بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ المعنى كما ذكر الحافظ ابن كثير ونقله عن جمع من السلف وهو اختيار ابن جرير: أن مقت الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء في الدنيا حينما دُعوا إلى الإيمان فأبوا وأصروا على الكفر أعظم من مقتهم لأنفسهم حينما يكونون في غمرات النار؛ وذلك أن الإنسان حينما يقع في مغبّة فعله القبيح يمقت نفسه، كيف ضيع على نفسه الفرصة، وكيف فرط التفريط العظيم ثم بعد ذلك آل به هذا التفريط، وهذا السوء في التدبير إلى هذه الحال التي لا يحسد عليها؟ فيمقت نفسه، فمقت الله له في الدنيا أعظم من مقته لنفسه حينما يُسلم إلى العذاب ويكون في تلك الحال.
وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارًا عاليًا نادوهم نداءً بأن مقت الله إلى آخره، يعني أخذ ذلك من النداء إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ فالنداء يكون للبعيد فهؤلاء في غمرات النار، والنار قعرها بعيد، فالملائكة تناديهم نداء عاليًا لمقت الله، يعني كالذي تناديه من بعيد تصوت له من أجل أن يسمع، فيقال لهم هذا الكلام: لمقت الله إلى آخره.
وهذا أيضًا الذي عليه الجمهور، وهو الذي رجحه الشنقيطي -رحمه الله، من تفسير القرآن بالقرآن أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ، وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فالموتة الأولى وذلك قبل نفخ الروح قيل: في مرحلة النطفة وكذلك الأطوار التي تكون قبل نفخ الروح فإن ذلك لا يكون حياة مستقرة كما هو معلوم، وقد مضى الكلام على هذا، وأن الموت في كلام الفقهاء بل في مثل هذه المواضع في كلام الله وكلام رسوله ﷺ ونحو ذلك يقال للشيء الذي لا حياة فيه، يقال له: ميت، وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ففي مرحلة النطفة أو حينما كانوا ترابًا كما يقول ابن جرير -رحمه الله.
وكما سبق أن مثل الحياة التي يذكرها المختصون بالأجنة ونحو ذلك من أن الحيوان المنوي يتحرك وينطلق بسرعة إلى آخره حتى يلقح البويضة، وما يكون في الجنين من النمو والنبض أيضًا هذا لا يقال له حياة شرعًا؛ لأن الحياة شرعًا هي التي تكون بحلول الروح في الجسد، فإذا خرجت منه فإن ذلك يعني مفارقة الحياة.
ولذلك فإن هذا الذي يسمونه بالموت الدماغي لا يعتبر من قبيل الموت شرعًا؛ لأنه لا زال حيًا، ولا يصح أن تجرى عليه أحكام الأموات من الميراث، وأن زوجته تعتد مثلًا، ولها أن تنكح زوجًا آخر بعد ذلك، قد تطول مدة هذا الموت الدماغي أكثر من أربعة أشهر وعشرة أيام فلا يقال: إن عدتها قد انقضت، وإن لها أن تتزوج، بل هو على قيد الحياة.
وهؤلاء الذين يشرِّحونهم ويشلحون أعضاءه ونحو ذلك هؤلاء مجرمون، وهذا يعتبر قتلًا لنفس، لا يجوز بحال من الأحوال، فالحياة والموت شرعًا هو بما ذكرت، فسواء كان ذلك قبل نفخ الروح في مرحلة من المراحل، أو كما يقول ابن جرير: حينما كانوا ترابًا يعني في خلقهم الأول خلق آدم ﷺ، وليس ذلك بالضرورة، وإنما النطفة ميتة، وكذلك العلقة، وكذلك المضغة إلى أن ينفخ فيه الروح، هذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، وهو قول الجمهور.
وبعض أهل العلم يقول: إن من قالوا بأن الموت هو سلب الحياة قالوا: الموتة الأولى حينما جاءت آجالهم فخرجت أرواحهم من أبدانهم، الموتة التي يموتها كل إنسان هذه الموتة الأولى، والإحياءة الأولى حينما نفخت فيه الروح وهو في بطن أمه حينما استتم له أربعة أشهر، والإحياءة الثانية قالوا: إنهم يحيون في قبورهم للسؤال والحساب، ثم بعد ذلك يميتهم ثانية، فقالوا: هاتان إحياءتان وإماتتان، وهذا الكلام فيه نظر -والله تعالى أعلم.
فالحاصل أنهم اعتبروا أن الموت هو سلب الحياة، وبعضهم يقول: إن الإحياءة الأولى حينما استخرجهم من صلب أبيهم آدم، وأشهدهم على أنفسهم ثم بعد ذلك أماتهم، ثم أحياهم بنفخ الروح، ثم بعد ذلك يموتون بآجالهم، وهذا أيضًا فيه بُعد، ولكن الذي دل عليه القرآن وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [سورة البقرة:28]، والله تعالى أعلم.
قال: والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله في عَرَصات القيامة، كما قال : وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [سورة السجدة:12].
فلا يجابون، ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة فلا يجابون، قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:27، 28]، فإذا دخلوا النار وذاقوا مسها وحسيسها ومقامعها وأغلالها كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [سورة فاطر:37]، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:107، 108].
وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة وهي قولهم: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي: قدرتك عظيمة فإنك أحييتنا بعدما كنا أمواتًا ثم أمتنا ثم أحييتنا، فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا، فهل إلى خروج من سبيل؟ أي: فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا فإنك قادر على ذلك لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا، ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تَمجُّه وتنفيه.
هنا في هذه المرات الثلاث في هذا الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- يقولون هذه المقالة، وكذلك وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا، الموضع الثاني الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير وقال: إنه أشد حينما يوقفون على النار فهنا يتمنون، ويقولون: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا فجاء هنا يعني أن مقالتهم فيها هذا التمني "يا ليتنا نرد"، وهذا لم يكن في الأول.
وفي المقام الثالث حينما يكونون في النار: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فهنا يصطرخون، وقبله يتمنون إذا رأوا النار، وفي المحشر يقولون: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي: أمتنا إماتتين، وأحييتنا إحياءتين اثنتين، هذا هو التقدير، والله تعالى أعلم.
قال: ولهذا قال تعالى: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، أي: أنتم هكذا تكونون وإن رددتم إلى الدار الدنيا، كما قال الله : وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28]، وقوله -جل وعلا: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ أي: هو الحاكم في خلقه العادل الذي لا يجور فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء لا إله إلا هو، وقوله : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ أي: يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه، وهو ماء واحد فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء، وما يتذكرأي يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها، إلا من ينيب أي: من هو بصير منيب إلى الله -تبارك وتعالى.
قوله -تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ المراد بالآيات هنا الآيات الكونية، وذلك كما في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [سورة آل عمران:190]، فهنا قال: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ، وهناك قال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة آل عمران:191] الآيات.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:164] ونظائر ذلك من الآيات في كتاب الله -تبارك وتعالى، فهذا هو المراد بقوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا.
