الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[4] من قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} الآية:41 إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} الآية:56
تاريخ النشر: ٢٠ / صفر / ١٤٣٤
التحميل: 8301
مرات الإستماع: 7877

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ۝ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ۝ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ۝ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۝ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ۝ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:41-46]

يقول لهم المؤمن: ما بالي أدعوكم إلى النجاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وتصديق رسوله ﷺ الذي بعثه، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ أي: هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ يقول: حقًا، قال السدي وابن جرير: معنى قوله: لا جرم: حقًا، وقال الضحاك: لا جرم: لا كذب، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا جرم يقول: بلى إن الذين تدعونني إليه من الأصنام والأنداد ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة.

قال مجاهد: الوثن ليس له شيء، وقال قتادة: يعني الوثن لا ينفع ولا يضر، وقال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا كقوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5، 6]، إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [سورة فاطر:14].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- فيما قصه من خطاب مؤمن آل فرعون لقومه: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ۝ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، قوله: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أي: هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه، وكذلك يمكن أن يقال: إنه جمع لهم في ختم ذلك بين الترغيب والترهيب، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ الذي يأخذ المكذبين والظالمين والمجرمين والكافرين بعزته فيهلكهم ويعذبهم، فهذا يدل على جانب الأخذ والعذاب والترهيب، والغفار كثير الغفر فهذا يتصل بالترغيب فجمع لهم بين هذا وهذا.

وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- صحيح، فإن الله -تبارك وتعالى- يغفر حينما يغفر لا لعجز عن المؤاخذة، وإنما يغفر مع كونه متصفًا بالعزة، وفي القرآن مواضع من هذا، ومنه قول عيسى ﷺ: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118].

وقوله: لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ هذا المعنى الأول الذي ذكره الحافظ ابن كثير قال: يقول: حقًا يعني أن لا جرم أي حقًا، وتكون لا نافية يعني لنفي ما ادعاه ورد ما زعمه هؤلاء الكفار المكذبون، وإذا كان "جرم" هذا فعلاً فيمكن أن يكون فاعله أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ... الآية فتكون الجملة هذه في محل رفع فاعل، أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ هنا يقول: حقًا، قال السدي وابن جرير: معنى لا جرم: حقًا، وقال الضحاك: لا جرم: لا كذب، وهذا من ناحية المعنى يرجع إلى الأول، فإنه إذا كان حقًا فمعناه لا كذب، من جهة المعنى، وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: بلى، إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد ليس له دعوة في الدنيا، ولا في الآخرة, يعني حقَّ ووجبَ بطلانُ دعوته.

وبعضهم يقول: إن معنى كونه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ يعني كما يقول ابن جرير -رحمه الله: إنه جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، وبعضهم فسر ذلك بالشفاعة أي لا يشفع لعابديه كما يرجون ويؤملون حينما عبدوه، وبعضهم فسر ذلك بالاستجابة يعني ليس له استجابة دعوة تنفع، لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وهي معانٍ متقاربة.

وبعضهم يقول: إن معنى ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة: يعني دعوة توجب الإلهية في الدنيا ولا في الآخرة كما يزعم هؤلاء، وهكذا ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا قال مجاهد: الوثن ليس له شيء، يعني ليس له استجابة ولا شفاعة ولا ينفع ولا يضر، وقال قتادة: يعني الوثن لا ينفع ولا يضر، قال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا كله بمعنى واحد، وهذا كقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ [سورة الأحقاف:5] مِن هنا فُسر بالاستجابة، وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [سورة الأحقاف:5]، إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [سورة فاطر:14].

فالحاصل أن هذه العبارات ترجع إلى هذا المعنى أنه لا ينفع داعيه ولا يضره وهو بمنأى عنه، إلا قول من قال: إن المراد ليس له دعوة من جهة ما ادعوه يعني توجب له الإلهية، لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ والمشهور هو الأول الذي تتابعت أقاويل السلف فمن بعدهم على تقريره بعبارات متنوعة.

وقوله: وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ، أي: في الدار الآخرة فيجازي كلًّا بعمله، ولهذا قال: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ أي: خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله .

وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، أي: خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله -تبارك وتعالى، هذا قال به طائفة من السلف، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ يعني المشركين، ولا شك أن المشرك بالله -تبارك وتعالى- داخل في هذا، ولهذا قال بعضهم: إن المراد بالمسرفين من تجاوز الحد الذي حده الله -تبارك وتعالى- له، فهؤلاء أهل الإشراك تجاوزوا توحيده والإيمان به، وصاروا بهذه المثابة حيث صرفوا العبادة إلى غيره من الأنداد والأوثان، فهذا يقول به ابن سيرين وقتادة. 

وبعضهم يقول هذا ويزيد عليه فيقول: هم المشركون المتعدون لحدوده القتلة للنفوس التي حرم الله -تبارك وتعالى- كما يقول ابن جرير، حيث جمع هذه المعاني بعبارة واحدة؛ لأن من السلف من قال: إن المسرفين هم سفاكو الدماء، أي المسرفون في الدماء، القتل، إزهاق النفوس.

وبعضهم يقول: الجبار هو الذي يكثر من القتل، وقول القبطي على أحد القولين: أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ [سورة القصص:19]، ولهذا قال بعضهم: مَن قتل نفسين فهو جبار أخداً من الآية، إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ قالوا: قتل رجلًا بالأمس، وهذا يقول: أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ فالذي يقتل نفسين يكون جبارًا، وعند التأمل قد يقال: إن هذا ليس بلازم -ليس الحديث عن هذا لكن الحديث يجر بعضه بعضًا- فإن المقالات التي في القرآن إذا لم يرد قبلها ولا في ثناياها ولا بعدها ما يدل على ردها فالأصل أنها صحيحة، هذا غالبًا.

