السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} الآية:28 إلى قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} الآية:40
تاريخ النشر: ١٣ / صفر / ١٤٣٤
التحميل: 6970
مرات الإستماع: 10860

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللحاضرين والمسلمين جميعًا.

يقول ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى:

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ۝ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [سورة غافر:28، 29].

المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطيًّا من آل فرعون، قال السدي: كان ابن عم فرعون، ويقال: إنه الذي نجا مع موسى -عليه الصلاة والسلام، وقال ابن جريج عن ابن عباس -رضي الله عنهما: "لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون، والذي قال يا موسى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [سورة القصص:20]"[1] رواه ابن أبي حاتم.

وكان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [سورة غافر:26]، فأخذت الرجلَ غضبةٌ لله ، وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، كما ثبت بذلك الحديث[2]، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ"[3] انفرد به البخاري.

وقوله تعالى: وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ أي: كيف تقتلون رجلًا لكونه يقول: ربي الله، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟! ثم تنزل معهم في المخاطبة فقال: وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ يعني إذا لم يظهر لكم صحة ما جاء به فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه فإن يك كاذبًا فإن الله سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، وإن يك صادقًا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقًا فينبغي على هذا ألا تتعرضوا له بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.

وهكذا أخبر الله عن موسى أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ۝ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ۝ وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ۝ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ۝ وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [سورة الدخان:17-21]، وهكذا قال رسول الله ﷺ لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله، ولا يمسوه بسوء، ويصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته، قال الله : قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [سورة الشورى:23] أي: ألا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة، فلا تؤذوني، وتتركوا بيني وبين الناس، وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية، وكان فتحًا مبينًا.

وقوله -جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي: لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذبًا كما تزعمون لكان أمره بينًا يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله، فكانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب، وهذا نرى أمره سديدًا ومنهجه مستقيمًا، ولو كان من المسرفين الكاذبين لما هداه الله وأرشده لما ترون من انتظام أمره وفعله.

ثم قال المؤمن محذرًا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسوله ﷺ، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا، أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئًا من بأس الله إن أرادنا بسوء، قال فرعون لقومه رادًا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [سورة الإسراء:102]، وقال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14].

فقوله: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى أي: كذَبَ فيه وافترى، وخان الله -تبارك وتعالى- ورسوله ﷺ ورعيته فغشهم وما نصحهم، وكذا قوله: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِأي: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد، وقد كذب أيضًا في ذلك، وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه قال الله -تبارك وتعالى: فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [سورة هود:97]، وقال -جلت عظمته: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [سورة طه:79]، وفي الحديث: ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام»[4]، والله الموفق للصواب.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: المشهور أن هذا الرجل كان قبطيًا من آل فرعون هذا هو المشهور، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، وظاهر القرآن يدل على هذا دلالة لا يصلح معها أن يقال: إن هذا من بني إسرائيل كما يقوله بعضهم، فالله يقول: رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ فهذا لا يصح معه بحال أن يقال: إنه كان من الإسرائيليين.

وفي هذا الخبر الذي قص الله -تبارك وتعالى- ما يجلي ويبين الطريق في الدعوة إليه -تبارك وتعالى، وذلك بمثل هذه العبارات التي لا تصدر إلا عن محب ومشفق على قومه، فهو يخاطبهم بهذا الخطاب اللطيف الرقيق، ويجعل أمره وأمرهم متحدًا في المصير، ويتنزل معهم هذا التنزل وهو يخاطبهم بقوله: يا قومي، ويذكرهم بنعم الله عليهم، وما يكون سببًا لسلب هذه النعم، وحينما يعبر فهو يجعل نفسه معهم، فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا، ولا يتحدث معهم بطريق لربما يكون فيه نوع فوقية، وإنما يتواضع هذا التواضع، ويشركهم في مثل هذه الأمور التي يتخوفها عليهم، وهذا هو الصحيح في خطاب الناس، وذلك أدعى إلى القبول.

هذا بالإضافة إلى أن هذا الذي يخاطب بهذا الخطاب هو من أعتى أهل الأرض، يدعي أنه هو الرب الأعلى، ويستكبر هذا الاستكبار، ويقول لهم زورًا: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، وكانت هذه المخاطبة في مقام أظهر فيه فرعون نيته، فهو يريد قتل موسى ﷺ، فالمقصود أن مثل هذه ينبغي أن تكون طريقًا في الدعوة إلى الله ومخاطبة الناس.

والظاهر أن هذا الرجل المؤمن من آل فرعون كما قال الله ولا يُعدل عن ذلك -عن ظاهر القرآن- إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وهذا الدليل غير موجود، وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات ظاهر لا يحتاج إلى إضافة أو تعليق.

