا إسناد جيد، كما قال ابن كثير في التفسير".
- رواه أحمد في المسند، برقم (3863)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل عاصم بن بهدلة، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح"، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3485)، وقال:"وهذا إسناد جيد، كما قال ابن كثير في التفسير".
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (24227)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ برقم(177)، والإمام أحمد في المسند، برقم (25993)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".