هنا جمع بين كونه يريهم الآيات وإنزال الرزق من السماء، وذلك أنه بهذه الآيات التي يشاهدون فيتعظون ويعتبرون وينيبون تكون حياة الأرواح، وإنزال الرزق يكون به حياة الأبدان، فجمع لهم بين سببي الحياة: حياة الأبدان وحياة الأرواح.
قوله -تبارك وتعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ الدعاء هنا يشمل الدعاء بنوعيه: دعاء العبادة ودعاء المسألة، أن يكون ذلك بإخلاص لله -تبارك وتعالى، ولو كره المشركون، مثل هذه الآية التي يأمر الله بها بهذا الإخلاص في عبادته -تبارك وتعالى- ودعائه إضافة إلى ما كان النبي ﷺ يقوله دبر كل صلاة، وذلك تعليم من الله، وتعليم من رسوله ﷺ لأهل الإيمان أن يكونوا في حال من تحقيق العبودية، والإخلاص لله -تبارك وتعالى- طلبًا لمرضاته، ولو كان في ذلك الأمر كراهية المشركين.
وإن هؤلاء لن يرضوا عن أهل الإيمان ما داموا متمسكين بإيمانهم ثابتين عليه، ومن ثم فإن طلب مرضاة هؤلاء الناس، وتحسين الصورة عندهم ببذل الدين، والتخفف من أحكام رب العالمين، والعبث بالنصوص وفي محاملها، وفي حملها على المحامل البعيدة كل ذلك خلاف هذا الأمر الذي أمر الله به، ولو أن الناس تبصروا فيما يرددونه دبر كل صلاة: وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ فإن ذلك يكون أدعى لثباتهم على مبادئهم وعلى دينهم.
وليست الأمة مطالبة بأن تسعى جاهدة وراء أعداء الله -تبارك وتعالى- من أجل أن تتطلب رضاهم، وأن تحسن الصورة عندهم، فإن هؤلاء يعتبرون عبادة الله وحده وتحقيق العبودية له بالقيام بوظائف الدين ظاهرًا وباطنًا يعتبرون ذلك سوءاً وسبَّة يعيرون بها أهل الإيمان، هذا في كل زمان وفي كل عصر.
فما كان النبي ﷺ ولا كان أصحابه ولا أهل القرون المفضلة ولا أهل الإيمان الحق الذين كانوا عبر هذه القرون المتطاولة يبحثون عن رضا هؤلاء الناس، وأن يظهروا أمامهم بصورة تعجبهم وتستهويهم حتى يرضوا عنهم، ويثنوا عليهم في محافلهم، وفي ما يقولونه ويكتبونه ويذيعونه وينشرونه عنهم، هذا ليس بمطلوب، ولا ينبغي للمؤمن أن يسعى إليه، ويحفل به، وإنما نسعى لتحقيق رضا الله -تبارك وتعالى، ولن يجتمع رضا الله مع رضا أعداء الله ، فإنك إن أرضيت الله أسخطت أعداءه، وإن أرضيت أعداءه أسخطت ربك، فإذا صار الأعداء يثنون عليك وعلى إنجازاتك في هذا الباب وعلى ما حققته فاعلم أنك قد ركبت المراكب الصعبة، وأنك قد خالفت أمر الله ، وذلك لا يزيدك من الله إلا بُعدًا، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يعرفها وأن يدركها الجميع، وإلا فهؤلاء كما قال الله : وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، وإذا حصل مثل هذا فإن سخط الله هو المستعاض به، نسأل الله العافية.
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة غافر:15-17].
يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، كما قال تعالى: مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج:3، 4]، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الأرض السابعة في قول جماعة من السلف والخلف وهو الأرجح إن شاء الله، وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة.
يأتي الكلام على هذا -إن شاء الله- والروايات الواردة فيه وما قيل فيها، لكن قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ هل هذا يعود إلى الله ، أو يعود إلى غيره؟
كلام الحافظ ابن كثير هو ظاهر القرآن، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، وذلك على ظاهره رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ أن ذلك يعود إلى الله -تبارك وتعالى، فهو عال على خلقه، مستو على عرشه، استواء يليق بجلاله وعظمته، وقد جاء عن السلف أقاويل أخرى وليست من التأويل واللفظ يحتملها، فإن الله -تبارك وتعالى- هنا قال: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ
فبعضهم يقول: إن المقصود بـ "رفيع الدرجات" أي: رفيع الصفات، ولا شك أن العلو صفة لله -تبارك وتعالى- والاستواء كذلك، فالله -تبارك وتعالى- له علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، كل ذلك ثابت لله -تبارك وتعالى، رفيع الدرجات يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده.
بعضهم يقول: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ يعني رفيع درجات الملائكة، الروح هو الوحي، فرفيع درجات الملائكة يعني معارج الملائكة، فسروه بقوله -تبارك وتعالى: مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وهنا بعضهم فسره بهذا يعني معارج درجة الملائكة ومعارج الملائكة.
وبعضهم فسره بدرجات الأنبياء وأهل الإيمان والأولياء في الجنة، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ يعني أن عنده درجات عالية، الملائكة لهم درجات، والأنبياء لهم درجات، وأهل الإيمان لهم درجات، وكلٌّ بحسبه، وهكذا فُسر أيضًا كما جاء عن سعيد بن جبير -رحمه الله- رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ يعني: أن الله -تبارك وتعالى- رفع السماوات السبع، وهنا يكون رفيع بمعنى رافع، فعيل بمعنى فاعل، والأظهر -والله أعلم- هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله.
هنا قوله -تبارك وتعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أي من قضائه على من يشاء من عباده، وقوله -تبارك وتعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ "من" هذه تحتمل أن تكون متعلقة بيلقي يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ فتكون لابتداء الغاية، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ يعني مبتدَأً من أمره، ويحتمل أن تكون متعلقة بمحذوف على أنه حال من الروح، أي يلقي الروح كائنة مثلًا من أمره ونحو ذلك.
والروح قيل: هو جبريل -عليه الصلاة والسلام، والله -تبارك وتعالى- وصف جبريل ﷺ وسماه روحًا، كما وصف الله -تبارك وتعالى- الوحي الذي يأتي به جبريل -عليه الصلاة والسلام- بالروح، يُلْقِي الرُّوحَ يعني الوحي، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فتفسيره بأنه الوحي هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
قال ابن القيم -رحمه الله: "قَالَ تَعَالَى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ فَالْوَحْيُ حَيَاةُ الرُّوحِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ حَيَاةُ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا مَنْ فَقَدَ هَذِهِ الرُّوحَ فَقَدْ فَقَدَ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَحَيَاتُهُ حَيَاةُ الْبَهَائِمِ، وَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ جَهَنَّمُ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا"[3].
ولذلك سمى الله -تبارك وتعالى- الكفار أمواتًا، فهم موتى؛ لأنهم فقدوا هذه الروح، والحياة الحقيقية هي الحياة بالوحي والإيمان، ومن فقدها فهو ميت، كما أن من فقد الروح التي تعمر الجسد فهو ميت، فهما موتتان وحياتان، إحداهما أعظم من الأخرى؛ ولذلك كانت الأبوة أبوتين أبوة الولادة التي تكون سببًا للوجود في هذه الدنيا، والأبوة الأخرى التي هي أبوة التربية والتعليم فهذه التي يكون بها ارتقاء العبد إلى معارج الكمال.