وآل فرعون هم الأقباط، وليسوا بالإسرائيليين رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ هو من القبط، والإسرائيليون ليسوا من آل فرعون إطلاقًا، الإسرائيليون لم يكونوا من أهل مصر أصلًا، وإنما وجدوا بعدما جاء يوسف -عليه الصلاة والسلام، ثم تبعه يعقوب مع أولاده فبقوا في مصر حتى تكاثروا فكان خروجهم مع موسى -عليه الصلاة والسلام، فكانوا مستضعفين وكانوا على شريعة يعقوب -عليه الصلاة والسلام، وما كانوا قط من آل فرعون.

وقال: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ۝ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ۝ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ۝ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ۝ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ۝ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [سورة غافر:30-35]

هذا إخبار من الله عن هذا الرجل الصالح مؤمن آل فرعون أنه حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، فقال: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ أي: الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر، كقوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم من الأمم المكذبة كيف حل بهم بأس الله، وما رده عنهم راد ولا صده عنهم صاد، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ أي: إنما أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وتكذيبهم رسله، ومخالفتهم أمره، فأنفذ فيهم قدره، ثم قال: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ.

قوله: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ الأحزاب هم الأمم المكذبة كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله، قيل لهم: الأحزاب؛ لأنهم تحزبوا على أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام، وكذبوهم وآذوهم، وحاربوهم حتى أنزل الله عليهم بأسه ونقمته، فحل بهم عذابه المستأصل، وهم هؤلاء الذين ذكر الله في هذه الآية مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ، والدأب هو العادة، يعني مثل دأبهم، بعضهم يقول: كمثل حالهم في العذاب عذبهم الله ، يقول: أخشى أن يقع عليكم ما وقع عليهم، وأن ينزل بكم ما حل بهم، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ أي: كعادتهم.

بعضهم يقول: كسنته فيهم، سنة الله -تبارك وتعالى- في المكذبين كما يقول ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم يقول: مثل دأبهم يعني كعادتهم في التكذيب، وإذا تأملت ونظرت في ظاهر القرآن إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ما الذي حصل في تلك الأيام؟ فإن اليوم هنا يراد به الأيام، مثل أيام الأحزاب، لكل حزب منهم لكل قوم من المكذبين يوم عُذبوا فيه، فمن نظر إلى هذا فسره بعادة الله وسنته في المكذبين حيث عاقبهم واستأصلهم وعذبهم، وكما سبق أن بين المعنيين ملازمة، والله تعالى أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ يعني بعد هؤلاء كقوم إبراهيم، وقوم لوط -عليهما الصلاة والسلام.

ثم قال: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يعني يوم القيامة، وقوله تعالى: كَلَّا لَا وَزَرَ ۝ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [سورة القيامة:11، 12]، ولهذا قال : مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ.

في قوله لهم: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ، يعني يوم القيامة، لماذا قيل: يوم التناد؟ بعضهم يقول: لأنه ينادي بعضهم بعضًا فيه، وبعضهم يقول: ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة ينادون أهل النار، كما ذكر الله : وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأعراف:50]، فبعضهم يقول: التناد هذا حينما ينادي أهل النار أهل الجنة، وهذا النداء الذي ذكروه هو ليس يوم القيامة في الموقف، وإنما هذا الذي ذكر الله في سورة الأعراف هذا يكون إذا دخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، والله سمى يوم القيامة هنا بيوم التناد.

ولذلك بعضهم يقول: إنه في ذلك اليوم يوم القيامة ينادَى بسعادة السعداء، وينادَى بشقاوة الأشقياء، يوم التناد، أو أنه ينادَى كل أناس بإمامهم، يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [سورة الإسراء:71]، ففي ذلك اليوم تحصل هذه المناداة.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: يوم ينادي الناس بعضهم بعضًا، ثم يطلق بعد ذلك، يعني لا يحدد معنى من هذه المعاني المحتملة، ينادون إما من هول ما قد عاينوا من العذاب، فينادي بعضهم بعضًا كما يكون حال الناس في أوقات الأهوال والشدة، يبحثون عن المخرج والمنقذ وطريق الخلاص من هذا البلاء الذي حل بهم.

أو لتذكير بعضهم بعضًا بأن الله قد أنجز ما وعدهم في الدنيا، هذا الذي وعد الله، هذا ما أخبرنا الله به، هذا ما قاله المرسلون، يتنادون يقولون: هذا الأمر الذي حذرنا منه وأنذرنا منه.

