بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى:
وقوله:إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [سورة الذاريات:8] أي: إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع.
وقال قتادة: إنكم لفي قول مختلف، ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به.
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [سورة الذاريات:9] أي: إنما يروج على من هو ضال في نفسه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فأقسم الله بالسماء ذات الحبك، ذات الطرائق والخلق الحسن الشديد بأنهم في قول مختلف، أي: في النبي ﷺ وفي القرآن، هذا الذي عليه عامة المفسرين، ومنهم من يقول: في النبي -عليه الصلاة والسلام، ومنهم من يقول: في القرآن، ولا إشكال في هذا؛ لأنهم تكلموا في أمر النبي ﷺ حينما دعاهم إلى الله ، وأخبرهم أنه نبي يوحى إليه، فقالوا عنه: مجنون، وقالوا عنه: ساحر، وقالوا: كاذب، وقالوا عن القرآن: إنه سحر، وقالوا: شعر، وقالوا: أساطير الأولين، فكل هذا قد وقع، فاختلفت أقوالهم فيه، وفيما جاء به من عند ربه -تبارك وتعالى، فهم مبطلون ولا أدل على ذلك من أنهم لم يتفقوا على أمر واحد، وإنما قالوا بهذه الأقاويل المختلفة، هذا هو المشهور.
وأما قول من قال -كما أورد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن قتادة هنا: أي بين مصدق بالقرآن ومكذب به فيعني أن الاختلاف هنا أن منهم من صدق به، ومنهم من كذب به، فهذا وإن اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- إلا أن القول الأول أولى منه وأقوى؛ لأن الله وصف حال هؤلاء المكذبين في موضع آخر من القرآن قال: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ [سورة ق:5]، في أمر مضطرب لا يتفق على مقالة ولا يثبت على رأي، وإنما يختلفون غاية الاختلاف.
فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ، والذين هم في أمر مريج هم أهل التكذيب، وليس المقصود أنهم فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ أي: عموم الناس بين مصدق ومكذب، وإنما ذلك يختص بالمكذبين، فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ مضطرب، تارة يقولون هكذا، وتارة يقولون هكذا، فليست في المصدقين والمكذبين، وإنما في المكذبين خاصة، والسياق يدل على هذا، ولذلك بعده قال: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [سورة الذاريات:10]، فهم يتكلمون بالظنون والدعاوى الباطلة من غير حجة ولا برهان، فوقع لهم مثل هذا التباين في أقوالهم الكاذبة التي لا تقوم على أصل أو أساس، وما ذكرنا أولاً عن عامة المفسرين هو الأقرب.
ومن أهل العلم من قال: إنهم اختلفوا واضطربوا يعني اختلفت مقالاتهم واضطربت في أمر المعاد، بين مكذب ومصدق، وبعضهم يقول: يقرون أن الله خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره، يعني يتناقضون مع أنفسهم، يقرون بتوحيد الربوبية ويشركون بتوحيد الإلهية، والأصل أن من أقر بتوحيد الربوبية فإن ذلك يلزم عنه أن يوحد الله في عبادته، الذي يخلق ويرزق يجب أن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع، وما حدد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا في أي شيء، ثم ذكر قول قتادة: بين مصدق بالقرآن ومكذب به، -والله تعالى أعلم.
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: إنما يروج على من هو ضال في نفسه؛ لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غُمْر، لا فهم له، كما قال تعالى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:161-163].
قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- والسدي: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ: يضل عنه من ضل.
تأمل ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله، يقول: يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: إنما يروج على من هو ضال في نفسه؛ لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غُمْر، لا فهم له.
غُمْر بضم الغين وإسكان الميم، مأفوك ضال غُمْر لا فهم له، ويقال: غِمْر بكسر الغين، هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير كلام جيد في تفسير الآية، ومعنى كلام ابن كثير يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ الأفْك هو القلب، ومنه الإفك، ومنه المؤتفكة، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] المنقلبة، قرى قوم لوط الله أفَكَها، يعني قلبها.
يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: يُصرف بمعنى يُضل "عنه" أي: "عن" هنا تدل على السببية، يعني: يؤفك بسببه من أُفك، يُضل بسبب قولكم هذا المضطرب الذي لا يروج على أحد، ولا أدل على بطلانه من تناقضكم واضطرابكم واختلافكم، فهذا الذي تقولونه في النبي ﷺ وفي القرآن من أنه شعر أو سحر أو كهانة يُضل بسببه من أراد الله شقاءه وضلاله، هو لا يروج ولا تقوم به حجة، ولكن يضل به من أراد الله ضلاله.
يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: بسببه، فـ "عن" هنا تدل على السببية، قولكم هذا الباطل يضل به –بسببه- من أراد الله شقوته، هذا معنى كلام ابن كثير، بينما ذهب جماعة من المفسرين إلى غير ذلك، فكبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يرى أن يُؤْفَكُ عَنْهُ ما جعل "عن" سببية، جعلها على أصلها، والضمير يرجع إلى القرآن، يعني إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يُصرف عن الإيمان بهذا القرآن من صرف، فيحرم الإيمان به.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُصرف عنه، عن الإيمان بهذا القرآن، عَنْهُ إذ جعل الضمير يرجع إلى القرآن، بينما على القول الأول يُؤْفَكُ عَنْهُ الضمير يرجع إلى القول المختلف، يضل بسبب هذا القول المختلف المضطرب، ولا غرابة في هذا، الآن ملل الكفر هؤلاء الذين يتبعونها بالملايين ولربما جاء إنسان وقرأ لهم ودخل في ديانتهم، بل لربما جاء بعض أبناء المسلمين ودخل بعض المواقع لهؤلاء الفرق أو الضُّلال ثم تحول إلى ملتهم ودينهم، أليس هذا يقع، يذكرون شبهات يمكن أن يردها صغار الطلبة، ومع ذلك قد يُصرف بسببها بعض الناس عن دينه تماماً.
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ بسببه، يكون الضمير راجعاً إلى القول المختلف، وبعضهم جعل الضمير يرجع إلى غير ذلك كالنبي ﷺ، فيبقى أن هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير أن "عن" سببية، يعني: يُصرف بسببه عن الإيمان بالله ورسوله ﷺ والقرآن من أراد الله شقوته، ويدل على ذلك قول الله في الآية الأخرى: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ [سورة هود:53]، يعني بسبب قولك، فـ "عن" تدل على السببية، ويدل على ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير في الآية فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:161-163]، يعني: أنتم وما أنتم عليه من الباطل لا تفتنون إلا من أراد الله شقوته، يُؤْفَكُ عَنْهُ بسببه من أُفِكَ.
وبعضهم جعل "عن" ترجع إلى القول المختلف لكن فسره بتفسير آخر يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: يُصرف عن هذا القول المختلف فلا يضل بسببه، عكس المعنى الذي قاله ابن كثير، فلا يضل بسببه من أراد الله عصمته، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يُصرف عنه من أراد الله عصمته، لكن السياق يأبى هذا، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فقوله: مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ يدل على المراد في هذه الآية، والقرآن نسق واحد، كأنه آية واحدة، وما أشكل في موضع من جهة السياق يمكن أن يبينه موضع آخر، وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ [سورة هود:53] أي: بسبب قولك، مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ.
والقول الذي ذكرته هو الذي عليه جماعة من المحققين، وهو الذي مشى عليه الحافظ ابن القيم، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، وهو اختيار ابن كثير هنا.
وقوله:قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [سورة الذاريات:10] قال مجاهد: الكذابون.
قال: وهي مثل التي في عبس: قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [سورة عبس:17]، والخراصون الذين يقولون: لا نبعث، ولا يوقنون.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي: لعن المرتابون.