ومن غير الغالب قوله -تبارك وتعالى- في سورة الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21]، اتخاذ المساجد على القبور محرم في شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بدليل أن اللعن لحقهم، وصاروا شرار الخلق عند الله -تبارك وتعالى، فهذا باطل -أي هذا القول- ولم يرد في الآية ما يدل على بطلانه، ولكن يقال: غالبًا، كعدد أصحاب الكهف، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [سورة الكهف:22]، وفي قولين قبله قال: رَجْمًا.

فهناك في قوله -تبارك وتعالى: إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ من قتل نفسين يكون جبارًا هذا لا يلزم، وإنما هو من وُصف بالتجبر سواء قتل نفسين أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.

هنا في قوله -تبارك وتعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، هو موضع الحديث، قال: خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله -جل جلاله، وبعضهم يقول: المسرفون هنا هم المتكبرون الجبارون كما يقوله عكرمة -رحمه الله، فالحاصل أن هذه الأقاويل بتفسيره بالمشركين أو بمعنى الإسراف في القتل أو تجاوز الحدود التي حدها الله -تبارك وتعالى- جمعها ابن جرير -رحمه الله، فعد ذلك جميعًا من الإسراف، "وأن المسرفين هم أصحاب النار" من أعظم الإسراف صرف الشكر والعبادة لغير المنعم، صرفها لغير من خلق، هذا من أعظم الظلم والإسراف.

والمقصود هنا ليس الإسراف في المطاعم ونحو هذا، وإنما المقصود بالإسراف هنا الإسراف الذي يوجب الخلود في النار؛ لأنه قال: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ وإذا ذكر مثل هذا يعني أصحاب كذا، أصحاب النار فإن المقصود أهل الخلود فيها، والذي يوجب الخلود في النار هو الإشراك، ولهذا فسره هؤلاء من السلف بالإشراك.

يعني قد يسأل بعضكم لماذا لا يقال: الإسراف هو التوسع في الملاذ من مطعوم ومشروب وما إلى ذلك كما هو معروف، وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۝ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً؟ [سورة الإسراء:26، 27]، هذا لا يوجب الخلود في النار، ولما ذكر أصحاب النار فمعناه أهل الخلود ففسروه بالإشراك، وهكذا قول من قال: الإسراف هنا في القتل لما ورد من النصوص في التشديد في سفك الدماء وقتل النفوس التي يحرم قتلها، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [سورة النساء:93].

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ أي: سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم، وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم.

قال هذا باعتبار أن عاقبة المكذبين والكافرين لا شك أنها عاقبة سيئة سواء كان ذلك بإدالة أهل الإيمان عليهم، أو بما قيضه الله من تسليط عدوهم عليهم، أو كان ذلك بتحول عافيته عنهم، فإن العاقبة لا تكون للكافرين والمكذبين، فقال لهم بهذا الاعتبار: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ باعتبار أن عاقبة التكذيب والكفر عاقبة وخيمة، يعني لا يقتضي أنه كان يعلم أنهم سيغرقون، وستكون نهايتهم هذه، لكن هو يعلم في الجملة أن العاقبة لا تكون لهؤلاء من أعداء الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

قال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي: أتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، أي: هو بصير بهم -تعالى وتقدس- فيهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة والحكمة التامة، والقدر النافذ.

وأيضًا هو بصير بهم وبكفرهم وتكذيبهم وأعمالهم، فيأخذهم -تبارك وتعالى- ويجازيهم على هذا التكذيب والكفر، ولاحظ بعده أن الله قال: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [سورة غافر:45] والفاء هنا تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، هذا الذي يسميه الأصوليون بدلالة الإيماء والتنبيه، أنه يوجد ارتباط بين هذا وهذا، أن الذي بعدها مرتب على الذي قبلها، هو قال قبلها: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ يعني أتوكل عليه، وهو أمام فرعون الذي يتوقع منه البطش والتنكيل، فقال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، فكانت النتيجة فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا يعني أن الله نجاه من بطش فرعون ومن كيده فلم يصل إليه منه شيء؛ لأنه توكل على الله كما قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [سورة الطلاق:3]، فهذه نتيجة التوكل.

فهذا مثال: هناك حكم عام وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، هذا أحد أفراد هذا الحكم العام مؤمن آل فرعون، قال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ "فوقاه الله" هكذا كانت النتيجة، هذا معنى "فهو حسبه"، فأهل الإيمان والدعاة إلى الله والمحتسبون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يكون هذا حالهم فيتوكلون عليه، وتكون لهم الكفاية، والحفظ والكلاءة فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا

ولذلك فإن الله يدفع عن هؤلاء الكثير مما لا يعلمون، ولو أن الإنسان بقي ينظر ويسمع ما يقال ويتتبع ما قد يصدر في حقه، أو يقال عنه حينما يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أو نحو ذلك لربما قعد عن هذا كله، واجتمعت عليه المخاوف، وظن أن كيد هؤلاء الذين لا يروقهم هذا الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أنه واصل إليه، ولكن الله يدفع عنه الكثير وهو لا يشعر، فلا يلزم من هذا أنْ يعلم أمرًا معينًا من المكروه أنه يراد به أو نحو ذلك، فإن الله يدفع عن عبده أمورًا كثيرة، ولهذا ما على الإنسان إلا أن يتوكل على الله -تبارك وتعالى، ولا يلتفت بعد ذلك إلى شيء آخر إذا كان عمله صحيحًا من كل وجه، وأيضًا في موضعه وفي محله اللائق به.

قال: وقوله -تبارك وتعالى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى -عليه الصلاة والسلام، وأما في الآخرة فبالجنة، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.

