بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [سورة غافر:57-59].
يقول تعالى منبهًا على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة وأن ذلك سهل عليه يسير لديه بأنه خلق السماوات والأرض، وخلْقُهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما هو دونه بطريق الأولى والأحرى كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الأحقاف:33].
وقال هاهنا: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وينكرون المعاد استبعادًا وكفرًا وعنادًا وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا.
ثم قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ أي: كما لا يستوى الأعمى الذي لا يبصر شيئًا والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره بل بينهما فرق عظيم، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار.
قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ أي: ما أقل ما يتذكر كثير من الناس، ثم قال تعالى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ أي: لكائنة وواقعة، لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ أي: لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالمراد هنا بقوله: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ المراد بالخلق هنا الفعل وليس نفس المفعول، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: أن فعله -تبارك وتعالى- وهو خلق السماوات والأرض -هذه الأجرام العظام- أكبر من خلق الناس، إذ إن دلالة القدرة على خلقها أظهر من خلق الناس فهم أضعف، ولا مقارنة بين خلق السماوات والأرض وخلق البشر.
وليس المقصود بقوله: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قد مضى في الكلام على الأمثال الآيات التي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها هذا المعنى، وجعله العلماء من قبيل المثل حيث إن الأعمى هو الأعمى عن الهدى وهو الكافر، والبصير هو من فتح الله بصيرته وهم أهل الإيمان، وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ فالله قد سمى الكافر والضال بالأعمى، والمهتدي بالبصير، كما أن الله -تبارك وتعالى- قد سمى الكافر بالميت، وسمى المهتدي والمؤمن بالحي، وسمى الجهل والكفر والضلال بالظلمات، وسمى الهدى بالنور.
وقوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ يعني لا يستوون، كما قال الله -تبارك وتعالى: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [سورة السجدة:18-20] الآية.
فهؤلاء لا يستوون، ونفي الاستواء -كما مضى في مناسبات شتى- يحمل على أعم معانيه، لا يستوون في أعمالهم وأحوالهم، لا يستوون في الدنيا ولا يستوون في الآخرة، لا يستوون في العمل، ولا يستوون في الجزاء من كل وجه في العاجل والآجل.
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60] هذا من فضله -تبارك وتعالى- وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول: "يا مَن أحبُّ عبادِه إليه مَن سأله فأكثر سؤاله، ويا مَن أبغضُ عبادِه إليه من لم يسأله، وليس أحد كذلك غيرَك يا رب"، رواه ابن أبي حاتم، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
اللهُ يغضب إنْ تركتَ سؤاله | وبُنيُّ آدمَ حين يُسأل يغضبُ |
وقال قتادة: قال كعب الأحبار: أُعطيتْ هذه الأمة ثلاثًا لم تعطهن أمة قبلها ولا نبي، كان إذا أرسل الله نبيًا قال له: أنت شاهد على أمتك، وجعلكم شهداء على الناس، وكان يقال له: ليس عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحـج:78]، وكان يقال له: ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[1] رواه ابن أبي حاتم، وروى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[2] وهكذا رواه أصحاب السنن والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير، وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير أيضًا من طريق آخر.
وقوله : إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي أي: عن دعائي وتوحيدي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ أي: صغيرين حقيرين، كما روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر في صُوَر الناس، يعلوهم كل شيء من الصَّغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال، عصارة أهل النار[3].
قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، ادعوني هنا فسرها بعضهم باعبدوني، واستدلوا على ذلك بما بعده، قالوا: هو قرينة تدل على هذا المعنى، وهو أن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي، فقالوا: دل ذلك على أن المراد بالدعاء هنا هو العبادة، فهذه قرينة من الآية نفسها، وقد تحتمل الآية معنيين فأكثر ويكون في الآية قرينة مرجحة لأحد هذه المعاني فهذه طريقة في الترجيح.
واستدلوا أيضًا بطريق آخر في الترجيح وهو باعتبار الاستعمال الغالب في القرآن، قالوا: فإن الدعاء في القرآن غالبًا يكون بمعنى العبادة.