أو يكون ذلك على سبيل الاستغاثة؛ لما يلقون من البلاء، فابن جرير -رحمه الله- يقول: يَوْمَ التَّنَادِيتنادون ينادي بعضهم بعضًا إما من الأهوال والأوجال، أو يكون ذلك لأمر أو لمعنى من المعاني المحتملة، وهذا أحسن في التفسير، -والله تعالى أعلم؛ لأن الله لم يحدد معنى من هذه المعاني، فيحتمل أن يكون ينادي بعضهم بعضًا للاستغاثة، أو ينادي بعضهم بعضًا لغير ذلك، ويحتمل أن يحصل فيه من أنواع التنادي أمور مجتمعة، والله تعالى أعلم.

هو فسره بقوله: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ يولون مدبرين إما أن يكون المراد -والله أعلم- يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، فيكون هذا الإدبار على سبيل الفرار، هو محاولة للفرار من النار لما عاينوها، والمعنى الآخر يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، والغالب أن مثل هذا يستعمل في الفرار، يعني يعبر عن المنهزم الذي يفر أنه مولٍّ للدبر، كما قال الله : وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ [سورة الأنفال:16]، لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ [سورة الفتح:22]، كل هذا يعبر به عن الهزيمة والفرار، وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [سورة القصص:31]، لما خاف موسى ﷺ الحية، وانطلق فارًّا منها، فهذا الاستعمال تكرر في القرآن في هذا المعنى، وتفسير الآية بنظائر ذلك في الاستعمال في القرآن أولى من تفسيره بغيره، فحينما يُذهب بهم ويذهبون منصرفين إلى النار من الموقف هل هذا يقال له: "يوم تولون مدبرين"؟ يعني مدبرين من الموقف إلى النار ذاهبين؟ هذا يحتمل.

ولكن الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المقصود به أنهم يفرون، ويريدون الهرب ولكن لا يمكنهم ذلك، مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، فإذا رأوا النار فزعوا منها فزعًا شديدًا فحاولوا الانطلاق والبعد والهرب منها، هذه أشياء لا يمكن للإنسان أن يتصورها حقيقة؛ لأن الأمر أعظم من أن تحيط به عقولنا، ولكننا لو نظرنا في بعض الأشياء التي تقع في الدنيا، وترى حال الناس وهم يفرون حينما يفجأهم طوفان، أو حينما يفجأهم إعصار، أو حينما يحصل لهم أمر مذهل عظيم من حريق هائل سريع الانتشار كأنه يطاردهم، فتجد الناس يولون مدبرين منهزمين فارين يريدن الخلاص، لكنهم قد يفلحون في الدنيا أما في الآخرة فإلى أين المفر؟ كَلَّا لَا وَزَرَ، والملائكة تحيط بهم من كل ناحية، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أي: ذاهبين هاربين مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ فهذا يدل على أن فرارهم إنما يريدون به الاعتصام، أو العصمة من عذاب الله ، فيكون تفسيره بالفرار أقرب، والله تعالى أعلم.

هنا قول حسن حذفه المختصر وهو مهم، كان ينبغي ألا يُحذف، وفيه ترجيح صريح لابن كثير -رحمه الله- كان الأولى أن لا يحذف، فمما ذَكر في هذا الكلام المحذوف الأصل: سبب تسميته بيوم التناد، وذكر من الأسباب أنه حينما تنشق الأرض وتزلزل أنهم يفرون وينادي بعضهم بعضًا من الهول، وذكر هنا قراءة شاذة مروية عن بعض السلف {التنادّ} يعني من ندّ البعير، فهذا غير المناداة، وبعضهم أثبت الياء، وبعضهم من غير إثباتها، يعني من النداء، والثاني من ندّ، واختلفوا في تفسير هذه القراءة الأولى من ندّ ما المراد بها، ولكنها قراءة شاذة، وهذه القراءة المتواترة "يوم التناد" من النداء، أو أن الملَك ينادي حينما توزن الأعمال سعد فلان شقي فلان، أو غير ذلك، فالله تعالى أعلم، هذا كله يحتمل، فالحافظ ابن كثير هنا رجح قول البغوي، يقول: إن البغوي قال: إنه سمي بذلك لهذه الأمور كلها، يعني يشبه كلام ابن جرير -رحمه الله.

ولهذا قال : مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ، أي: لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه، وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ يعني أهل مصر، وقد بعث الله فيهم رسولًا من قبل موسى -عليه الصلاة والسلام، وهو يوسف -عليه الصلاة والسلام، كان عزيز أهل مصر، وكان رسولًا يدعو إلى الله تعالى أمته بالقسط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي.