هنا لينذر يوم التلاق لاحظ السياق يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ [سورة النحل:2]، وإذا اعتبرت هذه الآية مع قوله -تبارك وتعالى: لِيُنذِرَ أي: الله -تبارك وتعالى، ينزل الوحي لينذر عباده يوم القيامة.
ويحتمل أن الذي ينذر هو الرسول ﷺ، يعني هذا العبد الذي أنزل عليه الوحي، ينزل الوحي على من يشاء من هؤلاء العباد لينذر هذا الذي نزل عليه الوحي ينذر يوم التلاق، فهذان معنيان تحتملهما الآية.
والمعنى الثاني هو الذي يشهد له قوله -تبارك وتعالى: يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ فالذي ينذر هو الذي نزل عليه الروح الذي نزل عليه الوحي، وهكذا في قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [سورة الشعراء:193، 194] فالذي ينذر هو الرسول ﷺ، ويدل على هذا أيضًا قراءة غير متواترة منقولة عن ابن عباس والحسن بالتاء {لتنذر يوم التلاق}، ومعلوم أن القراءة غير المتواترة تفسر القراءة المتواترة {لتنذر يوم التلاق}، هنا على هذه القراءة غير المتواترة لا يحتمل المعنى إلا الرسول -عليه الصلاة والسلام.
والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالله -تبارك وتعالى- ينزل الروح -الوحي- على من يشاء من عباده لينذر الله -تبارك وتعالى- هؤلاء العباد بواسطة الرسل الذين أمرهم بالإنذار، ينذرون عباد الله يوم القيامة.
وهنا قوله -تبارك وتعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يقول: هذا من أسماء يوم القيامة، وذلك أن كل عامل سيلقى ما عمله، يعني سمي يوم التلاق على هذا للالتقاء بين العامل والعمل وهذا -كما هو معلوم- دل عليه القرآن وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف:49] وغير ذلك من الآيات.
وبعضهم يقول: لالتقاء أهل السماء والأرض فذلك يوم التلاق، كما قال ذلك قتادة، واختاره ابن جرير -رحمه الله، كما اختار ابن جرير أيضًا في الذي قبله أن المنذر هو النبي ﷺ، فهنا الالتقاء بين أهل السماء والأرض.
وبعضهم يقول: قيل له ذلك للالتقاء الذي يكون بين العابدين والمعبودين، وقد دل على هذا آيات من كتاب الله -تبارك وتعالى- أنه يحصل هذا الالتقاء، وأن هؤلاء جميعًا سيحضرون ويحصل بينهم من البراءة، والعداوة ما أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه، وقد مضى الكلام على ذلك، وهذا قال به طائفة من السلف كأبي العالية، وقال به أيضًا مقاتل، والعلم عند الله ، وبعضهم يقول غير هذا، وبعضهم يقول: الالتقاء بين الظالم والمظلوم، وبعضهم يقول: التقاء الدنيا بالآخرة، أو التقاء الأولين بالآخرين وذلك يوم التلاق.
التلاق هنا بصيغة الجمع ويدل ذلك أيضًا على كثرة في هذا اللقاء، وذلك اللقاء -والله تعالى أعلم- بين أهل السماء والأرض، ويلتقي فيه الأولون والآخرون، ويلتقي فيه المعبود بعابده، والعامل بعمله، وهكذا أيضًا يلقون فيه صحائف الأعمال والدواوين التي سطرت فيها، ولهذا بعضهم حمله على جزاء الأعمال حيث يلتقيها العاملون، يلتقون بصحائف الأعمال، ولو قيل: إن هذه المعاني لا دليل على تخصيص واحد منها، القرآن يحتمل ذلك، وكله حاصل يوم القيامة، والقرآن دل على هذا يعني على وقوع جميع ذلك، مثل هذا لو حمل عليه لم يكن بعيدًا، والله أعلم.
وهذا الذي عليه الجمهور أن الذي يقول ذلك ويجيب به هو الله -تبارك وتعالى، فالكل ساكتون لا يجيبون حتى يجيب الله ، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله.
وبعضهم يقول: إن الله يأمر مناديًا فينادي لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر: لله الواحد القهار، وبعضهم يقول: إن الذي يجيب بذلك هم أهل الجنة، ولا دليل على هذا، وبعضهم يقول: هذا حكاية عن لسان الحال، فهنا الحديث أن الله يقول ذلك ثلاثًا ثم يجيب نفسه لله الواحد القهار هذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
قد مضى الكلام على هذا في مناسبات سابقة، وأن الله لا يحتاج إلى عد وإحصاء وعقد أو آلة أو نحو ذلك مع كثرة الخلائق، وكثرة الأعمال، يحاسبهم كنفس واحدة.
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة غافر:18-20]
يوم الآزفة اسم من أسماء يوم القيامة وسميت بذلك لاقترابها كما قال تعالى: أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [سورة النجم:57، 58]، وقال : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [سورة القمر:1]، وقال -جل وعلا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [سورة الأنبياء:1]، وقال: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1]، وقال : فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الملك:27] الآية.
وقوله -تبارك وتعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ قال قتادة: وقفت القلوب في الحناجر من الخوف، فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها، وكذا قال عكرمة والسدي وغير واحد، ومعنى "كاظمين" أي: ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [سورة النبأ:38]، وقال ابن جريج: كاظمين أي: باكين.
هنا قوله -تبارك وتعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ الحنجرة هي الموضع البارز في العنق أو الرقبة، وقول الحافظ ابن كثير: قال قتادة: وقفت القلوب في الحناجر من الخوف فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها، ونقله عن جماعة من السلف، قال: ومعنى "كاظمين" أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه، بلوغ القلوب الحناجر يعني تصل إلى هذا الموضع فلا هي ترجع إلى موضعها، ولا هي تخرج، وهم في حال كما وصف الله : كَاظِمِينَ قال: أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه، وهذا معنى ذكره مَن ذكره من السلف ، والعبارات في هذا متقاربة، يعني بعضهم يقول: مغمومين مكروبين في حال من الغم والكرب ممتلئين غيظًا.
وابن جرير -رحمه الله- يفسره بأن قلوبهم تعلقت بحناجرهم بحلوقهم، كاظميها كاظمين للقلوب التي ارتفعت من مواضعها وانتقلت حتى صارت عالقة بالحناجر فلا هي ترجع إلى مواضعها ولا هي تخرج، هذا معنى آخر غير ما ذكر قبله أنهم قد امتلئوا بالغم، فهنا أنهم قد تعلقت قلوبهم بحناجرهم فلا تخرج ولا ترجع فهم كاظمون لهذه يرومون ردها إلى مواضعها من صدورهم فلا ترجع، ولا هي تخرج من أبدانهم فيموتون ويستريحون.
وهذا الذي أيضًا قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، يعني كأنهم قد غصوا بقلوبهم حينما تحولت وانتقلت من أماكنها، فصاروا لا يستطيعون ردها ولا هي تخرج فيموتون، مع أن الشنقيطي -رحمه الله- ذكر المعنى الآخر أنهم مكروبون ممتلئون من الخوف والغم والحزن، -نسأل الله العافية.