وذهب آخرون إلى أن المراد بقوله: ادْعُونِي يعني اسألوني، الدعاء المعروف بالسؤال، ولا شك أنه عبادة، وبين القولين ملازمة من هذه الجهة؛ وذلك أن الدعاء عبادة من أجلّ العبادات، والآية إذا كانت تحتمل معنيين فأكثر وكان بينهما ملازمة ولا يوجد ما يمنع من حملها على هذه المعاني فإنها تحمل عليها جميعًا، فيكون المعنى -والله تعالى أعلم- ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، فاستجابته للعابدين بالثواب لأن العابد سائل بالفعل، يعني كيف قيل للعبادة دعاء؟ "ادعوني أستجب لكم"، ففسر الدعاء بالعبادة باعتبار أن السؤال على نوعين إما سؤال بالفعل فهذا الذي يركع ويسجد ويصوم ويقرأ القرآن وما إلى ذلك هو سائل بفعله، هو حينما يفعل هذه الأعمال إنما يريد الثواب؛ فهو سائل بهذا الاعتبار.
والنوع الثاني وهو السؤال بلسان المقال، يقول: يا رب اغفر لي، يا رب ارحمني، فهذا دعاء، وهذا دعاء.
هذا دعاء بالفعل، وهذا دعاء بالقول.
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، فإذا كان هذا من قبيل المشترك اللفظي مثلًَا فحمله على معانيه أو على معنييه لا إشكال فيه إن لم يوجد ما يمنع من هذا، وهذا أبلغ في المعنى، والله تعالى أعلم، مع أن كثيرًا من أهل العلم حملوه على العبادة، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، فسر قوله: ادْعُونِي أي: اعبدوني؛ وذلك بالمرجحات التي ذكرت آنفًا.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ظاهر كلامه هنا لما تكلم على الدعاء والسؤال وما إلى ذلك يدل على أنه يُدخل السؤال في ذلك، يعني في هذا المعنى، بل كأنه فسرها بذلك، لأنه من البداية يقول: هذا من فضله -تبارك وتعالى- وكرمه أن ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة، والآثار التي نقلها بعده هي في السؤال.
على كل حال يدخل فيه هذا وهذا، ابن جرير يقول: اعبدوني، وظاهر كلام ابن كثير: اسألوني، وقد مضى الكلام على هذا أيضًا مفصلًا في رمضان في الكلام على آيات الصيام، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، فالقولان المذكوران هنا مذكوران هناك، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ مع أن الآية هناك أوضح في السؤال، ولكن الله -تبارك وتعالى- قال أيضًا في الآية نفسها تلك: فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، اعبدوني واسألوني.
ويدخل في تلك العبادة الذكر، ذكر الله -تبارك وتعالى- والثناء عليه وهو من جملة العبادة، ولذلك النبي ﷺ يقول: خير الدعاء دعاء يوم عرفة[4]، وقال بعده: وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، هنا ما ذكر سؤالًا وإنما ذكر هذا الذكر، هو يقول: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، ثم ذكر خير ما قال ﷺ وخير ما قال النبيون قبله: لا إله إلا الله إلى آخره، فما ذكر سؤالًا، إذاً أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة يدخل فيه الذكر كما يدخل فيه السؤال.
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي هذه القرينة التي أشرت إليها آنفًا مما يحتج به من يقول: إن الدعاء المراد به العبادة؛ ولهذا يقول ابن جرير في هذا: "الذين يستكبرون عن عبادتي" يقول: عن إفرادي بالعبادة، ويدخل فيه كل من استكبر عن عبادة الله سواء استكبر عن إفراده بالعبادة أو عن فعل العبادة نفسها، يأنف من ذلك.
وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي هنا ابن كثير يقول: دعائي وتوحيدي، فذكر الأمرين سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ هذه قراءة الجمهور، وفي القراءة الأخرى المتواترة قراءة ابن كثير بالبناء للمجهول سَيُدْخَلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ والداخر هو الصاغر الذليل الحقير كما فسره بذلك ابن جرير، وهو ما ذكره ابن كثير -رحمه الله: أي: صاغرين حقيرين.
وقوله ﷺ: يُحشر المتكبرون يوم القيامة، أمثال الذرِّ في صُور الناس، هذا أحد الأمثلة لمَا ذكره ابن كثير -رحمه الله- في عدد من المواضع بهذا الكتاب فيما يتصل من كون العقوبة من جنس العمل، والذين راموا إلحاق الضرر بإبراهيم ﷺ بإلقائه في النار ماذا عاقبهم الله وماذا حكم عليهم؟ الذين أرجفوا بنبيهم شعيبًا ﷺ ماذا كانت عقوبتهم؟ قوم لوط ماذا كانت عقوبتهم لما قلبوا الفطر؟ وذكر لهذا أمثلة.