هذه الآية يستدل بها على أن يوسف -عليه الصلاة والسلام- كان رسولًا، وأنه لم يكن نبيًا فقط، وبناء على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو لعله أحسن ما قيل في الفرق بين النبي والرسول: أن ما يقال من أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وأن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه أن هذا الكلام غير مستقيم؛ لأن الله قال: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187] إلى غير ذلك من النصوص التي يوجب الله فيها البلاغ عنه، والدعوة إليه والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك.

فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرد هذا القول، ويفرق بينهما -بين النبي والرسول- بأن النبي يأتي مقررًا لشريعة نبي قبله، فيكون فيهم كأنبياء بني إسرائيل في أغلبهم، كما أخبر النبي ﷺ حيث كان يسوسهم الأنبياء، ففيهم أنبياء كثر، وهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًا، وأما الرسول فيكون قد أرسل لقوم كافرين، هذا هو الفرق عند شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، أُرسل إلى قوم كافرين يدعوهم يعني مع قومه -إن كان أرسل لقومه.

ويَحتج لرسالة يوسف ﷺ أنه كان رسولًا نبيًا بأنه أرسل إلى الكفار مع الإسرائيليين، يعني أن بني إسرائيل كانوا من المؤمنين، وكانوا على شريعة يعقوب ﷺ، فيوسف ﷺ أرسل إلى فرعون -أيضًا، إلى الفراعنة بدليل أن هذا الفرعوني المؤمن يقول لهم: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ يعني جاء إليهم إلى هؤلاء الفراعنة وأنهم تشككوا فيما جاءهم به في دعوته، وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا، وهذا أيضًا يحتج به شيخ الإسلام أنهم قالوا قولًا أقره الله -تبارك وتعالى، وذلك أنهم قالوا: لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا إذاً هو كان رسولًا -عليه الصلاة والسلام.

والقاعدة في هذا أن القرآن حينما يذكر مقالة ثم لا يعقبها أو يذكر معها أو قبلها ما يدل على ردها فالأصل أنها مُقرَّة وصحيحة، فهذا من كلام هذا الرجل المؤمن والله ذكره على سبيل الإقرار له، فكان يوسف -عليه الصلاة والسلام- رسولًا إلى بني إسرائيل مع الفراعنة.

وكذلك أيضًا موسى ﷺ كان رسولًا إلى بني إسرائيل، وكان يقول: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [سورة طه:47]، وكان رسولًا أيضًا إلى فرعون اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [سورة طه:43]، وهذا هو الضابط عند شيخ الإسلام -رحمه الله.

وهنا في قوله -تبارك وتعالى- عن قيل هذا المؤمن من آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ ظاهره أن المقصود أنه جاء لآبائهم، فالخطاب توجه إلى هؤلاء وإن كان الأجداد هم الذين جاءهم يوسف ﷺ، والخطاب في القرآن يتوجه أو قد يتوجه إلى الأحفاد فيخاطبون بأمور وقعت من الأجداد، أو وقعت لهم سواء كانت من النعم أو النقم أو الأمور القبيحة المشينة من التكذيب والكفر، أو الفجور أو نحو ذلك.

ولهذا تجد الخطاب في القرآن لبني إسرائيل كثيرًا ما يخاطب الذين عاصروا النبي ﷺ مع أنهم ليسوا هم الذين فعلوا هذا، حينما يقول: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، والذين قالوا هذا هم أجدادهم، هذا في مقام ذكر مساوئ هؤلاء الناس، وفي مقام ذكر الإنعام الله يقول: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ [سورة البقرة:49]، فيمتن عليهم مع أن الذين نجاهم من آل فرعون وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ [سورة البقرة:50] الذين حصل لهم هذا هم الأجداد، ولكن القاعدة أن النعمة على الآباء تلحق الأبناء فيصح الامتنان عليهم بذلك، وكذلك المعرّة التي تحصل للآباء تلحق الأبناء إن كانوا على طريقتهم، ولهذا مخازي بني إسرائيل مع موسى ﷺ وما فعله أجدادهم هذا يتردد في القرآن وَإِذْ قُلْتُمْ وهذا واضح.