والكظم هو رد الحزن والغم وما إلى ذلك من المعاني كالخوف والغضب، كظم الغيظ، كما قال الله : وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [سورة آل عمران:134] فالذي يدافع شيئًا في نفسه مدافعة بحيث إنه يغالبه مغالبة يقال: كظمه، والإنسان يكظم الحزن الشديد والغم الشديد كما يكظم أيضًا الغضب الشديد، وإن كان هذا ليس المراد هنا -أعني الغضب، وإنما المقصود إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ فهم في حال من الشدة، هذه الشدة ما حقيقتها؟ ما منشؤها؟ ما الذي جعل القلوب أصلًا ترتفع إلى الحناجر؟ "إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين" تصوير لشدة الخوف الذي اجتمع معه الغم والهم والحزن وما إلى ذلك من هذه المعاني، فإنه في ذلك اليوم حينما يشاهد هذه الأهوال القلب يكون في حال من الخوف الشديد؛ ولهذا أخبر الله عن أهل الإيمان بأنهم لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62]، وقال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82].
وإذا نفى ذلك عن أهل الإيمان أثبته لهؤلاء من المجرمين الكافرين والمنافقين، ففي ذلك بيان لشدة الحالة التي يصيرون إليها حيث يتعاظم خوفهم فترتفع القلوب إلى الحناجر.
فهذه المعاني ملتئمة مجتمعة وليست مفترقة، بصرف النظر عن هذه العبارة هل يراد بها حقيقة ارتفاع القلب إلى الحنجرة أو أن ذلك تصوير لشدة الخوف كأن القلوب قد ارتفعت؟ على قولين، وقد مضى الكلام على هذا في قوله -تبارك وتعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [سورة الأحزاب:10]، فالعرب تعبر عن شدة الخوف بمثل هذا، بلغت القلوب الحناجر.
فبعضهم يقول: هذا تصوير لشدة الخوف كأن القلوب قد بلغت الحناجر.
وبعضهم يقول: إن الإنسان إذا اشتد خوفه انتفخت رئته، فيرتفع معها القلب فحينما يرتفع القلب يكون في أعلى مكان بحيث إنه يكاد يصل إلى الحنجرة، يكاد يخرج من شدة الخوف، ولهذا العرب يقولون -كما ترون في مرويات غزوة بدر: انتفخ سَحْره، فهم يعبرون بمثل هذه العبارة، والمقصود به الرئة، انتفخ سحره يعني رئته، فهذا يقال له ذلك، وعائشة -رضي الله عنها- تقول: "قُبض النبي ﷺ ورأسه بين سَحْري ونحري"[6]، في هذا الموضع، فهذه الرئة يقال لها هذا.
ومن ثَمّ فبعض أهل العلم يقول: تصوير لشدة الخوف بحيث إنه يعبر عنه كأن القلب يكاد يخرج، وبعضهم يقول: يرتفع حقيقة لانتفاخ الرئة إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ، وكون القلوب ترتفع بسبب شدة الخوف فهذان متلازمان، السبب والمسبب، فإذا كان الإنسان في حال من الخوف الشديد فإنه يكون بهذه المثابة، إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَوهذا الذي يكظمه ما هو؟ هذا القلب الذي ارتفع، وكذلك أيضًا هذه الأمور التي يدافعها كانت سببًا لحصول هذه الحالة عنده من شدة الخوف وشدة الغم -نسأل الله العافية، هذا تصوير في غاية الدقة لما يكابده أهل الموقف.
قال: وقوله : مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطع بهم الأسباب من كل خير، وقوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ يخبر عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها؛ ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من الله تعالى حق الحياء ويتقوه حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه يعلم خائنة الأعين وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر.
وقال الضحاك: خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ هو الغمز، وقول الرجل: رأيتُ ولم يرَ، أو لم أرَ وقد رأى، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما: يعلم الله تعالى من العين في نظرها هل تريد الخيانة أم لا، وكذا قال مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ يعلم إذ أنت قدرت عليها هل تزني بها أم لا، وقال السدي: وما تخفي الصدور أي من الوسوسة.
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ يعني ما يكون منها ويصدر من خيانة، وهذه الخيانة تشمل صور الخيانة جميعًا التي تكون بالنظر أو بحركة العين وما والاها، وذلك يكون بالإشارة، ولهذا النبي ﷺ كما في قصة عبد الله بن أبي السرح لما جاء وكان النبي ﷺ قد أهدر دمه حينما فتح مكة فدخل على عثمان، وكان أخًا له لأمه، فدخل فلما سكنت -يعني حركة الناس- جاء به إلى النبي ﷺ وأراد أن يبايعه على الإسلام، ومعلوم أن عبد الله بن أبي السرح كان مسلمًا ثم ارتد بعد ذلك، فالنبي ﷺ تمهل وتوقف وأبطأ عن إجابته، ثم بعد ذلك أجابه، وكان النبي ﷺ بعد ذلك قال لأصحابه أو لمن حضره منهم: أما قام رجل إليه فضرب عنقه حينما أبطأت عن مبايعته؟.
فالشاهد فيه أنهم قالوا له: هلا أومأت إلينا يا رسول الله، أي أشرت إلينا، فقال: ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين»[7]، هذا هو الشاهد خائنة الأعين وهي إشارة لا يشعر بها المخاطب أو الذي يخاطبك ويكلمك، تشير إشارة لآخر فيأتيه ما يكره دون أن يشعر بك، فالنبي ﷺ اعتبر هذا من خائنة الأعين، فالإشارة هذه داخلة في خائنة الأعين، وكل إشارة محرمة بالعين فهي داخلة في خائنة الأعين، أشار بذلك إشارة إلى امرأة بأمر لا يحسن فذلك من خائنة الأعين، كما قال الشاعر:
فأوحى إليها الطرْفُ أني أحبها | فأثَّر ذاك الوحيُ في وجناتِها |
يعني فهمت فظهرت حمرة في وجناتها من الحياء، وهنا أوحى إليها الطرف أي أشار إليها الطرف، فهذا من خائنة الأعين، وقل مثل ذلك في كل نظر يسارق الإنسان به دون أن يشعر الآخرون، يعني ينظر خلسة وخفية إذا غاب عن أعينهم، أو حينما لا يتفطنون إليه إذا كان معهم يرمق وينظر فهذا كله من خائنة الأعين، كل ملابسة في هذه العين محرمة فهي داخلة فيه، النظر إلى الحرام هو من خائنة الأعين، النظر في الصور المحرمة، النظر إلى النساء نظرًا محرمًا، النظر إلى الأشياء التي لا يجوز النظر فيها من الشبهات ونحو ذلك، هذا كله داخل في هذا المعنى.
