بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وقوله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [سورة النجم:16]: قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغِربان، وغشيها نور الرب، وغشيها ألوان ما أدري ما هي.
روى الإمام أحمد عن عبد الله-هو ابن مسعود- قال: لما أسري برسول الله ﷺ انتُهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يُعرج به من الأرض فيُقبض منها، وإليها ينتهي ما يُهبط به من فوقها فيُقبض منها، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله ﷺ ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمته المُقحِمات[1]، انفرد به مسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه فيه تفسير سدرة المنتهى، قال: وهي في السماء السابعة إليها ينتهى ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها، هذا أحسن ما تفسر به في تسميتها بهذا -والله تعالى أعلم، وهذا من تفسير القرآن بالسنة.
وقوله في الحديث: وأعطي ﷺ ثلاثاً، وذكر منها: غفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المُقحِمات، المراد بالمقحمات يعني: الذنوب العظام التي تقحم صاحبها في النار، الكبائر يعني، إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [سورة النساء:31] كما سيأتي.
وقوله تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [سورة النجم:17]، قال ابن عباس -ا: ما ذهب يمينا ولا شمالا وَمَا طَغَى ما جاوز ما أمر به.
وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة، فإنه ما فعل إلا ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطي.
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى البصر ما مال عن المرء، وهذا هو الزيغ بمعنى الميل، ما مال، وَمَا طَغَى ما جاوزه، وهذا من كمال أدبه ﷺ، الإنسان قد يدخل في مكان فيه ما فيه من الأمور المبهرة، فيتلفت يمنة ويسرة ويتطلع ويبقى مشغولاً بالنظر إلى هذه الأشياء، فلو أن أحداً دخل على ملك من ملوك الدنيا ثم جعل يتلفت بحضرته -بين يديه- حينما دخل عليه، ينظر في سقف هذا البناء وينظر فيما زين فيه، وينظر فإن هذا يتنافى مع الأدب.
فالنبي ﷺ وصفه الله -تبارك وتعالى- بهذه الأوصاف الكاملة، وصفه بصحة العلم، فعلُمه ﷺ منزه عن الضلال مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ [سورة النجم:2] ونزه عمله عن الغي وَمَا غَوَى، ونزه نطقه عن الهوى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [سورة النجم:3]، ونزه فؤاده عن تكذيب بصره مما يدل على صحة بصيرته، فهي موافقة لبصره -عليه الصلاة والسلام، فهو رأى ما رأى وبصيرته صدّقت بصره، لم تكذبه، ونزه بصره أيضاً عن الزيغ والطغيان، لم يمل هذا البصر ولم يتجاوز في النظر.
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، هذه الجملة تحتمل معنيين عند التأمل، وبكل واحد منهما قال طائفة من المفسرين، تأمل فيها، يحتمل أن يكون المعنى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أي: أنه رأى من الآيات العظام ما رأى، هذا معنى.
والمعنى الثاني: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى يعني: الآية الكبرى، يعني يحتمل أن يكون "الكبرى" في محل المفعول، رأى الكبرى، ويحتمل أنه رأى من آيات ربه الكبار، تكون صفة للآيات، رأى من الآيات العظام ما رأى، يحتمل هذا، وهذا.
وعبارة ابن جرير -رحمه الله- يقول: رأى من أعلام ربه وأدلته الأعلام والأدلة الكبرى، هذا يوافق القول الأول، رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ، رأى من أعلامه ودلائل عظمته، رأى من الآيات الكبار ما رأى، وهذا هو المتبادر -والله تعالى أعلم، وهو أحسن من أن يفسر بأنه رأى الكبرى من آيات الله ، سواءً أريد به على هذا المعنى أن الكبرى آية واحدة، أو أن الكبرى تكون وصفاً لجنس الآيات الكبار، فإن النبي ﷺ رأى من آيات الله، وما رأى كل آيات الله، فهو رأى من آيات الله الكبار ما رأى، والله تعالى أعلم.
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [سورة النجم:19-26].
يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن : أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ؟ وكانت "اللات" صخرةً بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف -وهم ثقيف ومن تابعها- يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله، فقالوا: اللات، يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيراً.
إذا رجعتم إلى كتب السير أو السيرة أو التاريخ في أحوال العرب ومعبوداتهم في الجاهلية تجدون في هذه المعبودات أوصافاً متعددة في المرويات المنقولة، وقد لا يكون ذلك من التعارض أو الاختلاف الذي يحتاج إلى الترجيح، وإنما -والله أعلم- يذكرون أوصافاً لهذه المعبودات.