فحينما يخاطبهم هذا المؤمن: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ هذا وقع في أجدادهم، هم الذين حصل منهم هذا التكذيب والشك في يوسف -عليه الصلاة والسلام، لكن لما كان هؤلاء على طريقتهم صح أن يوجه الخطاب إليهم، هذا القدر إذا عُرف عرفنا خطأ قول من قال: إن فرعون كان طويل العمر؛ حيث كان فرعون موسى معاصرًا ليوسف -عليه الصلاة والسلام- وإنه كان الفرعون الذي كان في عهد يوسف ﷺ، ما الذي حملهم على هذا القول؟

قالوا: إن الخطاب توجه إليهم "فما زلتم في شك مما جاءكم به"، نقول: لا حاجة إلى هذا؛ لأن هذا الأصل في التفسير إذا عرف انحل هذا الإشكال، وهذا كثير في القرآن، ولا حاجة لأن يقال: كان ممتد العمر، والمدة التي كانت بين يوسف ﷺ وبين موسى -عليه الصلاة والسلام- تعتبر نسبيًا طويلة، وتكاثر فيها الإسرائيليون حتى في بعض التقديرات أن الذين خرجوا مع موسى ﷺ لا يقلون بحال عن سبعين ألفًا، وقيل: هم أكثر من هذا، وهناك من يقول: إن هذه مبالغات يعني يصعب أن ينتشر هذا الانتشار ويحصل هذا التكاثر بهذه المدة، لكن المقصود أن هذا الخطاب توجه إلى فرعون ومن معه، والذين حصل منهم ذلك كانوا من سلفهم الذين كانوا يحكمون مصر في عهد يوسف ﷺ هم القبط الفراعنة فامتد ذلك حتى جاء موسى ﷺ، وكانوا أيضًا هم الذين يحكمونها.

حينما يقال: القبط لا يعني هذا أن القبط اليوم هم أهل مصر الأصليين الذين هم النصارى، لا، القبط هم أهل مصر فكانوا على دين فرعون، كانوا من الوثنيين حتى أهلكهم الله ، ثم بعد ذلك أهل مصر قبل الإسلام منهم من بقي على وثنيته، ومنهم من دخل في النصرانية، ثم بعد ذلك جاء الإسلام فأسلم من هؤلاء كثير، وأيضاً انتقل إليها من خارجها كثير، سواء كان من جزيرة العرب أو من بلاد الشام أو من غيرها عبر العصور والقرون، فهؤلاء من القبط لا يمثلون المصريين الأصليين وأنهم هم أهل مصر فحسب، وأن البقية -يعني المسلمين- وردوا عليها، هم يقولون هذا، هم يقولون: نحن أهل البلد، وهؤلاء طارئون على مصر، وهذا كلام غير صحيح.

هذا الخطاب هنا لفرعون بهذا الاعتبار، ولا عبرة بغيره، والله تعالى أعلم.

هناك في النسخة الأخرى "أمة القبط"، إذاً قال: القبط وليس القسط، يدعو إلى الله تعالى أمته القبط.

الأمة تأتي بمعنى مَن بُعث إليهم النبي، فالنبي ﷺ يدعو أمته وهو أرسل إلى الأحمر وإلى الأسود -عليه الصلاة والسلام، فحينما يقال مثلًا: إن أهل الصين من أمة محمد، يأجوج ومأجوج من أمة محمد ﷺ، هذا لا إشكال فيه باعتبار أن مَن بُعث إليهم النبي يكونون أمته.

لكن "يدعو إلى الله تعالى أمة القبط" هذه قد تكون أوضح، حتى لا يُستشكل، يعني الشيخ الآن استشكل هذا المعنى "أمته" هل يقال: إن يوسف -عليه الصلاة والسلام- كان من القبط؟ فإن الأمة تقال للطائفة المجتمعة في شيء إما في نسب أو في سبب.

يعني أن يجتمعوا على دين وملة، أو على عمل معين ومهنة أو نحو ذلك، فلا إشكال، لكن كون أمته أمة القبط يعني يكون أوضح.

ولهذا قال تعالى: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا أي: يئستم فقلتم طامعين: لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا؛ وذلك لكفرهم وتكذيبهم، كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ أي: كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه، ثم قال : الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ أي: الذين يدفعون الحق بالباطل ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله تعالى، فإن الله يمقت على ذلك أشد المقت، ولهذا قال تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: والمؤمنون أيضًا يبغضون من تكون هذه صفته، فإن من كانت هذه صفته يطبع الله علي قلبه فلا يعرف بعد ذلك معروفًا ولا ينكر منكرًا، ولهذا قال -تبارك وتعالى: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ أي: عن اتباع الحق، جَبَّارٍ قال أبو عمران الجوني وقتادة: آية الجبابرة القتل بغير الحق، والله أعلم.

قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، بعضهم يقول: إن هذا من جملة كلام هذا المؤمن من آل فرعون، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وهو المتفق مع القاعدة المعروفة، فالكلام كله في نسق واحد وتوحيد ذلك يعني أن يكون من متكلم واحد هذا أولى -والله تعالى أعلم، وهو الأصل؛ مراعاة للسياق.