وهكذا كان معاذ -رضي الله تعالى عنه- يقول في خطبه: هلك المرتابون، وقال قتادة: الخراصون أهل الغرة والظنون.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، من أهل العلم من فسر القتل إذا جاء في كلام الله إذا أطلقه الله -تبارك وتعالى- باللعن، قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي: لعن الخراصون، والخَرْص أصله القول بلا علم، القول بالظن والتخمين، هذا هو الخرْص، ومنه خرْص النخل أو الثمن على رءوس النخيل، بمعنى أنه بالتخمين والتقريب ليس بالكيل، فالخرّاص والمتخرص والخارص هو الذي يقول بالظن.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ فهؤلاء في أمر مريج مضطرب في أمر محمد ﷺ وما جاء به، وفي أمورهم كلها، في المعاد، وسائر الأمور التي كذبوا بها رسول الله ﷺ، قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، من فسره بالكذابين فإن ذلك لا ينافي ما ذكرنا من أنه القائل بالظنون، فهؤلاء لما تكلموا بالظنون تكلموا بخلاف الحقيقة، فهذه الأقوال لا تتنافى، من قال: إنه الكذاب، ما نحتاج أن نقول: القول الأول: الكذاب، القول الثاني: القائل بالظن، والقائل بالظن ماذا ينتج عنه؟ الكذب.
ولهذا قال الله : إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [سورة النجم:28] يعني ما يتبعون إلا الظن وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ [سورة النجم:23]، والله يقول لداود -عليه الصلاة والسلام: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة ص:26]، فكل من اتبع هواه فهو ضال، إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ، فقولهم كذب وباطل، فهم المبطلون والخراصون، لو قلت: المبطلون، لو قلت: الكذابون، لو قلت: الذين يتكلمون بالظنون، فإن هذا لا يتنافى، بل يرجع إلى شيء واحد بهذا الاعتبار الذي ذكرته آنفاً، والله أعلم.
يقول: والخراصون الذين يقولون: لا نبعث، ولا يوقنون، هذا القول باطل فهم كاذبون مبطلون قائلون بالظنون، مرتابون، هلك المرتابون، أهل الغرة والظنون، كل هذا من قبيل اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد.
الغمرة أصلها ما ستر الشيء وغطاه، تقول: غمره الماء بمعنى غطاه وستره، كل ما ستر وغطى الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ يعني: في غفلة سادرون لا يفيقون منها، كما قال الله : بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا [سورة المؤمنون:63] في غفلة وجهالة، قلوبهم لا تفيق للحق، ولا تعي ولا تفقه عن الله -تبارك وتعالى.
أما السهو فـ سَاهُونَ أي: سادرون في غفلتهم، وأصل معنى السهو الذهول عن الشيء، والفرق بين السهو والنسيان أن ذهاب المعلوم من الذهن هو النسيان، ينسى الإنسان لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [سورة طه:52]، ذهاب المعلوم من الذهن يقال له: النسيان، وأما السهو فالعلم مكتنٌّ لدى صاحبه ولكنه غاب عنه في لحظته، ما نسيه لكنه كما قال في المراقي:
ذهابُ ما عُلم قل نسيانُ | والعلمُ في السهوِ له اكتنانُ |
هذا الفرق بين النسيان والسهو، فهنا الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ المقصود سادرون في غفلتهم لا يفيقون منها، تقول: فلان في سهو ولهو، يعني أن الغفلة غالبة عليه، والله أعلم.
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [سورة الذاريات:12]: وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا، قال الله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [سورة الذاريات:13].
قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه، ومجاهد، والحسن، وغير واحد: يُفْتَنُونَ: يعذبون.
قال مجاهد: كما يفتن الذهب على النار.
وقال جماعة آخرون كمجاهد -أيضا- وعكرمة، وإبراهيم النَّخَعِي، وزيد بن أسلم، وسفيان الثوري: يُفْتَنُونَ: يحرقون.
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [سورة الذاريات:14]: قال مجاهد: حريقكم.
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أصل الفَتْن هو الاختبار، أصله الاختبار وهذا الاختبار يتميز به الشيء ويعرف، ولهذا قيل لوضع المعادن في النار: إنه فتْن، تقول: فتنت الذهب، يعني أنك وضعته في النار لتميز خالصه من شائبه، يتميز، فهذا هو الفتْن، ولهذا فسره من فسره كما نقل عن جماعة هنا كسفيان وعكرمة وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم -رحمهم الله، يُفْتَنُونَ قالوا: يحرقون، ؛ لأن هذا أصل معنى الفتْن، هو عرضه على النار ليتبين خالصه، هذا أصله.