حاق بمعنى أحاط بهم، وحل بهم، ونزل بهم، وهذا لا يقال إلا في المكروه، فلا يقال: حاق به فضل الله، حاقت به النعمة، وإنما يكون في المكروه حاق به العذاب، حاق به بأس الله ونكاله ونحو ذلك، حاق بآل فرعون يعني أحاط بهم، نزل بهم، هنا آل فرعون يدخل فيه فرعون، ويدخل فيه أيضًا أتباعه، فإن مثل هذا تارة يراد به الشخص المعين، وتارة يراد به المجموع، يعني هذا ومن معه، من هم على شاكلته من أتباعه وأهل دينه، أما إذا جاء معطوفًا فإنه لا يكون داخلًا فيه مثلما نقول: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، فآل محمد ﷺ هنا النبي غير داخل فيه، لكن فرعون يدخل في مثل هذا الموضع.

هنا أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ؛ لأنه لا شك أنه داخل معهم؛ لأنه هو المقدم وهو السبب فيما حلّ بهم، كما قال الله : يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [سورة هود:98] فهذا الذي قادهم إلى هذه العاقبة السيئة، وكذلك "اللهم صلّ على آل أبي أوفى" هو وأهله، كما قالت: صلّ عليّ وعلى زوجي، فإن أهله يدخلون معه، رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [سورة هود:73] لكن غير هذا مما يكون مراداً به الشخص المعين سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [سورة الصافات:130] وقد مضى الكلام على هذا.

وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ هنا "سوء" صفة مضافة إلى الموصوف، يعني العذاب السيئ الذي يسوء صاحبه، قال: وهو الغرق في اليمّ ثم النقلة إلى الجحيم يعني جمع بين هذا وهذا باعتبار أنهم بعدما حصل لهم الغرق -فإن هذا الغرق هو عذاب- حل العذاب بهم بعده كما قال الله : أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25] وهنا فسر بعذاب البرزخ قبل عذاب النار، والفاء تدل على التعقيب المباشر، فهنا لمّا حصل لهم هذا قبل يوم القيامة؛ لأنه بعده قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ إذاً الذي حل بهم قبل القيامة هو سوء العذاب، فيدخل فيه الغرق، ويدخل فيه عذاب البرزخ الذي ذكره الله أيضًا بقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا.

قال: ولهذا قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ أي: أشده ألمًا وأعظمه نكالًا، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ، وقد روى الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة -رضي الله عنها- إليها شيئًا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاكِ الله عذاب القبر، قالت -رضي الله عنها- فدخل رسول الله ﷺ عليّ فقلت: يا رسول الله، هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال ﷺ: لا، من زعم ذلك؟ قالت: هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئًا من المعروف إلا قالت: وقاكِ الله عذاب القبر، قال ﷺ: كذبت يهود، وهم على الله أكذب، لا عذاب دون يوم القيامة[1]...

فهذه الجملة "لا عذاب دون يوم القيامة" ظاهرها العموم والإطلاق، لا عذاب يعني لا على المسلمين ولا على غير المسلمين.

قالت: ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملًا بثوبه محمرة عيناه، وهو ينادي بأعلى صوته: القبر كقطع الليل المظلم، أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا وضحكتم قليلًا، أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر؛ فإن عذاب القبر حق وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.

فيقال: فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية وفيها دلالة على عذاب البرزخ؟

الآية نازلة بمكة وهذه الحادثة التي ذكرتها عائشة -رضي الله عنها- مع اليهودية، وقول النبي ﷺ: لا عذاب دون يوم القيامة، هذا في المدينة، فكيف يستدل بهذه الآية المكية على إثبات عذاب القبر؟ وهذا دليل مشهور جداً يستدل به العلماء على إثبات عذاب القبر من القرآن، أوضح آية في هذا هي هذه الآية في عذاب القبر، أما الأحاديث فقد تواترت في هذا الباب، ولكن الكلام في القرآن هل دل على عذاب القبر أو لا؟ أوضح الآيات التي يُستدل بها هي هذه، لكن الآية مكية، والنبي ﷺ في المدينة نفى هذا، فما الجواب؟ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا ذكر أجوبة.

قال: والجواب أن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوًا وعشيًا في البرزخ.

الآن هذا الجواب الأول، أن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوًا وعشيًا في البرزخ.

قال: وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور، إذ قد يكون ذلك مختصًا بالروح، فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها.

إذاً الجواب الأول: أن الآية دلت على أن العذاب يكون قبل يوم القيامة في البرزخ على الأرواح، هي التي تعرض على النار، والذي أنكره النبي ﷺ على هذا الجواب هو عذاب القبر، وعذاب القبر يقع على الروح والجسد، فالنبي ﷺ أنكر هذا؛ لأن اليهودية كانت تقول: وقاكِ الله عذاب القبر، فنفى أن يكون في القبر عذاب، وغاية ما دل عليه القرآن أن الأرواح تعذب، هذا الجواب الأول، يعني إذاً ليس هو بعذاب القبر، فالأرواح لها أحوال وانتقال وأمور غيبية فتكون هي التي تعذب وتعرض على النار.

قال: وقد يقال -هذا الجواب الثاني: إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب.

فهذه اليهودية كانت تقول: وقاكِ الله عذاب القبر، فأنكر النبي ﷺ هذا، وأخبر أن اليهود هم الذين يعذبون في قبورهم.

قال: ومما يدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ دخل عليها وعندها امرأة من اليهود وهي تقول: "أشعرتِ أنكم تفتنون في قبوركم؟ فارتاع رسول الله ﷺ وقال: إنما تفتن يهود، قالت عائشة -رضي الله عنها: فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله ﷺ: ألا إنكم تفتنون في القبور، وقالت عائشة -رضي الله عنها: فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك يستعيذ من عذاب القبر"[2]، وهكذا رواه مسلم.