وبعضهم يقول: هذا من كلام الله -تبارك وتعالى- في ثنايا هذه المحاورة والمخاطبة، فيكون ذلك من قبيل الموصول لفظًا المفصول معنى، يعني الكلام كأنه من متكلم واحد لكن يكون من متكلمين كما قص الله من خبر إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- من عبدة الكواكب قال: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:78] فلما خوفوه بآلهتهم، قال: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهَِ [سورة الأنعام:81] إلى أن قال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]

فبعضهم يقول: هذا من بقية كلام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هو يقول لهم هذا، وبعضهم يقول: لا، هذا من كلام الله حكم بين الفريقين، وهكذا في قصة ملكة سبأ كما سبق لما قال: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [سورة النمل:34] هذا من كلام ملكة سبأ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بعضهم يقول: هذا من كلام الله، يقرر قولها، وبعضهم يقول: لا، هو من بقية الكلام.

وكذلك أيضًا ما مضى من كلام امرأة العزيز: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] هل هو من كلامها أو من كلام يوسف -عليه الصلاة والسلام؟ "ليعلم" يعني العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ يعني حينما طلبت السؤال ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟

فهذا يحتمل أيضًا، وهذا كثير في القرآن، والظاهر -والله أعلم- أنه من كلامه من كلام هذا المؤمن.

وقوله هنا: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ هذا يرجع إلى ما قبله، فالله -تبارك وتعالى- يقول: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ۝ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فيكون تفسيرًا له، مَن هذا المسرف المرتاب؟ كما يقول ابن جرير -رحمه الله: هم الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ.

ويحتمل أن يكون كلامًا مستأنفًا، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ، "كذلك يضل الله" و"كذلك يطبع الله"، فهنا ذكر الإضلال، وذكر الطبع، وذكر بينهما هذا الفعل القبيح الذي يكون سببًا للإضلال والطبع: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ فكل مجادل في آيات الله وشرعه ودينه بغير علم فإنه يُخشى عليه من هذا أن يضله الله ويطبع على قلبه، فلا يكون بعد ذلك له سبيل إلى الهدى مهما بُينت له الآيات والحجج والبراهين، نسأل الله العافية.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ هكذا بالإضافة على قراءة الجمهور والتقدير كذلك يطبع الله على كل قلب كل متكبر، فاُكتفي بكل الأولى لتدل على الثانية، يعني يطبع على قلب كل متكبر، يطبع على كل قلوب المتكبرين، يطبع على كل قلب كل متكبر، فحذفت الثانية؛ لأن الأولى تدل عليها، هذا على هذه القراءة التي هي قراءة الجمهور، ويدل على هذا التقدير أو هذا المحذوف قراءة غير متواترة عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ.

وهناك قراءة أخرى قرأ بها ابن عامر بالتنوين يعني بقطع الإضافة عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فهذه واضحة وليس فيها تقدير.

فالمعنى في النهاية يرجع إلى شيء واحد، لكن هنا هل يوجد تقدير أو لا يوجد تقدير من الناحية الإعرابية؟ الإعراب يختلف، وإلا فالطبع أصلًا يكون على القلب، وليس على صاحبه، فهنا يطبع على كل قلبٍ متكبرٍ جبار، هناك يطبع على كل قلب كل متكبر، فالطبع في النهاية من حيث المعنى هو واحد يعني على القلوب لكن من الناحية الإعرابية هناك فرق من غير المعنى، والله أعلم.

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۝ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [سورة غافر:36، 37]

يقول تعالى مخبرًا عن فرعون وعتوه وتمرده وافترائه في تكذيبه موسى -عليه الصلاة والسلام- أنه أمر وزيره هامان أن يبني له صرحًا، وهو القصر العالي المنيف الشاهق، وكان اتخاذه من الآجر المضروب من الطين المشوي، كما قال تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا [سورة القصص:38]. 

وقوله: لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۝ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ الآية، قال سعيد بن جبير وأبو صالح: أبواب السماوات، وقيل: طرق السماوات وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، أي: بصنيعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية أنه يعمل شيئًا يتوصل به إلى تكذيب موسى -عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال تعالى: وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ، قال ابن عباس ومجاهد: يعني إلا في خسار.

هنا قول فرعون -قبحه الله- لوزيره هامان ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ يعني هذا يدل على أنه قد وصل بهذا المسخ وصل به الحال إلى حد من الاستهتار بما يقوله موسى ﷺ، وفي الوقت نفسه الاستخفاف بالناس بالشعب -كما يقال- أو الجمهور وهو يقول: ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۝ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى.