وهنا هذا يصلح مثالًا أيضًا لذلك وهو أن المتكبر يريد التعالي والترفع فيعاقب بنقيض قصده فيكون هؤلاء أمثال الذر في صور الناس يطؤهم الناس يوم القيامة، وهكذا قوله -تبارك وتعالى: سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ يعني في حال من الصغار والذل وكانوا قد تكبروا فعاقبهم الله بضد قصدهم، وهذا كثير لو أنه جمع في رسالة أو نحو ذلك لكان نافعًا.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة غافر:61-65].
يقول تعالى ممتنًا على خلقه بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ويستريحون من حركات ترددهم في المعايش في النهار، وجعل النهار مبصرًا أي مضيئًا يتصرف فيه بالأسفار وقطع الأقطار والتمكن من الصناعات، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ أي: لا يقومون بشكر نعم الله عليهم، ثم قال : فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: فكيف تعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئًا بل هي مخلوقة منحوتة؟!
الليل جعله الله سكناً، والنهار مبصرًا؛ ليبتغي الناس فيه معايشهم ومصالحهم، والإفك بمعنى القلب فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرون وتقلبون هذه الحقائق والدلائل والبراهين الدالة على قدرته ووحدانيته .
وقوله : كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: كما ضل هؤلاء بعبادة غير الله كذلك أُفِك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد الجهل والهوى، وجحدوا حجج الله وآياته.
وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا أي: جعلها لكم مستقرًا بساطًا مهادًا تعيشون عليها وتتصرفون فيها وتمشون في مناكبها، وأرساها بالجبال؛ لئلا تميد بكم، وَالسَّمَاء بِنَاء أي: سقفًا للعالم محفوظًا، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، أي: فخلقكم في أحسن الأشكال ومنحكم أكمل الصور، فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4].
وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أي: من المآكل والمشارب في الدنيا، فذكر أنه خالق الدار والسكان والأرزاق فهو الخالق الرازق، كما قال تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:21، 22].
وقال تعالى هاهنا بعد خلق هذه الأشياء: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي: فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين كلهم، ثم قال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي: هو الحي أزلًا وأبداً لم يزل ولا يزال، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أي: لا نظير له ولا عديل فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحدين مقرين بأنه لا إله إلا هو، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
روى الإمام أحمد عن أبي الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، قال: وكان رسول الله ﷺ يُهلّ بهن دبر كل صلاة[5]، رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بعض أهل العلم قال: إن هذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده ليقولوه، يعني إذا قالوا: لا إله إلا الله يقولون: الحمد لله رب العالمين، هكذا فهم منها بعض السلف.
ولكن هذا قد لا يكون مرادًا من الآية أن المقصود أن القائل الذي يقول: لا إله إلا الله أنه يتبع ذلك بقوله: الحمد لله رب العالمين، ولكن الله -تبارك وتعالى- أثنى على نفسه، حمد نفسه -تبارك وتعالى- ووصفها بأوصاف الكمال بوحدانيته، وكماله المقدس من كل وجه؛ ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- يحمد نفسه في كتابه إما ابتداءً: الحمد لله رب العالمين، وإضافة المحامد كما في سورة الفاتحة، باعتبار أن "ال" للجنس، كل المحامد مضافة إلى الله فهذا يقتضي أنه الواحد الأحد الذي اتصف بجميع صفات الكمال وهو الذي ينبغي أن يعبد وحده لا شريك له، وإما أن يكون ذلك تعقيبًا بقطع دابر الكافرين، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:45]، وتارة يكون ذلك بعد بيان دلائل القدرة وإقامة الحجة على الكافرين ونحو ذلك.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة غافر:66-68].
يقول -تبارك وتعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الله ينهى أن يُعبد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان، وقد بين -تبارك وتعالى- أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله -جلت عظمته: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا أي: هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك.
وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ أي من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم بل تسقطه أمه سقطًا، ومنهم من يتوفى صغيرًا وشابًا وكهلًا قبل الشيخوخة كقوله تعالى: لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [سورة الحج:5]، وقال هاهنا: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، قال ابن جرير: تتذكرون البعث، ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: هو المتفرد بذلك لا يقدر على ذلك أحد سواه.