فهنا قوله ﷺ: إنما يفتن يهود، والفتْن أصله بمعنى عرض الشيء على النار، يعرض الذهب أو غير الذهب على النار ليتميز ويتخلص خالصه من شائبه، فهنا قال: إنما يفتن يهود يعني يعذبون بالنار، وأثبت أن ذلك حاصل لليهود، وهذا فيه إثبات عذاب القبر لكن في حق اليهود، لاحظ الحديث الأول لما قالت: هل للقبر عذاب يوم القيامة؟ هذا عام فإن العذاب هنا نكرة في سياق الاستفهام "عذاب" أيّ عذاب لأي أحد؛ لأن العموم يتجه إلى الأفراد والأحوال والأزمنة والأمكنة، فهنا هي تسأل هل للقبر عذاب يوم القيامة؟ والمكان هنا المحدد الذي هو القبر، قال: لا، من زعم ذلك؟ قالت: هذه اليهودية، قال: كذبت يهود، ثم قال: لا عذاب دون يوم القيامة، "لا عذاب" نكرة في سياق النفي، الأول في سياق الاستفهام، وهنا في سياق النفي، النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام كل ذلك للعموم، "لا عذاب" فيشمل العموم الأفراد أي لا عذاب على أي أحد قبل يوم القيامة.

فظاهر الحديث الأول أن ذلك يشمل اليهود وغير اليهود، "لا عذاب دون يوم القيامة"، والرواية الثانية فيها إثبات أن العذاب واقع على اليهود، ولهذا فإن هذا القول الثاني أيضًا له وجه قوي، فالرواية الثانية تكون مفسرة للرواية الأولى، وهذه واقعة واحدة يعني النبي ﷺ تكلم فيها بكلام محدد معين، فهنا قوله ﷺ: لا عذاب دون يوم القيامة، مع قوله: إنما يفتن يهود على سبيل الحصر، يعني لا عذاب على هذه إذا قلنا: إن هذا خاص باليهود فمعناها أن هذه المرأة التي كانت تخاطب عائشة بقولها: "وقاكِ الله عذاب القبر" أن هذا غير صحيح، لا عذاب عليكِ، لا عذاب على المسلمين، لا عذاب على أهل الإيمان، لا عذاب على هذه الأمة قبل يوم القيامة، إنما تفتن يهود، والنبي ﷺ لا ينطق عن الهوى، فأخبر أن اليهود يعذبون في القبور، فهذا إنما يُفتن به يهود، هذا خاص باليهود، وبناء عليه فهذا الجواب الثاني أن النبي ﷺ أثبت عذاب القبر، لكن الذي نفاه هو أن يكون واقعًا في حق المسلمين، أو هذه الأمة، أو إذا توسعنا قلنا: في حق غير اليهود، إذا أخذنا بالعموم وأخرجنا اليهود؛ لأن "إنما" من أقوى صيغ الحصر، يعني تأتي في المرتبة الثانية من حيث القوة، قال إنما تفتن يهود.

قال: وقد يقال: إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها، فلما أُوحي إلى النبي ﷺ في ذلك بخصوصها استعاذ منه، والله أعلم.

كأنه يقول: لو قيل هذا لكان أقرب، أو له أوجه، أو أحسن، يعني كأنه يميل إلى القول الأول، وقد يقال: إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الأجساد في قبورها فلما أوحي إلى النبي ﷺ بخصوصها استعاذ منه، والله أعلم، ويمكن أن يجاب بأجوبة أخرى غير هذه، كأن يقال مثلًا: إن قوله تعالى في هذه الآية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا هذا خاص بآل فرعون، وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ۝ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا فهذا خاص بهم حتى أُوحي إليه ﷺ بعذاب القبر، لكن إذا قيل: إن هذا خاص بهم فمعنى ذلك أن هذه الآية قد يُستشكل الاستدلال بها على إثبات عذاب القبر، ولا يقال: إن النبي ﷺ فهم من الآية أنها خاصة؛ لأن النبي ﷺ أعلم الناس بمعاني القرآن فلا يتطرق إليه هذا الفهم إن كان غير مراد لله -تبارك وتعالى، لا يمكن.

إذا قلنا: إن هذه الآية خاصة بآل فرعون ومن ثم فإن النبي ﷺ أنكر عذاب القبر في البداية ثم أوحي إليه أنه واقع فعلى هذا لابدّ أن يقال: إذاً هذه الآية لا يستدل بها على إثبات عذاب القبر، وإنما هذا خاص بآل فرعون، لكن هذا القول فيه إشكال؛ ولهذا يُستبعد هذا القول، ويبقى عندنا جوابان:

الأول: أن الأرواح تعرض على النار، ولكن هل يقع عذاب في القبر؟ هذا الذي نفاه النبي ﷺ أولًا، أو يقال: نفى ما يتصل بهذه الأمة لما خاطبت اليهودية عائشة -رضي الله عنها، وأثبته لليهود، وهذا جواب يؤخذ من ظواهر الأحاديث، وهما متقاربان، لكن ما يؤخذ من ظواهر الأحاديث في الجمع بينهما أولى من غيره مما يرجع إلى الاجتهاد، والله أعلم.

والقول بأنهما قضيتان أيضًا يرد عليه إشكال باعتبار أن عائشة -رضي الله عنها- بعدما عرفت أن عذاب القبر حق ثم هي تسأل مرة أخرى، وإذا كانت عرضت المرة الأولى فأنكره النبي ﷺ فهل تعرضه مرة أخرى وتقول: يهودية تقول لي.. وقد عرفت الجواب؟ فالله أعلم، ويمكن أن يقال: هي واقعة واحدة لكن الروايات جاء فيها اختصار، يعني في بعض الروايات جيء بالنتيجة المتقدمة يعني النهائية أنه في النهاية قال: حق، وفي أول الأمر كان قد أنكره فاختُصرت، يعني في نتيجة الرواية أثبت عذاب القبر، والله أعلم.