ثم قال: وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وهذا من مجموعه يؤخذ منه أن الله يعلم الأمور الخفيات التي قد تخفى على الناس حينما يسارق الناسَ النظرَ دون شعورهم وعلمهم، يسارق النظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى، وكذلك ما تنطوي عليه الصدور، إذاً النظر الذي يكون مكاشرة هذا لا شك أن الله يعلمه، وما يعلنه الإنسان بلسانه ويفعله علانية كل ذلك الله يعلمه، فإذا كان يعلم هذه الأمور الخفيات -النظر خلسة- دون أن يشعر بك الآخرون، وما يدور في النفس مما يتصل بهذا النظر كما عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يعني أنه لو حصّل هذه المنظورَ إليها أنه يزني بها، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.
وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما: وحينما ينظر يكون مع الناس فإذا غافلهم يعني لم يشعروا به نظر، فإذا خشي أن يُتفطن له صرف بصره، فكلما وجد منهم غفلة نظر، يقول ابن عباس في بعض هذه الروايات: أنه يود لو أنه نظر إلى فرجها، هذه المرأة التي يسارق وينظر إليها حينما تمر في الدار أو نحو ذلك هذا داخل في قوله: وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، يعني ما وراء ذلك النظر، وكذلك ما تخفيه الصدور ما ذكره هنا في هذه الرواية عن ابن عباس من أنه لو تمكن لزنى بها، وكذلك ما تخفيه الصدور من غير هذا من الإيمان والكفر والنفاق وسائر الأمور المتعلقة بالقلب مما يخفى على الناس.
يعني هذا عام، يقضي بالحق يعني يحكم بالعدل، وابن جرير -رحمه الله- ربطه بما قبله يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ فيمن نظر بنظر هو من قبيل الخيانة، أو من غض بصره وما يقع في القلب من جراء ذلك، هكذا ربطه ابن جرير -رحمه الله، وهذا كله مما يحذِّر الله به عباده ويدعوهم إلى مراقبته، وملاحظة الأنفاس والحركات، وما يختلج في النفوس، فإن الله مطلع على ذلك جميعًا، وهو يجازي العاملين بما عملوا، وهو يحكم بالحق، ويجد الإنسان ذلك جميعًا في صحيفة أعماله، فليس الشأن أن يخفى ذلك على الناس، وإنما الشأن أن يراقب العبد ربه، وهذه حقيقة التقوى.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وهذا الذي فسر به ابن عباس -رضي الله عنهما- هذه الآية كقوله -تبارك وتعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم:31].
وقوله -جل وعلا: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ أي: من الأصنام والأوثان والأنداد لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ، أي: لا يملكون شيئًا ولا يحكمون بشيء، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي: سميع لأقوال خلقه بصير بهم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحاكم العادل في جميع ذلك.
أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة غافر:21، 22].
يقول تعالى أولم يسر هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، أي: من الأمم المكذبة بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ [سورة الأحقاف:26].
"إن نافية" يعني فيما لم نمكنكم فيه، يعني فيما لم يحصل لكم فيه التمكين والقدرة، وقد مضى الكلام على هذا المعنى بمناسبات سابقة، أن الأمم التي أهلكها الله كانوا أهل قوة وشدة وعمروا الأرض، وهذه بعض آثارهم نشاهدها، ولربما يعجز أهل العصر عن إدراك بعضها، ومعرفة صنعته كما هو معروف، فالله أعلم كم كان عندهم من القدر والإمكانات، وقوة الأبدان، والخلق، كل هذه أشياء أشار إليها القرآن، وآثارهم موجودة أو بعض آثارهم، ولكن الناس لا يعرفون إلا ما عافسوا وعايشوا وعاصروا، ويغيب عنهم ما سواه، فيظن الناس في هذا العصر أنهم قد حصلوا أسباب القوة والتمكين، وأنهم حصلوا من أسباب المعرفة والعلم وما إلى ذلك ما لم يحصل لمن قبلهم، وهذا الكلام فيه نظر، والله تعالى أعلم.
أنا لا أعرف رأيت بعض الصور في الإنترنت إن كانت صحيحة لأنني لا أثق بالصور التي في الإنترنت؛ لأنهم يعبثون بها، لا أعرف رأيت صوراً لأجساد ضخمة، يعني آدم ﷺ طوله ستون ذراعًا، أي خمسة وثلاثون متراً، جثة إنسان يعني هم حفروا عنه القبر، خندق في الأرض ضخم، وعظامه كاملة، والرجل عند جمجمته كأنه فَرْخ، ثم بعد ذلك بعدما رفعوه وضعوه على مكان مرتفع مثل الطاولة أو النعش أو شيء من هذا القبيل، والناس يطوفون به أمثال الذر بجانبه، صغار، يعني كأنها طائرة جاثمة تمامًا، وانظر إلى الناس حول الطائرة كيف أنهم صغار، كيف أنهم يحتاجون إلى سلم حتى يصعدون عليه، حينما أقاموه وضعوه بصورة كأنه قائم واقف يصعدون بسلم.
مثل هذه الأشياء إن صحت فمثل هؤلاء من المخلوقين بهذه المثابة وبهذه الضخامة ماذا يساوي الناس اليوم بالنسبة إليهم؟ لا شيء، واحد من هؤلاء يطأ الناس جميعًا، لو جئت له بآلاف الناس ميدان ممتلئ بالناس يمشي ويطأ عليهم جميعًا بقدمه، وربما لا يصدق أن هؤلاء من جنسه، وأنهم من ذريته، يحملهم في كفه.
هذا ذكَّرنا ببعض الأشياء التي كانت في الروايات الإسرائيلية إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [سورة المائدة:22]، فكان هناك أشياء فيها مبالغات، لكن مثل هذا يذكِّر بهم بما قالوا: إنه حملهم في سلة وذهب بهم إلى الملك، وكان في مزرعته فرآهم رأى هذا الوفد الذين جاءوا من الإسرائيليين طليعة الجيش فأخذهم بسلة، سلة الفاكهة، وذهب بهم وضعهم بين يدي الملك هذا الضخم، قد يكون فيه مبالغة، وهل كان الناس بهذه الصورة في عهد موسى -عليه الصلاة والسلام؟ ممكن أطول منهم بمترين بشيء من هذا القبيل، يعني ممكن يُتصور لكن بهذا الحجم؟ على كلٍّ ذلك كان في الأولين، ولم يزل الخلق كما أخبر النبي ﷺ ينقص.
فالشاهد أن مثل هؤلاء عمروا الأرض؛ ولذلك كما ذكرت في بعض المناسبات أن هذه الأهرام الضخمة التي بنيت من هذه الحجارة الضخمة، ما الذي رفع هذه الحجارة؟ ما الآلات التي رفعتها وجعلتها في هذه التناسق؟ ما الآلات التي قطعت هذه الحجارة بهذه الطريقة ثم عمرت بحيث إن بعض هذه الأهرام تدخلها الشمس صيفًا وشتاء بحسب منازل الشمس، دقة عجيبة، وقلت: إن كثيرًا من أهل العلم يقولون: إن هذه لم يعرف من بناها بعد الطوفان، وإن التاريخ الذي عُرف ودُوِّن إنما هو بعد الطوفان، أما قبل الطوفان فلا يعرف، ولهذا بعضهم يقول: إن الذي بناها هو إدريس ﷺ باعتبار أنه كان قبل نوح -عليهما الصلاة والسلام- كما هو معروف في القول الآخر للمؤرخين في ترتيب الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام- وفي زمانهم.