قوله -تبارك وتعالى: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى بعضهم يقول: الأجل المسمى هو الموت الذي كتبه الله وجعل له أجلًا محددًا لا يتجاوزه الإنسان ولا يتقدم عنه.
وبعضهم يقول: إنه يوم القيامة، الإنسان يمر بهذه الأطوار، يكون في حال العدم ثم بعد ذلك يكون بأطوار شتى في بطن أمه، ثم يخرج إلى هذه الحياة الدنيا ويمر بأطوار ثم بعد ذلك ينتقل إلى عالم البرزخ، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الطور الأعظم والأكبر الأبدي السرمدي وهو يوم القيامة، فهذه الأطوار جميعًا هي مراحل يقطعها، فكما كان في بطن أمه لابدّ من وجود أطوار أخرى لجنس الإنسان؛ وذلك أن يخرج مَن شاء الله خروجه من بطن أمه ثم يعيش ما شاء الله له أن يعيش في هذه الحياة، ثم لابدّ من طور آخر، ثم الطور النهائي وهو يوم القيامة ودخول الجنة أو النار.
وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لعلكم تعقلون توحيد الله -تبارك وتعالى- وقدرته البالغة في خلقكم في هذه الأطوار، تعقلون أن الله -تبارك وتعالى- ما خلقكم عبثًا ولن يترككم هملًا، بل لابدّ لكم من أن تصيروا إليه -تبارك وتعالى- فيجازيكم على أعمالكم، وأن هذا الذي فعل بكم ذلك جميعًا وقد أخرجكم من العدم، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [سورة نوح:14] قادر على إعادتكم مرة أخرى، فهذا من أدل الأدلة على البعث، هذا الذي خلق وأنتم تقرون أنه الله -تبارك وتعالى- فكيف تنكرون الإعادة ثانية وقد أوجدكم من لا شيء؟!
فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة غافر:68] أي: لا يخالَف ولا يمانَع، بل ما شاء كان لا محالة.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [سورة غافر:69-76].
يقول تعالى: ألَا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله ويجادلون في الحق بالباطل كيف تُصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟! فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ هذا تهديد شديد ووعيد أكيد من الرب لهؤلاء، كما قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:15].
قوله -تبارك وتعالى- في صفة هؤلاء المجادلين في آيات الله مع وضوحها وظهورها: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا الكتاب هنا يحتمل أن تكون "ال" عهدية، بمعنى أنه القرآن، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ يعني هذا القرآن، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فيكون الذي بعده -هذا الذي أرسل الله به الرسل- هي الكتب التي أنزلها على الرسل -عليهم الصلاة والسلام، كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ أي: القرآن وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني سائر الكتب، كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285].
وهذا قال به كثيرون ممن فسروا قوله: بِالْكِتَابِأنه القرآن قالوا: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني سائر الكتب، إلا أن ابن جرير -رحمه الله- قال: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:59]، فابن جرير يقول: الذي أرسل الله به الرسل هو الأمر بالإخلاص والتوحيد والعبادة.
والذين قالوا: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني الكتب السابقة قولهم أوسع وأشمل مما قاله ابن جرير -رحمه الله؛ حيث إنه يتضمن ما ذكره ابن جرير؛ لأن هذه الكتب قد تضمنت هذا المعنى، ودلت عليه دلالة ظاهرة، بل هو المقصود من بعث الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وكل ما فيها من التفاصيل بأنواع التعبدات فهي داخلة في عبادة الله والإخلاص له وتوحيده، فكل هذه العبادات هي توحيد، كل ما يعمله الناس طلبًا لمرضاة الله -تبارك وتعالى- مما شرعه لهم فهو من جملة توحيده إذا صحت فيه مقاصدهم.
ومن أهل العلم من يقول: إن "ال" للجنس في الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ يعني كذبوا بالكتب، وعلى هذا هنا ابن جرير يقول: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ يعني سائر الكتب جنس الكتب قالوا: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا أي مما أوحى الله إليهم مما ليس في كتبهم، يعني كما أوحى الله إلى النبي ﷺ بالسنة، وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا يعني القدر الزائد على ما في الكتب المنزلة، يعني كذبوا بالوحي في صورة كتاب أو فيما كان زائدًا على ذلك، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
وقوله : فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [سورة غافر:72]، كما قال -تبارك وتعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [سورة الرحمن:43، 44]، وقال تعالى بعد ذكر أكلهم الزقوم وشربهم الحميم: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [سورة الصافات:68].