قال: وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً، وقال قتادة في قوله: غُدُوًّا وَعَشِيًّا صباحًا ومساء ما بقيت الدنيا، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم، توبيخًا ونقمة وصغارًا لهم، وقال ابن زيد: هم فيها اليوم يُغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون.

هذا بقية قول ابن زيد.

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ هذه قراءة حمزة والكسائي ونافع وحفص أَدْخِلُوا يعني يقال للملائكة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وقرأ الباقون: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخُلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ يعني يقال لهم: ادْخُلُوا، أمر لهم بالدخول.

وروى الإمام أحمد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة[3]، أخرجاه في الصحيحين.

هذا تفسير لقوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا فعلى هذا القدر من الرواية المخرجة في الصحيحين أنه يكون من قبيل التفسير بالحديث الذي لم يتطرق فيه النبي ﷺ إلى الآية، يعني أن المفسر عمد إلى الحديث وفسر به الآية اجتهادًا منه، وهذا على درجات، فتارة يكون في غاية الوضوح مثل هذا، يعني لا إشكال فيه أنهم يعرضون عليها غدوًا وعشيًا، هنا إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وأحيانًا يكون ذلك محتملًا، وأحيانًا في غاية البعد.

يعني أن المفسر يربط بين الحديث وبين الآية وليس بينهما ارتباط، لكن هنا زيادة ليست في الصحيحين، وإنما هي عند ابن مردويه: "ثم قرأ -يعني الآية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا"، فيكون هذا من قبيل التفسير النبوي الصريح للآية الذي إذا صح سنده فلا كلام معه، يعني لا يتعلق به اجتهاد المفسر، نحن عرفنا في بعض المناسبات في أصول التفسير أو شرح المقدمة أن التفسير بالسنة على نوعين في الجملة: نوع يرجع إلى اجتهاد المفسر حيث يربط بين الآية والحديث الذي لم يتطرق فيه النبي ﷺ للآية، وهذا يحتمل الصواب والخطأ، ويدخله الاجتهاد والخطأ من المفسر، والنوع الثاني الذي لا يتطرق إليه الخطأ إذا صح سنده وهو ما ذكر فيه النبي ﷺ الآية، فهنا إذا صحت الزيادة فيكون من النوع الثاني، وإلا فهو من النوع الأول.

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ ۝ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ۝ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ ۝ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [سورة غافر:47-50].

يخبر تعالى عن تحاجّ أهل النار في النار وتخاصمهم، وفرعون وقومه من جملتهم فيقول الضعفاء وهم الأتباع للذين استكبروا وهم القادة والسادة والكبراء: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا أي: أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ أي: قسطًا تتحملونه عنا، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا أي: لا نتحمل عنكم شيئًا، كفى بنا ما عندنا وما حُمِّلنا من العذاب والنكال، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ أي: فقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا، كما قال تعالى: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:38].

وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ لما علموا أن الله لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم بل قد قال: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] سألوا الخزنة -وهم كالسجانين لأهل النار- أن يدعوا لهم الله تعالى أن يخفف عن الكافرين ولو يومًا واحدًا من العذاب، فقالت لهم الخزنة رادين عليهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ أي: أوَمَا قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل؟ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ أي: إلا في ذهاب ولا يُتقبل ولا يستجاب.

الضلال هنا يفسر بالذهاب، يعني هذا أصل معناه اللغوي، الضلال في الأصل بمعنى الذهاب، ضل الماء في اللبن بمعنى اضمحل، وكذلك:

فآبَ مُضلوه بعينٍ جليةٍ وغُودر بالجولان حزمٌ ونائلُ

آب مضلوه أي دافنوه، وهكذا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ [سورة السجدة:10] يعني ذهبت أجسادهم وتحللت في التراب، وغير ذلك من المواضع، هي بمعنى الذهاب، وكما مضى أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] يعني في ذهابك عن الحق في شأن يوسف -عليه الصلاة والسلام، فهنا يفسر بالمعنى اللغوي، وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ أي: ذاهب لا أثر له.

إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۝ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ۝ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ۝ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ۝ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة غافر:51-56].

قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال السدي: لم يبعث الله رسولًا قط إلى قومٍ فيقتلونه أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيُقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله -تبارك وتعالى- لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها.

هذا جواب سؤال مقدر وهو أن الله قال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فهذا النصر الذي في الحياة الدنيا قد يقول قائل: بعض الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قُتل وكما في قوله -تبارك وتعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ [سورة آل عمران:146] على هذه القراءة وهذا الموضع في الوقف وهو موضع محتمل قال به جماعة من أهل العلم: {وكأين من نبي قُتل} أي أنبياء كثيرون قتلوا فما فت ذلك في عضد الأتباع، هذا المعنى؛ لأنهم إنما يعبدون الله : أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [سورة آل عمران:144]، {وكأين من نبي قُتل} أنبياء كثيرون قتلوا فما كان ذلك سببًا للضعف، وإلقاء ما باليد وترك ما هم بصدده من الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله بسبب قتل نبيهم، فكان معه جماعات كثيرة وأتباع كثيرون فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله من قتل نبيهم، وما قع عليهم من الجراح وما إلى ذلك من الأذى، على هذه القراءة وهذا الموضع من الوقف، وهو غير متكلف.

إذاً هذا جواب سؤال مقدر، وكذلك ما جاء في قوله -تبارك وتعالى- عن بني إسرائيل من قتلهم الأنبياء: وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء [سورة آل عمران:112]، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ [سورة البقرة:61]، وقتلوا في يوم واحد سبعين نبيًا، فالمقصود أنه إذا كان النبي يقتل فكيف كانت الغلبة والنصر له؟ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا، هذا قتل، هذا السؤال.