ومن قال: إنه الاختبار يرجع إلى هذا المعنى، ما يخالفه، يرجع إليه؛ لأنه وضع في النار ليتميز، ليخرج شوبه، ويبقى الخالص من هذا الذهب مثلاً، يُفْتَنُونَ أي: يحرقون، فالفتْن الحرق، وهو الاختبار، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [سورة البروج:10]، ومعنى فتنوهم أي أحرقوهم في النار في قصة الأخدود، سماه فتناً، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ من قال: أي يحرقون رجع إلى أصل معنى الفتْن، وهو عرض الشيء على النار، أي يحرقون بالنار، وهذا معنى صحيح.
ومن أهل العلم من لاحظ التعبير هنا بـ "على"، عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ فجعلوها بمعنى "في" وحروف الجر تتناوب "على" تأتي بمعنى "في"، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71]، يدخلهم على الجذع، قالوا: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يعني: على جذوع النخل، يربطه على الجذع، والجذع أشد إيلاماً من غيره، جذع النخل أشد من ساق الشجرة لو صلبهم عليها أو على الجدار إيلاماً.
وإن كان من أهل العلم من يلاحظ أصل الحرف، ابن القيم -رحمه الله- يقول: مهما استعمل الحرف في معنى فإنه يبقى فيه من رائحته، ولذلك قال من قال من أهل العلم: إن قوله تعالى عن فرعون حينما قال للسحرة: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يعني: على جذوع النخل، قالوا: لا، ما يكفي هذا، هناك شيء زيادة بعدُ، قالوا: لشدة الربط، لشدة شدهم إلى الجذع كأنه يدخلهم فيه ليؤلمهم غير ألم الصلب ألم الجذع الذي يشد إليه، والإنسان إذا شُد شداً قوياً فإنه يتمنى الموت، يتمناه ويدعو به لشدة ما يجد من الألم.
فإذا أردنا أن نجري هذا على هذا عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، عليها يفتنون، هل يقال: في النار يفتنون وانتهينا؟ من لاحظوا هذه القضية التي ذكرت آنفاً لفظة "على" قالوا: المعنى أوسع من مجرد أنهم يحرقون، عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، فيبدأ ذلك بتكذيبهم بالنار أصلاً، تكذيبهم بالبعث، وقبل ذلك ما يجري لهم من ألوان الفتن التي يزاولون بها ألوان الأعمال الفاسدة، ويعتقدون العقائد الباطلة، تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء[1]، فهم يفتنون بما يجري على أيديهم من المعاصي التي هي سبب لدخول النار والعقائد الفاسدة، ثم تكذيبهم أيضاً بالنار وبالبعث واليوم الآخر، ثم عرضهم على النار ورؤيتهم لها، ثم بعد ذلك دخولهم وإحراقهم فيها.
ولهذا بعض أهل العلم قال: إن المعنى أوسع من مجرد أنهم يحرقون، وممن ذهب إلى هذا -إلى توسعة المعنى- كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، والحافظ ابن القيم، فتفسيره بـ "يحرقون" تفسير صحيح، لكن من لاحظ هذا الملحظ ذكر ما هو أوسع من ذلك، وهذا لا شك أنه أدق في التفسير، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ، قال مجاهد: حريقكم، وقال غيره: عذابكم، حريقكم وعذابكم واحد، المعنى واحد، ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي: عذابكم، وعلى القول السابق أن الفتْن أوسع من ذلك -كفرهم ومعاصيهم- ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ يعني: نتيجة كفركم، نتيجة عصيانكم، نتيجة تمردكم على الله ، فيحرقون بالنار.
هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا وتحقيرًا وتصغيرًا، والله أعلم.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [سورة الذاريات:15-23].
يقول تعالى مخبراً عن المتقين لله : إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون، بخلاف ما أولائك الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال.
هذا على عادة القرآن حينما يذكر أهل الشقاء يذكر أهل النعيم؛ ليجمع بين الترغيب والترهيب، ليكون العبد جامعاً بين الرغبة والرهبة، الخوف والرجاء، وقوله -تبارك وتعالى- هنا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ، التقوى معروفة: ألا يجدك حيث نهاك وألا يفقدك حيث أمرك، تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، الآن ذكر المتقين ذكر هذا الوصف، وترتيب النتيجة -التي يسمونها الحكم- عليه يدل على ملازمة بينهما، كترتب المسبب على السبب، ذكر معه ما يدل على سببه وهو التقوى، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني: أن التقوى سبب أورثهم هذه الجنات والعيون بعد رحمة الله ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ.