فالمقصود أن مثل هذه الأشياء العجيبة الهائلة في هذا النحت الدقيق، مدائن صالح، كيف تُنحت الصخور بهذه الطريقة، وبهذا النقش الدقيق العجيب الذي لا زال إلى اليوم مع تطاول الزمان وعوامل التعرية؟ كيف يستطيعون فعل مثل هذه الأشياء؟ هذا كله يدل على هذا المعنى، والله أعلم.
وقال تعالى: وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [سورة الروم:9] أي: مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم، وهي كفرهم برسلهم، وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ [سورة غافر:21] أي: وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده عنهم راد، ولا وقاهم واق، ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها فقال تعالى: فَكَفَرُوا أي: مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا فأخذهم الله تعالى أي: اهلكهم ودمر عليهم، وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [سورة محمد:10]، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ أي: ذو قوة عظيمة وبطش شديد، إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ أي: عقابه أليم شديد وجيع، أعاذنا الله -تبارك وتعالى- منه.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [سورة غافر:23-27].
يقول تعالى مسليًا لنبيه محمد ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه ومبشرًا له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران ، فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات والدلائل الواضحات، ولهذا قال تعالى: بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ والسلطان هو الحجة والبرهان، إِلَى فِرْعَوْنَ وهو ملك القبط بالديار المصرية، وَهَامَان وهو وزيره في مملكته، وَقَارُونَ وكان أكثر الناس في زمانه مالًا وتجارة، فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أي: كذبوه وجعلوه ساحرًا مجنونًا مموِّهًا كذابًا في أن الله أرسله، وهذه كقوله تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [سورة الذاريات:52، 53].
فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا أي: بالبرهان القاطع الدال على أن الله أرسله إليهم، قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وهذا أمر ثانٍ من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل، أما الأول فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم، أو لمجموع الأمرين، وأما الأمر الثاني فللعلة الثانية ولإهانة هذا الشعب، ولكي يتشاءموا بموسى .
هنا جواب على سؤال وهو أن فرعون قال -لما تشاور هو والملأ وخرجوا بهذه النتيجة: اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ هذا قرار جديد بعدما جاءه موسى ﷺ داعيًا، ومعلوم أن موسى ﷺ حينما ولد كان فرعون أيضًا يقتل الصبيان الذكور ويبقي الإناث، ولهذا ألقته أمه في اليم بأمر الله -تبارك وتعالى- ووحيه.
والسؤال الذي يرد هو أن تقتيل الأطفال، تقتيل هؤلاء الأبناء الذكور إنما كان خشية أن يأتي من يكون ذهاب ملك فرعون على يده كما أُخبر فرعون بذلك -والله تعالى أعلم، إضافة إلى الأمر الآخر أن ذلك لإضعاف هؤلاء، وكما سبق من أنهم كانوا يقتلون المواليد سنة ويتركونهم سنة، قالوا: من أجل أن قوم فرعون خافوا إذا قتل جميع الولدان فإن الفراعنة سيضطرون إلى مزاولة الأعمال والمهن الدنيئة التي كانوا يكلونها إلى الإسرائيليين، قالوا: من سيقوم بهذا؟ نحن سنضطر إلى هذا الشيء، فكان يقتل سنة ويترك سنة، وهارون ﷺ كان في السنة التي لا يقتل فيها الأبناء، وموسى ﷺ في السنة الأخرى التي يقتلون فيها، فأوحى الله إلى أمه أن تلقيه في اليمّ، وكان ما كان.
هذا في القتل الأول، وهنا لما جاءه موسى ﷺ أعادوا القرار نفسه أن يُقتل هؤلاء الأبناء وتُستحيا النساء، يعني تبقى حية من أجل أن تقوم بالخدمة لدى القبط، إذاً وقع ذلك مرتين هذا هو الشاهد، فهذه الآية في المرة الثانية التي وقع فيها الأمر بتقتيل الأولاد، كان ذلك إبان ولادة موسى ﷺ، وكان بعدما جاء موسى لدعوة فرعون، فهذا هو الجواب عن هذا السؤال.
هنا عبارة ابن كثير: فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم أو لمجموع الأمرين، وأما الأمر الثاني فللعلة الثانية ولإهانة هذا الشعب.
كلمة شعب في هذا الاستعمال أي أهل البلد، وقد لا تعرف في لغة العرب، يعني هل هي كلمة عربية فصيحة؟ يقال: الشعب المصري مثلًا كما يستعمل اليوم، قد لا يعرف هذا في لغة العرب فيما أعلم، ولكنه مستعمل، فهذا ابن كثير -رحمه الله- يستعملها، يعني ليست من العبارات المحدثة في العصر الحديث، بل كانت موجودة قبل قرون، فهذا ابن كثير -رحمه الله- يستعمل هذه العبارة فيما يستعملها به الناس اليوم، يعني ترتيب الناس حينما يقال مثلًا: شعب وقبيلة وبطن وفخذ وعشيرة أو غير ذلك من التقسيمات التي تذكر، الشعب هناك ليس المقصود به ما يستعمل به اليوم، وإنما هو شيء أكبر من القبيلة، ما فوق القبيلة، فهذا يقال له: شعب، وليس أهل البلد على اختلاف قبائلهم وأنسابهم وما إلى ذلك، فترتيب الناس من جهة القبيلة وما دونها وما فوقها لا يراد به ما نستعمله به اليوم.
فكلمة شعب اليوم تقال: للمجتمعين في بلد معين، يقال الشعب الفلاني، أهل البلد من عربهم وعجمهم على اختلاف أصولهم وأنسابهم وألسنتهم وأديانهم، هذا لا أعرف له أصلًا في لغة العرب بهذا الإطلاق، ولكن لفظة الشعب التي وردت في لغة العرب في التسلسل القبلي فذلك يقال في تسلسل معين محدد يطلق على مراتب ودرجات من حيث الكثرة والقلة، وله تفسير محدد معين، فعندنا حينما نقول مثلًا: قريش قبيلة قريش من أين؟ من كنانة مثلًا، وكنانة من مضر، فمضر شعب، وقريش قبيلة، وبنو هاشم ممكن أن يكونوا فخذاً.
وهكذا حينما تقول: القبيلة الفلانية، قبيلة من القبائل، قبيلة عتيبة هذه قبيلة، والبطن أو الفخذ ما دون ذلك يعني تقول مثلًا أسعدِي التي أكبر منها أعتقد قبيلة عتيبة، يعني مثلًا تنقسم إلى قسمين كبيرين هذا بطن، كل قسم ينقسم إلى أقسام هذا يسمى فخذ تدريج يعني فهمتم هذا؟ إطلاق الشعب على ما نطلقه اليوم على أخلاط الناس في بلد، على المنتسبين إلى بلد، على النازلين في بلد، الساكنين في بلد لا أعرف لهذا أصلاً في لغة العرب، إنما الذي ورد عندهم الشعب هذا في التسلسل القبلي، يعني هو أكبر من القبيلة في النسب، تسلسل في النسب، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [سورة الحجرات:13]، فيه خلاف في تفسيره، وقد مضى الكلام على هذا شعوبًا وقبائل، بعضهم قال: الشعوب هم العجم، والقبائل هم العرب، وبعضهم يقول غير ذلك، بعضهم يفسر الشعب بما هو أكبر من القبيلة كما سبق.