فذكر هنا هذا القول ليكون جوابًا: إنه لا يذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم من فعل بهم ذلك في الدنيا، يعني أن هذا هو النصر أنه يأتي من ينتصر لهم في الدنيا، وتقرير هذا أن يقال: أولًا هل المراد بالنصر هنا "لننصر رسلنا" كما قال الله : وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:173] فهنا الغلبة ما المراد بها؟ هذا النصر بماذا؟ هل هو نصر وغلبة بالحجة أو أنه نصر وغلبة في ميدان المعركة؟ يعني الذي وقع لموسى ﷺ مع فرعون فوقع السحرة ساجدين مثل هذا يعتبر نصراً، فهل يقال: إن هذا النصر المقصود به الغلبة بالحجة والبيان؟

فإذا كان يُحمل على هذا فلا إشكال، لا شك أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم الغالبون والمنصورون بميدان الحجة والبيان؛ لأن أولائك ليس عندهم شيء، وعلى المعنى الثاني أن النصر في ميدان المعركة النصر بالسيف فهنا يرد هذا السؤال، وهذا الكلام يذكره أهل العلم في قوله: فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ [سورة النساء:74]، فقابل القتل بالغلبة فهما متقابلان، فالمقتول غير غالب على هذا الاعتبار، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ويكون المقصود بالرسل محمداً ﷺ، عام مراد به الخصوص.

والذي ألجأ هؤلاء إلى هذا القول هو ذلك السؤال والإشكال أن من الرسل من لم ينتصر، أما النبي ﷺ فانتصر، وأظهر الله دينه قال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا هذا عام، والعموم فيه من الإضافة إلى المعرفة، "رسل" مضاف إلى الضمير، يعني جميع الرسل، قالوا: هذا عام مراد به الخصوص، كما في قوله: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة:199] على أحد الأقوال: "حيث أفاض الناس" يعني إبراهيم ﷺ، وقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ [سورة آل عمران:173] إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ليوم أُحد، في أحد الأقوال، فيكون هذا من قبيل العام المراد به الخصوص، لكنه خلاف الظاهر.

والأول -والله أعلم- أقرب، وحاصله أن العبرة بالعاقبة، باعتبار أن العاقبة تكون لهم ولا يشترط أن يكون ذلك على أيديهم، كما أظهر الله الحق الذي جاء به عيسى ﷺ على يد محمد -عليه الصلاة والسلام.

وهكذا نصر الله نبيه محمداً ﷺ وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارًا وأعوانًا ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم، وخذلهم وقتل صناديدهم، وأسر سُراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ثم منّ عليهم بأخذه الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم، فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك، وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ثم قبضه الله تعالى إليه؛ لِما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله -تبارك وتعالى- أصحابه خلفاء بعده، فبلغوا عنه دين الله ودعوا عباد الله تعالى إلى الله -جل وعلا، وفتحوا البلاد والرَّساتيق والأقاليم والمدائن والقرى، والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا يزال هذا الدين قائمًا منصورًا ظاهرًا إلى قيام الساعة؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ أي: يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجلّ، قال مجاهد: الأشهاد: الملائكة.

الرَّساتيق جمع رُستاق، ومعنى الرُّستاق الناحية، وهي كلمة أعجمية فارسية، لكنهم عاملوها معاملة العربية وإلا فأصلها فارسية، الرَّساتيق تعني التقسيم مثلما نقول: محافظة يتبعها مدن وقرى ونواحٍ، فهي بحسب المساحة والاتساع في العمران ونحو ذلك تتفاوت، فالرساتيق هذه هي ليست كالمحافظات أو المدن الكبار وإنما دونها، يقول في التعريب والمعرَّب قال أبو منصور: وكان الفراء يقول: الرُّسداق وهو معرَّب، ولا تقل: رُستاق.

قال: وقوله تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بدل من قوله: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.

هنا قال: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ قال: الأشهاد هم الملائكة، وبعضهم يقول: إن الأشهاد يعني الملائكة يشهدون على الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أنهم بلغوا قومهم، ويشهدون على أقوامهم بما أجابوا الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يقول: إن الأشهاد هنا الملائكة والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وهذا الذي قال به ابن جرير -رحمه الله، وقال به قبله أيضًا بعض السلف .

قال: وقرأ آخرون "يوم" بالرفع كأنه فسره به.

وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۝ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ وهم المشركون مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا يقبل منهم عذر ولا فدية، وَلَهُم اللعْنَةُأي الإبعاد والطرد من الرحمة، وَلَهُم سُوءُ الدَّارِ وهي النار قاله السدي، بئس المنزل والمقيل.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وهو ما بعثه الله به من الهدى والنور.

آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى، فُسر بالنبوة، وفُسر بالتوراة، والله وصف التوراة بأنها هدى، والكتاب الذي أنزل عليهم هو التوراة وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الإسراء:2]، فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [سورة المائدة:44]، فهنا في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى من فسره بالنبوة فإن ذلك أيضًا صحيح، وتفسيره بالتوراة أيضًا صحيح، وهذه أمور بينها ملازمة، فإن الله أوحى إليه بالتوراة، أنزلها -تبارك وتعالى- عليه مكتوبة، فهي وحي مكتوب، ولا إشكال في هذا أو هذا، ولهذا بعضهم يقول: الهدى هو النبوة والتوراة، إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وبعضهم يعبر بعبارة قريبة أيضًا كقول من يقول: إن الهدى هي ما أوحاه الله إليهم مما أمرهم به ونهاهم عنه، وأرشدهم إليه، ودلهم عليه، وهذا كان في التوراة وفيما أوحاه الله  إلى موسى ﷺ.

وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ أي: جعلنا لهم العاقبة، وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه، بما صبروا على طاعة الله -تبارك وتعالى، واتباع رسوله موسى -عليه الصلاة والسلام، وفي الكتاب الذي أورثوه -وهو التوراة- هُدًى وذِكْرى لأولِي الألْبَابِ.