وقال : وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [سورة الواقعة:41-44] إلى أن قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [سورة الواقعة:51-56].
وقال : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ [سورة الدخان:43-50] أي: يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ، والتحقير والتصغير، والتهكم والاستهزاء بهم.
قوله -تبارك وتعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ الأغلال جمع غُل، وهو ما يربط في العنق، إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ، يعني يُسحبون بهذه السلاسل، وفي قراءة غير متواترة: {يَسْحَبُونَ} يعني أن هذه السلاسل في حال من الطول يَسحبونها، ولكن الأظهر أنهم يُسحبون بها، والله -تبارك وتعالى- قال: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [سورة الحاقة:32] سبعون ذراعًا أي خمسة وثلاثون متراً تقريبًا، وقد تكلم أهل العلم على معنى فَاسْلُكُوهُ، فبعضهم يقول: تدخل هذه من ناحية في جسده وتخرج من ناحية أخرى -نسأل الله العافية، يعني تدخل من فمه وتخرج من دبره، وإِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ، يسجرون ذكر أهل العلم لها معنيين:
الأول: قالوا: هو من سجَرتُ التنور يعني أوقدتُه.
والثاني: سجَّرتُه بمعنى ملأتُه بالوقود، ويكون على الأول "يسجرون" يعني توقد بهم النار، يكونون هم وقود النار، وهذا المعنى يدل عليه قوله -تبارك وتعالى: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24]، فالنار توقد بهؤلاء الناس، وهذا الذي قال به مجاهد، ومقاتل واختاره ابن جرير -رحم الله الجميع.
والمعنى الثاني: تُملأ النار بهم، والله -تبارك وتعالى- وعد كلًّا من الجنة والنار بملئها، أنها تملأ، والنار لا يزال يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ وبين المعنيين نوع ارتباط، يُسْجَرُونَ يعني توقد النار بهم، والمعنى الثاني: هو أنها تُملأ، سجّرت النار ملأتها بالوقود، تُملأ النار بهم، فهذا كله حاصل لهؤلاء توقد بهم النار، وتملأ النار بهم، لكن المعنى الأول هو الأظهر وهو الأشهر، ويدل عليه كما سبق قوله -تبارك وتعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.
قوله: ضَلُّوا عَنَّا ليس المقصود -والله تعالى أعلم- أن هؤلاء فُقدوا، بمعنى فقدت ذوات هذه الأصنام، وإنما ضَلُّوا عَنَّا بمعنى أنهم عرفوا أنها ليست بشيء، وليس لها شيء، لا تنفع ولا تضر، ولا تشفع، ضلوا عنا.
أي: جحدوا عبادتهم كقوله -جلت عظمته: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، ولهذا قال : كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ، وقوله: ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ أي: تقول لهم الملائكة: هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير حق ومرحكم وأشركم وبطركم، ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي: فبئس المنزل والمقيل الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه، والله أعلم.
قوله -تبارك وتعالى- هنا في سبب تعذيبهم وإضلالهم: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سورة القصص:76]، معلوم أن الفرح على أنواع منه ما هو مشروع، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [سورة يونس:58] فرح بانتصار الإسلام وعز الدين، وظهور الحق، وما أشبه ذلك، فهذا فرح مشروع يحبه الله، ويؤجر الإنسان عليه، ومنه الفرح بأعياد المسلمين، وإظهار ذلك فهذا من تعظيم شعائر الله.
وهناك فرح مباح كفرح الإنسان حينما ينجح في الاختبار، أو يحصّل شيئًا من مطالبه المباحة ونحو هذا، فهذا لا إشكال فيه.
والنوع الثالث: وهو الفرح المحرم، وهو على نوعين:
النوع الأول: أن يفرح بشيء محرم، كالفرح بالظفر بالمعصية من المكاسب المحرمة، أو من الفواحش أو غير ذلك مما يسخطه الله -تبارك وتعالى، فهذا فرح محرم.
النوع الثاني من هذا الفرح المحرم وهو المقصود -والله تعالى أعلم- بقوله: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ هو الفرح الذي يحمل على الأشَر والبطَر فهذا مذموم، ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هذا الفرح بعض المفسرين يقول: هو البطر والتكبر، وهذا بمعنى ما ذكرته آنفًا في النوع الثاني من الفرح المحرم، وهو الذي يَحمل على البطر والكبر والتعالي والتعاظم والأشر وما أشبه ذلك، ففُسر بهذا.