وأما الأمر الثاني فللعلة الثانية، ولإهانة هذا الشعب، ولكي يتشاءموا بموسى ولهذا قالوا: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:129]، قال قتادة: هذا أمر بعد أمر.
قوله: الأمر بعد الأمر هل هو يقصد هذه الآية اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ هذا الأمر الأول، وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ فقتل الأولاد لإضعافهم، يبقون ضعفاء تحت السيطرة، والنساء من أجل الإهانة والخدمة، ولهذا فإن إبقاءهن كما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله: ليس إكرامًا ولا رعاية للحقوق، ولا رأفة بالمرأة، وإنما هذا الإبقاء هو نظير القتل؛ لأن الله ذكرهما معًا في الامتنان على بني إسرائيل لما نجاهم من فرعون يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة الأعراف:141].
استحياء النساء هنا قد يقول قائل: طيب واستحياء النساء هذا جيد أنها تبقى حية، لا، هي لا تبقى حية للحياة الكريمة، إنما يبقونها حية ليمتهنوها ويبتذلوها فتشتغل عند عدوها بالأعمال المهينة وتُستذل، فهذا لربما كان القتل أسهل منه حينما يرى بنته تذهب إلى عدوه فيذلها ويهينها ويسخرها وتشتغل عنده فيما يأنف منه هذا العدو ويترفع عنه، فهذا بلاء لا يقل عن قتل الأبناء، ولهذا امتن عليهم بالأمرين، نجاهم من هذا الذي تسلط عليهم بالتقتيل والتنكيل فهذه نعمة الله -تبارك وتعالى، وينبغي على أهل هذا الزمان فيمن نجاهم الله من هؤلاء الفراعنة أن يعرفوا قدر هذه النعمة وأن يحمدوا الله عليها.
وتعجب حينما ترى هذا الاختلاف بينهم والتفرق والتشرذم والتراشق وما إلى ذلك في قضية لربما يمكن أن يحتمل الخلاف فيها، ولكن البلاء حينما يتكلم من لا يحسن في مثل هذه القضايا، تتحدث شرقًا ويأتيك الرد غربًا، هو ما فهم أصلًا محاور الكلام حينما تقول: هذا أخف الضررين، يقول لك: متى صار الكفر أخف الضررين؟ نقول: نحن لا نتكلم عن الكفر أنه أخف الضررين، نحن نتكلم عن كفر يمكِّنك من أن تدعو إلى الله، وأن تعمل، وأن تبقى طليقًا تعبد الله وأنت في غاية الراحة كما فعل المسلمون حينما ذهبوا إلى أرض الحبشة عند قوم كفار، وكانت هجرة شرعية.
ولذلك فإن الهجرة ليست النوع الذي يذكره فقط الفقهاء وهو الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، الهجرة أن ينتقل الإنسان من بلد لا يستطيع أن يعبد الله فيها إلى بلد يستطيع أن يعبد ربه فيها سواء كانت بلد كفر أو بلد إسلام، هذه الهجرة الشرعية، ولهذا الهجرة إلى الحبشة لم تكن إلى أرض إسلام كانت إلى بلاد كفار، ولكنها هجرة شرعية.
فالقضية هي أن يكون الإنسان بين كفر -أعني به الديمقراطية- وألا تنفرد الشريعة في الحكم على الناس، هذا كفر، والقوانين لا يجوز أن تحكم في رقاب الناس، القوانين المخالفة للشرع، ولا يجوز أن يحكم غير شرع الله ، والديمقراطية هي ضرب من ضروب الكفر، هذا معلوم، لكن هناك كفر آخر سيصليهم بالحديد والنار، ولا يستطيعون عبادة الله على الوجه الصحيح، ويملأ بهم السجون، ويسومهم الخسف والذل، ويعذبهم بأشد أنواع العذاب والنكال، بكل صنوف الأذى، ولعلكم رأيتم بعض الصور القديمة أيام سيئ الذكر الهالك عبد الناصر يطلقون عليهم الكلاب وهم مقيدون في السجن تنهشهم، فهذا كفر أسوأ وأشد من هذا الكفر الذي يطلق لهم الحرية في أن يعبدوا الله ويتقربوا إليه بما يريدون.
هذا معنى أخف الضررين، وليس أن الكفر هو أخف الضررين، ليس هذا المراد، ولكن ما تفعل بمن يأتي بها من ناحية أصلًا ليست هي محل البحث ولا الكلام، ويعترض بمثل هذه الاعتراضات الباردة التي لا يمكن أن تصدر ممن يعرف ما يقول، يقول: متى صار الكفر أخف الضررين؟ نحن لا نقول: إن الكفر أخف الضررين، نحن نقول: الكفر مراتب، هناك كفر يحرقكم بالنار في الدنيا، وكفر يترككم تعبدون الله ماذا تفعل؟
وهذه القضية ليست جديدة، بعد الحرب التي في البوسنة أقيمت انتخابات كان المرشحون "علي عزت" -وأعلن أنه سيكون دولة علمانية تحكم بالديمقراطية إلى آخره، ورجل من الصرب ورجل شيوعي، ورجل كرواتي أصله من الكروات الذين في البوسنة، جاءت الانتخابات فجاء الدعاة هل ندخل في هذه الانتخابات؟ هل نرشح "علي عزت" أو لا؟ اختلفوا، هؤلاء يقولون: إن رشحتموه وهو يقول: إنه سيقيم دولة علمانية ديمقراطية فأنتم اخترتم الكفر بأنفسكم، ومن أقر الكفر واختاره فهو كافر.
القضية ليست بهذه المعادلة، إذاً ما هو الحل؟ ما هو البديل شيوعي أو صربي يسومكم الخسف والذل، وما جفت أسلحتهم من دمائكم؟ ماذا تفعلون؟ هنا ارتكب الأخف من الضررين، وارتكاب أخف الضررين لا يتقيد بمسألة الإكراه وعدم الإكراه، ويقول: أنا عندي حرية، وأختار ما أختار، ليس هذا فقه المسألة أصلًا، عندنا مسألة إكراه هذه يرتفع معها التكليف بنوعيه، الإكراه الذي يسلب الإرادة تأخذ إنساناً وتربطه، تُؤخذ امرأة وتُوثق يُزنى بها، هذا يرتفع به التكليف، تفتح فمه وتصب فيه الخمر، ارتفع التكليف هنا، صومه صحيح، وهذه المرأة لا حرج عليها، هناك نوع إكراه حكمي فهذا يرتفع معه التكليف، وإن كان يستطيع الإنسان أن يمتنع لكن البديل هو ضرر معتبر كالقتل مثلًا فهذا يرتفع عنه التكليف ليس عليه حرج.