هنا وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ، فسره بالتوراة، أعني ابن كثير -رحمه الله، وقال به جماعة باعتبار أنهم توارثوها، يعني بقيت التوراة فيهم يتوارثونها جيلًا عن جيل، وهم متعبَّدون بها، والنصارى هم من بني إسرائيل، وهم متعبَّدون أيضًا بالتوراة، فعيسى ﷺ لم يأتِ ناسخًا للتوراة، وإنما نسخ بعض الآصار والأغلال ونحو ذلك، وإلا فإن شريعتهم كانت في التوراة.

وبعضهم يفسر الكتاب بالكتب التي أنزلها الله بعد ذلك على أنبياء بني إسرائيل، فصارت الكتب تنزل فيهم مثل الزبور والإنجيل، فهذا قال به بعض أهل العلم، وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ، وبقي الكتاب في بني إسرائيل مدداً متطاولة إلى أن حول الله عافيته عنهم، فقال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] يعني هذه الأمة، وظاهر هذا -والله تعالى أعلم- أن هذا الإيراث معناه أنْ يَنزل الكتاب على أنبيائهم بعد أن كان ينزل على غيرهم، يعني جنس الكتاب، ومن هنا قال الله في حق هذه الأمة: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ، وليس المقصود به كتاب بني إسرائيل، وإنما ما نزله الله على أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- من الكتب، صار الكتاب نازلًا في هذه الأمة على خير البشر -عليه الصلاة والسلام.

قال: وفي الكتاب الذي أورثوه -وهو التوراة- هُدًى وذِكْرى لأولِي الألْبَابِ، وهي العقول الصحيحة السليمة، وقوله : فَاصْبِرْ أي: يا محمد، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: وعدناك أنا سنعلي كلمتك ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك، والله لا يخلف الميعاد، وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك.

وقوله -تبارك وتعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ، هذا تهييج للأمة على الاستغفار، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ أي: في أواخر النهار، وأوائل الليل، وَالإبْكَارِ وهي أوائل النهار وأواخر الليل.

وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ يعني متلبسًا بحمده -تبارك وتعالى، بِالعَشِيِّ وَالإبْكَارِ العشي يبدأ من زوال الشمس إلى الليل، والإبكار من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، فبعضهم فسر ذلك بالذكر، وبعضهم فسره بالصلاة، فيدخل في صلاة العشي على هذا الاعتبار الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والإبكار صلاة الفجر، والصلاة يقال لها: تسبيح، وهذا معروف.

ومنه قول ابن عمر: لو كنتُ مسبحًا لأتممت تسبيحة الضحى، ونحو ذلك مما ورد فيه استعمال هذا اللفظ، وهو معروف مشهور، فالحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا ذكر في تفسير العشي قال: أي: أواخر النهار وأوائل الليل، والإبكار هي أوائل النهار وأواخر الليل يعني من الفجر إلى طلوع الشمس.

وهذه الآية تضمنت أصلًا كبيرًا لو أن الأمة عملت بذلك على مقتضى اليقين لما التفتوا معه إلى شيء إطلاقًا، لا من كيد الأعداء وقوتهم، ومحاربتهم أنواع المحاربة العسكرية والمكايد والتدبير والدسائس، أو كان ذلك محاربة اقتصادية لهز اقتصادهم، والعبث بخيراتهم وما إلى ذلك، أو بتسليط بعضهم على بعض.

فهنا الله -تبارك وتعالى- يذكر نزول الكتاب وما فيه من الهدى، ثم يبين أن هذا هدى وذكرى لأولي الألباب، ثم يأمر نبيه ﷺ بالصبر الصبر على طاعة الله، وعن معصيته وعلى أقداره وألا يكون ذلك -يعني ما ينزل من الشدة- سببًا للشك، والتحول عن الثوابت والتنازل للأعداء فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، اصبر على الحق الذي أوحاه الله إليك، ولا تتراجع ولا تخضع ولا تضعف أمام هؤلاء الأعداء على كثرتهم وقوتهم وكثرة كيدهم وشدة عداوتهم.

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فهذا يجعل المؤمن في غاية الطمأنينة إلى نصر الله -تبارك وتعالى، وأن العاقبة له، لكن ما عليه إلا أن يقوم بهذا الواجب الذي أمره الله به، وهو الصبر وينتظم ذلك أمورًا كثيرة كما لا يخفى، ثم أمره بأمر له اتصال بهذا الجانب وهو الاستغفار من الذنوب، فإن الذنوب تكون سببًا لتسليط الأعداء.

وكما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن هذه الذنوب تكون جنودًا مجندة يجندها العبد على نفسه، وكتائب يرسلها ويبعثها مع عدوه، فأمره بالاستغفار، فالأمة مأمورة بالصبر على الحق والثبات عليه، وفي الوقت نفسه الاستغفار والتوبة إلى الله والرجوع إليه من أجل ألا يكون ذلك من الجند الذي يسلط علينا، لو عملت الأمة بمقتضى هذا لما هزها شيء، وما غلبهم أحد، ولا ضاقت صدورهم بكيد عدوهم، ولم يحصل لهم شيء من الشك أو الضعف، أو البحث عن طرق هنا وهناك يتوصلون بها مع العدو إلى حلول في منتصف الطريق، فإن أولائك الأعداء لا يرضيهم شيء، حتى نتحول إلى دينهم، وإلا فإن عداوتهم متأصلة، وكلما قدم المسلمون لهم تنازلات طمعوا بالمزيد حتى ينسلخ من دينه، وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120] هذه هي الغاية.

فالذي يسعى خلف العدو يطلب رضاه، وأن يطروه وأن يثنوا عليه، وأن يحسِّن صورته عندهم معنى ذلك أنه يسعى خلف أمر يؤدي به إلى الانخلاع من الإيمان والدين بالكلية؛ لأن ذلك لا يحصل إطلاقًا حينما يكون معتصمًا بما أوحاه الله إليه، فإنهم يعادونه أشد العداوة، وانظر إلى مقاييس العدو ومعايير العدو ما يتفوه به من تصنيف الناس إلى أصناف من حيث الاعتدال والتشدد وعدم ذلك، كل هذا يرجع إلى هذا المعنى.