يعني تجد بعضهم يقول: إن اللات مثلاً بيت معظم عند أهل الطائف، وتجد آخر يقول: هي صخرة بيضاء، وتجد آخر يقول: هو رجل كان يلُتّ السويق، لا منافاة هذا بيت معظم عندهم عند صخرة أو على صخرة بيضاء، وأصل ذلك فيما ذكره بعض أهل التواريخ أن رجلاً كان يفعل ذلك للحجيج، يلت السويق، فمات، فعبدوا هذه الصخرة، وتجدون أشياء أيضاً في الآلهة الأخرى، فهنا على هذا الاعتبار يكون اللات يراد به هذا الرجل الذي كان يلت السويق، وعلى هذا ما تكون هذه التسمية مأخوذة من اسم الله "الله"، فيحتمل أنهم أخذوها من اسم الله ، ويحتمل غير هذا، كما سيأتي.
السويق: طعام مدقوق من الحنطة والشعير، لربما قيل له ذلك لأنه يسوق في الحلق، سهل، ليس طعاماً صعباً في تعاطيه وأكله.
فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.
وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما: اللَّاتَ وَالْعُزَّى قال: كان اللات رجلا يلت السَّويق، سويق الحاج.
يعني يلت بمعنى يخلطه بسمن أو غيره، عموماً القراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة، إذا صح سند القراءة الأحادية فهي تفسر القراءة المتواترة، {اللاتّ} هذه واضحة في أن المراد أن رجلاً كان يلت السويق، تفسرها، لكن هل نقطع بهذا أن هذه القراءة مجرد تفسير للقراءة الثانية، ونقول: اللات ليس لها علاقة باسم الله -"الله"، ما أخذوها منه؟ أو نقول: إن كل قراءة تدل على معنى، فاللات يمكن أن يكون مأخوذاً من اسم الله "الله"، واللات من هذا العمل الذي كان يزاوله هذا الرجل؟
يحتمل، فنريد أن نعرف هذه مأخوذة من اسم الله، أو مأخوذة من فعل كان يفعله هذا الإنسان، هذا لا يتأتى إلا إذا قلت: إن بعضهم أخذه من هذا من اسم الله، والبعض الآخر من هذا الرجل، وهذا فيه بُعد، فإذا صح سند هذه القراءة الأحادية فالأحسن أن تكون مفسرة للقراءة المتواترة، ولا يكون ذلك من باب تعدد الأوصاف لموصوف واحد، مثلاً: وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ [سورة البقرة:222] وحتى يطّهرن، بمعنى أن المرأة إذا انقطع الدم واغتسلت جاز وطؤها، تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86]، وتغرب في عين حامية ساخنة حارة ومنتنة متغيرة، لكن هنا اللات نقول: مأخوذ من اسم الله ومأخوذ من أنه يلت السويق فيه بُعد، في مثل هذا الموضع.
فالأحسن -والله تعالى أعلم- فيما يبدو أن هذه مفسرة لهذه، {اللاتّ}، ومن لا يعمل بالقراءة الأحادية أصلاً لا في التفسير ولا يحتج بها في العربية ولا يحتج بها في الأحكام يطرحها، فيبقى النظر في المادة التي اشتقت منها هذه اللفظة "اللات".
قال ابن جرير: وكذا العُزَّى من العزيز.
وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزَّى لكم، فقال رسول الله ﷺ: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم [2].
العزى بعضهم يقول: إنه بيت كانت تعظمه قريش في الجاهلية، وبعضهم يقول: ثلاث سمُرات، شجر السمر معروف، فقطعها خالد بن الوليد ، وتجد في بعض الروايات أنها ثلاث سمُرات عليها بيت معظم عند أهل الجاهلية، فيذكرون من هذا الموصوف بعض الأوصاف، فلا يلتبس الأمر عليك هل هو بيت أو هي سمرات، فمن قال: سمرات فهذا صحيح، ومن قال: هو بيت معظم في الجاهلية فهذا صحيح، بيت على سمُرات ثلاث معظم عند قريش.