وهكذا قال مجاهد -رحمه الله- وجماعة.
ولا يبعد منه أيضًا قول من قال كالضحاك: إنه السرور، هو لا يقصد مطلق السرور، وإنما المقصود سرور خاص مذموم، هذا الفرح الذي يَحمل على شيء من الأوصاف التي ذكرتها آنفًا، وبعضهم فسره بالبطر والخيلاء.
وهذه كلها عبارات متقاربة إلا أن ابن جرير -رحمه الله- فسر الفرح هنا -لأنه جاء مقيدًا بغير الحق- بالفرح بمعصية الله -تبارك وتعالى، تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يعني الباطل والمعاصي، إلا أن هذا القيد في الواقع -والله تعالى أعلم- لا ينافي ما سبق من المعنى الذي ذكره بعض السلف، فإن من يفرح كفرح قارون الفرح الذي يورثه البطر والخيلاء الواقع أنه فرحٌ في الأرض بغير الحق؛ لأن الإنسان ينبغي أن يزيده ما أعطاه الله وأولاه من النعم والإفضال إخباتًا وتواضعًا لربه وخالقه ، لا أن يتعاظم ويتعالى إذ الكبر لا يصلح للإنسان، إنما هو وصف مختص بالله ، هذا هو الفرح، فيدخل فيه الفرح الذي يحمل على الأشر والبطر والعدوان، ويدخل فيه الفرح بمعصية الله -تبارك وتعالى، يعني الفرح المذموم.
وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: على فرحكم في الدنيا بغير حق ومرحكم وأشركم وبطركم، المرح بعضهم فسره بالزيادة في البطر، يعني أن الفرح هو البطر، والمرح هو التوسع في ذلك والزيادة فيه، وبعضهم فسره بالعدوان، يعني أن الفرح صفة في النفس تورث البطر، وأن المرح هو قدر متعدٍّ وهو العدوان كما يقول الضحاك -رحمه الله، وبعضهم فسره بالخيلاء والبطر فيكون بمعنى الفرح، وبهذا أيضًا فسره ابن جرير -رحمه الله- بأنه البطر والأشر تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ.
على كل حال الفرح -والله تعالى أعلم- هو صفة في النفس، وهو على أنواع، والمحرم منه ما كان متعلقًا بالمعصية، أو كان من قبيل الأشر والبطر، والمرح كأنه سلوك خارجي، إما أن يكون متسببًا عن هذا الفرح بالتوسع في الملاذ أو إظهار مقتضى هذا الفرح بالأقوال والأفعال، أو يكون ذلك مستقلًا عنه، يعني ألا يكون أثرًا للوصف النفساني، فهو قد يكون مظهرًا من مظاهر هذا الفرح من سلوك خارجي، وقد يكون فعلًا مستقلًا، والغالب أنه يكون متولدًا عن الأول -والله تعالى أعلم، تقول: فلان يمرح، فلان مرح ومارح، فهذا قد يكون بأمور وبحدود لا يتوصل بها إلى الحرام، وقد يكون ذلك بأن يرتع العبد فيما حرم الله -تبارك وتعالى- عليه، ويتعدى حدوده، ويواقع مساخطه.
فهؤلاء في نفوسهم يعيشون هذا الزهو والفرح المذموم، وفي سلوكهم الخارجي هم في حال من التوسع لا يتقيدون فيها بما حده الله -تبارك وتعالى- لهم، والله أعلم.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [سورة غافر: 77، 78].
يقول تعالى آمرًا رسوله ﷺ بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه فإن الله سينجز لك ما وعدك من النصر والظفر على قومك، وجعْل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا وفي الآخرة فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ، أي: في الدنيا، وكذلك وقع، فإن الله تعالى أقر أعينهم من كبرائهم وعظمائهم، أبيدوا في يوم بدر، ثم فتح الله عليهم مكة وسائر جزيرة العرب في حياته ﷺ.
وقوله : أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ أي: فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة، ثم قال تعالى مسليًا له: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ كما قال -جل وعلا- في سورة النساء، سواء أي منهم من أوحينا إليك خبرهم، وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة.
كما قال تعالى: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164]، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ [سورة إبراهيم:9] الآية.