فإذا رأيت الأعداء يصفون أحدًا بأنه معتدل فاعلم أنه مضيع مفرط لا يثبت على الحق الذي أُمر بالتمسك به بحال من الأحوال، وهذا يمكن أن يكون معيارًا يؤخذ من أفواه الأعداء فيُعرف حال من لا تعرف حاله، إذا ذُكر من لا تعرف ما حاله ورأيت العدو يصفه بالاعتدال فاعلم أنه مضيع، هذا معيار سواء كان ذلك في أشخاص أو في طوائف، حينما يصفه العدو بأنه معتدل اعلم أنه مضيع حاز على شهادة حسن سيرة وسلوك، هذه الشهادة لا تأتي مجانًا، ولا تأتي من صادق، ولا تُعطى لصادق متمسك بالكتاب والسنة أبداً، هذا إذا لم تعرف مَن هذا الذي أثنوا عليه ومدحوه ويزكونه ويشيدون بجهوده، هذه حاله.

قال: وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ أي: يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع.

هنا قوله: إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ يعني ما في صدورهم إلا كبر، يعني هذا تفسير لهذه المجادلة التي تكون بهذه المثابة، بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، فهذا في كل مجادل بغير حجة ولا برهان، إنما يريد إبطال الحق أو إظهار الباطل، أو يريد المجادلة للمجادلة، فكل هؤلاء يصدق عليهم هذا الحكم العام إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فكل من لا يتبع الحق بعد ظهوره وتبيُّن دلائله فإنه يكون بهذا الوصف "إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه".

فهنا مَّا هُم بِبَالِغِيهِ قال: وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع...، إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ كأنه يقول: ما هم ببالغيه يعني مقتضى هذا الكبر وهو إبطال الحق، فإن هؤلاء الذين يتكبرون ويتعاظمون ويتعالون يريدون إبطال الحق.

ولهذا ذكر المعلمي -رحمه الله- في كتابه "التنكيل" الجزء الذي أفرد بالقائد إلى تصحيح العقائد، وهو كتاب في غاية النفاسة والنفع، ذكر من أسباب رد الحق أشياء منها الحسد، وذكر حسد اليهود حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم [سورة البقرة:109]، وذكر منها الكبر، أن يكون هذا الحق جاء على يد من يرى أنه دونه، أو أنه يساويه، أو ينافسه أو نحو ذلك فيأنف ويتكبر، أو يأتي ممن يكرهه فلا يريد أن يظهر الحق على يده فيكون ذلك شرفًا له، أو أنه اعتراف ضمني بفضله عليه، فيأبى ويرد الحق، هذا سواء في القضايا الكلية يعني في رد الدين برمته مثلًا، أو رد السنة والاتباع كما يفعل بعض أهل البدع، أو كان ذلك في المسائل الجزئية، يرد الحق؛ لأنه جاء ممن يعتقد أنه دونه أو نحو ذلك، فهذا يكون بسبب الحسد أو الكبر، أو بسبب أمور متوهمة كالذي يعتقد أن هذا الاعتراف يزري على نفسه، وعلى قومه وعلى أتباعه، أو أن ذلك لأمور أخرى كتضييع الأعمار فهو في عمر مديد يقرر أمرًا ثم بعد ذلك يتخلى عنه وينقضه في أصحاب الباطل لاسيما الذين لهم أتباع، فقد يرفضه بسبب ذهاب هؤلاء الأتباع.

وهكذا منهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة، فيرد ذلك؛ لأنه يتوقع أن تتلاشى هذه الشهرة وتذهب هذه المعيشة وهذه الأموال التي يأخذها، ولذلك فإن رجوع هؤلاء أصعب من غيرهم، وإنما يكون عادة الذين يقبلون ويرجعون هم الذين يتواضعون؛ ولذلك كان أكثر أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هم من الضعفاء، أما العظماء والملأ فكانوا أعداء الرسل؛ لأنهم في صدورهم كبر، قال هنا: مَّا هُم بِبَالِغِيهِ يعني على كلام ابن كثير ما هم ببالغي مقتضى هذا الكبر، وبعضهم يقول: مَّا هُم بِبَالِغِيهِ أي: ببالغي الكبر؛ لأن شأنهم الصغار، والمتكبرون يكونون كأمثال الذرّ يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم، وبعضهم كمجاهد يفسر ذلك بالعظمة في صدورهم، كبر أي تعاظم، كقريش في تعاظمها ونحو ذلك.

مَّا هُم بِبَالِغِيهِ والمقصود أن هؤلاء الذين تكبروا أو حسدوا النبي ﷺ يقول ابن جرير: على أمر ليسوا بمدركيه وهو النبوة، حسدوه على النبوة، أن اصطفاه الله تعالى، لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31]، أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [سورة الفرقان:41] يقولون ذلك على سبيل الاحتقار والازدراء، فابن جرير -رحمه الله- يقول: هؤلاء الذين في صدورهم هذا الكبر والحسد يحسدونه على أمر ما هم ببالغيه وهو النبوة التي شرفه الله -تبارك وتعالى- بها، فهم ليسوا بمدركين لذلك ولا حاصلين عليه؛ لأن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس ذلك بالأمر الذي يدرك بالأماني.

 قال: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، أي: من حال مثل هؤلاء إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان.
  1. رواه أحمد في المسند، برقم (24520)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر، برقم (584)، وأحمد في المسند، برقم (24582)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، برقم (1379)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2866)، وأحمد في المسند، برقم (5926).

مواد ذات صلة