يقولون: إن مناة اسم صنم، ويمكن أن تكون مناة مأخوذة من مَنَى الله الشيء إذا قدّره، مَنَاه إذا قدّره، ويمكن أن تكون مأخوذة من مُنى يعني لكثرة ما يصب عندها من الدماء والقرابين التي كانت تقدم إليها يتقربون بها، مناة لكثرة ما يُمنَى عندها من الدماء، وإذا رجعتم إلى تاريخ العرب في الجاهلية تجدون عندهم كعبات، وتجدون عندهم أماكن للذبح، عندهم أشياء كثيرة.
في قراءة ابن كثير وهي قراءة متواترة بالهمزة {مناءة}، بعضهم يقول: إن القراءتين بمعنى واحد، "مناة، ومناءة"، وبعضهم يقول: إن قراءة الهمزة تختلف في المعنى عن قراءة "مناة"، فبالهمزة من النوء ومعنى ذلك أنهم كانوا يستمطرون بها، أو يستمطرون عندها، يعني إذا أرادوا المطر فإنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، والله أعلم.
وروى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- نحوه.
وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخَر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
وروى النسائي عن أبي الطُّفيل قال: لما فتح رسول الله ﷺ مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات، فقطع السَّمُرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي ﷺ فأخبره فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئًا، فرجع خالد، فلما أبصرته السَّدَنة -وهم حَجَبتها- أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى، يا عزى، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره، فقال: تلك العزى[3].
هذه المرأة قد تكون شيطانة من شياطين الجن، فتبدت بهذه الصورة فقتلها، وقد تكون من شياطين الإنس هي التي كانت تنطق لهم لربما وتتكلم وتخبرهم عن بعض الأشياء، أو تأخذ منهم ما يقدمون من الهدايا والقرابين ونحو هذا، قد يكون هذا، وهذا.
والمعروف في التاريخ -وهذا ذكره جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن معبودات هؤلاء في الجاهلية لربما سمعوا من يكلمهم منها فيفتنون بذلك، وهؤلاء الذين يكلمونهم منها هم شياطين، شياطين تلعب بهم فتنطق، فيسمعون صوتاً يجيبهم ويرد عليهم.
كما ذكر شيخ الإسلام في الفرقان وغيره عما يحصل لبعض ضلال الصوفية، تجده يستغيث بشيخه بالجيلاني أو بالعيدروس أو بغيره، هذا في المشرق وهذا بالمغرب، فيرى يداً تنتشل السفينة تخرجهم من البحر، وهذه شياطين، ولربما رأى يد شيخه تأكل معه -يعرفها، فيُضللون بسبب هذا، ويحصل لهم أشياء عجيبة من تلاعب الشياطين بهم، فيضلون ويظنون أن هذا من الحق.
وذكرت لكم في بعض المناسبات -بعد صلاة العشاء- مرة ما ذكره الحافظ ابن كثير عن رجل عابد في زمن الوليد بن عبد الملك، رجل عابد كتب لأبيه وهو في الشام، يقول: قد عرض لي الشيطان، يقول يعني: انصحني، ذكرني، أرشدني، ماذا أفعل؟ فقال له: امض لما تؤمر، فإن الله يقول: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [سورة الشعراء:221، 222]، وأنت لست بأفاك ولا أثيم، يقول ابن كثير: فأضله أبوه، فكان الرجل يأتي لأهل المسجد واحداً واحداً يكلمهم، ويقول: إن سمعتَ شيئاً قبلته وإلا فاكتم عني، فتبعه جماعة.
يقول شيخ الإسلام: فكان يأتي للأسطوانة التي في المسجد من الصفا فينقرها بيده بأصبعه، وكان يأتيهم بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يخرج بهم من المسجد ويريهم، يقول: أريكم الملائكة، ويريهم رجالاً عليهم ثياب وعمائم بيض على خيل، ويقول: هؤلاء هم الملائكة، ففتن خلق بسببه، خلق بسبب هذا الرجل، وتابعوه، فبعد ذلك لما تطلبه الوليد وأُخذ بعد ذلك جعل يقول لهم لمّا أخذه بعض الجنود الأتراك جعل يقول لهم: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [سورة غافر:28]، فقالوا له: هذا كرآننا فأت بكرآنك، فلما وضعوه للقتل وضربوه بالحربة انثنت، ما دخلت فيه، فقال: ويحك، يقول لمن ضربه: هل سميت الله؟ قال: لا، قال: فسم الله، قال: بسم الله، فقتله، فانظروا يعني كيف يفتن الناس بسبب هؤلاء الشياطين، وهذا لو كان موجوداً في هذا العصر كانت القنوات الفضائية السيئة تتسابق على إجراء اللقاءات معه، وإبرازه، وتضليل الناس به.