هنا قوله: لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۝ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ يقول: قال سعيد بن جبير وأبو صالح: أبواب السماوات، وهذا قال به جماعة من السلف غير هؤلاء أيضًا كقتادة والزهري، أسباب السماوات يعني أبواب السماوات، وبعضهم يقول: طرق السماوات، السبب هو ما يتوصل به إلى المطلوب، ما يتوصل به إلى غيره، ولهذا يقال للحبل الذي يستخرج به الماء من البئر: سبب، وإذا تقرر هذا يعني أن السبب ما يتوصل به إلى غيره فهو يريد أن يتوصل إلى السماء، أسباب السماوات يعني كل ما يتوسل به أو يتوصل به إلى رؤية إله موسى كما يزعم.

فمثل هذا هو يريد أن يتوصل إلى ذلك بسبب سواء كان ذلك يعني طرق السماوات، أو كان أبواب السماوات، أيًّا كان ذلك فهو يريد أن يتوصل إليه، لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۝ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِيعني ما يتوصل به إلى رؤية إله موسى سواء كان ذلك أبواب السماوات، أو الطرق أو غير ذلك، فابن جرير -رحمه الله- يجعل ذلك جميعًا مما تحتمله الآية، ولكنه يقرر هذا المعنى أن الأسباب هي ما يتوصل بها إلى غيرها، فهو يريد أن يتوصل إلى رؤية إله موسى سواء كان ذلك بطريق الأبواب التي للسماء، أو بالطرق المؤدية إليها.

فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى على هذه القراءة وهي قراءة حفص التي نقرأ بها على النصب هنا، هو يقول له: يا هامان ابنِ لي صرحًا لعلي أطلعَ، أو فأطلعَ إلى إله موسى، من أجل أن أطلعَ على إله موسى، فهنا النصب "فأطلعَ" يحتمل أن يكون على جواب الأمر ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أو جواب الترجي لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، فأطلعَ جواب الترجي، هو يرجي أن يبلغ الأسباب من أجل أن يطلع على إله موسى، أو يكون هكذا: متى بلغتُ الأسباب اطلعت على إله موسى -عليه الصلاة والسلام.

أما قراءة الجمهور فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى هذا الذي عليه عامة القراء، فهنا انظر في الآية: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ "فأطلعُ" يكون عائدًا كما يقول ابن جرير على قوله: أَبْلُغُ فأطلعُ على إله موسى، وهذه القراءة التي ارتضاها ابن جرير، واختارها واقتصر عليها، وهما قراءتان متواترتان.

لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ بعضهم يقول: ولعلي أطلعُ على إله موسى، يعني بعد ذلك بعدما أبلغ الأسباب أطلعُ على إله موسى.

وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، "صُد عن السبيل" هذه قراءة الكوفيين، وهي التي نقرأ بها، "صُد" بُني للذي لم يسم فاعله، ما الذي صده عن السبيل؟ صُد عن السبيل بتكذيبه، صُد عن السبيل بإجرامه، صُد عن السبيل بسبب كفره بأن طبع الله على قلبه، زين له سوء عمله، صُد عن السبيل، صده هؤلاء الملأ الذين كانوا فراعنة أيضًا حيث يقولون له: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إلى آخر ما قال.

وعلى قراءة الجمهور بالفتح {وصَد عن السبيل} ولفظة صد تأتي لازمة وتأتي متعدية، لازمة: صَد يعني في نفسه يعني لم يؤمن، {صَد عن السبيل} يعني بقي على الكفر، هذا معناها حينما تكون لازمة، وتأتي متعدية أي فرعون صَد عن الحق، صَد غيره، صَد عن السبيل صار يتوعد من آمن، ويتهدد، وأنه سيبطش ويقتل إلى آخره، "زين لفرعون سوء عمله وصَد عن السبيل"، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والقراءتان إن كان لكل واحدة معنى فهما بمنزلة الآيتين، وإذا جمعنا هذه القراءات يقال: "وصَد عن السبيل وصُد عن السبيل" صد فرعون في نفسه فلم يؤمن؛ لأنه زين له سوء عمله -نسأل الله العافية، وأيضًا وصَد غيره عن الإيمان واتباع موسى ﷺ، فهذا في صَد بالفتح -فتح الصاد- تحتمل هذين المعنيين، وكلاهما حق، وعلى القراءة الأخرى "صُد عن السبيل" صُد هو بكفره أو بأمور مجتمعة، والله أعلم.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- حمل صَد بفتح الصاد على المعنيين متعدية ولازمة، باعتبار ما سبق أنه لا يوجد مانع من حملها، وهذا في مواضع أخرى من كتاب الله ، يعني مثلًا في قوله -تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16]، هنا تحتمل أن تكون لازمة ومتعدية، صدوا في أنفسهم لما صاروا يحلفون، أهل النفاق يحلفون فيُتركون، استمرءوا هذا فكان ذلك سببًا لبقائهم على نفاقهم فصدوا في أنفسهم عن سبيل الله، صاروا صادين في أنفسهم، ومتعدية أي صدوا غيرهم.