قص الله خبر بعض الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وبعض الأمم، وهناك رسل وأمم لم يقص الله -تبارك وتعالى- خبرهم، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [سورة الفرقان:38].
وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق من عادات إلا أن يأذن الله له في ذلك، فيدل على صدقه فيما جاءهم به، فإذا جاءَ أمرُ اللهوهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين قُضِي بالحقِّ، فينجِّي المؤمنين ويهلك الكافرين ولهذا قال الله : وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ.
وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، ذكر هذا ابن كثير، أي الآيات التي تدل على صدق ما جاء به من خوارق العادات، المعجزات.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ [سورة غافر:79-81].
يقول تعالى ممتنًا على عباده بما خلق لهم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب، ويُحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال إلى البلاد النائية والأقطار الشاسعة، والبقر تؤكل ويشرب لبنها وتحرث عليها الأرض، والغنم تؤكل ويشرب لبنها، والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها، فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة كما فصل وبين في أماكن تقدم ذكرها في سورة الأنعام وسورة النحل وغير ذلك.
قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ هنا خصه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بهذه الأصناف الثلاثة الإبل والبقر والغنم؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- كما في سورة الأنعام لما ذكر الأزواج الثلاثة ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الأنعام:143] ثم ذكر من البقر اثنين وذكر من الإبل اثنين، وذكر من الغنم بنوعيها الضأن والمعز، هذه هي الأنعام، وإذا قيل: بهيمة الأنعام فهي المقصود بذلك.
وقال: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142]، وابن جرير -رحمه الله- حمله على ما هو أوسع من ذلك فجعله كقوله -تبارك وتعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [سورة النحل:8] إضافة إلى غيرها من الأنعام كالبقر والغنم، فجعل الأول داخلًا فيه الخيل والبغال والحمير، وأنها من قبيل المركوب، ولم يخص ذلك بما يؤكل لحمه أو بهذه الأصناف الثلاثة، "الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون" وأكثر المفسرين حملوا ذلك على الأصناف الثلاث وهو الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
و"مِن" في قوله -تبارك وتعالى: لِتَرْكَبُوا مِنْهَا يحتمل أن تكون تبعيضية بمعنى أن الذي يركب منها هو الإبل، وعلى قول ابن جرير: الإبل والخيل والبغال والحمير، وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ الذي يؤكل يكون مختصًا، ما يؤكل من هذه الأصناف على قول ابن جرير، فالحمير والبغال لا تؤكل بخلاف الخيل والإبل والبقر والغنم، ويحتمل أن تكون "مِن" ابتدائية أي منها ركوبكم، ومنها تأكلون، فالركوب مبتدَأ منها وكذلك الأكل، ويكون ذلك باعتبار المجموع، ولا يعني هذا أن كل واحد منها أو كل صنف منها يكون مركوبًا أو مأكولًا على قول ابن جرير بإدخال الحمير والبغال، وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كالأصواف والأوبار ونحو ذلك، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وهذه في الإبل، حيث يتوصلون بها إلى الأماكن البعيدة إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ [سورة النحل:7].
ولذا قال هاهنا: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وقوله -جل وعلا: فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ أي: لا تقوون على إنكار شيء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [سورة غافر:82-85].
يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم وما أثروه في الأرض، وجمعوه من الأموال، فما أغنى عنهم ذلك شيئًا ولا رد عنهم ذرة من بأس الله؛ وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات والحجج القاطعات والبراهين الدامغات لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءت به الرسل، قال مجاهد: قالوا: نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب.
وقال السدي: فرحوا بما عندهم من العلم بجهالاتهم، فأتاهم من بأس الله تعالى ما لا قبل لهم به، وَحَاقَ بِهِم أي: أحاط بهم، مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون أي: يكذبون ويستبعدون وقوعه، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا أي: عاينوا وقوع العذاب بهم، قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي: وحدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة، وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [سورة يونس:90]، قال الله -تبارك وتعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [سورة يونس:91] أي: فلم يقبل الله منه؛ لأنه قد استجاب لنبيه موسى -عليه الصلاة والسلام- دعاءه حين قال: وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:88].
وهكذا قال تعالى هاهنا: فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ أي: هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، ولهذا جاء في الحديث: إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر[6] أي: فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة وعاين الملَك فلا توبة حينئذ؛ ولهذا قال تعالى: وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ.