هذا المعنى الذي ذكرته آنفاً هو ما يعرف عند الأصوليين بدلالة الإيماء والتنبيه، أي يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك معيباً عند العقلاء من السامعين، يقرن الحكم بوصف، تقول: الجادون يظفرون، وسبب الظفر الجد، فهو مذكور بعده، يقرن الحكم بوصف، يظفرون هذا هو الحكم، بوصف هو الجد، لو لم يكن علة له لكان عيباً بمعنى أنه لو قال: الجادون يظفرون، فقيل له: عرفنا أن الجد هو سبب للظفر، قال: لا، أنا لا أقصد هذا، فسبب الظفر أنه هبة وهبت لهم، نقول: إذاً لماذا تذكر الجد، لماذا لم تقل: الظفر هبة، فهذا يعتبر عيباً في الكلام، الجادون يظفرون، أنت ذكرت الصفة التي أوجبت هذه النتيجة، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ، والذي جعلهم في جنات التقوى، هذه اسمها عند الأصوليين دلالة الإيماء والتنبيه، وهي إحدى الدلالات المتعلقة بالمنطوق، والقرآن تسلط عليه جميع أنوع الدلالات فيستنبط منه الأحكام والمعاني الكثيرة، فدل ذلك على أن التقوى سبب.
وهناك قاعدة أخرى وهي: "أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، هذا حكم معلق على وصف وهو التقوى، فنعيم أهل الجنة يتفاوت بحسب تفاوت التقوى، على قدر تقواهم، على قدر ما يكون عندهم من النعيم، فأهل الجنة ليسوا على مرتبة واحدة، على مراتب، "الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"، يزيد النعيم وينقص بحسب زيادة الوصف "التقوى" الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، الحكم لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ الوصف: آمَنُواْ، فعلى قدر إيمانهم على قدر ما يكون لهم من الأمن والاهتداء، وهكذا.
هذا هو المتبادر إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، في حال كونهم آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ من النعيم، أي: أنهم قابلون ما أعطاهم ربهم من الكرامة والخير وألوان النعيم واللذة في الجنة، هذا هو المعنى المتبادر، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، ويدل عليه السياق إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، هذا تعليل، قَبْلَ ذَلِكَ يعني قبل يوم القيامة، قبل الآخرة، قبل دخولهم الجنة، كانوا محسنين في أعمالهم، كانوا من الصالحين، من المتقين، فهذا تعليل لكونهم بهذه الحال، ثم ذكر هذا قال: كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، هذا الذي أورثهم هذا النعيم، فكل السياق قبله وبعده يدل على هذا المعنى.
وإن كان من أهل العلم من قال بخلافه، أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- يقول: آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ يعني: الفرائض في الدنيا، أنهم يتلقون عن الله بالقبول ما افترض عليهم، وقبل أن يفرض عليهم كانوا في حال من الإحسان والعمل الطيب الصالح الذي يرضاه عنهم، فكلما فرض عليهم فريضة تلقوها عنه بالقبول والإذعان، هذا اختيار ابن جرير.
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ أي: من الفرائض والأحكام في الدنيا، لكن القول الأول أقرب إلى السياق، وعلى فضل ابن جرير -رحمه الله- ومنزلته في التفسير ومكانته إلا أن العصمة متعذرة، فـ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ يعني من الكرامة والنعيم واللذة.
وهذا كثير في القرآن، كقوله -تبارك وتعالى: سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ [سورة الرعد:24]، بما صبرتم على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، والدنيا دار الصبر، والآيات في هذا كثيرة في سورة السجدة وفي غيرها.
الهجوع أصله أو يطلق ويقال لنوم الليل خاصة، ونوم النهار لا يقال له: هجوع، كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، ويبقى النظر في معنى قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، فهذا اللفظ يحتمل معانيَ متعددة؛ ولهذا اختلفت فيه أقوال المفسرين، وسبب هذا الاختلاف يرجع إلى النص، والنص يحتمل.
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين، برقم (144).