وهناك مسائل الضرورة فهنا تحصل معها الإباحة، "الضرورات تبيح المحظورات"، تباح له الميتة، يباح له الخمر وما إلى ذلك في حال الضرورة، وهناك حالة أخرى يقال لها: "ارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما"، هذه فيها مجال للاختيار، لكن اختيار الفقهاء الذين يقدرون أنواع الضرر، ويقدرون أخف الضررين، ويقدرون أعلاهما فهنا كما قال في المراقي:
وقدِّم الأخفَّ من ضُرَّيْن | وخيرِّنْ لدى استِوا هذين |
يعني حينما تتساوى المصلحة والضرر، هذا مأخذ المسألة، تطرق المسألة من هنا ويأتيك الجواب من جهة أخرى ليست هي محل البحث أصلًا، وليست هي المفصل الذي جرى الحديث فيه، فأحيانًا تفكر تقول: يا ليت الأقلام تكسر ما دامت هذه الفهوم وهذه العقول، أصبح الإنسان يعيش حتى يرى أنواع الجهالات، يجترئ أصحابها، ويتكلمون، ويردون وبسوء أدب، وعبارات جافة هذا لا يليق، فالكلام في هذه المسألة مأخذها ارتكاب أخف الضررين، وإلا فليس الكفر أخف الضررين، ولكن هناك كفر وهناك كفر آخر، كفر آل فرعون هذا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا.
أنا أتعجب ما رأيت في العالم من أوله إلى آخره أحداً في أيام الترشيح والانتخابات يهدد الناس مثل هذا الخائب شفيق، ومن معه صاحب البرداعة والفلول المتجمعة، ومن يعاونهم من المنافقين، يهددون الناس، وقت الترشيح المرشح يعطيهم الشمس في يد والقمر في يد؛ ليحصّل أكبر قدر من المؤيدين والأصوات، لكن هؤلاء يهددون في أوقات الترشيح، إذا تمكنوا ماذا سيفعلون؟ هم قالوها، قالوا: سنعيدهم إلى السجون! تريد أكثر من هذا؟! نسأل الله العافية.
قال الله : وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ أي: وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل؛ لئلا يُنصروا عليهم إلا ذاهب وهالك في ضلال.
وهذا أصل كبير قرره القرآن، فلما توعد فرعونُ بتقتيل الأولاد إلى آخره ماذا قال الله -تبارك وتعالى؟ ماذا أجاب؟ ماذا حكم ربنا -تبارك وتعالى؟
هنا الجواب محكم: وهو قاعدة لا يمكن أن تتبدل قال: وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ، ولم يقل: "وما كيد فرعون إلا في ضلال" فرعون انتهى، لكن المقصود كل الكافرين الذين يكيدون للحق وأهله فإن كيدهم في ضلال، والضلال هو الذهاب والاضمحلال في أصل معناه، يعني أن كيدهم مضمحل ذاهب، كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [سورة الأنفال:36].
فهذه النفقات الطائلة والمليارات التي يقدمونها ويبذلونها للصد عن سبيل الله اطمئنوا تمامًا هي ذاهبة فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ هذا متى؟ هذا في الدنيا قبل الآخرة، في الآخرة: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [سورة الأنفال:36، 37] فتوجد محرقة في الدنيا ومحرقة في الآخرة، فهذا حكم الله -تبارك وتعالى- وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ، وهذا لا يختص بفرعون جاء الحكم عامًا، ولهذا فإن القاعدة في هذا كما ذكر الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- في "القواعد الحسان" أن الله حينما يذكر قضية خاصة، ويقصد بعد ذلك أن يكون الحكم عامًا يختم الآية بالحكم العام؛ ليشمل هؤلاء وغيرهم.
كل الكافرين فإن سعيهم وكيدهم في ضلال ذاهب مضمحل، ولا أدل على هذا من الواقع، انظر للتنصير مثلًا إذا قرأت الأرقام أعداد المفرغين، وأعداد الأطباء، وأعداد الطائرات، والأرقام الخيالية الفلكية التي لا تستطيع أن تقرأها، الميزانيات والأرصدة تقول: ما هذا؟ هؤلاء سيحولون من على وجه الأرض إلى نصارى.
وإذا نظرت إلى الواقع مع الجهود الضعيفة للمسلمين، والحصار المحكم على هذه الجهود والتبرعات، وما إلى ذلك ثم الإسلام باعترافهم هم الرئيس الأمريكي يعترف أن الإسلام هو الأول في الانتشار في العالم، ثم يعقب هذا الاعتراف اعتراف بابا الفاتيكان، وأن عدد المسلمين زاد على عدد النصارى في العام الماضي، يعني ليس عدد الداخلين، وعدد المسلمين على وجه الأرض لأول مرة يزيد على عدد النصارى، مع الجهود الضخمة، ومع ذلك الواحد إذا أراد أن يقدم مساعدة أو لبرنامج دعوي أو نحو ذلك كأنه سارق أو لص يخوفون الناس، ومع ذلك هذا الانتشار للإسلام والدخول فيه، وكلما أرادوا كيدًا لهم أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فكان ذلك سببًا لإقبال الناس للتعرف على الإسلام، والدخول فيه أفواجًا، وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ.
فلا حاجة للإنسان أنه يصدِّع رأسه وينظر في هذه الميزانيات الضخمة والمليارات التي للكنيسة أو نحو ذلك فيصيبه شيء من الإحباط واليأس، نحن عندنا هذا الأصل وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ فكلما ضاق الصدر باستعراض أو سماع أو رؤية هذه الجهود الجبارة التي يبذلونها للكيد لدين الله تذكر هذا الأصل الكبير والقاعدة العظيمة وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ هذا في الدنيا.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ وهذا عزم من فرعون -لعنه الله- على قتل موسى -عليه الصلاة والسلام، أي: قال لقومه: دعوني حتى أقتل لكم هذا وليدع ربه، أي: لا أبالي به، وهذا في غاية الجحد والتهجم والعناد.
وقوله -قبحه الله: إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ يعني موسى، يخشى فرعونُ أن يُضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم.
يعني فرعون الآن هو المصلح، والمحافظ على مصالح الناس، وعلى استقامة الأحوال، وخائف عليهم من موسى ﷺ، فرعون هو المصلح، خائف عليهم من موسى ﷺ أن يظهر في الأرض الفساد، وأن يبدل دينهم، فهكذا تقلب الحقائق، والناس يتكلمون ويتفوهون بما أرادوا ولكن الله -تبارك وتعالى- يحق الحق بكلماته، فماذا كانت النتيجة؟ من الذي هلك؟ ومن الذي ذهب كيده؟ ومن الذي كان فعلًا يفسد في الأرض، ويستضعف أهلها ويجعل هؤلاء على طوائف؟
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (594)، وأحمد في المسند، برقم (16105)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الزبير: وهو محمد بن مسلم بن تدرس، فقد أخرج له البخاري مقروناً بغيره، واحتَج به مسلم".
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (594).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 243).
- رواه مسلم، في أوائل كتاب صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2788).
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب في فضل عائشة -رضي الله تعالى عنها، برقم (2443).
- رواه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (16656).
- رواه أبو داود، بلفظ: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، كتاب سجود القرآن، باب ما يقول الرجل إذا خاف قوما، برقم (1537)، وأحمد في مسنده، برقم (19719)، وقال محققوه: "حديث حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4706).