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سَدَنتها وحجابها بنى مُعَتّب.
قلت: وقد بعث إليها رسول الله ﷺ المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب -رضي الله عنهما، فهدماها وجعلا مكانها مسجد الطائف.
مسجد ابن العباس الآن الموجود، الجامع الكبير في الطائف هو مكان اللات، وحين أسلموا طلبوا من النبي ﷺ أن يمهلهم في هدمها لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم، كيف يهدم الإله بهذه السهولة؟!، فأبى النبي ﷺ، فقالوا: لا نهدمها بأيدينا، يعني أعفنا من هذا، لا تقل: اهدموها أنتم، ما نستطيع، فأرسل إليهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان فجاءوهم فتجمع النساء والأطفال يريدون أن ينظروا كيف يصنع الإله بهؤلاء الذين جاءوا لهدمه، فتجمهروا حولها، وجعلوا ينظرون، فأخذ المعولَ المغيرةُ بن شعبة فضربها ضربة ثم صاح بأعلى صوته وسقط على قفاه، فجعلوا يهتفون ويقولون: إنها قتلته، ثم قام وجعل يضحك منهم ويستهزئ بهم، ويقول: أين عقولكم؟ وكان فعل ذلك تصنّعاً من أجل أن يتلاعب بهم وأن يريهم أن هذه الأشياء لا حقيقة لها.
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المُشَلّل بقديد، فبعث رسول الله ﷺ إليها أبا سفيان صخر بن حرب، فهدمها. ويقال: علي بن أبي طالب .
قال: وكانت ذو الخَلَصة لدَوس وخَثعم وبَجِيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة.
تبالة: على مسيرة سبع ليالٍ من مكة، يقال: هم بنو مالك، الآن المالكي الذي بين الطائف وبين الباحة، قبيلة بجيلة ودوس من زهران، وموقع ذي الخلصة يزعمون أنه معروف إلى اليوم، نسأل الله ألا يرينا اليوم الذي يعاد فيه بناؤه، وإلا فسيبنى من جديد كما أخبر النبي ﷺ: لن تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس على ذي الخلصة [4] يطوفون به.
قلت: وكان يقال لها: الكعبة اليمانية، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية.
فبعث إليه رسول الله ﷺ جرير بن عبد الله البجلي فهدمه.
قال: وكانت فَلْس لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ.
ضبطها بالفتح هنا، وفي السيرة لابن هشام مضبوطة بالكسر كانت فِلس، هذا عند أهل طئ في جبل أجا، شيء بارز أحمر من الجبل كأنه تمثال إنسان، فتخيلوه إلهاً فصاروا يعبدونه، جزء من الجبل بارز أحمر كأنه هيئة إنسان فعبدوه من دون الله -تبارك وتعالى، ولكل مسمى له من اسمه نصيب، فَلس، فِلس.
وكانت فَلْس لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من سَلمى وأجا.
قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرّسُوب والمِخْذَم، فَنفّله إياهما رسول الله ﷺ، فهما سيفا علي.
قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: ريام.
المثبت في ابن هشام رئام بالهمزة.
قصة تُبع معروفة لما طاف في كثير من البلاد مر بالمدينة التي كان يقال لها: يثرب، وذهب معه اثنان من أحبار اليهود، ويقولون: هو أول من كسا الكعبة، وذهبوا معه حتى بلغوا اليمن، فيقال: هما اللذان هدما هذا، فالله أعلم.
المستوغِر لقب، ويقال: إن اسمه عمر وقيل كعب، ويذكر هذا في أخبار المعمرين، يزعمون أنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة، وفي أخبار المعمرين يذكرون أنه عاش أربعمائة وعشرين سنة، يذكرون هذا، وفي بعض أشعارهم ما يدل على أنهم عاشوا مئات السنين، فالله أعلم بهذا هو مبالغة أو أنه يصح، فالمستوغِر هذا لقب له، وربما يكون لقب بهذا؛ لأنه قال بيتاً من الشعر في آخره -شطره الثاني- يقول:
... | نَشيشَ الرَّضْفِ في اللبنِ الوغيرِ. |
فقيل له: المستوغِر، والله أعلم.