مما قاله المفسرون هناك قالوا: صدوا الناس عن الدخول في الإسلام، صدوا عن اتباع النبي ﷺ، صدوا عن الجهاد في سبيل الله، كما قال الله : قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] صدوا عن الإنفاق في الجهاد وعلى المجاهدين ونحو ذلك "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" يقول: الذين هاجروا إلى المدينة زاحموكم، هذا عبد الله بن أُبي -قبحه الله، وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون:7].

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ۝ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ۝ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة غافر:38-40].

يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغا وآثر الحياة الدنيا، ونسي الجبار الأعلى، فقال لهم: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، لا كما كذب فرعون في قوله: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، ثم زهّدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى -عليه الصلاة والسلام، فقال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل.

وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، أي: الدار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن فيها إلى غيرها، بل إما نعيم وإما جحيم، ولهذا قال -جلت عظمته: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا، أي: واحدة مثلها، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ أي: لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله ثوابًا كثيرًا لا انقضاء له ولا نفاذ، والله تعالى الموفق للصواب.

قوله: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا، هذا مضى في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- أن السيئة بمثلها، ومضى الجواب أيضًا عما قد يرِد على ذلك، وقد يستشكل كما في قوله -تبارك وتعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأتِ مِنْكنَّ بفاحِشةٍ مبيِّنة يُضاعَفْ لَهَا العذابُ ضِعفيْن [سورة الأحزاب:30]، وقول الله -تبارك وتعالى: إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [سورة الإسراء:75]، فهذا مضى الجواب عنه، وأن الأصل هو جزاء السيئة بواحدة، وأما ذلك فاستثناء.

وهنا قال: فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ قال: أي لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله ثوابًا كثيرًا لا انقضاء له ولا نفاذ، أيضًا مضى الكلام على هذا المعنى بغير حساب، قلنا: إن العطايا والهبات إذا كانت قليلة فإنها تكون معدودة محسوبة، فيعطى بالعد إذا كان قليلًا، يقال: أعطي -مثلًا- مائة درهم، عشرة آلاف درهم فيكون معدودًا، أما الكثير فكما جاء عن النبي ﷺ في ذكر الخليفة أو الذي يحثو المال ولا يعده فهذا للكثرة، والعرب تقول للعطاء الكثير الذي لا يكون محصورًا بعدد معين: فلان يعطي بغير حساب، يعني من غير أن يحسب، كما سأل العباس النبي ﷺ أن يعطيه من المال ليعوضه ما فدى به نفسه حينما أُسر في بدر، فالنبي ﷺ أمره أن يأخذ فكان يحثو من المال حتى عجز عن القيام والنهوض به، فطلب من النبي ﷺ أن يأمر رجلًا فيحمل معه، فامتنع النبي -عليه الصلاة والسلام- فوضع بعضه، فهذا بلا حساب.

فالله -تبارك وتعالى- يرزقهم في الجنة بغير حساب، يعني رزقًا كثيرًا، وهذا الذي عليه عامة المفسرين، وبعضهم يقول: بغير حساب يعني لا تبعة لهم في هذا العطاء الذي يُعطَوْنه، كما يقول مقاتل: بغير حساب يعني لا يحاسبهم عليه، الإنسان كما قال الله في هذه الحياة الدنيا ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سورة التكاثر:8].

والنبي ﷺ حينما أكل من البسر ثم الشاة إلى آخره قال لأصحابه لأبي بكر وعمر ومن معه حينما أكلوا عند الأنصاري: لتُسألن عن هذا النعيم يوم القيامة[5]، فالإنسان يحاسب على هذه النعم، يحاسب عليها من المطعوم والملبوس والمركوب وغير ذلك، ويُعرَّف بنعم الله -تبارك وتعالى- عليه ماذا عمل بها؟ لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه[6].

هناك في الجنة لا حساب ولا تبعة، فعلى هذا المعنى الذي ذكره مقاتل أنهم لا تبعات عليهم في هذا الإنعام والعطاء والإفضال، وهذا معنى آخر غير الأول، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3266).
  2. رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، برقم (4344)، والترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، برقم (2174)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برقم (4011)، كلهم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2209).
  3. رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي ﷺ وأصحابه من المشركين بمكة، برقم (3856).
  4. رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، برقم (1830).
  5. رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحققه تحققا تاما واستحباب الاجتماع على الطعام، برقم (2038)
  6. رواه الطبراني في الكبير، برقم (11177)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7300).

مواد ذات صلة