قوله -تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كما سبق في مناسبات شتى يمرون على ديار هؤلاء المعذبين كما قال الله -تبارك وتعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ [سورة الصافات:137، 138]، وهكذا في المواضع التي أمر الله فيها بالسير في الأرض للنظر في عاقبة المكذبين، وهذا السير الذي أمر به في القرآن إنما وجه الخطاب فيه لمن كان عنده نوع شك أو تردد، وأما أهل الإيمان الذين قد أيقنوا بالتوحيد، وبما جاء به الرسول ﷺ فإن هؤلاء ليسوا بحاجة إلى ذلك، فهم غير داخلين في هذا الخطاب الذي يأمر الله به في السير في الأرض؛ للنظر في عواقب المكذبين، ولهذا يقال: لا يشرع السفر إلى ديار المعذبين وقصْد ذلك، وإنما خوطب به من كان عنده شك أو تردد.
وقوله -تبارك وتعالى: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ وهذا كما سبق أن من الأمم السابقة من هي أشدّ وآثارهم باقية كالأهرام، وكذلك مدائن صالح ونحو هذا مما ظهر ويظهر حيناً بعد حين مما انطمس واختفى من معالم حضارتهم مما يظهر عليه الناس حينًا بعد حين، فهذا كله يدل على أن هؤلاء كانوا في حال من التمكن والقوة، قد يزيد هذا التمكن والقوة على ما نحن فيه اليوم مما ظهر من المخترعات والمكتشفات وما إلى ذلك؛ لأن قُوى الناس وقُدَرهم اليوم تعجز عن معرفة بعض تلك الإمكانات والقُدَر التي كان عليها أولائك الناس، كيف استطاعوا فعل هذه الأشياء بهذه الطرق الدقيقة العجيبة، سواء كان ذلك في البناء أو النحت أو غير ذلك.
قال الله -تبارك وتعالى: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ "ما" هذه تحتمل أن تكون استفهامية يعني فما الذي أغنى عنهم ما كانوا يكسبون؟ ماذا أغنى عنهم؟ ماذا أغنت عنهم هذه القوى والقُدَر والإمكانات؟ وتحتمل أن تكون نافية فَمَا أَغْنَى لم يُغنِ عنهم ذلك من الله شيئًا.
وهكذا قوله: مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ "فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون" تحتمل "ما" الثانية أن تكون مصدرية ، يعني فما أغنى عنهم كسبهم، وتحتمل أن تكون موصولة فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، يعني الذي كانوا يكسبون، فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون، الظاهر -والله تعالى أعلم- أن هذا العلم الذي فرحوا به هو ما كان عندهم من المعلومات والمعارف الدنيوية التي صاروا بها ممكنين وبنوا تلك الحضارات وشيدوا تلك الممالك، ففرحوا بهذا، فرحوا بقُدرهم وإمكاناتهم ومعارفهم وعلومهم الدنيوية التي قال الله -تبارك وتعالى- عنها: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الروم:7]، فهذا يدل على أن معارفهم كانت هائلة، حيث حملهم ذلك على الفرح بها، وتعاظم ذلك في نفوسهم حتى إنهم كذبوا الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وازدروا علومهم.
قال: وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون وقد مضى الكلام على مثل هذا قريبًا، فإن حاق كما سبق بمعنى أحاط، وقلنا: إن ذلك كما يقول بعض أهل العلم: إنما يستعمل في إحاطة المكروه خاصة، أحاط بهم يعني العذاب وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا هذه سنة الله ، ولم يُستثنَ من ذلك إلا قوم يونس لما رأوا العذاب فأنابوا وتابوا فنفعهم ذلك، وقُبل منهم.
- تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3269)، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز- المملكة العربية السعودية، ط3، 1419هـ.
- رواه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب الدعاء، برقم (1479)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة البقرة، برقم (2969)، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، برقم (3828)، وأحمد في المسند، برقم (18352)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1329)، وفي صحيح الجامع، برقم (3407).
- رواه الترمذي، في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2492)، وأحمد في المسند واللفظ له، برقم (6677)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (8040).
- رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب في دعاء يوم عرفة، برقم (3585)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1102).
- رواه أحمد في المسند، برقم (16105)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (594).
- رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم (4253)، وأحمد في المسند، برقم (6160)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1902).