ولها يقول المستوغِر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:
ولقد شَدَدْتُ عَلَى رُضَاء شَدّةً | فَتَرَكْتُها قَفْرًا بِقَاع أسحَمَا |
قال ابن إسحاق: وكان ذو الكَعَبَات لبكر وتغلب ابني وائل، وإياد بِسَنْداد.
بسَنداد وبسِنداد كلها يضبط به، وهذه سِنداد أو سَنداد هي منازل لإياد بأسفل الكوفة، أسفل سواد الكوفة، سَنداد.
وله يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
بيْن الخَوَرْنَق والسَّدير وَبَارقٍ | والبيتِ ذو الكَعَبَات من سَنْدَاد. |
الخَوَرْنَق: هو القصر الذي بناه النعمان، بناه له سِنمّار على هيئة عجيبة، ويذكرون فيه قصة الله أعلم بها، يقولون: إنه بناه بناءً عجيباً، وإنه يقوم على حجر بحيث لو سحب هذا الحجر سقط البناء، فيقولون: بأنه أخذه بعدما اكتمل البناء وألقاه منه.
والسدير يعني: بيت الملك باللغة الفارسية.
بيْن الخَوَرْنَق والسَّدير وَبَارقٍ | والبيتِ ذي الكَعَبَات من سَنْدَاد |
وليس "ذو الكعبات"، الكعبة: كل بناء مربع عند العرب تسميه كعبة، و"ذي الكعبات" صفة هذا البيت يعني التربيع، مربع.
أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى استشكل هذا بعضهم، قالوا: إن الثالثة ما يقال لها: الأخرى، فوجهه الخليل بن أحمد الفراهيدي بأن ذلك لمراعاة رءوس الآي، أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى، وبعضهم قال: فيه تقديم وتأخير، أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى الأخرى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ، وهذا لا حاجة إليه، والأصل في الكلام الترتيب.
وبعضهم قال: إن الأخرى المقصود بها المتأخرة الوضيعة فهو ذم لها، ولا إشكال في هذا، وكلام الله هو أفصح الكلام، ومنه تؤخذ قواعد اللغة العربية، هي من أين أخذت إلا من الاستقراء، فالله قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى، فهذا فيه ما فيه من ذم هذه المعبودات، وإنكار أن يكون لها شيء من الإلهية.
الأنثى الذي جعلوه يحتمل أن يكون الملائكة، كما قال الله : وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [سورة الزخرف:19]، فسماها منهم هنا شهادة مع أنهم ما نطقوا بلفظ الشهادة، وليس ذلك بلازم، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ.
فالحاصل أن أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى يحتمل أن يفسر بهذا، فيقال: المراد به أنهم جعلوا الملائكة بنات الله، ويحتمل أن يكون المراد بالإناث التي جعلوها لله اللات والعزى ومناة، فهي مؤنثة في التسمية كما هو ظاهر، بل قال بعض أهل العلم كابن جرير: زعموا أنهن بنات الله، زعموا أن اللات والعزى هذه ومناة أنها بنات الله، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى، لا شك أنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله، كما دل على ذلك -على أنهم افتروا هذا- القرآن، وقال أيضاً: وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ [سورة النحل:62] يعني: البنات.
ضِيزَى، وفي القراءة الأخرى المتواترة قراءة ابن كثير بهمزة: ضِئزى.
فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفها؟!.
ثم قال تعالى منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر، من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة: إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ أي: من تلقاء أنفسكم.
كما قال الله في سورة يوسف: مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا [سورة يوسف:40]، يعني لا حقيقة لها، هذه أسماء افتريتموها واخترعتموها، فجعلتم هؤلاء آلهة وسميتموهم بهذه الأسماء، وهي لا حقيقة لها.
لأنهم ليس لهم إلا اتباع الشهوات والشبهات، اتباع الظن هذا يدخل فيه ألوان الشبهات، وما تهوى الأنفس يدخل فيه الشهوات، فهم بين شهوة وشبهة، لا يتبعون وحياً، وليس لهم بذلك علم.
- رواه الإمام مسلم، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، برقم (173)، وأحمد في المسند، برقم (3665)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه الإمام البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه، برقم (3039)، والإمام أحمد في المسند، برقم (18593)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11547)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (902)، وقال محققه حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".
- رواه البخاري، كتاب الفتن، باب تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان، برقم (7116).